الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الأول
الباب الأول: الثناء في القرآن والسنة على الصحابة
الفصل الأول: الثناء عليهم عموما في القرآن والسنة وأقوال السلف
المبحث الأول: الثناء عليهم في القرآن
…
الباب الأول الثناء في القرآن والسنة على الصحابة
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: الثناء عليهم عموماً في القرآن والسنة وأقوال السلف.
الفصل الثاني: الثناء على أصناف معينة رضي الله عنهم.
الفصل الثالث: فضل العشرة المبشرين بالجنة.
الفصل الرابع: ما جاء في فضل الصحابة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
الفصل الأول
الثناء عليهم عموماً
في الكتاب والسنة وأقوال السلف
الفصل الأول
الثناء عليهم عموماً في الكتاب والسنة وأقوال السلف
وفيه مباحث:
المبحث الأول: الثناء عليهم في القرآن.
المبحث الثاني: الثناء عليهم في السنة.
المبحث الثالث: الثناء عليهم في أقوال السلف.
المبحث الأول الثناء عليهم في القرآن
إن أهل السنة والجماعة يثبتون فضل الصحابة رضي الله عنهم الذي نطق به القرآن الكريم المنزل من لدن حكيم حميد على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كما يثبتون جميع ما صح في فضلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان هذا الفضل على وجه العموم، أو على وجه الخصوص الكل يثبتونه ويعتقدونه اعتقاداً جازماً ويسلمون به لأولئك الأطهار الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وصاغهم أعظم صياغة ليكونوا وزراء لنبيه عليه الصلاة والسلام، وليحملوا رسالته من بعده، ويبلغوها إلى جميع الناس في هذه المعمورة ولقد أثنى الله عليهم في كتاب الكريم على سبيل الجملة في آيات كثيرة ومواضع شتى منها:
1-
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} 1 هذه الآية الكريمة وجه الله تعالى فيها الخطاب إلى جميع الأمة المحمدية من أولها إلى أن تقوم الساعة وهذا الخطاب يتضمن أنه سبحانه جعلهم خيار الأمم ليكونوا يوم القيامة شهداء على الناس، والوسط في الآية بمعنى الخيار والأجود ولكن أولوية الدخول في هذا الخطاب إنما هو لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بقية الأمة الإسلامية إذ هم أول من وجه إليهم هذا الخطاب في هذه الآية وهم الموجودون حين نزوله.
قال العلامة ابن جرير الطبري مبيناً معنى هذه الآية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} : " كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام وبما جاءكم
1ـ سورة البقرة آية / 143.
به من عند الله فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل كذلك خصصناكم ففضلناكم على غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمة وسطاً
…
والوسط في كلام العرب الخيار يقال: فلان وسط الحسب في قومه أي: متوسط الحسب إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه وهو وسط في قومه وواسط
…
وأرى أن الله تعالى ذكره: إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين فلا هم أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها
…
إلى أن قال: القول في تأويل قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} والشهداء جمع شهيد: فمعنى ذلك: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً عدولاً شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيداً عليكم بإيمانكم به وبما جاءكم به من عندي" أ. هـ1
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} : " المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطاً أي: جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم والوسط العدل وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها.
وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال عدلاً قال: هذا حديث حسن صحيح2 وفي التنزيل {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} 3 أي: أعدلهم وخيرهم
…
ولما كان الوسط
1ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 2/8.6.
2ـ سنن الترمذي 4/275.
3ـ سورة القلم آية / 28.
مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً أي: هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم وقوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أي: في المحشر للأنبياء على أممهم.1
وقد روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت فيقول نعم يا رب، فتسئل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقول: من شهودك فيقول: محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال: عدلاً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} . 2
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} : "يقول تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسط هاهنا الخيار والأجود كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي أخيرها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه أي: أشرفهم نسباً
…
ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} .3
وقال السفاريني4 رحمه الله تعالى مبيناً معنى الآية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
1ـ الجامع لأحكام القرآن 2/153-154.
2ـ صحيح البخاري 4/268.
3ـ تفسير القرآن العظيم 1/335، والآية رقم 78 من سورة الحج.
4ـ هو محمد بن أحمد من سالم السفاريني شمس الدين أبو العون عالم الحديث والأصول والأدب ولد سنة أربع عشرة ومائة وألف، وتوفي سنة ثمان وثمانين مائة وألف هجرية، انظر: ترجمته في الأعلام للزركلي 6/240.
