الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: فضل أهل بيته الإناث
…
1) خديجة رضي الله عنها:
هي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي تجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي وهي من أقرب نسائه إليه في النسب ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أن أم حبيبة، تزوجها صلى الله عليه وسلم بمكة وهو ابن خمسة وعشرين سنة وكانت قبله عند أبي هالة ابن النباش بن زرارة التميمي1 حليف بني عبد الدار، وقد بقيت رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن أكرمه الله برسالته، وكانت أول من آمن به من النساء، وصدقته ونصرته فكانت له وزير صدق وهي سيدة نساء العالمين في زمانها، وهي ممن كمل من النساء فقد كانت عاقلة جليلة دينة مصونة كريمة من أهل الجنة، وكان عليه الصلاة والسلام يثني عليها ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين ويبالغ في تعظيمها، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة قبلها، وكل أولاده عليه الصلاة والسلام منها إلا إبراهيم رضي الله عنه فإنه من سريته مارية رضي الله عنها، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عليها امرأة قط، ولا تسرى إلى أن قضت نحبها فوجد لفقدها فإنها كانت نعم القرين فلقد أنفقت عليه صلى الله عليه وسلم من مالها واتجر فيه لها رضي الله عنها وأرضاها، وكانت وفاتها رضي الله عنها قبل الهجرة بثلاث سنين2.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة بمناقبها الكثيرة ومن تلك الأحاديث:
1-
ما رواه الحاكم بإسناده إلى عفيف بن عمر وقال: كنت امرء تاجراً، وكنت صديقاً للعباس بن عبد المطلب في الجاهلية فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبد المطلب بمنى فجاء رجل فنظر إلى الشمس حين مالت فقام يصلي
1ـ وقبل: كانت قبله عند عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ثم خلف عليها النبي صلى الله عليه وسلم "وهذا قول أبي عمر بن عبد البر انظر الاستيعاب على الإصابة 4/272.
2ـ طبقات ابن سعد 1/131، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/271-281، أسد الغابة 5/434، تاريخ الإسلام 1/41، مجمع الزوائد 9/218-225، فتح الباري 7/134، الإصابة 4/273-276.
ثم جاءت امرأة فقامت تصلي ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي فقلت للعباس: من هذا؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن أخي يزعم أنه نبي ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة وهذا الغلام، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد امرأته وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب قال عفيف الكندي: وأسلم وحسن إسلامه: لوددت أني كنت أسلمت يومئذ فيكون لي ربع الإسلام1.
هذا الحديث اشتمل على منقبة عظيمة لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وهي أنها كانت من السابقين الأولين إلى الإسلام.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "ومما اختصت به سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان، فسنت ذلك لكل من آمنت بعدها فيكون لها مثل أجرهن لما ثبت: أن من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء2 وقد شاركها في ذلك أبو بكر الصديق بالنسبة إلى الرجل، ولا يعرف قدر ما لكل منهما من الثواب بسبب ذلك إلا الله عز وجل"3.
2-
روى الإمام البخاري بإسناده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: "ما أنا بقارئ" قال: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني
1ـ المستدرك 3/183 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
2ـ الحديث في صحيح مسلم 4/2059.
3ـ فتح الباري 7/137.
الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} 1 فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال:" زملوني زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: لخديجة وأخبرها الخبر "لقد خشيت على نفسي" فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. الحديث2.
فهذا الحديث تضمن ذكر منقبة ظاهرة لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وهي أنها كانت تقوي قلب النبي صلى الله عليه وسلم في بداية نزول الوحي عليه وطمأنته عليه الصلاة والسلام مما كان يخشاه على نفسه وهونت عليه الأمر وأنه لا خوف عليه ولا حزن وأقسمت للنبي صلى الله عليه وسلم على أن الله لا يخزيه ولا يخذله واستدلت على ما أقسمت عليه بما فيه من صفاته الطيبة من أصول مكارم الأخلاق التي هي إحسانه إلى الأقارب والأجانب إما بالبدن، وإما بالمال وبينت له أن من وجدت فيه هذه الخصال الحميدة لن يخزيه الله أبداً.
3-
ومن مناقبها رضي الله عنها التي انفردت بها دون سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه عليه الصلاة والسلام لم يتزوج عليها حتى فارقت الحياة الدنيا. فقد روى مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت3.
قال الحافظ: "وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار وفيه دليل على عظم قدرها عنده وعلى مزيد فضلها لأنها أغنته عن غيرها واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها مرتين لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاماً انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عاماً وهي نحو
1ـ سورة العلق آية/1-3.
2ـ صحيح البخاري 1/6-7.
3ـ صحيح مسلم 4/1889.
الثلثين من المجموع ومع طول المدة فصان قلبها فيها من الغيرة ومن تكدر الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها"1.
4-
ومن مناقبها العظيمة التي شرفت بها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنها خير نساء هذه الأمة المحمدية قاطبة: فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة"2.
وعند الإمام مسلم بلفظ "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد" قال أبو كريب وأشار وكيع إلى السماء والأرض3.
قال النووي رحمه الله: "قوله صلى الله عليه وسلم: "خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد" وأشار وكيع إلى السماء والأرض" أراد وكيع بهذه الإشارة تفسير الضمير في نسائها وأن المراد به جميع نساء الأرض أي: كل من بين السماء والأرض من النساء والأظهر أن معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها وأما التفضيل بيهما فمسكوت عنه"4.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: "الضمير عائد على غير مذكور لكنه يفسره الحال والمشاهدة يعني: به الدنيا".
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر أقوال العلماء في مرجع الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: "خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة" والذي يظهر لي أن قوله: "خير نسائها" خبر مقدم والضمير لمريم فكأنه قال: مريم خير نسائها أي:
1ـ فتح الباري 7/137.
2ـ صحيح البخاري 2/315.
3ـ صحيح مسلم 4/1886.
4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/198.
نساء زمانها وكذا في خديجة وقد جزم كثير من الشراح أن المراد نساء زمانها لما تقدم في أحاديث الأنبياء في قصة موسى وذكر آسية من حديث أبي موسى رفعه "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية" فقد أثبت في هذا الحديث الكمال لآسية كما أثبته لمريم فامتنع حمل الخيرية في حديث الباب على الإطلاق وجاء ما يفسر المراد صريحاً فروى البزار والطبراني من حديث عمار بن ياسر رفعه "لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين""وهذا حديث حسن الإسناد"1.
5-
ومن مناقبها رضي الله عنها التي دلت على شرفها وجلالة قدرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثير من ذكرها بعد موتها بالثناء عليها والمدح لها وكان يأتي من العمل ما يسرها في حياتها. فقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة هلكت قبل أن يتزوجني لما كنت أسمعه يذكرها وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن"2.
وروى مسلم رحمه الله بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت للنبي صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه ما غرت على خديجة لكثرة ذكرها إياها3.
وروى البخاري رحمه الله بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: "ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد"4.
1ـ فتح الباري 7/135.
2ـ صحيح البخاري 2/315، صحيح مسلم 4/1888.
3ـ صحيح مسلم 4/1889.
4ـ صحيح البخاري 2/315.
في هذه الأحاديث الثلاثة "ثبوت الغيرة وأنها غير مستنكر وقوعها من فاضلات النساء فضلاً عن دونهن، وأن عائشة كانت تغار من نساء النبي صلى الله عليه وسلم لكن كانت تغار من خديجة أكثر وقد بينت سبب ذلك وأنه لكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إياها
…
وأصل غيرة المرأة من تخيل محبة غيرها أكثر منها، وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة
…
وقولها رضي الله عنها: "وأمره الله أن يبشرها" إلخ.
هذا من جملة أسباب الغيرة لأن اختصاص خديجة بهذه البشرى مشعر بمزيد محبة من النبي صلى الله عليه وسلم فيها
…
وقولها أيضاً رضي الله عنها: "وإن كان ليذبح الشاة" إلخ، من أسباب الغيرة لما فيه من الإشعار باستمرار حبه لها حتى كان يتعاهد صواحباتها، وقوله عليه الصلاة والسلام:"إنها كانت وكانت" أي: كانت فاضلة وكانت عاقلة ونحو ذلك"1.
6-
روى الإمام أحمد بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء. قالت: فغرت يوماً فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق2، لقد أبدلك الله عز وجل بها خيراً منها. قال:"ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء"3.
كلما ذكر في هذا الحديث مناقب عالية لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها
1ـ فتح الباري 7/136-137.
2ـ قال النووي: معناه: عجوز كبيرة جداً حتى قد سقطت أسنانها من الكبر ولم يبقى لشدقها بياض شيء من الأسنان إنما بقى فيها حمرة لثاتها. قال القاضي: قال المصري وغيره من العلماء: الغيرة مسامح للنساء فيها لا عقوبه عليهن فيها بما جبلن عليه من ذلك ولهذا لم تزجر عائشة عنها. ال القاضي: وعندي أن ذلك جرى من عائشة لصغر سنها وأول شبيبتها ولعلها لم تكن بلغت حينئذ"أهـ. شرح النووي 15/202.
3ـ المسند مع الفتح الرباني 20/240-241 وأورده الهيثمي في المجمع 3/224 وقال: رواه أحمد وإسناده حسن.
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يكثر من ذكرها والثناء عليها وكان يعمل بعد موتها ما يسرها في حياتها حيث كان يصل من يودها بالقول والعمل.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى مبيناً مكانة خديجة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتفع بخديجة برأيها ومالها ونصرها فرعاها حية وميتة برّها موجودة ومعدومة وأتى بعد موتها ما يعلم أنه يسرها لو كان في حياتها. ومن هذا المعنى ما روي من أن من البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه"1.
7-
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن حبه لها كان رزقاً من الله رزقه إياه. فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة وإني لم أدركها قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول: "أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة" قالت: فأغضبته يوماً فقلت: خديجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد رزقت حبها"2.
هذا الحديث فيه بيان فضيلة حصلت لخديجة رضي الله عنها.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "قوله صلى الله عليه وسلم: "رزقت حبها" فيه إشارة إلى أن حبها فضيلة حصلت"3.
من هذا يتبين أن: "حبه صلى الله عليه وسلم لما تقدم ذكره من الأسباب وهي كثيرة كل منها كان سبباً في إيجاد المحبة4.
8-
ومما حظيت به رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتاح لسماع صوت من يشبه صوته صوتها لما وضع الله لها في قلبه من المحبة رضي الله عنها وأرضاها.
فقد روى الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:
1ـ عارضة الأحوذي بشرح الترمذي 14/252.
2ـ صحيح مسلم 4/1888.
3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/201.
4ـ انظر فتح الباري 7/137.
استأذنت هالة بنت خويلد ـ أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك فقال: "اللهم هالة" قالت: فغرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيراً منها1.
"في هذه الأحاديث دلالة لحسن العهد وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حياً وميتاً، وإكرام معارف ذلك الصاحب"2.
فلقد أكرم الرسول صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها إكراماً بالغاً في حال الحياة وبعد الممات.
9-
ومما دل على جلالة قدرها أن الباري ـ جل وعلا ـ أرسل إليها السلام مع جبريل وأمر نبيه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب اللؤلؤ المجوف المنظوم بالدر والياقوت. فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب".
وروى أيضاً بإسناده إلى إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: بشر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة؟ قال: نعم ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب"3.
هذان الحديثان تضمنا ذكر منقبتين عظيمتين لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وأرضاها:
الأولى: إرسال الرب ـ جل وعلا ـ سلامه عليها مع جبريل "وهذه الخاصة
1ـ صحيح البخاري 2/316، صحيح مسلم 4/1889.
2ـ انظر شرح النووي 15/202.
3ـ صحيح البخاري 2/315-316.
لا تعرف لامرأة سواها"1.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "قوله: فاقرأ عليها السلام من ربها ومني: زاد الطبراني في الرواية المذكورة فقالت: "هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام"، وللنسائي من حديث أنس قال: "قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يقرئ خديجة السلام يعني فأخبرها" فقالت: إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول السلام ورحمة الله وبركاته"2.
قال العلماء: في هذه القصة دليل على وفور فقهها لأنها لم تقل "وعليه السلام" كما وقع لبعض الصحابة حيث يقولون في التشهد: "السلام على الله" فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إن الله هو السلام، فقولوا التحيات لله" فعرفت خديجة لصحة فهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين لأن السلام اسم من أسماء الله وهو أيضاً دعاء بالسلامة وكلاهما لا يصلح أن يرد به على الله فكأنها قالت: كيف أقول عليه السلام والسلام اسمه ومنه يطلب ومنه يحصل فيستفاد منه أنه لا يليق بالله إلا الثناء عليه فجعلت مكان رد السلام عليه الثناء عليه ثم غايرت بين ما يليق بالله وما يليق بغيره فقالت: وعلى جبريل السلام ثم قالت: وعليك السلام ويستفاد منه رد السلام على من أرسل السلام وعلى من يبلغه والذي يظهر أن جبريل كان حاضراً عند جوابها فردت عليه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بالتخصيص ومرة بالتعميم، وقيل إنما بلغها جبريل عليه السلام من ربها بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم احتراماً للنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك وقع له لما سلم على عائشة لم يواجهها بالسلام بل راسلها مع النبي صلى الله عليه وسلم3.
الثانية: التي اشتملت عليها تلك الأحاديث لخديجة رضي الله عنها هي قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: "وبشرها ببيت في الجنة من
1ـ زاد المعاد في هدي خير العباد 1/105.
2ـ فضائل الصحابة ص/198.
3ـ فتح الباري 7/139، وانظر شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ عبد الله محمد الغنيمان 2/369-370.
قصب لا صخب فيه ولا نصب" وببيان معنى هذه المنقبة بأقوال أهل العلم يتبين حال خديجة وما كانت عليه من القدر العظيم رضي الله عنها: فقوله: "وبشرها ببيت" فقد قال أبو بكر الإسكافي في "فوائد الأخبار": المراد به بيت زائد على ما أعد الله لها من ثواب عملها ولهذا قال: "لا نصب فيه" أي: لم تتعب بسببه1. وقال السهيلي: "لذكر البيت معنى لطيف لأنها كانت ربة بيت قبل المبعث ثم صارت ربة بيت في الإسلام منفردة به فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم بيت إسلام إلا بيتها وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضاً غيرها قال: وجزاء الفعل يذكر الفعل يذكر غالباً بلفظه وإن كان أشرف منه فلهذا جاء في الحديث بلفظ البيت دون لفظ القصر2.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وفي البيت معنى آخر لأن مرجع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إليها لما ثبت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قالت أم سلمة: لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعلياً والحسن والحسين فجللهم بكساء فقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي" الحديث أخرجه الترمذي3 وغيره ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة لأن الحسنين من فاطمة وفاطمة بنتها وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها"أ. هـ4.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قصب" قال ابن التين: المراد به لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر المنيف قال الحافظ عند الطبراني في الأوسط: "من طريق أخرى عن ابن أبي أوفى: "يعني قصب اللؤلؤ" وعنده في الكبير من حديث أبي هريرة: "بيت من لؤلؤة مجوفة" وعنده في الأوسط من حديث فاطمة قالت: قلت يا رسول الله: أين أمي
1ـ الروض الأنف 1/278، فتح الباري 7/138.
2ـ الروض الأنف 1/278-279، فتح الباري 7/138.
3ـ سنن الترمذي 5/30-31.
4ـ فتح الباري 7/138.
خديجة؟ قال: "في بيت من قصب" قلت: أمن هذا القصب؟ قال: "لا؛ من القصب المنظوم الدر واللؤلؤ والياقوت"1.
قال السهيلي: النكتة في قوله: "من قصب" ولم يقل من لؤلؤ أن في لفظ القصب مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها ولذا وقعت هذه المناسبة في جميع ألفاظ الحديث2.
قال الحافظ ابن حجر: وفي القصب مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن ولم يصدر منها ما يغضبه قط كما وقع لغيرها3.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صخب فيه ولا نصب" الصخب: الصياح والمنازعة برفع الصوت، والنصب: التعب4.
وقال أبو بكر بن العربي: "لا صخب فيه ولا نصب" معناه: عار عن الأذية5 قال السهيلي: "مناسبة نفي هاتين الصفتين ـ أعني المنازعة والتعب ـ أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابت خديجة طوعاً فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك بل أزالت عنه كل نصب وآنسته من كل وحشة وهونت عليه كل عسير فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها"6.
10-
ومما تميزت به رضي الله عنها أنها كانت ممن كمل من النساء. قال الحافظ ابن كثير: وروى شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قرة بن إياس
1ـ المصدر السابق.
2ـ الروض الأنف 1/279، فتح الباري 7/138.
3ـ فتح الباري 7/138.
4ـ انظر النهاية في غريب الحديث والأثر 3/14، 5/62، فتح الباري 7/138.
5ـ عارضة الأحوذي 14/252.
6ـ الروض الأنف 1/279 وانظر فتح الباري 7/138.
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"1.
قال ابن كثير: رواه ابن مردويه في تفسيره وهذا إسناد صحيح إلى شعبة وبعده قالوا: والقدر المشترك بين الثلاث نسوة آسية ومريم وخديجة أن كلا منهن كفلت نبياً مرسلاً، وأحسنت الصحبة في كفالتها وصدقته فآسية ربت موسى وأحسنت إليه وصدقته حين بعث، ومريم كفلت ولدها أتم كفالة وأعظمها وصدقته حين نزل عليه الوحي من الله ـ عز وجل2.
فهذا الحديث تضمن منقبة ظاهرة لخديجة رضي الله عنها حيث إن "لفظة الكمال تطلق على تمام الشيء وتناهيه في بابه والمراد هنا التناهي في جميع الفضائل وخصال البر والتقوى"3.
11-
ومما تميزت به رضي الله عنها: أنها لم تسؤه قط ولم تعارضه ولم ينلها منه إيلاء ولا عتب قط ولا هجر وكفى بهذه منقبة وفضيلة4.
12-
ومن مناقبها ما رواه الترمذي بإسناده إلى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون"5.
قوله: "حسبك أي: يكفيك" من نساء العالمين أي: الواصلة إلى مراتب الكاملين في الاقتداء بهن وذكر محاسنهن ومناقبهن وزهدهن في الدنيا وإقبالهن
1ـ البداية والنهاية 3/142.
2ـ المصدر السابق "نفس الجزء والصحفة".
3ـ شرح النووي 15/198.
4ـ جلاء الأفهام ص/125.
5ـ سنن الترمذي 5/267 وقال: هذا حديث حسن صحيح.
على العقبى.
قال الطيبي: حسبك مبتدأ ومن نساء متعلق به ومريم خبره والخطاب إما عام أو لأنس أي: كافيك معرفتك فضلهن عن معرفة سائر النساء1.
فالحديث اشتمل على منقبة عظيمة لخديجة رضي الله عنها حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها من النساء اللاتي بلغن التناهي في جميع الفضائل وخصال البر والتقوى، فأفضل نساء الأمة المحمدية خديجة بنت خويلد، وعائشة بنت أبي بكر الصديق وفاطمة بنت محمد عليه الصلاة والسلام وقد اختلف العلماء في تفضيل بعضهن على بعض:
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "جهات الفضل بين خديجة وعائشة متقاربة وكأنه رأى التوقف"2.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "الخلاف في كون عائشة أفضل من فاطمة أو فاطمة أفضل إذا حرر محل التفضيل صار وفاقاً فالتفضيل بدون التفصيل لا يستقيم فإن أريد بالفضل كثرة الثواب عند الله عز وجل فذلك أمر لا يطلع عليه إلا بالنص لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب لا بمجرد أعمال الجوارج، وكم من عاملين أحدهما أكثر عملاً بجوارحه والآخر أرفع درجة منه في الجنة، وإن أريد بالتفضيل التفضل بالعلم فلا ريب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة وأدت إلى الأمة من العلم ما لم يؤدي غيرها واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها، وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل وجلالة النسب فلا ريب أن فاطمة أفضل فإنها بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم وذلك اختصاص لم يشاركها فيه غير أخواتها وإن أريد السيادة ففاطمة سيدة نساء الأمة وإذا ثبتت وجوه التفضيل وموارد الفضل وأسبابه صار الكلام بعلم وعدل، وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل لم يفصل جهات
1ـ تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 10/389.
2ـ ذكره عنه الحافظ ابن حجر في كتابه "تح الباري" 7/109.
الفضل ولم يوازن بينهما فيبخس الحق وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصب وهوى لمن يفضله تكلم بالجهل والظلم"1.
وقال الحافظ ابن حجر: "امتازت فاطمة عن أخواتها بأنهن متن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما امتازت به عائشة من فضل العلم فإن لخديجة ما يقابله وهي أنها أول من أجاب إلى الإسلام ودعا إليه وأعان على ثبوته بالنفس والمال والتوجه التام فلها مثل أجر من جاء بعدها ولا يقدر قدر ذلك إلا الله، وقيل: انعقد الإجماع على أفضلية فاطمة، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة"2.
وقد بين العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى أقوال العلماء في تفضيل خديجة على عائشة أو العكس وبين أن في المسألة ثلاثة أقوال فقد قال: "واختلف في تفضيلها على عائشة رضي الله عنها على ثلاثة أقوال: ثالثها الوقف: وسألت شيخنا ابن تيمية فقال: "اختصت كل واحدة منهما بخاصة، فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام، وكانت تسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبته وتسكنه، وتبذل دونه مالها فأدركت غرة الإسلام واحتملت الأذى في الله وفي رسوله، وكان نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها، وعائشة رضي الله عنها تأثيرها في آخر الإسلام، فلها من التفقه في الدين وتبليغه إلى الأمة، وانتفاع بنيها بما أدت إليهم من العلم ما ليس لغيرها هذا معنى كلامه"3.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد أن أشار إلى الخلاف في أي أفضل خديجة أم عائشة رضي الله عنهما: "والحق أن كلاً منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لبهره وحيره والأحسن التوقف في ذلك إلى الله عز وجل
1ـ بدائع الفوائد 3/161-162، وانظر: فتح الباري 7/109.
2ـ فتح الباري 7/109.
3ـ جلاء الأفهام ص/124، وانظر بدائع الفوائد 3/162-163.
ومن ظهر له دليل يقطع به أو يغلب على ظنه في هذا الباب فذاك الذي يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم، ومن حصل له توقف في هذه المسألة، أو في غيرها فالطريق الأقوم والمسلك الأسلم أن يقول الله أعلم"أ. هـ1.
وقال القاري في المرقاة: قال السيوطي في النقاية: "نعتقد أن أفضل النساء مريم وفاطمة، وأفضل أمهات المؤمنين خديجة وعائشة، وفي التفضيل بينهما أقوال ثالثها: التوقف قال القاري: التوقف في حق الكل أولى إذ ليس في المسألة دليل قطعي والظنيات متعارضة غير مفيدة للعقائد المبنيات على اليقينيات"2.
وما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والحافظ ابن كثير في مسألة التفضيل بين خديجة وعائشة هو معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وهو القول بالتوقف وهو القول الذي تطمئن إليه النفس لما لكل واحدة منهما من الفضائل التي لا تحصى والله أعلم.
1ـ البداية والنهاية 3/142.
2ـ المرقاة 5/615.
2) سودة رضي الله عنها:
هي سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل ويقال: حسيل بن عامر بن لؤي، وأمها الشموس بنت قيس بن زيد بن عمرو بن لبيد بن فراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد موت خديجة وقبل العقد على عائشة هذا قول قتادة وأبي عبيدة وكذلك روى عقيل عن ابن شهاب وأنه تزوج سودة قبل عائشة. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل: تزوجها بعد عائشة وكذلك قال يونس عن ابن شهاب ولا خلاف أنه لم يتزوجها إلا بعد موت خديجة1.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: "وهي أول من تزوج بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة وانفردت به نحواً من ثلاث سنين أو أكثر حتى دخل بعائشة وكانت سيدة جليلة نبيلة ضخمة وكانت أولاً عند السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو العامري وهي التي وهبت يومها لعائشة رعاية لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت قد فركت2 رضي الله عنها"3.
توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهي مع سائر من توفي عنهن من أزواجه رضي الله عنهن وأرضاهن وأم المؤمنين سودة وردت لها مناقب دلت على جلالة قدرها ورفعت شأنها رضي الله عنها وأرضاها، وتلك المناقب هي:
1-
أنها رضي الله عنها كانت من السابقين الأولين إلى الإسلام. قال الحافظ ابن حجر: "وأخرج ابن أبي عاصم من طريق يحيى القطان عن محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عائشة قالت: لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم بن الأوقص امرأة عثمان بن مظعون وذلك بمكة أي:
1ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/317، أسد الغابة 5/484-485، الإصابة 4/430-431.
2ـ فركت: قال في اللسان: 10/474: "وامرأة مفروكة: لا تحظى عند الرجال".
3ـ سير أعلام النبلاء 2/266-267.
رسول الله ألا تزوج؟ قال: "ومن؟ " قالت: إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً. قال: "فمن البكر؟ " قالت: بنت أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر قال: "ومن الثيب؟ " قالت: سودة بنت زمعة، آمنت بك، واتبعتك، قال:"فاذهبي فاذكريهما علي" الحديث1.
فهي رضي الله عنها من متقدمي الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم والمتبعين له.
قال ابن سعد: "وأسلمت بمكة قديماً وبايعت، وأسلم زوجها السكران بن عمرو وخرجا جميعاً مهاجرين إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية"2.
2-
ومن حرصها على البقاء في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم أنها آثرت يومها في القسم حب النبي صلى الله عليه وسلم وجعلته لعائشة إيثاراً منها لرضاه عليه الصلاة والسلام وحباً في المقام معه لتكون من أزواجه في الدنيا والآخرة.
فقد روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} 3 فما اصطلح عليه من شيء فهو جائز"4.
وروى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها
1ـ الإصابة 4/348-349 والحديث طويل جداً وفيه أن خولة ذهبت وخطبت عائشة رضي الله عنها واستجاب لذلك الصديق وزوجوه إياها وهي حينئذ بنت ست سنين، ثم ذهبت إلى سودة وخطبتها للنبي صلى الله عليه وسلم ورضيت بالنبي زوجاً لها ودخل بها عليه الصلاة والسلام في مكة وهاجرت بعد ذلك إلى المدينة لما هاجر إليها. والحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند 6/210 والبيهقي في دلائل النبوة 2/312-411 وأورده الحافظ ابن كثير في البداية 3/146-154، والهيثمي في المجمع 9/225.
2ـ طبقات ابن سعد 8/52.
3ـ سورة النساء آية/128.
4ـ سنن الترمذي 4/315 ثم قال عقبه: هذا حديث حسن صحيح غريب.
لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
3-
ومن مناقبها رضي الله عنها أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تمنت أن تكون في مثل هديها وطريقتها: فقد روى مسلم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت امرأة أحب ألي أن أكون في مسلاخها2 من سودة بنت زمعة من امرأة فيها حدة قالت: فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة قالت: يا رسول الله قد جعلت يومي منك لعائشة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين: يومها ويوم سودة3.
قال النووي: "وقولها: من امرأة. قال القاضي: من هنا للبيان واستفتاح الكلام ولم ترد عائشة عيب سودة بذلك بل وصفتها بقوة النفس وجودة القريحة وهي الحدة بكسر الحاء"4.
فهذه الأحاديث اشتملت على بيان فضل أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها قال العلامة ابن القيم مبيناً وجه الفضل في هذه الأحاديث: "فلما توفاها الله ـ يقصد خديجة ـ تزوج بعدها سودة بنت زمعة رضي الله عنها
…
وكبرت عنده وأراد طلاقها فوهبت يومها لعائشة رضي الله عنها فأمسكها وهذا من خواصها أنها آثرت بيومها حب النبي صلى الله عليه وسلم تقرباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحباً له، وإيثاراً لمقامها معه فكان يقسم لنسائه ولا يقسم لها وهي راضية بذلك مؤثرة لرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: رضي الله عنها"5.
1ـ صحيح البخاري 2/19.
2ـ قال ابن الأثير في النهاية 2/389: كأنها تمنت أن تكون في مثل هديها وطريقتها ومسلاخ الحية جلدها والسلخ بالكسر: الجلد.
3ـ صحيح مسلم 2/1085.
4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 10/48.
5ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/125.
4-
ومن مناقبها رضي الله عنها أنها كانت من محبي الإنفاق في سبيل الله. فقد روى ابن سعد بإسناده إلى محمد بن سيرين أن عمر بن الخطاب بعث إلى سودة بنت زمعة بغرارة من دراهم فقالت: ما هذه قالوا: دراهم قالت: في الغرارة مثل التمر يا جارية بلغيني القنع. قال: ففرقتها1.
"توفيت رضي الله عنها في آخر زمان عمر بن الخطاب، ويقال ماتت سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية"2.
1ـ انظر الطبقات 8/56.
2ـ الطبقات 8/57، الاستيعاب على الإصابة 4/318، سير أعلام النبلاء 2/267، الإصابة 4/331.
3) عائشة رضي الله عنها:
هي عائشة بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن عثمان، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، ولدت بعد المبعث بأربع سنين أو خمس تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست، وقيل سبع ويجمع بأنها كانت أكملت السادسة ودخلت السابعة، ودخل بها وهي بنت تسع وكان دخوله بها في شوال في السنة الأولى وقيل في السنة الثانية من الهجرة وكانت أحب أزواجه إليه وهي المبرأة من فوق سبع سموات رضي الله عنها وعن أبيها، وكانت تكنى بأم عبد الله كناها رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن اختها عبد الله بن الزبير ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة سواها، وكانت أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم بل هي أعلم النساء على الإطلاق، كان الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرجعون إلى قولها ويستفتونها توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الثامنة عشر من عمرها وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة ثمان وخمسين ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه وعنها وعن الصحابة أجميعن"1.
ومناقبها رضي الله عنها كثيرة مشهورة ومنها:
1-
ما رواه البخاري بإسناده إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: أي: الناس أحب إليك قال: "عائشة" قلت: فمن الرجال: قال: "أبوها"
…
الحديث2.
هذا الحديث فيه منقبة ظاهرة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي أنها كانت أحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: "وهذا
1ـ طبقات ابن سعد 8/58، حلية الأولياء لأبي نعيم 2/43، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/345-351، أسد الغابة 5/501-504، سير أعلام النبلاء 2/135-201، البداية والنهاية 8/98-102، الإصابة 4/348-350، تهذيب التهذيب 12/433.
2ـ صحيح البخاري 2/290.
خبر ثابت على رغم أنوف الروافض، وما كان عليه الصلاة والسلام ليحب إلا طيباً وقد قال:"لو كنت متخذاً خليلاً من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل".
فأحب أفضل رجل من أمته وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حري أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله. وحبه عليه السلام لعائشة كان أمراً مستفضياً1.
ومن مناقبها رضي الله عنها أن جبريل أرسل إليها سلامه مع النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: " يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام" فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته. ترى ما لا أرى تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
فهذا الحديث يدل على أن لها فضلاً عظيماً ومنزلة عالية حتى عند الملائكة رضي الله عنها وأرضاها.
3-
ومن مناقبها رضي الله عنها: ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"3.
في هذا الحديث بيان فضيلة عائشة رضي الله عنها فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فضل عائشة زائد على النساء كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة.
قال النووي: "قال العلماء: معناه أن الثريد من كل طعام أفضل من المرق فثريد اللحم أفضل من مرقه بلا ثريد وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه والمراد بالفضيلة نفعه والشبع منه وسهولة مساغه والالتذاذ به وتيسر تناوله وتمكن الإنسان
1ـ سير أعلام النبلاء 2/142.
2ـ صحيح البخاري 2/308.
3ـ صحيح البخاري 2/308، صحيح مسلم 4/1896.
من أخذ كفايته منه بسرعة وغير ذلك فهو أفضل من المرق كله ومن سائر الأطعمة وفضل عائشة على النساء زائد كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة، وليس في هذا تصريح بتفضيلها على مريم وآسية لاحتمال أن المراد تفضيلها على نساء الأمة"أ. هـ1.
وقال الحافظ رحمه الله تعالى: "وتقرير أن قوله: "وفضل عائشة
…
إلخ لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة وقد أشار ابن حبان إلى أن أفضليتها التي يدل عليها هذا الحديث وغيره مقيدة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يدخل فيها مثل فاطمة عليها السلام جمعاً بين هذا الحديث وبين حديث: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وأحسبه قال: وامرأة فرعون" وقد أخرجه الحاكم بهذا اللفظ من حديث ابن عباس"2.
4-
ومن مناقبها رضي الله عنها أن الله عز وجل لما أنزل على نبيه آية التخيير بدأ بها فخيرها فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فاستن بها بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم. فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: "لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: "إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا يعمل حتى تستأمري أبويك" قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم قال: "إن الله ـ جل ثناؤه ـ قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلى {أَجْراً عَظِيماً} " 3. قالت: فقلت: ففي أي هذا استأمر أبوي؟ فإني أريد الله وروسوله والدار الآخرة قالت: ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت"4.
1ـ شرح النووي 15/199.
2ـ فتح الباري 7/107 والحديث في المستدرك 3/185 وقال عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة وأقره الذهبي.
3ـ سورة الأحزاب آية/28-29.
4ـ صحيح البخاري في شرحه فتح الباري 8/520.
هذا الحديث تضمن فضل عائشة لبدائته بها رضي الله عنها.
5-
ومن مناقبها رضي الله عنها أن الملك أرى صورتها للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوجها في سرقة1 حرير. فقد روى الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول: هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي فأقول: "إن يك هذا من عند الله يمضه" 2.
6-
ومن مناقبها العظيمة التي دلت على عظيم شأنها وجليل قدرها أن الوحي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في لحافها دون غيرها من نسائه عليه الصلاة والسلام.
فقد روى البخاري بإسناده إلى هشام بن عروة عن أبيه قال: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة وإنا نريد الخير كما تريده عائشة فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان أو حيث ما دار قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأعرض عني فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: "يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها"3.