أُمَّةً وَسَطاً} الآية أي: أمة خياراً عدولاً فإن هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإراداتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم فهم شهداؤه ولهذا نوه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم. أ. هـ1
فإذن معنى الآية الكريمة: أن الله تعالى كما جعل قبلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير القبل وجعلها متوسطة بين المشرق والمغرب كذلك جعلهم خير الأمم وسطاً بين الغلو والتقصير فلم يغلوا غلو النصارى حيث وصفوا عيسى عليه الصلاة والسلام بالألوهية، ولم يقصروا تقصير اليهود حيث وصفوه بأنه ولد زنا فأخبر ـ سبحانه ـ بما أنعم به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من تفضيله لها بالعدالة والشهادة على سائر الأمم يوم القيامة، وعلى هذا فلا ريب ولا شك في أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أحق من كل أحد من أمته عليه الصلاة والسلام بهاتين الصفتين ألا وهما: العدالة والشهادة على سائر الأمم يوم القيامة بأن الرسل قد بلغوا أممهم ما أنزل الله إليهم من الرسالات السماوية.
قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 2 وفي هذه الآية الكريمة بين الله تعالى أنه جعل أمة محمد خير أمة أخرجت للناس وذلك بسبب ما اتصفت به من القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما استقر في قلوبهم من الإيمان بالله والصحابة رضي الله عنهم هم أول وأفضل من دخل في هذا الخطاب وحاز قصب السبق في هذه الخيرية بلا نزاع لأنهم أول من خوطب بهذه الآية الكريمة قال الزجاج3 وأصل الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعم سائر
1ـ لوامع الأنوار البهية 2/384.
2ـ سورة آل عمران آية / 110.
3ـ هو إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج عالم بالنحو واللغة ولد ببغداد سنة إحدى وأربعين ومائتين وتوفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، انظر: ترجمته في وفيات الأعيان 1/49-50، تاريخ بغداد 6/89.
أمته.1 وقال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى بعد ذكره لهذه الآية: "وهذا اللفظ وإن كان عاماً فالمراد به الخاص وقيل هو وارد في الصحابة".أ. هـ2
وقال السفاريني رحمه الله تعالى: " {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قيل: اتفق المفسرون أن ذلك في الصحابة لكن الخلاف في التفاسير مشهور ورجح كثير عمومها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 3 وهذا خطاب للموجودين حينئذ" أ. هـ4
وأخرج الإمام البخاري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: "خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام".5
وقال العلامة ابن جرير الطبري: "اختلف أهل التأويل في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} فقال بعضهم: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وخاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وعن السدي: أنه قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} قال عمر بن الخطاب: لو شاء الله لقال أنتم
1ـ معاني القرآن للزجاج 1/467، زاد المسير 1/438-439.
2ـ الكفاية ص/ 94.
3ـ سورة البقرة آية/ 143.
4ـ لوامع الأنوار البهية 2/377.
5ـ صحيح البخاري 3/113.
فكنا كلنا ولكن قال "كنتم" في خاصية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صنع مثل صنيعهم كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وعنه رضي الله عنه أنه قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجة حجها ورأى من الناس رعة1 سيئة فقرأ هذه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية ثم قال: يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله منها.
وقال الضحاك في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يعني وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم.
وقال آخرون: معنى ذلك كنتم خير أمة أخرجت للناس إذ كنتم بهذه الشروط التي وصفهم ـ جل ثناؤه ـ بها فكان تأويل ذلك عندهم كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله
…
وعن قتادة قال: كان الحسن يقول: نحن آخرها وأكرمها على الله.
وبعد ذكره لأقوال المفسرين في هذه الآية قال: "وأولى الأقوال بتأويل الآية ما قال الحسن ثم ساق بإسناده إلى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله". 2
فابن جرير رحمه الله تعالى رجح حمل الآية على عموم الأمة وأيد العموم
1ـ قال الأصمعي: الرعة الهدي وحسن الهيئة، أو سوء الهيئة يقال: قوم حسنة رعتهم أي: شأنهم وأمرهم وأدبهم وأصله من الورع وهو الكف عن القبيح. أ. هـ لسان العرب 8/388، وانظر: النهاية في غريب الحديث 5/175.
2ـ جامع البيان 4/43-45.
بحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده وهذا الحديث عند الترمذي1 وابن ماجه2 والحاكم3 بلفظ: "أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله".