هذا الحديث تضمن منقبتين عظيمتين اختصت بهما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
المنقبة الأولى: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتحرون بهداياهم اليوم الذي يكون فيه نوبتها رضي الله عنها وأرضاها يبتغون بذلك مرضاة رسول الله
1ـ سرقة حرير: أي: قطعة من جيد الحرير وجمعها سرق، النهاية في غريب الحديث 2/362.
2ـ صحيح البخاري 3/247، صحيح مسلم 4/1889-1890.
3ـ صحيح البخاري 2/308-309.
صلى الله عليه وسلم ولما يعلمون من شدة حبه صلى الله عليه وسلم لها.
المنقبة الثانية: نزول جبريل الأمين بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في لحافها فلله ما أجلها من منقبة وما أعظمها من مكرمة اختصت بها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
7-
ومن مناقبها رضي الله عنها: شدة حب النبي صلى الله عليه وسلم لها. فقد روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي فأذن لها فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة وأنا ساكتة، قالت: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي بنية ألست تحبين ما أحب"، فقالت: بلى قال: "فأحبي هذه" قالت: فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعت إلى أزواج النبي فأخبرتهن بالذي قالت وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا لها: ما نراك أغنيت عنا في شيء فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحابة فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبداً، قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش
…
فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها على الحالة التي دخلت فاطمة عليها فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة قالت: ثم وقعت بي فاستطالت علي وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها قالت: فلما تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها1 حتى أنحيت عليها قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم: "إنها ابنة أبي بكر". 2
1ـ لم أنشبها: أي: أنحيت عليها: أي: لم ألبث أن قمعتها وقهرتها "انظر النهاية في غريب الحديث" 5/52 وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/207.
2ـ صحيح مسلم 4/1891.
هذا الحديث فيه منقبة ظاهرة لعائشة رضي الله عنها حيث بين عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة سيدة نساء أهل الجنة أنه يحب عائشة وأشار لها أن عليها محبتها.
قال النووي رحمه الله تعالى: "اعلم أنه ليس فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة ولا أشار بعينه ولا غيرها بل لا يحل اعتقاد ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم تحرم عليه خائنة الأعين وإنما فيه أنها انتصرت لنفسها فلم ينهها وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها ابنة أبي بكر" فمعناه الإشارة إلى كمال فهمها وحسن نظرها والله أعلم"1.
والعدل الذي طلبه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو التسوية بينهن في محبة القلب فقد كان صلى الله عليه وسلم مسوياً بينهن في الأفعال والمبيت ونحوه وأما محبة القلب فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة أكثر منهن وأجمع المسلمون على أن محبتهن لا تكليف فيها لأنه لا قدرة لأحد عليها إلا الله سبحانه وتعالى وإنما يؤمر بالعدل في الأفعال"2.
8-
ومن مناقبها رضي الله عنها التي دلت على عظيم شأنها ورفعه مكانتها شهادة الباري جل وعلا لها بالبراءة مما رميت به من الإفك وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ولما أراد الخروج في غزوة بني المصطلق أقرع بينهن فخرج سهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها وذلك بعد أن نزل الحجاب فحملت عائشة في هودجها ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة تجهز للعودة فلما قرب من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقامت عائشة رضي الله عنها حين آذنوا بالرحيل ومشت حتى جاوزت مكان الجيش فلما قضت من شأنها أقبلت إلى الرحيل فلمست صدرها وإذ بعقد لها قد انقطع فرجعت للبحث عنه فتأخرت في طلب ذلك العقد وجاء الرهط الذين كانوا يحملون هودجها فرحلوه على بعيرها الذي كانت تركبه وهم يظنونها فيه ولخفتها رضي الله عنها لم يستنكروا عدم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه وبعثوا
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/207.
2ـ المصدر السابق 15/205.
الجمل وساروا ووجدت عقدها رضي الله عنها بعد أن ذهب الجيش وجاءت إلى مكانهم الذي نزلوه وإذا به ليس فيه داع ولا مجيب فقصدت مكانها الذي كانت فيه لعلهم يفقدونها ويرجعون إليه فلم يحصل من ذلك شيء ولكن الله قيض لها الصحابي الجليل صفوان بن المعطل السلمي حيث كان متأخراً عن الجيش فأصبح عند منزلها فرأى سواد إنسان نائم فأتى وإذا بها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فعرفها فجعل يسترجع حتى استيقظت باسترجاعه ولم يكلمها رضي الله عنه بأي كلمة ولا سمعت منه غير كلمة استرجاعه فأناخ لها راحلته فركبتها وانطلق يقود بها تلك الراحلة حتى لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهلك في شأنها من هلك وعصم من ذلك من عصم وكان الذي تولى كبره في حادثة الإفك عبد الله بن أبي بن سلول وأخذ المنافقون في نشر هذه الحادثة يحيكونها بالكذب والبهت حتى تأذى من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أذى شديداً ونزل بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من الغم والهم ما الله به عليم حيث تأخر نزول الوحي بتبرئتها شهراً كاملاً وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يفاتح عائشة في ذلك الأمر وهي عند أبويها1 إلا والوحي ينزل بتبرئتها في عدد من آيات القرآن العظيم من سورة النور كانت درساً بليغاً لأهل الإيمان وشهادة من الله بتبرئة أم المؤمنين، وماتت تلك الفتنة يومئذ ولقي من تخوضوا فيها جزاءهم والآيات التي نزلت بتبرئتها رضي الله عنها هي قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الأِثْمِ} إلى قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 2 وعدد هذه الآيات لا ينقص عن ثمانية عشر آية تولى الله فيها الدفاع بنفسه
1ـ انظر قصة الإفك على سبيل التفصيل في صحيح البخاري 3/163-166، صحيح مسلم 4/2129-2137.
2ـ سورة النور آية/11-28.
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وبين أن ما رميت به كان إفكاً وهل الإفك إلا الكذب والبهت والافتراء وحذر من العودة إليه أبداً، وتوعد الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات باللعن في الدنيا والآخرة، والآية الأخيرة من تلك الآيات هي قوله تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يعني أن عائشة ما كانت تصلح لرسول الله شرعاً ولا قدراً لو كانت خبيثة وأن الله ما كان ليجعل عائشة زوجاً لرسوله إلا وهي طيبة لأنه أطيب من كل طيب من البشر عليه الصلاة والسلام كما صرح الله ببراءتها في قوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} ووعدها بالمغفرة والرزق الكريم {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وليس لهذا من تفسير إلا أن الباري ـ جل وعلا ـ شهد لها بحقيقة الإيمان وبشرها بالموت عليه لتفوز بعد ذلك بالمغفرة والرزق الكريم في الآخرة وبعد هذا لا يجوز لإنسان يؤمن بالله وكلماته أن ينسب أم المؤمنين عائشة إلى شيء من الخبث والريبة ومن وقع في مثل هذا فليس من تفسير لصنعه هذا إلا الكفر البواح والردة الصراح.
قال العلامة ابن القيم: "ومن خصائصها أن الله ـ سبحانه ـ برأها بما رماها به أهل الإفك وأنزل في عذرها وبراءتها وحياً يتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة شهد لها بأنها من الطيبات ووعدها المغفرة والرزق الكريم وأخبر ـ سبحانه ـ أن ما قيل فيها من الإفك كان خيراً لها ولم يكن ذلك الذي قيل فيها شراً لها ولا خافضاً من شأنها بل رفعها الله بذلك وأعلى قدرها وأعظم شأنها وصار لها ذكراً بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء فيالها من منقبة ما أجلها وتأمل هذا التشريف والإكرام الناشيء عن فرط تواضعها واستصغارها لنفسها حيث قالت: "ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها"1 فهذه صديقة الأمة وأم المؤمنين وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي
1ـ جزء من حديث الإفك انظر صحيح البخاري 3/165.
تعلم أنها بريئة منه مظلومة وأن قاذفيها ظالمون مفترون عليها قد بلغ أذاهم إلى أبويها وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"1.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "ولما تكلم فيها أهل الإفك بالزور والبهتان غار الله لها فأنزل براءتها في
…
آيات من القرآن تتلى على تعاقب الزمان
…
وقد أجمع العلماء على تكفير من قذفها بعد براءتها واختلفوا في بقية أمهات المؤمنين هل يكفر من قذفهن أم لا؟ على قولين: وأصحهما أنه يكفر لأن المقذوف زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى إنما غضب لها لأنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي وغيرها منهن سواء"2.
9-
ومما كان تشريفاً وتكريماً لها ما رواه البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم فقال أسيد بن حضير: "جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً وجعل فيه للمسلمين بركة3.
في هذا الحديث فضيلة ظاهرة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها تضمنها قوله: "جزاك الله خيراً
…
" إلخ الحديث فما نزل بها أمر إلا جعل الله لها منه مخرجاً وجعله لأمة محمد تخفيفاً وتيسيراً وبركة.
10-
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لحق بالرفيق الأعلى كان في بيتها وبين سحرها ونحرها وكان مسنداً ظهره إلى صدرها "وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة
1ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/126.
2ـ البداية والنهاية 8/99 وانظر تفسير القرآن العظيم 5/76.
3ـ صحيح البخاري 2/308.
من ساعاته في الدنيا وأول ساعة من الآخرة ودفن في بيتها"1.
فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: "أين أنا غداً؟ " حرصاً على بيت عائشة قالت عائشة: فلما كان يومي سكن"2.
وعند مسلم عنها رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد يقول: "أين أنا اليوم أين أنا غداً؟ " استبطاء ليوم عائشة قالت: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري.
وروى مسلم أيضاً بإسناده إلى عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة أنها أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها وأصغت إليه وهو يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق".
وفي رواية أخرى عنها أن آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "اللهم الرفيق الأعلى"3.
11-
روى الإمام البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها"4.
قال الحافظ الذهبي: "قلت: وهذا من أعجب شيء أن تغار رضي الله عنها من امرأة عجوز توفيت قبل تزوج النبي بعائشة بمديدة ثم يحميها الله من الغيرة من عدة نسوة يشاركنها في النبي صلى الله عليه وسلم فهذا من ألطاف الله بها وبالنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتكدر عيشهما ولعله إنما خفف أمر الغيرة عليها حب النبي صلى الله عليه وسلم وميله
1ـ انظر سير أعلام النبلاء 2/189، البداية والنهاية 8/99.
2ـ صحيح البخاري 2/308.
3ـ هذه الأحاديث الثلاثة في صحيح مسلم 4/1893-1894.
4ـ صحيح البخاري 2/315.
إليها فرضي الله عنها وأرضاها"1.
12-
ومنها إخبار المصطفى عليه الصلاة والسلام إياها بأنها من أصحاب الجنة. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت: يا رسول الله من من أزواجك في الجنة؟ قال: "أما إنك منهن" قالت: فخيل إلي أن ذاك أنه، لم يتزوج بكراً غيري2.
13-
ومنها أن كبار الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا أشكل عليهم الأمر من الدين استفتوها فيجدون علمه عندها. فقد روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً3.
وقال عروة: ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة ولم تروا امرأة ولا رجل غير أبي هريرة ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث بقدر روايتها رضي الله عنها.
وقال أبو الضحى عن مسروق: رأيت مشيخة أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض.
وقال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواجه لكان علم عائشة أفضل4.
وقد أثنى عليها بعض الصحابة بما يبين أنها وجيهة في الدنيا والآخرة فقد روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى عمرو بن غالب: "أن رجلاً نال من عائشة عند عمار بن ياسر ـ فقال له: ـ اغرب مقبوحاً منبوحاً أتؤذي حبيبة رسول الله
1ـ سير أعلام النبلاء 2/165.
2ـ المستدرك 4/13 ثم قال عقبه: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي".
3ـ سنن الترمذي 5/365 وقال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح غريب".
4ـ انظر هذه الآثار في "سير أعلام النبلاء" 2/183 وما بعدها، البداية والنهاية 8/100.
صلى الله عليه وسلم1.
وفي صحيح البخاري عن أبي وائل قال: لما بعث علي عماراً والحسن إلى الكوفة ليستنفرهم خطب عمار فقال: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها2.
قال الحافظ رحمه الله تعالى شارحاً لقول عمار: "إني لأعلم أنها زوجته" أي: زوجة النبي صلى الله عليه وسلم "في الدنيا والآخرة" وعند ابن حبان من طريق سعيد بن كثير عن أبيه "حدثتنا عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "أما ترضين أن تكوني زوجتي في الدنيا والآخرة" فلعل عماراً كان سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: في الحديث: "لتتبعوه أو إياها" قيل: الضمير لعلي لأنه الذي كان عمار يدعو إليه والذي يظهر أنه لله والمراد باتباع الله اتباع حكمه الشرعي في طاعة الإمام وعدم الخروج عليه ولعله أشار إلى قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} 3.
فإنه أمر حقيقي خوطب به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كانت أم سلمة تقول: لا يحركني ظهر بعيري حتى ألقى النبي صلى الله عليه وسلم والعذر في ذلك عن عائشة أنها كانت متأولة هي وطلحة والزبير وكان مرادهم إيقاع الإصلاح بين الناس وأخذ القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنهم أجمعين. وكان رأي علي الاجتماع على الطاعة وطلب أولياء المقتول القصاص ممن يثبت عليه القتل بشروطه"4.
وروى البخاري بإسناده إلى القاسم بن محمد أن عائشة اشتكت فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين تقدمين على فرط صدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر5.
1ـ سنن الترمذي 5/365 وقال: هذا حديث حسن صحيح.
2ـ صحيح البخاري 2/308.
3ـ سورة الأحزاب آية/33.
4ـ فتح الباري 7/108.
5ـ صحيح البخاري 2/308.
في هذا فضيلة عظيمة لعائشة رضي الله عنها حيث قطع لها رضي الله عنه بدخول الجنة إذ لا يقول ذلك إلا بتوقيف1.
وروى الإمام أحمد بسنده إلى عبد الله بن أبي مليكة أنه حدثه ذكوان ـ حاجب عائشة ـ إنه جاء عبد الله بن عباس يستأذن على عائشة فجئت ـ وعند رأسها عبد الله بن أخيها عبد الرحمن ـ فقلت: هذا ابن عباس يستأذن فأكب عليها ابن أخيها عبد الله فقال: هذا عبد الله بن عباس يستأذن ـ وهي تموت فقالت: دعني من ابن عباس فقال: يا أمها إن ابن عباس من صالح بنيكي يسلم عليك ويودعك فقالت: ائذن له إن شئت قال: فأدخلته فلما جلس قال: أبشري فقالت: بماذا؟ فقال: ما بينك وبين أن تلقي محمداً والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، وكنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيباً وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح الناس وليس معهم ماء فأنزل الله آية التيمم فكان ذلك في سببك، وما أنزل الله من الرخصة لهذه الأمة، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات جاء بها الروح الأمين، فأصبح ليس من مساجد الله إلا يتلى فيه آناء الليل وآناء النهار. فقالت: دعني منك يا ابن عباس والذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسياً منسياً2.
والأحاديث في فضلها ومناقبها كثيرة جداً وحسبنا هنا ما تقدم.
1ـ انظر فتح الباري 7/108، عمدة القاري 16/251.
2ـ المسند مع الفتح الرباني 22/126.
4) حفصة رضي الله عنها:
هي حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهي أخت عبد الله لأبيه وأمها زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة "وكانت قبله عند خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم وكان بدرياً شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تلد له شيئاً ولم يشهد من بني سهم بدراً غيره"1 وولدت رضي الله عنها قبل المبعث بخمس سنين وتوفيت سنة خمس وأربعين2.
وقد وردت مناقبها رضي الله عنها في أحاديث دلت على عظم شأنها ورفعة مكانتها ومنها:
1-
روى ابن سعد بإسناده إلى أبي الحويرث قال: تزوج خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم حفصة بنت عمر بن الخطاب فكانت عنده وهاجرت معه إلى المدينة3.
في هذا منقبة لأم المؤمنين حفصة وهي أنها كانت ممن حظي بشرف الهجرة التي لا مثل لها في الأجر والثواب.
2-
روى البخاري رحمه الله بإسناده إلى سالم بن عبد الله أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدث أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي بالمدينة فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري فلبثت ليالي، ثم لقيني فقال: بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا،
1ـ تاريخ ابن جرير 3/164.
2ـ انظر ترجمتها في طبقات ابن سعد 8/81-86، المستدرك 4/14، حلية الأولياء 2/50-51، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/260-261، صفة الصفوة 1/146، أسد الغابة 5/425، جلاء الأفهام ص/127، سير أعلام النبلاء 2/227-231، البداية والنهاية 8/33، الإصابة 4/263-265.
3ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 8/81.
قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئاً وكنت أوجد عليه مني على عثمان فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر فقال: فلعلك وجدت عليّ حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً قال عمر: قلت: نعم قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتها1.
3-
ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه "فتح الباري" بقوله: "ووقع في رواية ربعي بن حراش عن عثمان عند الطبري وصححه هو والحاكم2 أن عثمان خطب إلى عمر بنته فرده فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلما راح إليه عمر قال: "يا عمر ألا أدلك على ختن خير من عثمان وأدل عثمان على ختن خير منك؟ " قال: نعم يا نبي الله قال: "تزوجني بنتك وأزوج عثمان بنتي" قال الحافظ الضياء: إسناده لا بأس به لكن في الصحيح أن عمر عرض على عثمان حفصة فرد عليه: "قد بدا لي أن لا أتزوج" قلت: أخرج ابن سعد3 من مرسل الحسن نحو حديث ربعي، ومن مرسل سعيد بن المسيب أتم منه وزاد في آخره "فخار الله لهما جميعاً"4. ويحتمل في الجمع بينهما أن يكون عثمان خطب أولاً إلى عمر فرده كما في رواية ربعي، وسبب رده يحتمل أن يكون من جهتها وهي أنها لم ترغب في التزوج عن قرب من وفاة زوجها ويحتمل غير ذلك من الأسباب التي لا غضاضة فيها على عثمان في رد عمر له، ثم لما ارتفع السبب بادر عمر فعرضها على عثمان رعاية لخاطره كما في حديث الباب، ولعل عثمان بلغه ما بلغ أبا بكر من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها فصنع كما صنع من ترك إفشاء ذلك ورد على عمر بجميل"5.
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 9/175-176 وأخرجه ابن سعد في الطبقات 8/82.
2ـ المستدرك 3/107 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
3ـ الطبقات 8/82.
4ـ المصدر السابق 8/83.
5ـ فتح الباري 9/176-177.
4-
روى الطبراني بإسناده إلى قيس بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة
…
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل فتجلببت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل عليه السلام فقال: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة"1.
في هذا الحديث تنبيه على فضلها والثناء عليها بكثرة الصيام والقيام والإخبار بأنها زوجته صلى الله عليه وسلم في الجنة.
قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: "طلقها تطليقة ثم ارتجعها وذلك أن جبرائيل عليه السلام قال له: راجع حفصة فإنها قوامة وصوامة وإنها زوجتك في الجنة"2.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن خواصها: ما ذكره الحافظ أبو محمد المقدسي في مختصره في السيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها فأتاه جبريل فقال: "إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة"3.
وقال الذهبي رحمه الله تعالى: "وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة ثم راجعها بأمر جبريل عليه السلام له بذلك وقال: "إنها صوامة قوامة وهي زوجتك في الجنة" 4.
وكل ما تقدم من ذكر مناقبها رضي الله عنها يدل على أنها كانت على جانب عظيم من رفعة مكانتها وجلالة قدرها رضي الله عنها وأرضاها.
1ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/245 وقال: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح".
2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/261.
3ـ جلاء الأفهام ص/127.
4ـ سير أعلام النبلاء 2/228.
5) زينب بنت خزيمة رضي الله عنها:
هي زينب بنت خزيمة بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت يقال لها أم المساكين لأنها كانت تطعمهم وتتصدق عليهم وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم تحت عبد الله بن جحش فاستشهد بأحد فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: كانت تحت الطفيل بن الحارث بن المطلب ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث وهي أخت ميمونة بنت الحارث لأمها وكانت دخوله صلى الله عليه وسلم بها بعد دخوله على حفصة بنت عمر، ثم لم تلبس عنده عليه الصلاة والسلام إلا شهرين أو ثلاث ثم ماتت"1.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت تحت عبد الله بن جحش تزوجها سنة ثلاث من الهجرة وكانت تسمى أم المساكين لكثرة إطعامها المساكين ولم تلبس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيراً شهرين أو ثلاثة وتوفيت رضي الله عنها"2.
وقال الزهري رحمه الله تعالى: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة وهي أم المساكين سميت بذلك لكثرة إطعامها المساكين وهي من بني عامر بن صعصعة وتوفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي"3.
وقال محمد بن إسحاق:"تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين وكانت قبله عند الحصين، أو عند الطفيل بن الحارث ماتت بالمدينة أول نسائه موتاً"4.
1ـ انظر ترجمتها في طبقات ابن سعد 8/115-116، المستدرك للحاكم 4/33-34، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/305-306، أسد الغابة 5/466، العبر 1/5، سير أعلام النبلاء 2/218، مجمع الزوائد 9/248، الإصابة 4/309.
2ـ جلاء الأفهام ص/137.
3ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/248، وقال رواه الطبراني ورجاله ثقات.
4ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/248 وعزاه إلى الطبراني حيث قال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
وقال الحافظ بن كثير: "وهي التي يقال لها أم المساكين لكثرة صدقاتها عليهم، وبرها لهم وإحسانها إليهم، وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشاً دخل بها في رمضان وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث فطلقها"1.
وأم المؤمنين زينب بنت خزيمة وإن كان لم يرد لها مناقب تخصها على الانفراد مثل بقية أمهات المؤمنين سواها فإنه يكفيها نزول القرآن فيهن على وجه العموم ومخاطبة الرب لهن جميعاً. مثل قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2 وقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} 3 وقوله ـ عز شأنه ـ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} 4.
قال عبد الله بن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقال عكرمة: من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم5.
كما يكفيها فخراً وشرفاً أنها إحدى أمهات المؤمنين اللاتي ضرب عليهن الحجاب واللاتي هن أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة "وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة أربع للهجرة"6.
رضي الله عنها وأرضاها.
1ـ البداية والنهاية 4/102.
2ـ سورة الأحزاب آية/6.
3ـ سورة الأحزاب آية/32.
4ـ سورة الأحزاب آية/33-34.
5ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/603، وانظر جامع البيان للطبري 22/8.
6ـ انظر البداية والنهاية 4/102، الإصابة 4/309.
6) أم سلمة رضي الله عنها:
اسمها هند بنت أبي أمية واسمه حذيفة، وقيل سهل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية مشهورة بكنيتها معروفة باسمها كان أبوها يلقب زاد الراكب لأنه كان أحد الأجواد فكان إذا سافر لم يحمل أحد معه من رفقته زاداً بل هو كان يكفيهم، وأمها عاتكة بنت عامر كنانية من بني فراس "وكانت أولاً تحت ابن عمها أبي سلمة بن عبد الأسد وهاجرت معه إلى الحبشة، ثم هاجرت إلى المدينة فيقال: إنها أول ضغينة دخلت إلى المدينة مهاجرة ولما مات زوجها عبد الله بن عبد الأسد خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة إحدى وستين رضي الله عنها1.
وقد جاء ذكر مناقبها في أحاديث كثيرة منها:
1-
ما رواه الإمام مسلم بإسناده إلى أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها" قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له فقلت: إن لي بنتاً وأنا غيور فقال: "أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها وأدعو الله أن يذهب بالغيرة"2.
2-
شرفت رضي الله عنها برؤية جبريل حيث رأته عليه السلام في صورة
1ـ انظر ترجمتها في الطبقات لابن سعد 8/86-96، الجرح والتعديل 9/464، المستدرك للحاكم 4/16-19، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/405-408، أسد الغابة 5/588-589، سير أعلام النبلاء 2/201-210، البداية والنهاية 8/132، مجمع الزوائد 9/245، الإصابة 4/407-408.
2ـ صحيح مسلم 2/632.
دحية بن خليفة الكلبي. فقد روى الشيخان في صحيحيهما عن معتمر ـ بن سليمان التيمي ـ قال: سمعت أبي عن أبي عثمان قال: "أنبئت أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة فجعل يتحدث فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة من هذا؟ أو كما قال. قالت هذا دحية فلما قام قالت: والله ما حسبته إلا إياه حتى خطبه النبي صلى الله عليه وسلم يخبر خبر جبريل أو كما قال قال أبي: قلت لأبي عثمان: ممن سمعت هذا؟ قال: من أسامة بن زيد"1.
قال النووي: "قوله أن أم سلمة رأت جبريل في صورة دحية هو ـ بفتح الدال وكسرها ـ وفيه منقبة لأم سلمة رضي الله عنها وفيه جواز رؤية البشر الملائكة ووقوع ذلك ويرونه على صورة الآدميين لأنهم لا يقدرون على رؤيتهم على صورهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى على صورة دحية غالباً ورآه مرتين على صورته الأصلية"2.
وقال العلامة ابن القيم: "ومن خصائصها: أن جبرائيل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهي عنده فرأته في صورة دحية الكلبي"3.
3-
شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها على خير فقد روى الترمذي من حديث عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} في بيت أم سلمة فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره فجلله بكساء ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله: قال: "أنت على مكانك وأنت على خير"4.
1ـ صحيح البخاري مع فتح الباري 9/3، صحيح مسلم 4/1906 واللفظ للبخاري.
2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/8.
3ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/136.
4ـ سنن الترمذي 4/31 وقال عقبه: هذا حديث غريب من هذا الوجه من حديث عطاء عن عمر عن أبي سلمة.
قال صاحب تحفة الأحوذي: "أنت على مكانك وأنت على خير" يحتمل أن يكون معناه أنت خير وعلى مكانك من كونك من أهل بيتي ولا حاجة لك في الدخول تحت الكساء كأنه منعها عن ذلك لمكان علي وأن يكون المعنى أنت على خير وإن لم تكوني من أهل بيتي كذا في اللمعات قلت: الاحتمال الأول هو الراجح بل هو المتعين1.
4-
أكرمها الله بالصواب والسداد فيما تشير به ومن ذلك ما أشارت على النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حينما أمر أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم وينحروا هديهم فتثاقلوا ذلك طمعاً منهم في أن يدخلوا مكة ويطوفوا بالبيت رضي الله عنهم وأرضاهم. فقد روى البخاري بإسناده من حديث طويل عن المسور ومروان وفيه: "فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا" قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاثة مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت له أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحد منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً"2.
فهذه الأحاديث المتقدمة التي ذكر فيها فضل أم سلمة أم المؤمنين كلها دلت دلالة واضحة على أنها كانت جليلة القدر عظيمة المكانة رضي الله عنها وأرضاها. "وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم موتاً" وقيل: "بل ميمونة"3.
1ـ تحفة الأحوذي 9/66.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/332.
3ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/136، زاد المعاد 1/114.
7) زينب بنت جحش رضي الله عنها:
هي زينب بنت جحش بن رياب بن يعمر الأسدي حليف بني عبد شمس وأمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم عمت النبي صلى الله عليه وسلم وهي أخت حمنة، من المهاجرات الأول تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث وقيل: سنة خمس وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة وفيها نزلت: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} 1 وكان يدعى زيد بن محمد فلما نزلت: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} 2 وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأته وانتفى ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من أن الذي يتبنى غيره يصير ابنه بحيث يتوارثان إلى غير ذلك. وكانت زينب رضي الله عنها من سادة النساء ديناً وورعاً وجوداً ومعروفاً رضي الله عنها، وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة عشرين3.
ومناقبها رضي الله عنها نطق بها الكتاب والسنة:
1-
شهادة الرب ـ جل وعلا ـ لها بحقيقة الإيمان. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} 4.
فالمراد بالمؤمنة في هذه الآية زينب رضي الله عنها.
قال السيوطي: "أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة فدخل
1ـ جزء من الآية رقم 37 من سورة الأحزاب.
2ـ جزء من الآية رقم 5 من سورة الأحزاب.
3ـ انظر ترجمتها في الطبقات الكبرى لابن سعد 8/101-115، المستدرك 4/23-25، حلية الأولياء لأبي نعيم 2/51-54، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/306-310، أسد الغابة 5/463، سير أعلام النبلاء 2/211-218، البداية والنهاية 7/115، التهذيب 12/420، الإصابة 4/307-308، مجمع الزوائد 9/246-248، كنز العمال 13/700-704.
4ـ سورة الأحزاب آية/36.
على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها قالت: لست بناكحته قال: بلى فانكحيه قالت: يا رسول الله، أوامر في نفسي فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله صلى الله عليه وسلم:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} قالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحاً وقال: "نعم" قالت: إذن لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكحته نفسي"1.
2-
مما أكرمها الله وشرفها به أن تولى بنفسه تزويجها بنبيه من فوق سبع سموات بعد أن طلقها مولاه زيد بن حارثة وانقضت عدتها وكانت تفخر بذلك على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانت تقول لهن: زوجكن أهليكن وأنا زوجني الله من فوق سبع سموات. فقد روى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك قال: جاء زيد بن حارثة يشكوا "فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اتق الله وأمسك عليك زوجك" قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهليكن وزوجني الله ـ تعالى ـ من فوق سبع سموات".
وروى أيضاً بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: نزلت آية الحجاب في زينب بنت جحش وأطعم عليها يومئذ خبزاً ولحماً، وكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تقول:"إن الله أنكحني في السماء"2.
وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: "فاذكرها علي" قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت: يا زينب، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن
…
"الحديث3.
1ـ الدر المنثور 6/609، تفسير ابن جرير 22/11، تفسير ابن كثير 5/463.
2ـ الحديثان في صحيح البخاري 4/281.
3ـ صحيح مسلم 2/1048-1049.
وقد حكى الله ـ جل وعلا ـ تزويجه إياها بنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} 1.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: "فزوجها الله ـ تعالى ـ بنبيه بنص كتابه بلا ولي ولا شاهد فكانت تفخر بذلك على أمهات المؤمنين وتقول: زوجكن أهليكن وزجني الله من فوق عرشه"2.
قال الحافظ في بيان قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلم هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه وهو تزوج امرأة الذي يدعى ابناً ووقع ذلك من إمام المسلمين ليكون أدعى لقبولهم
…
وقد أخرج الترمذي3 من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن عائشة قالت: "لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} ـ يعني بالإسلام ـ {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالعتق {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} إلى قوله: {قَدَراً مَقْدُوراً} وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} 4 الآية وكان تبناه وهو صغير قلت: حتى صار رجلاً يقال له زيد بن محمد. فأنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} ـ قوله {وَمَوَالِيكُمْ} 5.
1ـ سورة الأحزاب آية/37.
2ـ سير أعلام النبلاء 2/211.
3ـ سنن الترمذي 5/31-32.
4ـ سورة الأحزاب آية/40.
5ـ فتح الباري 8/524 والآية رقم 5 من سورة الأحزاب.
3-
ومما حظيت به وكان تكريماً لها من ربها أن آية الحجاب نزلت حين تزوجت بالنبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك قال: "أنا أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب: لما أهديت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معه في البيت صنع طعاماً ودعا القوم فقعدوا يتحدثون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} ـ إلى قوله ـ {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فضرب الحجاب وقام القوم"1.
فزواجها رضي الله عنها بالنبي صلى الله عليه وسلم كان السبب في نزول آية الحجاب.
4-
روى الإمام مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً" قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً قالت: فكانت أطولنا يداً زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق"2.
وروى الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: "أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً" قالت عائشة فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا فعرفنا حينذ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بطول اليد الصدقة قال: وكانت زينب امرأة صناعة اليد فكانت تدبغ وتخرز وتصدق في سبيل الله عز وجل"3.
قال النووي رحمه الله تعالى: "معنى الحديث أنهن ظنن أن المراد بطول اليد
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/527.
2ـ صحيح مسلم 4/1907.
3ـ المستدرك 4/25 وقال عقبه: هذا حديث على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
طول اليد الحقيقية وهي الجارحة فكن يذرعن أيديهن بقصبة فكانت سودة أطولهن جارحة وكانت زينب أطولهن يداً في الصدقة وفعل الخير فماتت زينب أولهن فعلموا أن المراد طول اليد في الصدقة والجود
…
وفيه معجزة باهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنقبة ظاهرة لزينب ووقع هذا الحديث في كتاب الزكاة من البخاري بلفظ متعقد يوهم أن أسرعهن لحاقاً سودة وهذا الوهم باطل بالإجماع"1.
5-
روى الإمام مسلم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها من حديث طويل وفيه قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب إلى الله تعالى ما عدا سورة2 من حد كانت فيها تسرع منها الفيئة3
…
الحديث4.
فلقد وصفت عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين زينب بنت جحش بصفات عظيمة كلها جامعة لمكارم الأخلاق وأصول الفضائل التي طابعها البر والتقوى وكل صفة منها منقبة ظاهرة لأم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها.
كما وصفتها عائشة رضي الله عنها وصفاً عظيماً في حديث الإفك الطويل حيث قالت رضي الله عنها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري: "ما علمت؟ أو ما رأيت؟ " فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/8-9.
2ـ ما عدا سورة من حد: أي: شدة الخلق وثورانه. انظر النهاية في غريب الحديث 2/420، شرح النووي 15/206.
3ـ الفيئة: الرجوع ومعنى الكلام أنها كاملة الأوصاف إلا أن فيها شدة خلق وسرعة غضب، تسرع منها الرجوع أي: إذا وقع ذلك منها رجعت عنه سريعاً ولا تصر عليه شرح النووي 15/206.
4ـ صحيح مسلم 4/1891-1892.
وبصري والله ما علمت إلا خيراً. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب1 لها فهلكت فيمن هلك2 هذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري قالت رضي الله عنها: "وكانت عائشة تقول: أما زينب ابنة جحش فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيراً وأما أختها حمنة فهلكت فيمن هلك"3.