قال الحافظ في الفتح وله شاهد مرسل عن قتادة عن الطبري4 رجاله ثقات وفي حديث علي عند أحمد5 بإسناد حسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
…
وجعلت أمتي خير الأمم". 6
وممن حمل الآية على العموم في جميع الأمة الحافظ ابن كثير فإنه قال بعد ذكره لأقوال المفسرين: "والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه وخير قرونهم الذي بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم كما قال في الآية الأخرى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي: أخياراً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أ. هـ7
وعلى هذا فمن أراد أن يوسم بسمة الخيرية التي وسم بها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما شهد لهم رب العالمين بها في الآية السابقة التي نحن بصدد الحديث عنها فليتحل بصفاتهم وأخلاقهم ويتبع المنهج الذي التزموه وساروا عليه.
قال الحافظ ابن كثير بعد أن ساق الأحاديث الثابتة في فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم: "فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} فمن اتصف من هذه الأمة
1ـ سنن الترمذي 4/294.
2ـ سنن ابن ماجه 2/1433.
3ـ المستدرك 4/84 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
4ـ جامع البيان 4/45.
5ـ المسند 1/98.
6ـ الفتح 8/225.
7ـ تفسير القرآن العظيم 2/89 والآية رقم 143 من سورة البقرة.
بهذه الصفات دخل معهم في المدح: ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 1
هذه الآية الكريمة، الخطاب فيها موجه لعباده المؤمنين إلى أن تقوم الساعة وهي تتضمن وعداً من الله عز وجل لهذه الأمة وهذا الوعد هو أن من ارتد عن دين الإسلام فإنه يأتي ـ سبحانه ـ بقوم ينصرون هذا الدين وبين ـ سبحانه ـ أنه يحبهم ويحبونه وأن فيهم رقة وليناً لإخوانهم المؤمنين، كما أنهم متصفون بالغلظة والشدة على الكافرين، وأنهم يجاهدون في سبيل الله من كفر بهذا الدين ولا يخافون في الحق من لوم اللائم، وهذه الصفات الطيبة وإن كانت عامة في جميع المؤمنين إلا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتهم ـ الصديق أبو بكر ـ هم أقعد وأحق وأولى بهذه الصفات من كل مؤمن يأتي بعدهم فهم أول من يتناوله الخطاب ويدخل فيه دخولاً أولياً.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله وبرسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي: صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} يقول: من يرجع منكم عن دينه الحق الذي هو عليه اليوم فيبدله ويغيره بدخوله في الكفر؛ إما في اليهودية أو النصرانية، أو غير ذلك من صنوف الكفر فلن يضر الله شيئاً وسيأتي الله بقوم
1ـ المصدر السابق 2/98 والآية رقم 79 من سورة المائدة.
2ـ سورة المائدة آية / 54.
يحبهم ويحبونه يقول: فسوف يجيئ الله بدلاً منهم بالمؤمنين الذين لم يبدلوا ولم يغيروا ولم يرتدوا بقوم خير من الذين ارتدوا وبدلوا دينهم، يحبهم الله ويحبون الله وكان هذا الوعيد من الله لمن سبق في علمه أنه سيرتد بعد وفاة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك وعده من وعد من المؤمنين ما وعده في هذه الآية لمن سبق له في علمه أنه لا يبدل ولا يغير دينه، ولا يرتد، فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم ارتد أقوام من أهل الوبر وبعض أهل المدر فأبدل الله المؤمنين بخير منهم كما قال تعالى ذكره، ووفى للمؤمنين بوعده وأنفذ فيمن ارتد منهم وعيده
…
إلى أن قال: ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أتى الله بهم المؤمنين وأبدل المؤمنين مكان من ارتد منهم. فقال بعضهم: هو أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه، وروى بإسناده إلى الحسن البصري في قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: هذا والله أبو بكر وأصحابه.
وقال آخرون: يعني بذلك قوماً من أهل اليمن، وقال بعض من قال ذلك منهم: هم رهط أبي موسى الأشعري: عبد الله بن قيس ثم روى بإسناده إلى عياض بن غنم الأشعري قال: لما نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى بشيء كان معه فقال: هم قوم هذا.
وقال آخرون: بل هم أهل اليمن جميعاً.
وذكر بإسناده إلى مجاهد في قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: أناس من أهل اليمن وقال آخرون: هم الأنصار.
وروى بإسناده إلى السدي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: إنهم الأنصار.1
وقال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
1ـ جامع البيان 6/282-285، زاد المسير 2/381-382، تفسير البغوي على حاشية الخازن 2/54.
آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية. قال: "يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله سيستبدل به من هو خير لها وأشد منعة وأقوم سبيلاً كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} 1
…
وذكر عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: إنها نزلت في الولاة من قريش.