ففي هذين النصين فضيلة ظاهرة لأم المؤمنين زينب رضي الله عنها.
قال الإمام الذهبي: "ويروى عن عمرة عن عائشة قالت: يرحم الله زينب لقد نالت في الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف إن الله زوجها ونطق به القرآن وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "أسرعكن لحوقاً أطولكن باعاً" فبشرها بسرعة لحوقها به وهي زوجته في الجنة"4.
ومناقبها رضي الله عنها التي وردت بها الأحاديث والآثار كثيرة جداً رضي الله عنها وأرضاها.
1ـ وطفقت أختها حمنة تحارب لها "أي: جعلت تتعصب لها فتحكي ما يقوله أهل الإفك" شرح النووي 17/113.
2ـ صحيح مسلم بشرح النووي 17/113.
3ـ صحيح البخاري 3/168.
4ـ سير أعلام النبلاء 2/215.
8) جويرية بنت الحارث رضي الله عنها:
هي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن حبيب بن جديمة وهو المصطلق بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو الخزاعية المصطلقية، لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق غزوة المريسيع في سنة خمس أو ست وسباهم وقعت جويرية رضي الله عنها في سهم ثابت بن قيس فكاتبها رضي الله عنها على نفسها، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبت منه أن يعينها على ما كاتبها عليه ثابت بن قيس فعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم ما خير لها في العاجل والآجل وهو أن يؤدي عنها ما كاتبها عليه ثابت بن قيس رضي الله عنه ويتزوجها فوافقت على ذلك وأسلمت وتزوجها سيد الخلق وأطلق لها الأسارى من قومها وكانت قبله عليه الصلاة والسلام تحت مسافع بن صفوان المصطلقي وقتل عنها في غزوة المريسيع"1.
وقد وردت لها مناقب في بعض الأحاديث دلت على فضلها وعظم شأنها ومنها ما يلي:
1-
مما أكرمت به رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أدى عنها كتابتها وتزوجها وكان ذلك صداقاً لها. قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له2 فكاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملاحة3 لا يراها أحد إلا أخذت
1ـ طبقات ابن سعد 8/116-120، المستدرك 4/25-28، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/251-254، أسد الغابة 5/419-420، مجمع الزوائد 9/250، البداية والنهاية 8/53-54، تهذيب التهذيب 12/407، الإصابة 4/257-258.
2ـ وقع في "مغازي الواقدي" 1/410 وقعت في السهم لثابت بن قيس وابن عم له وأن ثابتاً خلصها من ابن عمه بنخلات له في المدينة.
3ـ ملاحة: بضم الميم وتشديد اللام: أي شديدة الملاحة وهو من أبنية المبالغة، انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/355 وكنت به عائشة عن جمالها.
بنفسه فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها صلى الله عليه وسلم ما رأيت فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي قال:"فهل لك من خير من ذلك؟ " قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: " أقضي عنك كتابتك وأتزوجك" قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت، قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسلوا ما بأيديهم قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مئة1 أهل بيت من بني المصطلق فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها"2.
هذا الحديث تضمن منقبة ظاهرة، وميزة شريفة لأم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها حيث إن المصطفى عليه الصلاة والسلام اتخذها زوجة له بعد أن أسلمت وصارت بذلك أماً للمؤمنين وكان زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم خيراً لها
1ـ "مائة أهل بيت" جاء في عون المعبود: "كذا بالإضافة أي: مائة طائفة كل واحدة منهن أهل بيت ولم تقل مائة هم أهل بيت بإيهام أنهم مائة نفس كلهم أهل بيت وليس مراداً وقد روي أنهم أكثر من سبعمائة "قاله الزرقاني" عون المعبود 10/444 وانظر شرح المواهب اللدنية للزرقاني 3/345.
2ـ سيرة ابن هشام 2/294-295، كتاب السير والمغازي لابن إسحاق ص/263 والحديث أخرجه أحمد في المسند من طريق ابن إسحاق 6/277، وأبو داود في سننه 2/347، والبيهقي في السنن الكبرى 9/74، وقال صاحب عون المعبود: قال المنذري: وفيه محمد بن إسحاق بن يسار، ثم قال صاحب عون المعبود: قلت: وقد صرح بالتحديث في رواية يونس ابن بكير عنه وأخرجه أحمد في المسند أهـ. عون المعبود 10/441 وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "ابن إسحاق حسن الحديث إلا أنه لا يحتج به إذا خولف"أهـ. فتح الباري 4/32. وقال الشيخ محمد ناصر الألباني: "الذي استقر عليه رأي العلماء المحققين أن حديث ابن إسحاق في مرتبة الحسن بشرطين: أحدهما: أن يصرح بالتحديث وأن لا يخالف من هو أوثق منه" أهـ "دفاع عن الحديث النبوي والسيرة في الرد على البوطي" ص/82. وبهذا يعلم أن الحديث إسناده صحيح وهو حسن لذاته.
ولقومها فما أن علم الصحابة الكرام رضي الله عنهم بزواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا وأطلقوا الأسارى الذين كانوا في أيديهم من قومها إجلالاً وتعظيماً لسيد الخلق عليه الصلاة والسلام لأنهم صاروا أصهاره لما تزوج بجويرية رضي الله عنها ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه: "فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها".
2-
ومما شرفت به أن تسميتها بهذا الاسم الذي عرفت به وهو جويرية إنما هو تسمية نبوية سماها به النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى مسلم بإسناده إلى عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت جويرية اسمها برة فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة1.
3-
كانت رضي الله عنها من المكثرات للعبادة الذاكرات الله ذكراً كثيراً. فقد روى مسلم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: "ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ " قالت: نعم قال النبي "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله بحمده، عدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته" 2 فلقد نالت جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها بدخولها في الإسلام وزواجها بخير البرية فضلاً عظيماً وخيراً كثيراً رضي الله عنها وأرضاها وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة خمسين للهجرة وقيل سنة ست وخمسين للهجرة"3.
1ـ صحيح مسلم 3/1687.
2ـ صحيح مسلم 4/2090.
3ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 8/120، وسير أعلام النبلاء 2/463، البداية والنهاية لابن كثير 8/54، مجمع الزوائد 9/250.
9) أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها:
اسمها رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس الأموية زوج النبي صلى الله عليه وسلم تكنى أم حبيبة وهي بها أشهر من اسمها وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية ولدت رضي الله عنها قبل البعثة بسبعة عشر عاماً وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم تحت عبيد الله بن جحش بن رياب بن يعمر الأسدي من بني أسد بن خزيمة، فأسلما ثم هاجرا إلى الحبشة فولدت حبيبة وبها كانت تكنى، ولقد أصيب زوجها بالخذلان فارتد عن الإسلام ودخل في النصرانية وفارقها وذلك من فضل الله تعالى عليها ليتم لها الإسلام والهجرة وأبدلها الله عز وجل من هو أفضل من كل البشر محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة أربع وأربعين للهجرة1 رضي الله عنها وأرضاها.
ولقد وردت لها بعض المناقب التي دلت على علو مكانتها وجليل قدرها رضي الله عنها وأرضاها وتلك المناقب هي:
1-
مما حظيت به رضي الله عنها أنها كانت ممن هاجر في الله الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة فارة بدينها رضي الله عنها وأرضاها. فقد روى ابن سعد والحاكم عن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: قالت أم حبيبة: رأيت في النوم عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهه ففزعت فقلت: تغيرت والله حاله فإذا هو يقول حيث أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر ديناً خيراً من النصرانية وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد، ثم قد رجعت إلى النصرانية، فقلت: والله ما خير لك وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات فأرى في النوم كأن آتياً يقول:
1ـ انظر ترجمتها في "الطبقات لابن سعد 8/96-100، طبقات خليفة بن خياط ص/332، الجرح والتعديل 9/461، المستدرك 4/20-23، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/296-299، أسد الغابة 5/457، جلاء الأفهام ص/128-135، سير أعلام النبلاء 2/218-223، البداية والنهاية 8/31، مجمع الزوائد 9/249-250، الإصابة 4/298، تهذيب التهذيب 4/419.
يا أم المؤمنين ففزعت فأولتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني قالت: فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن فإذا جارية له يقال لها: أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فدخلت علي فقالت: إن الملك يقول لك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجكه فقالت: بشرك الله بخير قالت: يقول لك الملك: وكلي من يزوجك فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته
…
الحديث1.
في هذا بيان فضيلة ظاهرة لأم حبيبة رضي الله عنها وهي أنها كانت ممن شرف بالهجرة إلى أرض الحبشة.
وقال ابن سعد: "وكان عبيد الله بن جحش هاجر بأم حبيبة معه إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية فتنصر وارتد عن الإسلام وتوفي بأرض الحبشة، وثبتت أم حبيبة على دينها الإسلام وهجرتها"2.
وقال الحافظ ابن كثير: "أسلمت قديماً وهاجرت هي وزوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة فتنصر هناك زوجها وثبتت على دينها رضي الله عنها3.
2-
ومما فيه تنويه بشأنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث من يخطبها له إلى الحبشة.
فقد روى الحاكم بإسناده إلى جعفر بن محمد بن علي عن أبيه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي يخطب عليه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت تحت عبيد الله بن جحش فزوجها إياه وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار4.
قال أبو جعفر محمد بن جرير: "فما نرى عبد الملك بن مروان وقّت
1ـ الطبقات الكبرى 8/97، المستدرك 4/20-21.
2ـ الطبقات 8/96.
3ـ البداية والنهاية 8/31.
4ـ المستدرك 4/22، واخرجه ابن سعد في الطبقات 8/99.
صداق النساء أربعمائة دينار إلا لذلك"1.
روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونصفاً فذلك خمسمائة درهم فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه "قال الحاكم": هذا حديث صحيح الإسناد وعليه العمل وإنما أصدق النجاشي أم حبيبة أربعمائة دينار استعمالا لأخلاق الملوك في المبالغة في الصنائع لاستعانة النبي صلى الله عليه وسلم به في ذلك2.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان واسمها رملة
…
هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة فتنصر بالحبشة وأتم الله لها الإسلام وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري فيها إلى أرض الحبشة وولى نكاحها عثمان بن عفان، وقيل: خالد بن سعيد بن العاص"3.
قال الذهبي: "وهي من بنات عم الرسول صلى الله عليه وسلم وليس في أزواجه من هي أقرب نسباً إليه منها ولا في نسائه من هي أكثر صداقاً منها ولا من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها، عقد له صلى الله عليه وسلم عليها بالحبشة وأصدقها عنه صاحب الحبشة أربع مائة دينار، وجهزها بأشياء"4.
4-
ومما زاد في قدرها وعلو شأنها أنها أكرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يجلس عليه أبوها لما قدم المدينة لعقد الهدنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قريش ومنعته من الجلوس عليه لأنه كان يومئذ على الشرك ولم يكن قد أسلم. فقد روى
1ـ ذكره عنه ابن سعد في الطبقات 8/99، الحاكم في المستدرك 4/22.
2ـ المستدرك 4/22.
3ـ جلاء الأفهام ص/128.
4ـ سير أعلام النبلاء 2/219.
ابن سعد بإسناده إلى محمد بن مسلم الزهري قال: لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزو مكة فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دونه فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ نجس مشرك فقال: يا بنية لقد أصابك بعدي شر1.
5-
أنها كانت شديدة الخوف من الله ـ جل وعلا ـ ومن العابدات الورعات. فقد روى ابن سعد والحاكم عن عوف بن الحارث قال: سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند موتها فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك فقلت: غفر الله لك ذلك كله وتجاوز وحللك من ذلك فقالت: سررتيني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك وتوفيت سنة أربع وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما2.
1ـ الطبقات الكبرى 8/99-100، وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/223.
2ـ الطبقات الكبرى 8/100، المستدرك 4/22-23 وأورده الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/223، وابن كثير في البداية والنهاية 8/31، والحافظ ابن حجر في الإصابة 4/300.
10) صفية بنت حيي رضي الله عنها:
هي صفية بنت حيي بن أخطب بن سعيه بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن أبي خبيب من بني النضير وهو من سبط لاوي بن يعقوب، ثم من ذرية هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام. كانت قبل إسلامها تحت سلام بن مشكم، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق، فقتل كنانة يوم خيبر فصارت صفية مع السبي فأخذها دحية الكلبي، ثم استعادها المصطفى عليه الصلاة والسلام، فأعتقها وتزوجها، كانت رضي الله عنها سيدة شريفة عاقلة فاضلة ذات حسب وجمال ودين رضي الله عنها، وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة اثنتين وخمسين في خلافة معاوية رضي الله عنه1.
وقد وردت أحاديث كثيرة بذكر مناقبها رضي الله عنها وأرضاها منها:
1-
من إكرام الله لها أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وجعل عتقها صداقها فقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث طويل عن أنس رضي الله عنه في غزوة خيبر وفيه: "قال وأصبناها عنوة2 وجمع السبي فجاءه دحية فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي فقال: "اذهب فخذ جارية" فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير؟ ما تصلح إلا لك قال: "ادعوه بها" قال: فجاء بها فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذ جارية من السبي غيرها" قال: وأعتقها وتزوجها فقال له ثابت: يا أبا حمزة ما أصدقها؟ قال: نفسها أعتقها وتزوجها حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم فأهدتها له3 من الليل فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم
1ـ الطبقات الكبرى 8/12-129، المستدرك 4/28-29، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/337-339، أسد الغابة 5/490-491، جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/138، سير أعلام النبلاء 2/231-238، البداية والنهاية 8/50، الإصابة 4/337-339.
2ـ عنوة: أي: قهراً لا صلحاً.
3ـ فأهدتها له: أي: زفتها له صلى الله عليه وسلم.
عروساً
…
الحديث1.
وعند الإمام مسلم أيضاً: من حديث أنس وفيه قال: "ووقعت في سهم دحية جارية جميلة فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها له وتهيئها قال: وأحسبه قال: وتعتد في بيتها2 وهي صفية بنت حيي
…
قال: وقال الناس: لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد قالوا: إن حجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي أم ولد فلما أراد أن يركب حجبها فقعدت على عجز البعير فعرفوا أنه قد تزوجها" الحديث3.
هذان الحديثان اشتملا على بيان فضيلة ظاهرة لأم المؤمنين صفية رضي الله عنها حيث أكرمها الله عز وجل بالدخول في الإسلام وكتب لها الزواج برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث صارت بذلك في أمهات المؤمنين اللاتي هن أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة.
والحديثان يوهم ظاهرهما التعارض إذ الأول يفيد أنه صلى الله عليه وسلم أذن لدحية في أخذه جارية من السبي فأخذ صفية فاستردها منه، والثاني يفيد أنها وقعت في سهمه واشتراها بسبعة أرؤس وقد ذكر الجمع بينهما الحافظ حيث قال:"قال السهيلي: لا معارضة بين هذه الأخبار فإنه أخذها من دحية قبل القسم والذي عوضه عنها ليس على سبيل البيع بل على سبيل النفل قلت: وقع في رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عند مسلم أن صفية وقعت في سهم دحية وعنده أيضاً فيه "فاشتراها" من دحية بسبعة أرؤس "فالأولى في طريق الجمع أن المراد بسهمه هنا نصيبه الذي اختاره لنفسه، وذلك أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه جارية فأذن له أن يأخذ جارية فأخذ صفية فلما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنها بنت ملك من ملوكهم ظهر له أنها ليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/469، صحيح مسلم 2/1043-1044 واللفظ له.
2ـ أي تستبريء فإنها كانت مسبية يجب استبراؤها وجعلها في مدة الاستبراء في بيت أم سليم.
3ـ صحيح مسلم 2/1045-1046.
وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه واختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بها فإن في ذلك رضا الجميع وليس ذلك من الرجوع في الهبة من شيء، وأما إطلاق الشراء على العوض فعلى سبيل المجاز، ولعله عوضه عنها بنت عمها أو بنت عم زوجها1، فلم تطب نفسه فأعطاه من جملة السبي زيادة على ذلك.
وعند ابن سعد من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس وأصله في مسلم: "صارت صفية لدحية فجعلوا يمدحونها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطى بها دحية ما رضي"2.
2-
ومما دل على عظيم شأنها وجلالة قدرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع لها ركبته لتصعد من عليها للركوب على البعير حال رجوعه عليه الصلاة والسلام من غزوة خيبر فكانت تجله وتكرمه عليه الصلاة والسلام من أن تضع رجلها على فخذه وإنما كانت تضع ركبتها على فخذه حتى تركب. فقد روى البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: "قدمنا خيبر فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب وقد قتل زوجها وكانت عروساً فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه فخرج حتى بلغنا سد الصهباء حلت فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صنع حيساً في نطع صغير ثم قال لي: آذن من حولك فكانت تلك وليمته على صفية ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب"3.
1ـ وقع عند ابن إسحاق أن صفية سبيت من حصن القموص وهو حصن ابن أبي الحقيق وكانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وسبي معها بنت عمها وعند غيره بنت عم زوجها فلما استرجع النبي صلى الله عليه وسلم صفية من دحية أعطاه بنت عمها انظر كتاب المغازي والسير ص/264، الإصابة 4/338، فتح الباري 7/469-470.