وعن الحسن البصري: أنها نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر.
وعن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: هؤلاء قوم من أهل اليمن، ثم من كندة ثم من السكون
…
إلى أن قال: وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هذه صفات المؤمنين الكمل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه متعززاً على خصمه وعدوه وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الضحوك القتال فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه.2
وكل ما تقدم من تنوع سبب نزول الآية في أنها نزلت في الأشعريين، أو في أحياء من أهل اليمن، أو في الولاة من قريش، أو في الأنصار فإن ذلك لا ينافي عموم الآية فالآية عامة في كل مؤمن يحب الله ويحبه، ويوالي فيه، ويعادي فيه ولا يخاف في الله لومة لائم، وكان أبو بكر وأصحابه أسعد الناس بذلك وأقدمهم وأسبقهم إليه وهو أول من تناولته الآية رضي الله عنه وأرضاه وعن أنصار الإسلام وحزبه أجمعين، ومما يؤيد هذا ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله ـ
1ـ سورة محمد آية / 38.
2ـ تفسير القرآن العظيم 2/595
عز وجل ـ" فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم علي منعه، فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.1
هذا وفي الآية السابقة دلالة واضحة على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم إذ أنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهدوا المرتدين وسائر الكفرة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ومن المقطوع به أن الصفات المذكورة في الآية المتقدمة متوفرة فيهم ومنطبقة عليهم رضي الله عنهم أجمعين.
الموصوفون في الآية الأولى من هذه الآيات للصفات الثلاث التي هي الإيمان والهجرة والجهاد هم المهاجرون الأولون الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأولادهم إيثاراً لله ولرسوله من أجل إعلاء كلمة الله، وإظهار الدين الإسلامي الحنيف على سائر الأديان سواء لأنه الدين الحق الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه والموصوفون في الآية نفسها بالإيواء والنصرة هم الأنصار الذين هم الأوس
1ـ صحيح البخاري 1/343، صحيح مسلم 1/51-52.
2ـ سورة الأنفال آية / 72-74.
والخزرج فإنهم آووا الرسول وأصحابه المهاجرين في منازلهم ونصروا نبي الله عليه الصلاة والسلام لمقاتلة أعداء الدين، ثم بين ـ سبحانه ـ الولاء والتلاحم الثابت بين المهاجرين والأنصار بقوله:{أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي: في النصرة والمساعدة. وهذا مما يؤكد قطع المولاة بينه وبين الكفار والآية الأخيرة من الآيات السابقة أخبر تعالى عنهم بحقيقة الإيمان وأنه ـ سبحانه ـ سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن ذنوبهم إن وجدت وبالرزق الكريم وهو الحسن الكثير الطيب الشريف الدائم الأبدي المستمر الذي لا ينقطع ولا ينقص، ولا يسأم ولا يمل لتنوعه وحسنه.
قال العلامة ابن كثير عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا} الآية: ذكر تعالى أصناف المؤمنين وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا لنصرة الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك. وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم فهؤلاء بعضهم أولياء بعض
…
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} بل أقاموا في بواديهم فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب ولا في قسمها إلا ما حضروا فيه القتال. أ. هـ1
قال أبو عبد الله القرطبي عند قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} الآية: "حقاً" مصدر أي: حققوا إيمانهم بالهجرة والنصرة وحقق الله إيمانهم بالبشارة في قوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: ثواب عظيم. أ. هـ2
والمقصود أن الآيات المتقدمة اشتملت على الثناء الحسن على عموم الصحابة
1ـ تفسير القرآن العظيم 3/351-352.
2ـ الجامع لأحكام القرآن 8/58
من مهاجرين وأنصار رضي الله عنهم أجمعين.
هذه الآية الكريمة اشتملت على أبلغ الثناء من الله رب العالمين على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان حيث أخبر تعالى أنه رضي عنهم ورضوا عنه بما أكرمهم الله به من جنات النعيم والنعيم المقيم فيها الذي لا يفنى ولا يبيد، فقد خسر نفسه بعد هذا من ملأ قلبه ببغضهم واستعمل لسانه في سبهم والوقيعة فيهم كالطائفة المخذولة من الرافضة التي عميت عن ثناء الله عليهم في كتابه العزيز بمثل هذا الثناء وغيره فأخذوا يعادونهم ويبغضونهم ويسبونهم عياذاً بالله وهذا يدل على أن قلوبهم انتكست وعقولهم فسدت وإلا فأين هم من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم ورضوا عنه؟. وقد عصم الله أهل السنة والجماعة مما وقع فيه الرافضة فلم يقولوا في أسلاف هذه الأمة منكراً، أو يطعنوا فيهم طعناً، فلم يقولوا في المهاجرين والأنصار وأعلام الدين ولا في أهل بدر وأحد وأهل بيعة الرضوان إلا أحسن المقال.