2ـ فتح الباري 7/470، شرح النووي 9/220-221.
3ـ صحيح البخاري 3/52.
وقال الحافظ ابن حجر: "ووقع في مغازي أبي الأسود عن عروة فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لها فخذه لتركب فأجلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضع رجلها على فخذه فوضعت ركبتها على فخذه وركبت1.
3-
روى محمد بن سعد بأسانيده في حديث طويل وفيه: "لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر حتى طهرت صفية من حيضها فحملها وراءه فلما صار إلى منزل على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرس بها فأبت عليه فوجد في نفسه فلما كان بالصهباء وهي على بريد من خيبر نزل بها هناك فمشطتها أم سليم وعطرتها. قالت أم سنان الأسلمية: وكانت من أضوأ ما يكون من النساء فدخل بأهله فلما أصبح سألتها عما قال لها؟ فقالت: قال لي: "ما حملك على الامتناع من النزول أولاً" قالت: خشيت عليك من قرب اليهود فزادها ذلك عنده وذكرت أنه سر بها ولم ينم تلك الليلة لم يزل يتحدث معها"2.
فهذا الحديث اشتمل على فضيلة ظاهرة لأم المؤمنين صفية رضي الله عنها فلقد خشيت على النبي صلى الله عليه وسلم من غدر اليهود إن هو نزل منزلاً قريباً من خيبر لأنها خبيرة بكيد اليهود وشدة بغضهم وحقدهم على الإسلام والنبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك امتنعت من النزول في المنزل الأول الذي كان يبعد عن خيبر ستة أميال ولما بلغ الصهباء نزل بها وسألها عن سبب امتناعها عن النزول أولاً أوضحت له أنها تخشى عليه من اليهود فزادها ذلك منزلة ورفعة عنده عليه الصلاة والسلام وكل هذا ناشيء عن الإيمان الصادق الذي أنساها قتل أبيها وزوجها من أجل كفرهما بالله وصدهما عن سبيل الله. ولذلك سر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام فلم ينم تلك الليلة بل استمر في مبادلتها الحديث رضي الله عنها وأرضاها.
1ـ فتح الباري 7/480.
2ـ الطبقات 8/120-122 فقد رواه بثلاثة أسانيد لأبي هريرة وإلى أنس بن مالك وإلى أم سنان الأسلمية.
4-
ورد التنوية بشرف نسبها فيما رواه أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: "ما يبكيك؟ " قالت: قالت لي حفصة: إني ابنة يهودي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟ " ثم قال:" اتقي الله يا حفصة"1.
فهذا النص النبوي تضمن ذكر فضيلة ظاهرة لصفية رضي الله عنها حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها من سلالة نبوية فقد هون عليها ما بلغها من أم المؤمنين حفصة حيث بين لها أنها ابنة نبي وهو هارون بن عمران عليه السلام وأن عمها لنبي وهو موسى بن عمران عليه السلام وأنها لتحت نبي وهو أفضل البشر وسيد ولد آدم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ففيم تفخر عليك؟ " أي: في أي شيء تفخر حفصة عليك ومع أن كلمة حفصة رضي الله عنها كلمة صحيحة بالنظر إلى أبيها لم يرضها النبي صلى الله عليه وسلم لأن التفاخر من عادات الجاهلية ولذلك حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم.
5-
ومما هو مفخرة في حقها مدح النبي صلى الله عليه وسلم لها بالصدق فقد أخرج ابن سعد عن زيد بن أسلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم في الوجع الذي توفي فيه اجتمع إليه نساؤه فقالت صفية بنت حيي: أما والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي فغمزنها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأبصرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مضمضن" فيقلن من أي شيء يا نبي الله؟ قال: "من تغامزكن بصاحبتكن والله إنها لصادقة"2.
6-
ومنها ما رواه أبو عمر بن عبد البر فقال: وكانت صفية حليمة عاقلة
1ـ سنن الترمذي 8/368 ثم قال عقبه: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/153.
2ـ الطبقات الكبرى 8/128 وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/235، والحافظ في الإصابة 4/339.
فاضلة وروينا أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب فقالت: إن صفية تحب السبت وتصل اليهود فبعث إليها عمر فسألها فقالت: أما السبت فإني لم أحبه منذ أن أبدلني الله به يوم الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً وأنا أصلها، قال ثم قالت للجارية: وما حملك على ما صنعت قالت: الشيطان. قالت: اذهبي فأنت حرة1.
7-
لما اجتمع أهل الفتنة على الخليفة الثالث ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه وحصروه في الدار وقطعوا عليه الماء والطعام كان لها رضي الله عنها موقف طيب تذكر به في الآخرين فقد حاولت بقدر استطاعتها إيصال الماء والطعام إلى عثمان رضي الله عنه. فقد روى ابن سعد بإسناده إلى كنانة بن نبيه ـ مولى صفية ـ قال: كنت أقود بصفية لترد على عثمان فلقيها الأشتر2 فضرب وجه بغلتها حتى مالت فقالت: ردوني لا يفضحني هذا قال الحسن في حديثه: ثم وضعت خشباً من منزلها إلى منزل عثمان تنقل عليه الماء والطعام3.
فقد كانت رضي الله عنها من سيدات النساء عبادة وورعاً وزهادة وبراً وصدقة رضي الله عنها وأرضاها.
1ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/339.
2ـ اسمه مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة بن الحارث بن جزيمة بن مالك بن النخع النخعي الكوفي المعروف بالأشتر كان أحد الساعين في الفتنة زمن عثمان رضي الله عنه وأحد المؤلبين على عثمان وشهد حصره، هلك سنة 37 "انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 10/11-12.
3ـ الطبقات الكبرى 8/128.
11) ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها:
هي ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بحير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر أن صعصعة الهلالية، وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة من حمير، وقيل من كنانة وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي رهم بن عبد العزى، وقيل عند سبرة بن أبي رهم هذا، وقيل عند حويطب بن عبد العزى، وقيل: عند فروة أخيه وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة سبع لما اعتمر عمرة القضية زوجه إياها العباس بن عبد المطلب وكان يلي أمرها وهي أخت أم ولده أم الفضل بنت الحارث الهلالية لأبيها وأمها، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف على عشرة أميال من مكة وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
ولقد وردت مناقبها رضي الله عنها في أحاديث دلت على أنها كانت من سادات النساء رضي الله عنها وأرضاها.
1-
من تلك الأحاديث ما أخرجه ابن سعد بإسناده إلى علي بن عبد الله بن عباس قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى مكة عام القضية بعث أوس بن خولي وأبا رافع إلى العباس فزوجه ميمونة، فأضلا بعيريهما فأقاما أياماً ببطن رابغ حتى أدركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بقديد وقد ضما بعيريهما، فسارا معه حتى قدم مكة فأرسل إلى العباس فذكر ذلك له وجعلت ميمونة أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم2 فجاء رسول الله منزل العباس فخطبها إلى العباس فزوجها إياه"3.
2-
وروى أيضاً بإسناده إلى سليمان بن يسار: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث
1ـ انظر ترجمتها في: الطبقات الكبرى لابن سعد 8/132-140، المستدرك للحاكم 4/30-33، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/391-395، أسد الغابة 5/550، سير أعلام النبلاء 2/238-245، البداية والنهاية 8/63، الإصابة 4/397-399، مجمع الزوائد 3/249.
2ـ قال الذهبي رحمه الله تعالى: "كذا قال: وصوابه إلى العباس" سير أعلام النبلاء 2/239.
3ـ الطبقات 8/132.
أبا رافع ورجلاً من الأنصار، فزوجاه ميمونة قبل أن يخرج من المدينة"1.
3-
وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة جعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
في هذه الأحاديث الثلاثة منقبة عظيمة لأم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها وأرضاها فقد أكرمها الله عز وجل بأن جعلها إحدى أمهات المؤمنين اللاتي هن أزواجه عليه الصلاة والسلام في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
4-
روى الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها وأقام بمكة ثلاثاً فأتاه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث فقالوا له: إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا قال: وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعت لكم طعاماً فحضرتموه قالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا فخرج بميمونة بنت الحارث رضي الله عنها حتى أعرس بها بسرف3.
5-
روى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت في بعث مرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذهب فأتني بميمونة" فقلت: يا رسول الله: إني في البعث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس تحب ما أحب" فقلت: بلى قال: "فاذهب فأتني بها" فذهبت فجئته بها4.
1ـ الطبقات الكبرى 8/133، وأخرجه مالك في الموطأ 1/348.
2ـ الطبقات 8/133.
3ـ المستدرك 4/31 وقال عقبه: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي" وكلمة "سرف": اسم مكان يبعد عن مكة ستة أميال وقيل سبعة وتسعة واثني عشر وهو الموضع الذي بنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة "انظر معجم البلدان" 3/212.
4ـ المسند مع الفتح الرباني 22/137 وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/248، وقال رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير الحسن بن علي بن أبي رافع وهو ثقة.
6-
إن تسميتها باسم "ميمونة" إنما سماها بهذا الاسم المبارك الميمون المصطفى صلى الله عليه وسلم. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان اسم خالتي ميمونة برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة"1.
7-
شهد لها المصطفى عليه الصلاة والسلام بحقيقة الإيمان واستقراره في قلبها رضي الله عنها. فقد روى الحاكم بإسناده أيضاً إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأخوات مؤمنات ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأختها أم الفضل بنت الحارث، وأختها سلمة بنت الحارث امرأة حمزة، وأسماء بنت عميس أختهن لأمهن"2.
هذا الحديث اشتمل على منقبة عظيمة وفضيلة ظاهرة لأم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها وأخواتها اللاتي ذكرن معها رضي الله عنهن وأرضاهن.
8-
روى أبو يعلى بإسناده إلى يزيد بن الأصم قال: "ثقلت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وليس عندها أحد من بني أخيها فقالت: أخرجوني من مكة فإني لا أموت بها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أني لا أموت بمكة قال: فحملوها حتى أتوا بها سرف إلى الشجرة التي بنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها في موضع الفيئة قال: فماتت فلما وضعناها في لحدها أخذت ردائي فوضعته تحت خدها في اللحد فأخذه ابن عباس فرمى به"3. فقد شاء الله تعالى لها أن تموت في المكان الذي بنا بها فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فقد بنا بها بسرف، وماتت رضي الله عنها في نفس المكان الذي بنا بها فيه وفيه إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم لها بأنها لا تموت بمكة وفهمها لذلك منقبة ظاهرة لها، ولذلك طلبت أن يخرجوها من مكة. رضي الله عنها وأرضاها.
1ـ المستدرك 4/30 وقال عقبه: "صحيح" ووافقه الذهبي.
2ـ المستدرك 4/32-33 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي. ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 8/138.
3ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/249 وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح.
9-
ومن مناقبها رضي الله عنها: ما رواه ابن سعد والحاكم عن يزيد بن الأصم قال: "تلقيت عائشة وهي مقبلة من مكة أنا وابن طلحة بن عبيد الله وهو ابن أختها وقد كنا وقعنا في حائط من حيطان المدينة فأصبنا منه فبلغها ذلك فأقبلت على ابن أختها تلومه وتعذله1 ثم أقبلت علي فوعظتني موعظة بليغة ثم قالت: أما علمت أن الله تبارك وتعالى ساقك حتى جعلك في بيت نبيه؟ ذهبت والله ميمونة ورمي بحبلك على غاربك، أما إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم2 "3.
فقد شهدت عائشة أم المؤمنين لميمونة رضي الله عنها بصفتين عظيمتين من صفات عباد الله المخلصين هما تقوى الله التي هي فعل المأمور وترك المنهي، وصلة الرحم التي هي أصل من أصول الأخلاق التي حث الله عباده على صلتها وعدم قطعها.
وجزم الحافظ ابن كثير بأنها توفيت سنة إحدى وخمسين4.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وكانت وفاة ميمونة سنة إحدى وخمسين ونقل ابن سعد عن الواقدي أنها ماتت سنة إحدى وستين قال وهي آخر من مات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. ولولا هذا الكلام الأخير لاحتمل أن يكون قوله وستين وهماً من بعض الرواة ولكن دل أثر عائشة الذي حكاه عنها يزيد بن الأصم أن عائشة ماتت قبل الستين بلا خلاف والأثر المذكور صحيح فهو أولى من قول الواقدي، وقد جزم يعقوب بن سفيان بأنها ماتت سنة تسع
1ـ العزل: اللوم انظر غريب الحديث لابن الجوزي 2/77.
2ـ قال الذهبي: "قلت: فيه دليل على أن ميمونة ماتت قبل عائشة فبطل قول من قال: ماتت سنة إحدى وستين"أهـ، التلخيص للذهبي على حاشية المستدرك 4/32.
3ـ الطبقات الكبرى 8/138، المستدرك 4/31 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي، وأورده الحافظ في الإصابة 4/399 وقال عقبه:"هذا سند صحيح".
4ـ البداية والنهاية 8/63.
وأربعين، وقال غيره: ماتت سنة ثلاث وستين وقيل سنة ست وستين وكلاهما غير ثابت والأول أثبت"1.
فهؤلاء جملة من دخل بهن من النساء وهن إحدى عشرة2.
قال العلامة ابن القيم: "قال الحافظ أبو محمد المقدسي وغيره: وعقد على سبع ولم يدخل بهن
…
فمن فارقها في حياتها ولم يدخل بها لا يثبت لها أحكام زوجاته اللاتي دخل بهن ومات عنهن صلى الله عليه وسلم"أ. هـ3.
"ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع وكان يقسم منهن لثمان: عائشة، وحفصة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، وصفية، وأم حبيبة، وميمونة، وسودة، وجويرية"4.
هؤلاء أمهات المؤمنين اللاتي يجب على كل مسلم الإقرار والاعتراف بفضلهن وأنهن أمهات المؤمنين كما أطلق الله ذلك عليهن وأن من طعن فيهن أو واحدة كان فاسقاً حائداً عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو بكر الباقلاني: "ويجب أن يعلم أن أخير الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة العشرة الخلفاء الراشدون الأربعة رضي الله عن الجميع وأرضاهم ونقر بفضل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك نعترف بفضل أزواجه رضي الله عنهن وأنهن أمهات المؤمنين، كما وصفهن الله تعالى ورسوله ونقول في الجميع خيراً ونبدع ونضلل ونفسق من طعن فيهن أو في واحدة منهن لنصوص الكتاب والسنة في فضلهم ومدحهم والثناء عليهم فمن ذكر خلاف ذلك كان فاسقاً مخالفاً للكتاب والسنة نعوذ بالله من ذلك"5.
1ـ الإصابة 4/399.
2ـ جلاء الأفهام ص/138.
3ـ المصدر السابق ص/138-139.
4ـ زاد المعاد 1/114.
5ـ الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص/68.
ب – فضل بناته صلى الله عليه وسلم1)
فضل زينب رضي الله عنها:
هي زينب بنت سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم، وأمها خديجة بنت خويلد وكانت أكبر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من تزوج منهن ولدت قبل البعثة بمدة قيل: إنها عشرة سنين وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع العبشمي، وأمه هالة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي خالة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وولدت زينب لأبي العاص علياً وأمامة فتوفي علي وهو صغير وبقيت أمامة فتزوجها علي بن أبي طالب بعد موت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
ولقد وردت مناقبها رضي الله عنها في جملة الأحاديث وهي كما يلي:
1-
روى ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها أن أبا العاص بن الربيع كان فيمن شهد بدراً مع المشركين فأسره عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري فلما بعث أهل مكة في فداء أسراهم قدم في فداء أبي العاص أخوه عمرو بن الربيع وبعثت معه زينب بنت رسول الله وهي يومئذ بمكة بقلادة لها كانت لخديجة بنت خويلد من جزع ظفار ـ وظفار جبل باليمن ـ وكانت خديجة بنت خويلد أدخلتها بتلك القلادة على أبي العاص بن الربيع حين بنى بها فبعثت بها في فداء زوجها أبي العاص فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم القلادة عرفها ورق لها وذكر خديجة وترحم عليها وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا إليها متاعها فعلتم" قالوا: نعم يا رسول الله فأطلقوا أبا العاص بن الربيع وردوا على زينب قلادتها وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي العاص أن يخلي سبيلها إليه فوعده ذلك ففعل"2.
2-
وروى أبو القاسم الطبراني والبزار عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم
1ـ انظر ترجمتها في "الطبقات لابن سعد" 8/30-36، التاريخ الصغير 1/7، المستدرك 4/42-46، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/304-305، أسد الغابة 7/130، العبر 1/10، سير أعلام النبلاء 2/246-250، مجمع الزوائد 9/212-216، الإصابة 4/306.