وفي هذه الآية المباركة ثناء آخر من الله تعالى على النبي الكريم وصحبه الأكرمين من المهاجرين والأنصار ألا وهو إخباره تعالى أنه من لطفه وإحسانه أن تاب عليهم فغفر لهم الزلات ووفر لهم الحسنات ورقاهم إلى أعلى الدرجات وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقة ولهذا قال: {الَّذِينَ
1ـ سورة التوبة آية / 100.
2ـ سورة التوبة آية / 117.
اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} أي: خرجوا معه لقتال الأعداء في غزوة تبوك وكانت في حر شديد وضيق من الزاد والركوب وكثرة عدد مما يدعو إلى التخلف فاستعانوا الله تعالى وقاموا بذلك {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} أي: تنقلب قلوبهم ويميلوا إلى الدعة والسكون ولكن الله ثبتهم وقواهم1 رضوان الله عليهم أجمعين وأعظم بها من منقبة لأولئك الصفوة حيث شملهم الله تعالى بالتوبة عليهم ومن تاب الله عليه تحققت سعادته في الدار الآخرة.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: من تاب الله عليه لم يعذبه أبداً.2
قال أبو بكر أحمد بن علي الجصاص: "وقوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} فيه مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين غزوا معه من المهاجرين والأنصار وإخبار بصحة بواطن ضمائرهم وطهارتهم لأن الله تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم ورضي أفعالهم وهذا نص في رد قول الطاعنين عليهم والناسبين لهم إلى غير ما نسبهم الله إليه من الطهارة ووصفهم به من صحة الضمائر وصلاح السرائر رضي الله عنهم".3
الوعد بالاستخلاف في هذه الآية عام يدخل تحته كل من تولى وظيفة من
1ـ انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي 3/145.
2ـ ذكره البغوي في تفسيره المسمى معالم التنزيل 3/129. على حاشية الخازن.
3ـ أحكام القرآن للجصاص 3/160.
4ـ سورة النور آية / 55.
وظائف المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولكن بشرط أن تتوفر الصفتان المذكورتان في الآية وهما: الإيمان والعمل الصالح فتشمل الخلافة وإقامة الدعوة وعموم الشريعة بنفاذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله والخطاب في الآية موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن معه فيندرج تحت هذا العموم جميع الصحابة والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يدخلون فيه قبل كل من اتصف بالصفتين ممن جاء بعدهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: موضّحاً لمعنى آية النور هذه والآية التي ختمت بها سورة الفتح: "فقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف كما وعدهم في تلك الآية مغفرة وأجراً عظيماً والله لا يخلف الميعاد فدل ذلك على أن الذين استخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم ومكن لهم دين الإسلام وهو الدين الذي ارتضاه لهم كما قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 1 وبدلهم بعد خوفهم أمناً لهم منه المغفرة والأجر العظيم، وهذا يستدل به من وجهين يستدل به على أن المستخلفين مؤمنون عملوا الصالحات لأن الوعد لهم لا لغيرهم ويستدل به على أن هؤلاء مغفور لهم ولهم أجر عظيم لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات فتناولتهم الآيتان آية النور وآية الفتح ومن المعلوم أن هذه النعوت منطبقة على الصحابة على زمن أبي بكر وعمر وعثمان فإنه إذ ذاك حصل الاستخلاف وتمكن الدين بعد الخوف لما قهروا فارس والروم وفتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وإفريقية
…
وحينئذ فقد دل القرآن على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان ومن كان معهم في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن وأدركوا زمن الفتنة كعلي وطلحة والزبير وأبي موسى الأشعري ومعاوية وعمرو بن العاص دخلوا في الآية لأنهم استخلفوا ومكنوا وأمنوا، وأما من حدث في زمن الفتنة كالرافضة الذين حدثوا في الإسلام في زمن الفتنة والافتراق وكالخوارج المارقين فهؤلاء لم يتناولهم النص فلم يدخلوا فيمن وصف بالإيمان
1ـ سورة المائدة جزء من الآية رقم / 3.
والعمل الصالح المذكورين في هذه الآية لأنهم أولاً ليسو من الصحابة المخاطبين بهذا ولم يحصل لهم من الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف ما حصل للصحابة بل لا يزالون خائفين مقلقلين غير ممكنين، فإن قيل: لم قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم} ولم يقل وعدهم كلهم قيل: كما قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ولم يقل وعدكم و"من" تكون لبيان الجنس فلا يقتضي أن يكون قد بقى من المجرور بها شيء خارج عن ذلك الجنس".1
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: "هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي: أئمة الناس والولاة عليهم وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنا وحكماً فيهم وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة: فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر واسكندرية وهو المقوقس وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه، ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق فلمَّ شعث الأمة وأخذ جزيرة العرب ومهدها وبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس صحبه خالد بن الوليد رضي الله عنه ففتحوا طرفاً منها وقتلوا خلقاً من أهلها وجيشاً آخر صحبة أبي عبيدة رضي الله عنه ومن اتبعه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثاً صحبة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها، وتوفاه الله عز وجل واختار له ما عنده من الكرامة ومنَّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق فقام بالأمر بعده قياماً تاماً
1ـ منهاج السنة 1/157.
لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته وقصر قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام وانحدر إلى القسطنطينية، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة. ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص، وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جداً وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه
…
ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها"1.
قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} . 2
قال العلامة ابن جرير الطبري: "
…
الذين اصطفاهم يقول: الذين اجتباهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فجعلهم أصحابه ووزراءه على الدين الذي بعثه بالدعاء إليه دون المشركون به الجاحدين نبوة نبيه". ثم ذكر بإسناده إلى ابن عباس في قوله: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال: أصحاب محمد اصطفاهم الله لنبيه.
ثم قال: حدثنا علي بن سهل قال حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت
1ـ تفسير القرآن العظيم 5/119-120، والحديث رواه مسلم في صحيحه 4/2215 من حديث ثوبان رضي الله عنه.
2ـ سورة النمل آية / 59.
لعبد الله بن المبارك أرأيت قول الله {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} من هؤلاء فحدثني عن سفيان الثوري قال: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.1
وأما العلامة ابن كثير فقد ذكر في قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قولين:
أحدهما: أن المراد بعباده الذين اصطفى هم أنبياؤه ورسله الكرام.
الثانية: أن المراد بعباده الذين اصطفى هم: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم.
ثم قال جامعاً بين القولين: ولا منافاة فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى. أ.هـ2
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال طائفة من السلف: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة التي قال الله فيها: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} 3.
فأمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم اليهود والنصارى وقد أخبر الله تعالى أنهم الذين اصطفى وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين
1ـ جامع البيان 20/2.
2ـ تفسير القرآن العظيم 5/245.
3ـ سورة فاطر آية / 32-35.
يلونهم" 1، ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه هم المصطفون من المصطفين من عباد الله. أ. هـ2
وقال السفاريني رحمه الله تعالى: وقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. أ. هـ3
فالصحابة رضي الله عنهم داخلون في هذا الثناء على هذا الصنف الذي يجيء بالصدق ويصدق به فهم الأئمة الصادقون في أقوالهم المصدقون بالحق إذا جاءهم وكل صادق بعدهم فهو إنما يأتم بهم في صدقه وتصديقه ابتاعاً لهم واقتداء بهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فيها ثناء على الصحابة رضي الله عنهم حيث قال: "وهذا الصنف الذي يقول الصدق ويصدق به خلاف الصنف الذي يفتري الكذب أو الكذب به والصحابة
…
هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء، وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على الله وتكذيباً بالحق من المنتسبين إلى التشيع. أ.هـ5.
والحال كما قال رحمه الله تعالى فإن الصحابة الكرام رضي الله عنهم هم أزكى الأمة وأطهرها فهم الصادقون فيما يقولون وهم في أولية الأمة تصديقاً للحق لما جاءهم فرضي الله عنهم أجمعين، وعلى من يبغضهم ويعاديهم اللعنة إلى
1ـ صحيح البخاري 3/287 من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
2ـ منهاج السنة 1/156.
3ـ لوامع الأنوار البهية 2/384.
4ـ سورة الزمر آية 33-35.
5ـ منهاج السنة 1/156.
يوم الدين.