2ـ الطبقات 8/31، المستدرك للحاكم 4/45 وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
مكة1، خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة أو ابن كنانة فخرجوا في طلبها فأدركها هبار بن الأسود فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها وألقت ما في بطنها فتحملت واشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية فقال بنو أمية: نحن أحق بها وكانت تحت ابن عمهم أبي العاص وكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة وكانت تقول: هذا في سبب أبيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "ألا تنطلق فتجيء بزينب قال: بلى يا رسول الله قال: "فخذ خاتمي فأعطها إياه" فانطلق زيد فلم يزل يتلطف فلقي راعياً فقال: لمن ترعى فقال: لأبي العاص فقال: لمن هذه الغنم فقال: لزينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم فسار معه شيئاً ثم قال هل لك أن أعطيك شيئاً تعطيها إياه ولا تذكره لأحد قال: نعم فأعطاه الخاتم فعرفته فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل قالت: فأين تركته قال: بمكان كذا وكذا فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه فلما جاءته قال لها: اركبي بين يدي على بعيره قالت: لا ولكن اركب أنت بين يدي فركب وركبت وراءه حتى إذا أتت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي خير بناتي أصيبت في" 2.
3-
وروى البزار بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية وكنت فيهم فقال: "إن لقيتم هبار بن الأسود ونافع بن عبد عمرو فاحرقوهما" وكانا نخسا بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت فلم تزل ضبنة3 حتى ماتت ثم قال: "إن لقيتموهما، فاقتلوهما فإنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله"4.
1ـ كذا في المجمع ولعل الصواب "لما قدم المدينة" كما في المستدرك 4/43.
2ـ وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/212-213، ثم قال:"رواه الطبراني في الكبير والأوسط بعضه ورواه البزار ورجاله رجال الصحيح" ورواه الدولابي في الذرية الطاهرة ص/46.
3ـ ضبنة: أي زمنة، من الضبنة وهي الزمانة وهي المرض الدائم "انظر هذا المعنى في الفائق في غريب الحديث" 2/228.
4ـ أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/247 وقال المحقق: إسناده قوي فإن راوايه عن ابن لهيعة بن المبارك وقد سمع منه قبل احتراق كتبه" أهـ، وانظر الحديث في السيرة لابن هشام 1/657،
وعند البخاري رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: "إن وجدتم فلاناً وفلاناً فاحرقوهما بالنار ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: "إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً وأن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما"1.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "ووقع في رواية ابن إسحاق إن وجدتم هبار بن الأسود والرجل الذي سبق منه إلى زينب ما سبق فاحرقوهما بالنار" يعني زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان زوجها أبو العاص بن الربيع لما أسره الصحابة ثم أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وشرط عليه أن يجهز له ابنته زينب فجهزها فتبعها هبار بن الأسود ورفيقه فنخسا بعيرها فأسقطت ومرضت من ذلك والقصة مشهورة عند ابن إسحاق2 وغيره
…
إلى أن قال: وقد أسلم هبار هذا فلم تصبه السرية وأصابه الإسلام فهاجر"3.
روى الحاكم بإسناده إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليها أبو العاص بن الربيع أن خذي لي أماناً من أبيك، فخرجت فأطلعت رأسها من باب حجرتها والنبي صلى الله عليه وسلم في الصبح يصلي بالناس فقالت: أيها الناس: إني زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني قد أجرت أبا العاص، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال:"أيها الناس إنه لا علم لي بهذا حتى سمعتموه ألا وإنه يجير على المسلمين أدناهم"4.
وأورده الحافظ في الإصابة 3/565-566 وعزاه إلى تاريخ محمد بن عثمان بن أبي شيبة.
1ـ صحيح البخاري 2/172.
2ـ انظر سيرة ابن هشام 1/654، المستدرك 4/42-43.
3ـ فتح الباري 6/149-150، الإصابة 3/566.
4ـ أخرجه ابن هشام في السيرة النبوية 1/157-158، ابن سعد في الطبقات 8/32، والحاكم في المستدرك 4/45، والدولابي في الذرية الطاهرة ص/47، وأورده ابن كثير في البداية والنهاية 3/364-365.
ففي هذا الحديث منقبة ظاهرة لزينب رضي الله عنها حيث قبل جوارها لزوجها وصار ذلك سنة للمسلمين إلى يوم القيامة، وهو أنه يجير على المسلمين أدناهم ولو كان امرأة.
5-
روى الإمام مسلم بإسناده إلى أم عطية قالت: لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلنها وتراً ثلاثاً أو خمساً واجعلن في الخامسة كافوراً أو شيئا من كافور فإذا غسلتنها فأعلمنني" قالت: فأعلمناه فأعطانا حقوه1 وقال: "أشعرنها 2 إياه"3.
هذه الأحاديث المتقدمة كلها اشتملت على بيان مناقب عالية لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت ممن تقدم إسلامهم وممن حظي بشرف الهجرة وممن أوذي في الله وصبرت على ذلك وتحملت الأذى في ذات الله وإيماناً بما عنده من الثواب والجزاء العظيم على ذلك، كما دلت هذه الأحاديث على أنه كان لها منزلة عظيمة عند أبيها صلى الله عليه وسلم وكانت وفاتها رضي الله عنها في أول السنة الثامنة للهجرة4.
1ـ الحقوا: معقد الإزار وسمي الإزار حقواً لأنه يشد على الحقو "النهاية في غريب الحديث" 1/417، شرح النووي 7/3.
2ـ أشعرنها: أي: اجعلنه شعاراً لها وهو الثوب الذي يلي الجسد لأنه يلي شعرها "النهاية في غريب الحديث" 2/280، شرح النووي على صحيح مسلم 7/3.
3ـ صحيح مسلم 2/648.
4ـ الطبقات 8/32، سير أعلام النبلاء 2/250، الإصابة 4/306.
2) رقية رضي الله عنها:
هي رقية بنت سيد البشر صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وأمها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ولدت رضي الله عنها سنة ثلاث وثلاثين من مولد أبيها صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمرو: "لا أعلم خلافاً أن زينب أكبر بناته صلى الله عليه وسلم واختلف فيمن بعدها منهن ذكر أبو العباس محمد بن إسحاق السراج قال: سمعت عبد الله بن محمد بن سليمان بن جعفر بن سليمان الهاشمي قال: ولدت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثلاثين سنة وولدت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثلاث وثلاثين سنة1.
وكانت رضي الله عنها ممن تقدم إسلامهم فقد قال محمد بن سعد: "وأسلمت حين أسلمت أمها خديجة بنت خويلد وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وأخواتها حين بايعه النساء"2.
وكانت رضي الله عنها قبل الهجرة تحت عتبة بن أبي لهب ففارقها3.
قال أبو عمر رحمه الله تعالى: "وقال مصعب وغيره من أهل النسب: كانت رقية تحت عتبة بن أبي لهب وكانت أختها أم كلثوم تحت عتيبة بن أبي لهب فلما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} 4 قال لهما أبو هما أبو لهب وأمهما حمالة الحطب: فارقا ابنتي محمد وقال أبو لهب: رأسي من رأسيكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد ففارقاهما"5.
ولما فارقها عتبة بن أبي لهب أبدلها الله بزوج كان من السابقين الأولين إلى الإسلام ومن المبشرين بالجنة وهو ذو النورين عثمان، فقد روى أبو القاسم
1ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/292.
2ـ الطبقات 8/36.
3ـ المصدر السابق، وانظر سير أعلام النبلاء 2/251، مجمع الزوائد 9/216-217.
4ـ الآية رقم 1 من سورة المسد.
5ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/292.
الطبراني بإسناده إلى قتادة بن دعامة السدوسي قال: كانت رقية عند عتبة بن أبي لهب فلما أنزل الله تبارك وتعالى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} سأل النبي صلى الله عليه وسلم عتبة طلاق رقية وسألته رقية ذلك فطلقها فتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه رقية وتوفيت عنده1.
وقال ابن شهاب: فتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه رقية بمكة وهاجرت إلى أرض الحبشة وولدت له هناك ابناً فسماه عبد الله فكان يكنى به وقال مصعب كان عثمان يكنى في الجاهلية أبا عبد الله فلما كان الإسلام ولد له من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام سماه عبد الله واكتنى به فبلغ الغلام ست سنين فنقر عينه ديك فتورم وجهه ومرض ومات، وقال غيره توفي عبد الله بن عثمان من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى سنة أربع من الهجرة وهو ابن ست سنين وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل في حفرته أبوه عثمان رضي الله عنهما"2.
وقد وردت طائفة من الأحاديث والآثار التي فيها ذكر بعض المناقب لرقية رضي الله عنها ومنه ما يلي:
1-
كانت رضي الله عنها في صدارة من شرفوا بفضل الهجرة الأولى إلى الحبشة فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عروة في تسمية الذين خرجوا في المرة الأولى إلى هجرة الحبشة قبل خروج جعفر وأصحابه عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم3.
وروى ابن المبارك من طريق قتادة عن النضر بن أنس عن أبيه قال: خرج عثمان برقية إلى الحبشة مهاجراً فاحتبس خبرهما فأتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فأخبرته
1ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/216-217 وقال: رواه الطبراني وفيه زهير بن العلاء ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن حبان فالإسناد حسن، وانظر الذرية الطاهرة ص/52.
2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/292-293، وانظر الذرية الطاهرة ص/53.
3ـ المستدرك 4/46.
أنها رأتهما فقال: "منحهما الله إن عثمان أول من هاجر بأهله"1.
ففي هذا منقبة لعثمان وزوجه رقية حيث إن عثمان أول من هاجر بأهله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
3-
لما مرضت رضي الله عنها أمر المصطفى عليه الصلاة والسلام زوجها عثمان بن عفان أن يتخلف عن غزوة بدر لتمريضها. فقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر قال: وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه"2.
وقال الزبير بن بكار: كانت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عتبة بن أبي لهب ففارقها فتزوج عثمان بن عفان رقية بمكة وهاجرت معه إلى أرض الحبشة فولدت له عبد الله وبه كان يكنى وقدمت معه إلى المدينة وتخلف عن بدر عليها بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهمان أهل بدر قال: وأجرى يا رسول الله قال: "وأجرك"3.
وقال الحافظ ابن كثير: "وأما رقية فكان قد تزوجها أولا ابن عمها عتبة ابن أبي لهب، كما تزوج أختها أم كلثوم أخوه عتيبة بن أبي لهب، ثم طلقاهما قبل الدخول بهما بغضة في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} فتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه رقية، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة ويقال: إنه أول من هاجر إليها ثم رجع إلى مكة وهاجر إلى المدينة، وولدت له ابنه عبد الله فبلغ ست سنين فنقره ديك في عينيه
1ـ أورده الحافظ في الإصابة 4/298.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/54.
3ـ رواه الطبراني كما في مجمع الزوائد 9/217 وقال الهيثمي عقبه: "رواه الطبراني وروى عن الزهري بعضه روجالهما إلى قائلهما ثقات وانظر الذرية الطاهرة للدولابي ص/54.
فمات وبه كان يكنى أولاً، ثم اكتنى بابنه عمرو، وتوفيت وقد انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ولما أن جاء البشير بالنصر إلى المدينة ـ وهو زيد بن حارثة ـ وجدهم قد ساووا على قبرها التراب1، وكان عثمان قد أقام عليها يمرضها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب له بسهمه وأجره ولما رجع زوجه بأختها أم كلثوم أيضاً، ولهذا كان يقال له: ذو النورين ثم ماتت عنده في شعبان سنة تسع ولم تلد له شيئاً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كانت عندي ثالثة لزوجتها عثمان" وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كن عشراً لزوجتهن عثمان"2.
وما تقدم من الآثار وبعض الأحاديث كلها تدل على فضل رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أراد الله ـ جل وعلا ـ ألا تبقى بضعة من المصطفى عليه الصلاة والسلام في عصمة كافر فقد أخرج الله ابنتيه رقية وأم كلثوم من عصمة ابني أبي لهب وكتب الله لرقية أن تتزوج بعد مفارقة ابن أبي لهب لها برجل كريم تستحي منه الملائكة فكان نعم الزوج لها ونعمت الزوجة له، هاجرا معاً إلى أرض الحبشة ليحصلا على مكان يعبدان الله تعالى فيه ليأمنا من اعتداء أهل الكفر والإشراك بالله، ورغبة صادقة منهما في حصول ثواب الهجرة الذي لا يعدله شيء، وكانت لها رضي الله عنها منزلة عظيمة عند النبي صلى الله عليه وسلم يدل عليها إذنه عليه الصلاة والسلام لعثمان في أن يتأخر عن غزوة بدر التي هي أول معركة عظمى يخوضها جيش الإيمان مع جيش الكفر والشرك الذي جاء من مكة وأمره أن يتأخر لتمريضها رضي الله عنها وضرب له بسهمه في الغنيمة وأجره عند الله تعالى يوم القيامة كمن حضر الغزوة، كل ذلك تعظيم لشأن رقية رضي الله عنها وأرضاها ولما لها من المكانة العالية عنده صلى الله عليه وسلم.
1ـ انظر الطبقات لابن سعد 8/37، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/294، سير أعلام النبلاء 2/252، البداية والنهاية 3/381، مجمع الزوائد 9/217، الإصابة 4/298.
2ـ البداية والنهاية 5/346-347، وانظر الطبقات لابن سعد 8/38.
3) أم كلثوم رضي الله عنها:
هي البضعة النبوية الثالثة أم كلثوم بنت سيد ولد آدم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، أمها خديجة بنت خويلد كان عتيبة بن أبي لهب قد تزوج بأم كلثوم قبل البعثة فلم يدخل عليها حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أبوه بفراقها لما أنزل الله تعالى:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} قال له أبوه أبو لهب: رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته ففارقها ولم يكن دخل بها فلم تزل بمكة مع أبيها عليه الصلاة والسلام وأسلمت حين أسلمت أمها وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخواتها حين بايعه النساء وهاجرت إلى المدينة فلم تزل بها ولما توفيت أختها رقية زوجها النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن عفان وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة، وأدخلت عليه في هذه السنة في جمادى الآخرة فلم تزل عنده إلى أن ماتت ولم تلد له شيئاً1.
وقد وردت لها مناقب دلت على أنها ذات منزلة ومقام رفيع رضي الله عنها وأرضاها وهي كما يلي:
1-
ما ذكره أبو عمر بن عبد البر حيث قال: "وكان عثمان رضي الله عنه إذ توفيت رقية قد عرض عليه عمر بن الخطاب حفصة ابنته ليتزوجها فسكت عثمان عنه لأنه قد كان سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدل عثمان على من هو خير له منها وأدلها على من هو خير لها من عثمان" فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة وزوج عثمان أم كلثوم"2.
روى البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه قال: شهدنا
1ـ الطبقات لابن سعد 8/37-39، الذرية الطاهرة للدولابي ص/56، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/463-465، أسد الغابة 7/384، سير أعلام النبلاء 2/252-253، البداية والنهاية 3/346-347، مجمع الزوائد 9/216-217، الإصابة 4/466.
2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/464.
بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر قال: فرأيت عينيه تدمعان قال: فقال: "هل منكم رجل لم يقارف1 الليلة" فقال أبو طلحة: أنا قال: "فأنزل" قال فنزل في قبرها2.
قال الحافظ: "قوله شهدنا بنتاً للنبي صلى الله عليه وسلم هي أم كلثوم زوج عثمان رواه الواقدي عن فليح بن سليمان بهذا الإسناد وأخرجه ابن سعد في الطبقات3 في ترجمة ابن كلثوم وكذا الدوالبي في الذرية الطاهرة4 وكذلك رواه الطبري والطحاوي من هذا الوجه ورواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس فسماها رقية أخرجه البخاري في التاريخ الأوسط والحاكم في المستدرك5. قال البخاري ما أدري ما هذا فإن رقية مات والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر ولم يشهدها قلت: وهم حماد في تسميتها فقط ويؤيد الأول ما رواه ابن سعد في ترجمة أم كلثوم6 من طريق عمرة بنت عبد الرحمن قالت: نزل في حفرتها أبو طلحة7.
3-
ما رواه ابن سعد في ترجمتها من أنها رضي الله عنها لما مات صلى على جنازتها النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى بإسناده إلى أسعد بن زرارة قال: صلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس على حفرتها، ونزل في حفرتها علي بن أبي طالب والفضل بن عباش وأسامة بن زيد8.
فهذا الحديث اشتمل على فضيلة ظاهرة لأم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان عليه الصلاة والسلام إمام المصلين على جنازتها وكفى بها منقبة وميزة شريفة
1ـ أي: لم يجامع أهله "انظر النهاية في غريب الحديث والأثر" 4/45.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/151 والإمام أحمد في المسند 3/126.
3ـ الطبقات الكبرى 8/38.
4ـ والذرية الطاهرة ص/60.
5ـ المستدرك 4/47.
6ـ الطبقات لابن سعد 8/38.
7ـ فتح الباري 3/158.
8ـ الطبقات لابن سعد 8/39.
لما في دعائه المبارك لها بالرحمة والمغفرة ورفع درجتها في الجنة رضي الله عنها وأرضاها، وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة تسع للهجرة1.
1ـ انظر الطبقات 8/38، البداية والنهاية 3/347، الإصابة 4/466.
4) فاطمة رضي الله عنها:
هي فاطمة بنت إمام المتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمها خديجة بنت خويلد كانت تكنى بأم أبيها1، وقد اختلف العلماء في بناته عليه الصلاة والسلام في أيتهن أصغر قال أبو عمر بن عبد البر:"والذي تسكن إليه النفس على ما تواترت به الأخبار ترتيب بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زينت الأولى ثم الثانية رقية، ثم الثالثة أم كلثوم ثم الرابعة فاطمة الزهراء"2.