هذه الآية تضمنت ذكر منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم بالثناء عليه ثم ثنى الله تعالى فيها بالثناء على سائر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. فذكر تعالى أن من صفاتهم الشدة والغلظة على أهل الكفر، كما وصفهم بالتراحم والتعاطف فيما بينهم، ووصفهم بأنهم يكثرون من الأعمال الصالحة المقرونة بالإخلاص وسعة الرجاء، وفي مقدمة تلك الأعمال الصالحة إكثارهم من الصلاة ابتغاء الحصول على فضل من الله ورضوان، كما بين ـ سبحانه ـ أن آثار ذلك يظهر على وجوههم {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} والسيماء اللعلامة. وقد قيل المراد بها بياض يكون في الوجوه يوم القيامة قاله الحسن وسعيد بن جبير وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواية أخرى عنه وعن مجاهد: السيماء في الدنيا هو السمت الحسن "وعن مجاهد أيضاً: هو الخشوع والتواضع".2
وهذه الأقوال لا منافاة بينها إذ يمكن أن يكون في الدنيا هو السمت الحسن الذي ينشأ عن التواضع والخشوع، وفي الآخرة يكون في جباههم نور.3
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم
1ـ سورة الفتح آية / 29.
2ـ جامع البيان 26/110-111، تفسير ابن كثير 6/364، الجامع لأحكام القرآن 16/293-294.
3ـ انظر: جامع البيان للطبري 26/112.
وحسنت أعمالهم فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم وقال مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحوارين فيما بلغنا. وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة، ولهذا قال ـ سبحانه ـ ههنا {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} ثم قال {وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أي: فراخه {فَآزَرَهُ} أي: شدَّه وقواه {فَاسْتَغْلَظَ} أي: شبَّ وطال {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أي: فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه في رواية عنه تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم قال: "لأنهم يغيظونهم ومن غاظه الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك
…
ثم قال تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ} من هذه لبيان الجنس {مَغْفِرَةً} أي: لذنوبهم {وَأَجْراً عَظِيماً} أي: ثواباً جزيلاً ورزقاً كريماً ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل الفردوس مأواهم وقد فعل1.
"وفي قوله ـ سبحانه ـ في حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} أخطر حكم وأغلظ تهديد وأشد وعيد في حق من غيظ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه غل لهم".2
1ـ تفسير القرآن العظيم 6/365.
2ـ "قبس من هدى الإسلام" لشيخنا عبد المحسن العباد ص/ 86.
وأما قوله تعالى في ختام الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} فهذا وعد من الله لجميع الصحابة بالجنة وكذلك كل من آمن وعمل الصالحات من أمة الإجابة إذ هذا الوعد عام لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى مبيناً معنى الآية: "ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر من الصفات وهو الشدة على الكفار والرحمة بينهم والركوع والسجود يبتغون فضلا من الله ورضواناً والسيماء في وجوههم من أثر السجود وأنهم يبتدئون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال كالزرع والوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات بل على الإيمان والعمل الصالح فذكر ما به يستحقون الوعد وإن كانوا كلهم بهذه الصفة ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم، ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم"أ. هـ1
11-
وفي هذه الآية الكريمة بين ـ تعالى ـ أنه حبب إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وجعلهم راشدين وذلك لكي يكونوا أهلاً لشرف الصحبة فأعدهم الله ذلك الإعداد الرفيع فاستحقوا بذلك أن يكونوا هم الراشدين كما نطقت به هذه الآية.
قال العلامة ابن جرير الطبري: "يقول تعالى ذكره لأصحاب نبي الله
1ـ منهاج السنة 1/158.
2ـ سورة الحجرات آية / 7.
صلى الله عليه وسلم واعلموا أيها المؤمنون بالله ورسوله {أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} فاتقوا الله أن تقولوا الباطل، وتفتروا الكذب فإن الله يخبره أخباركم ويعرفه أنباءكم ويقومه على الصواب في أموره وقوله:{لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} يقول تعالى ذكره: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في الأمور بآرائكم ويقبل منكم ما تقولون له فيطيعكم {لَعَنِتُّمْ} يقول: لنالكم عنت يعني الشدة والمشقة في كثير من الأمور بطاعته إياكم لو أطاعكم لأنه كان يخطئ في أفعاله كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق: إنهم قد ارتدوا، ومنعوا الصدقة وجمعوا الجموع لغزو المسلمين فغزاهم فقتل منهم، وأصاب من دمائهم وأموالهم كان قد قتل، وقتلتم من لا يحل له ولا لكم قتله وأخذ وأخذتم من المال ما لا يحل له ولكم أخذه من أموال قوم مسلمين فنالكم من الله بذلك عنت {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ} بالله ورسوله فأنتم تطيعون رسول الله، وتأتمون به فيقيكم الله بذلك من العنت ما لو لم تطيعوه وتتبعوه وكان يطيعكم لنالكم وأصابكم وقوله:{وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} يقول: وحسن الإيمان في قلوبكم فآمنتم {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} بالله {وَالْفُسُوقَ} يعني الكذب {وَالْعِصْيَانَ} يعني ركوب ما نهى الله عنه في خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتضييع ما أمر الله به {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} يقول: هؤلاء الذين حبب الله إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون السالكون طريق الحق"أ. هـ1.
وقال الحافظ ابن كثير: "وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} أي: اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم، ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم كما قال تبارك وتعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
1ـ جامع البيان 26/125-126
أَنْفُسِهِمْ} 1.
ثم بين أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي: لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم
…
وقوله عز وجل {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي: حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم
…
{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} أي: وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار والعصيان، وهي جميع المعاصي وهذا تدرج لكمال النعمة وقوله تعالى:{أَنْفُسِهِمْ} 1.
ثم بين أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي: لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم
…
وقوله عز وجل {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي: حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم
…
{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} أي: وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار والعصيان، وهي جميع المعاصي وهذا تدرج لكمال النعمة وقوله تعالى:{أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} أي: المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون الذين قد آتاهم الله رشدهم"أ. هـ2.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ} "أي: جعله أحب الأشياء إليكم، أو محبوباً لديكم فلا يقع منكم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة"3.
12-
قال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4. فالذين آمنوا في هذه الآية لفظ عام يطلق على كل مؤمن آمن بالله بقلبه ولسانه وجوارحه، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون في هذا اللفظ العام دخولا أولياً قبل كل أحد آمن بعدهم، والآية فيها تعريض بمن حل به الخزي من أهل الكفر، كما تضمنت التنويه بشأن المؤمنين الذين حفظهم الله بتوفيقه من مثل حال الكافرين فكانت عاقبتهم أن أمنهم الله من خزيه، ولا يأمن من خزيه في يوم القيامة إلا من مات على كمال الإيمان وحقائق الإحسان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقدمة من مات على ذلك، فلقد ماتوا رضي الله عنهم وهم على خير حال
1ـ سورة الأحزاب آية /6.
2ـ تفسير ابن كثير 6/374.
3ـ فتح القدير 5/60.
4ـ سورة التحريم آية/ 8.
وسيكون يوم القيامة في مقدمة المؤمنين الذين يتم الله لهم نورهم.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "ليس أحد إلا يعطى نوراً يوم القيامة، يعطى المؤمن والمنافق، فيطفأ نور المنافق فيخشى المؤمن أن يطفأ نوره فذلك قوله ـ تعالى ـ:{رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} 1
وقال أبو الفرج بن الجوزي: " {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} وذلك إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ سألوا الله تعالى أن يتمم لهم نورهم ويبلغهم به الجنة. وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ليس أحد من المسلمين إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق، فيطفأ نوره، والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق فهم يقولون {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} "2.
فالآيات التي قدمنا ذكرها كلها نصوص واضحة الدلالة وصريحة في مناقب الصحابة رضي الله عنهم على وجه الجملة، والآيات الواردة في هذا الصدد كثيرة جداً ومجمل القول في هذا أن كل صيغة عموم فيها الثناء على عباد الله المؤمنين، أو فيها وعد لهم بدخول الجنة أو تبشير لهم بذلك من الله تعالى فإنها تشملهم ويدخلون فيها فيها قبل كل أحد دخولا أولياً ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 3.
ومثل قوله تعالى: {كَلَاّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ
1ـ جامع البيان 28/169.
2ـ زاد المسير 8/324.
3ـ سورة المؤمنون آية /1-11
النَّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} 1.
والآيات من هذا القبيل في القرآن كثيرة جداً ومن الصعوبة استقصاؤها3 وكلها وردت بصيغة العموم وأول من تتناول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خير الأمة المحمدية ذلكم هو الثناء في الآيات القرآنية على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه العموم ولنأت إلى ما جاء في بيان فضلهم من السنة على وجه عام.
1ـ سورة المطففين آية /18-28.
2ـ سورة البينة آية / 7-8.
3ـ حتى أن بعضهم أفردها ببحوث ورسائل مستقلة مثل كتاب إتحاف ذوي النجابة بما في القرآن والسنة من فضائل الصحابة ـ محمد العربي بن التباني، ومثل منزلة الصحابة في القرآن ـ محمد صلاح الصاوي ومثل ـ صحابة رسول صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة تأليف ـ عيادة أيوب الكبيسي وغيرها من البحوث والرسائل في هذا الموضوع.