ولدت رضي الله عنها وقريش تبني الكعبة قبل البعثة سنة خمس وثلاثين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم3، زوجها النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب سنة اثنتين للهجرة بعد وقعة بدر وولد له الحسن والحسين ومحسناً وأم كلثوم، وزينب، وقد تزوج الفاروق عمر رضي الله عنه بأم كلثوم بنت علي من فاطمة في أيام خلافته وأكرمها إكراماً زائداً وأصدقها أربعين ألف درهم لأجل نسبها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فولدت له زيد بن عمر بن الخطاب4، ومناقب فاطمة رضي الله عنها كثيرة شهيرة ومنها ما يلي:
1-
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها حباً شديداً ويسر لسرورها ويغضب لغضبها رضي الله عنها. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى بريدة رضي الله عنه قال: كان أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ومن الرجال علي5.
2-
روى أيضاً بإسناده إلى المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: قال:
1ـ انظر أسد الغابة 5/520، الإصابة 4/365.
2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/362.
3ـ انظر الطبقات لابن سعد 8/26.
4ـ انظر ترجمة فاطمة رضي الله عنها في: " الطبقات لابن سعد 8/19-30، حلية الأولياء 2/39-43، المستدرك 3/151-161، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/362-369، أسد الغابة 5/519-524، سير أعلام النبلاء 2/118-134، البداية والنهاية 5/347، مجمع الزوائد 9/201-212، الإصابة 4/365-368، فتح الباري 3/105.
5ـ المستدرك 3/155 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما فاطمة شجنة1 مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها"2.
وقد غضب لها عليه الصلاة والسلام لما هم علي رضي الله عنه بخطبة ابنة أبي جهل وأعلن غضبه ذلك من على المنبر.
3-
روى الشيخان عن المسور بن مخرمة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول: "إن بني هاشم بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنته فأنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها3 ويؤذيني ما آذاها"4.
4-
وبلفظ آخر عند مسلم قال: إن علياً بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل على فاطمة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال: "إن فاطمة مني وإني أتخوف أن تفتن في دينها" قال: ثم ذكر صهراً له من بني عبدي شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن قال: "حدثني فصدقني ووعدني فأوفى لي وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حراماً ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً "5.
5-
وروى الشيخان عن المسور بن مخرمة أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعت بذلك فاطمة أتت
1ـ شجنه: قال في النهاية 2/447: وأصل الشجنة بالكسر والضم: شعبة في غصن من غصون الشجرة" والمراد بها الرحم المشتبكة.
2ـ المستدرك 3/154 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
3ـ قال في النهاية في غريب الحديث 3/287: "يريبني ما يريبها أي: يسوؤني ما يسوؤها ويزعجني ما يزعجها".
4ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 9/327، صحيح مسلم 4/1902.
5ـ صحيح مسلم 4/1903.485
النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك وهذا علي ناكحاً ابنة أبي جهل. قال المسور: فقام النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته حين تشهد ثم قال: "أما بعد فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني فصدقني وإن فاطمة بنت محمد مضغة1 مني وإنما أكره أن يفتنوها وإنها والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله عند رجل واحد أبداً" قال: فترك علي الخطبة2.
6-
روى البخاري بإسناده إلى المسور بن مخرمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني"3.
7-
روى أبو عيسى الترمذي بسنده إلى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن علياً ذكر بنت أبي جهل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها"4.
هذه الأحاديث كلها اشتملت على بيان فضل فاطمة رضي الله عنها وبيان منزلتها من النبي صلى الله عليه وسلم ومكانتها عنده عليه الصلاة والسلام كما دلت هذه الأحاديث على "تحريم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بكل حال وعلى كل وجه وإن تولد ذلك الإيذاء مما كان أصله مباحاً وهو حي وهذا بخلاف غيره، وقد أعلم عليه الصلاة والسلام بإباحة نكاح بنت أبي جهل لعلي بقوله صلى الله عليه وسلم: "لست أحرم حلالاً" ولكن نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوصتين:
إحداهما: أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة فيتأذى حينئذ النبي صلى الله عليه وسلم فيهلك من آذاه فنهى عن ذلك لكمال شفقته على علي وعلى فاطمة.
والثانية: خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة وقيل: ليس المراد به النهي بل معناه
1ـ المضغة: قطعة اللحم.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/85، صحيح مسلم 4/1903-1904.
3ـ صحيح البخاري 2/302.
4ـ سنن الترمذي 5/360 ثم قال: هذا حديث حسن صحيح".
أعلم من فضل أنهما لا تجتمعان ويحتمل أن المراد تحريم جمعهما ويكون معنى لا أحرم حلالاً أي: لا أقول شيئاً يخالف حكم الله فإذا أحل شيئاً لم أحرمه وإذا حرمه لم أحلله ولم أسكت عن تحريمه لأن سكوتي تحليل له ويكون من جملة محرمات النكاح الجمع بين بنت نبي الله وبنت عدو الله1 وصهره الذي أثنى عليه من بني عبد شمس هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب رضي الله عنها.
قال الحافظ: "قوله: "حدثني فصدقني" لعله كان شرط على نفسه أن لا يتزوج على زينب وكذلك علي فإن لم يكن كذلك فهو محمول على أن علياً نسى ذلك الشرط فلذلك أقدم على الخطبة، أو لم يقع عليه شرط إذ لم يصرح بالشرط لكن كان ينبغي له أن يراعي هذا القدر فلذلك وقعت المعاتبة وكان النبي صلى الله عليه وسلم قل أن يواجه أحداً بما يعاب به ولعله إنما جهر بمعاتبته عليا مبالغة في رضى فاطمة عليها السلام، وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكة، ولم يكن حيئذ تأخر من بنات النبي صلى الله عليه وسلم غيرها، وكانت أصيبت بعد أمها بأخواتها فكان إدخال الغيرة عليها مما يزيد حزنها"2.
8-
روى الطبراني بإسناده عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي"3.
ففي هذا الحديث منقبة ظاهرة لفاطمة رضي الله عنها وهي أن تزويجها من علي كان بإيحاء من الله جل وعلا.
9-
وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى علي رضي الله عنه قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع رجله بيني وبين فاطمة رضي الله عنها فعلمنا ما نقول إذا أخذنا مضاجعنا فقال: "يا فاطمة إذا كنتما بمنزلتكما فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين". قال علي: والله ما تركتها بعد، فقال له رجل كان في نفسه عليه شيء: ولا ليلة صفين قال علي: ولا ليلة صفين"4.
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/3-4.
2ـ فتح الباري 7/86.
3ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/204 وقال عقبه: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
4ـ المستدرك 3/151-152 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
ففي هذا بيان فضيلة ظاهرة لفاطمة وزوجها علي رضي الله عنهما.
10-
روى الترمذي بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون"1.
وأيضاً ما رواه الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة خطوط وقال: "أتدرون ما هذا؟ " فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران، وأحسبه قال: "وامرأة فرعون" 2.
11-
وروى الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في مرضه الذي توفي فيه يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء المؤمنين" 3.
12-
وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: "باب مناقب فاطمة رضي الله عنها" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فاطمة سيدة نساء أهل الجنة "4.
13-
روى الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران"5.
فهذه الأحاديث دلت على أن فاطمة رضي الله عنها ذات منزلة عظيمة وقدر رفيع في الدنيا والآخرة حيث أخبر عليه الصلاة والسلام بأنها سيدة نساء
1ـ سنن الترمذي 5/367 ثم قال: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/158 وقال عقبه: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ.
2ـ المستدرك 3/185، ص/160 وصححه ووافقه الذهبي.
3ـ المصدر السابق 3/156 وقال: "هذا إسناد صحيح ولم يخرجاه هكذا ووافقه الذهبي.
4ـ صحيح البخاري 2/301.
5ـ المستدرك 3/154 وقال عقبه: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
العالمين وسيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء المؤمنين، وسيد نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران.
14-
روى الترمذي بإسناده إلى أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جلل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي 1 أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً"2.
وفي هذا منقبة ظاهرة لعلي وفاطمة والحسن والحسين حيث جللهم بكسائه ودعا الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم هؤلاء أهل بيتي.. إلخ" الحديث: "ولما بين سبحانه أنه يريد أن يذهب الرجس عن أهل بيته وأعظمهم اختصاصاً به وهم علي وفاطمة رضي الله عنهما وسيدا شباب أهل الجنة جمع الله لهم بين أن قضى لهم بالتطهير وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فكان من ذلك ما دلنا على أن إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم نعمة من الله ليسبغها عليهم ورحمة من الله وفضل لم يبلغوهما بمجرد حولهم وقوتهم إذ لو كان كذلك لاستغنوا بهما عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما يظن من يظن أنه قد استغنى في هدايته وطاعته عن إعانة الله تعالى له وهدايته إياه"3.
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن فاطمة رضي الله عنها من فضليات النساء اللاتي بلغن الذروة في الفضل لتحقيقهن الإيمان الكامل وعملهن الأعمال الصالحة التي ترضي الله ـ جل وعلا ـ فكن من أهل الدرجات العلى.
15-
وقد روى الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:
1ـ حامتي: قال في النهاية: "حامة الإنسان خاصته ومن يقرب منه وهو الحميم" 1/446.
2ـ سنن الترمذي 5/361 وقال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح وهو أحسن شيء روي في هذا الباب".
3ـ حقوق آل البيت ص/27-28.
كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يغادر منهن واحدة فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فلما رآها رحب بها فقال: "مرحباً بابنتي" ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارها فبكت بكاء شديداً فلما رأى جزعها سارها الثانية فضحكت فقلت لها: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ما كنت أفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره قالت: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما الآن فنعم أما حين سارني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين وإنه عارضه الآن مرتين: " وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتق الله واصبري فإنه نعم السلف أنا لك" قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال: "يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة" قالت فضحكت ضحكي الذي رأيت1.
هذا الحديث اشتمل على مناقب رفيعة لفاطمة رضي الله عنها وهي مشابهتها في مشيها مشية أبيها عليه الصلاة والسلام وترحيبه بها، وإجلاسه لها عن يمينه أو عن شماله واختصاصها بالمسارة دون نسائه رضي الله عنهن ولما رأى حزنها ظهر عليها بما أسره إليها بشرها ببشارة بدلت حزنها فرحاً. وهي قوله لها:"أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة" فزال حزنها وفرحت بهذه المنزلة العظيمة التي أكرمها الله بها من بين النساء.
قال النووي رحمه الله تعالى: "قولها فأخبرني أني أول من يلحق به من أهله فضحكت" هذه معجزة ظاهرة له صلى الله عليه وسلم بل معجزتان فأخبر ببقائها بعده وبأنها أول أهله لحاقاً به ووقع كذلك وضحكت سروراً بسرعة لحاقها وفيه
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 11/79-80، صحيح مسلم 4/1904-1905.
إيثارهم الآخرة وسرورهم بالانتقال إليها والخلاص من الدنيا"1.
17-
روى الترمذي بإسناده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها..الحديث2.
فقد وصفتها بصفات حميدة كلها مناقب تزيد من قدرها ورفعة مكانتها فقد بينت أنها تشبه النبي صلى الله عليه وسلم هيئة وطريقة وحسن حال وأشارت رضي الله عنها بالسمت إلى ما كان يظهر عليها من الخشوع والتواضع لله وبالهدى إلى ما كانت تتحلى به من السكينة والوقار وإلى ما كانت تسلكه من المنهج المرضي وبالدل إلى حسن خلقها ولطف حديثها رضي الله عنها3.
18-
روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا ذكرت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي ولدها4.
وهذا الوصف منها أيضاً لسيدة نساء المؤمنين منقبة ظاهرة إذ من التزم الصدق قولاً وعملاً كان قائده إلى عمل البر وإذا عمل البر كان قائده إلى طريق الجنة.
وكل ما تقدم ذكره من الأحاديث التي اشتملت على ذكر مناقب لفاطمة رضي الله عنها كلها دلت على عظيم شأنها وجليل قدرها، كما دلت على بيان
1ـ شرح النووي 16/5-6.
2ـ سنن الترمذي 5/361-362 ثم قال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عائشة.
3ـ انظر تحفة الأحوذي 10/373.
4ـ المستدرك 3/160-161 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
درجتها العالية التي اختصت بها دون سائر نساء العالمين، وهي أنها سيدة نساء المؤمنين في الدنيا والآخرة، وهي رضي الله عنها أفضل أخواتها على الإطلاق، ولا يعترض بقوله صلى الله عليه وسلم في حق زينب رضي الله عنها:"هي خير بناتي أصيبت1 في" فإن معنى هذه العبارة: "أنها من أفضل بناتي لأن الأخبار ثابتة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء هذه الأمة وكذلك أخبر أنها سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران"2 وقد تقدم.
قال العلامة ابن القيم: "وكل أولاده توفي قبله إلا فاطمة فإنها تأخرت بعده بستة أشهر فرفع الله لها بصبرها واحتسابها من الدرجات ما فضلت به على نساء العالمين وفاطمة أفضل بناته على الإطلاق، وقيل إنها أفضل نساء العالمين"3.
وقال الحافظ ابن حجر عند قوله صلى الله عليه وسلم: "فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني": وفيه أنها أفضل بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما أخرجه الطحاوي وغيره من حديث عائشة في قصة مجيء زيد بن حارثة بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وفي آخره قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هي أفضل بناتي أصيبت في" فقد أجاب عنه بعض الأئمة بتقدير ثبوته بأن ذلك كان متقدماً ثم وهب الله لفاطمة من الأحوال السنية والكمال ما لم يشاركها أحد من نساء هذه الأمة مطلقاً والله أعلم"4.
ومما يرجح أفضليتها على أخواتها أنهن متن قبل النبي صلى الله عليه وسلم فكن في صحيفته عليه الصلاة والسلام وأما فاطمة رضي الله عنه فقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم قبلها فكان في صحيفتها رضي الله عنها فكان مصابها فيه أعظم فصبرت واحتسبت رضي الله عنها. كما أوصاها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرج ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى
1ـ تقدم تخريجه في مناقب زينب رضي الله عنها.
2ـ انظر المستدرك 4/44.
3ـ زاد المعاد 1/104.
4ـ فتح الباري 7/105-106.
بإسناده إلى فاطمة رضي الله عنها قالت: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وأنا عند عائشة فناجاني فبكيت.. وفيه أنه قال لها: "وإنه لم ترزأ امرأة من نساء العالمين بمثل ما رزئت، ولا تكوني دون امرأة صبراً" قالت: فبكيت، ثم قال:"أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول" فتوفي عامه ذلك"1.
وهي رضي الله عنها أول من توفي بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته باتفاق أهل العلم حتى من أزواجه2 حيث لم تلبس بعده إلا ستة أشهر كما في صحيح مسلم رحمه الله تعالى من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر"3.
والذي أخلص إليه في هذا الفصل الذي اشتمل على فضل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يثبتون لهم كل ما صح في فضلهم عموماً وخصوصاً ويعتقدونه اعتقاداً جازماً ولا يبخسونهم منه شيئاً بل يرعون لهم حرمتهم وقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوالونهم ويحبونهم لإسلامهم وسبقهم وحسن بلائهم في نصرة دين الله عز وجل.
وقد حرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى معتقد الفرقة الناجية في آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال في سياق عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة: "ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال يوم غدير خم: "أذكركم الله في أهل بيتي"4
…
ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة خصوصاً خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به وعاضده على أمره وكان لها منه المنزلة العالية، والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد
1ـ جامع البيان للطبري 3/264.
2ـ انظر فتح الباري 8/136.
3ـ صحيح مسلم 3/1380.
على سائر الطعام" 1.
وقال الحافظ ابن كثير: "ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين"2.
والذي نخلص في هذا الباب أن أهل السنة والجماعة يؤمنون إيماناً صادقاً بفضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتقدون أنهم خير الخلق بعد الأنبياء والمرسلين وأن الله ـ تعالى ـ اصطفاهم لنصرة خاتم أنبيائه وشرح صدورهم وحبب إليهم مؤازرته والقتال معه فسبقوا الناس إلى الإيمان به وتحملوا العذاب في مكة وصبروا عليه ولما أمرهم الله بالهجرة تركوا الأهل والمال والعشيرة والبلد وهاجروا حباً في الله عز وجل وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوا دونه وبذلوا أنفسهم رخيصة في سبيله عز وجل حتى أظهر الله تبارك وتعالى دينه وصدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وأكرمهم الله ـ تعالى ـ فرضي عنهم وبشرهم بالجنة وبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن لم يتولهم فليس له حظ في الإيمان ومن قال بكفرهم فلا شك في كفره أبغض الله من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم.
1 ـ العقيدة الواسطية مع شرحها للشيخ محمد خليل هراس ص/146-148. والحديث تقدم تخريجه في "فضل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها".
2 ـ تفسير القرآن العظيم 6/199.