الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع: دراسة إسناد الحديث ومتابعاته وشواهده
الفصل الأول: التنبيه على بعض الأمور المهمة في التخريج
…
الفصل الأول: التنبيه على بعض الأمور المهمة في التخريج
1-
أشرت سابقاً أنّ الشق الأوّل من التخريج وهو البحث عن الحديث وطرقه في مصادره يمكن أن يسلكه مَن عنده أدنى ممارسة وتدريب على يد أحد العلماء الماهرين في الفن، أمّا الشق الآخر وهو دراسة الأسانيد والطرق لمعرفة حكم الحديث صحة وضعفاً، والوصول إلى معرفة الإسناد اتصالاً وانقطاعاً والحكم عليه، فهذا لا يمكن أن يدخل فيه أيّ أحد شاء، لأنّه ينبني عليه إثبات الحلال والحرام وإثبات الأحكام الشرعية، ولذا قال الحافظ ابن حجر: ((وليحذر المتكلم في هذا الفن من التساهل في الجرح والتعديل فإنّه إن عدّل أحدا بغير تثبت، كان المثبت حكماً ليس بثابت
…
وإن جرح بغير تحرز أقدم على الطعن في مسلم بريء من ذلك
…
)) (1) .
وهو في حدّ ذاته في غاية من الصعوبة، لا يسلكه إلاّ المتمرسون الذين وقفوا حياتهم لطلبه وتحصيله. كما ذكر الخطيب في علم الحديث فقال:
((علم لا يعلق إلاّ بمن وقف نفسه عليه، ولم يضم غيره من العلوم إليه)) (2) . وكذا قال أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري (ت481هـ) :
((هذا الشأن – يعني الحديث – شأن من ليس له شأن سوى هذا الشأن)) (3) .
(1) نزهة النظر مع النكت عليه / 192.
(2)
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/173) .
(3)
التقييد لابن نقطة (2/68) .
2-
ولنعلم بأن أصول التخريج مرتبطة بـ "قواعد الجرح والتعديل" كما لا يخفى، قال الكتور بكر أبو زيد: ((لما كانت أصول التخريج مرتبطة
بـ «قواعد الجرح والتعديل» ارتباط الروح بالبدن، وبينهما من التداخل والتلازم ما يقضي بسياقها في مكان واحد؛ إذ هي عمدة البحث عن «حال الراوي» )) (1) .
ولصعوبة هذا الفن حذَّر الدكتور بكر أبو زيد من ((أن يدخل فيه من شاء كيف شاء، وإنّما هو دين لا يدخله إلاّ من تحلَّى بأصوله وعرف أحكامه وحدوده وإلاّ فلا يتعنّ)) .
وأقول: إن علم مصطلح الحديث بما فيه علم الجرح والتعديل وغيره من علم العلل كلها لخدمة التخريج وأصوله.
3-
متى يكون الحديث صحيحاً أو حسناً، أو بتعبير آخر متى يحكم بصحة الحديث وحسنه؟!
الجواب: إذا توافرت فيه شروط القبول من اتصال السند وسلامته من الانقطاع، ومن تحقق عدالة الراوي وضبطه، والتحقق من انتفاء الشذوذ والنكارة ومن العلة القادحة (2) .
قال ابن القيم: ((إنما يصح الحديث بمجموع أمور: منها صحة سنده وانتفاء علته وعدم شذوذه ونكارته)) (3) .
(1) التأصيل / 16.
(2)
انظر مقدمة ابن صلاح/ 10، والنكت على المقدمة للحافظ ابن حجر (1/234، 235، 236) .
(3)
المنار المنيف / 21-22، بتحقيق أبي غدّة.
4-
لا يلزم من كون رجال الإسناد، رجال الصحيح، أو رجاله ثقات أن يكون الحديث صحيحا (1) لاحتمال أن يكون فيه انقطاع أو شذوذ أو علة قادحة.
ولذا قال ابن الصلاح: ((قولهم هذا حديث صحيح الإسناد دون قولهم حديث صحيح؛ لأنه قد يقال صحيح الإسناد ولا يصحّ أي المتن لكونه أي الإسناد شاذا ومعللاً
…
)) (2) ، فمن هنا يلزم التأكد من اتصال الإسناد وانتفاء الشذوذ والعلة في مثله ومن ثم الحكم على ضوء ما يتوصل به عليه.
- يصنف الرواة على وجه الإجمال على أربعة أصناف:
صنف اتفق على توثيقهم على الإطلاق، أو مقيدا ببعض الشيوخ دون بعض، أو ببعض الأماكن دون بعض، أو ببعض الأوقات دون بعض.
صنف اتفق العلماء على تضعيفهم، صنف لم يرد فيه جرح ولا تعديل، وهم المجاهيل بنوعيهم (3) والمبهمون الذين لم يعرفوا.
صنف اختلف فيهم تعديلا وتجريحا (4) .
فعلى الباحث أن يعرف الثقات المتفق على توثيقهم على الإطلاق، لكي
(1) المصدر السابق لابن حجر (1/474) .، ومعجم مصطلحات الحديث للدكتور/ محمد ضياء الرحمن الأعظمي/ 222.
(2)
مقدمة ابن الصلاح/ 35.
(3)
أي مجهول الحال الذي لم يوثق ولم يجرح، ومجهول العين الذين لم يرو عنه إلا واحد ولم يوثق ولم يجرح.
(4)
انظر دراسة الأسانيد للعثيم/ 77، والتأسيس في فن دراسة الأسانيد/ ص ب 238، إلا أنهما قَسَّما الرواة إلى ثلاثة أقسام، لم يذكروا المسكوت عنهم وهم صنف رابع عندي.
يحكم على رواياتهم بالصحة – بعد توافر بقية الشروط – وأن يعرف الثقات الذين قُيّد توثيقهم ببعض الجوانب ويراعى ذلك.
أما الصنف الآخر من الرواة وهم الذين اتفق العلماء على تضعيفهم فلا تقبل رواياتهم ولا يحتج بهم، لكن من بين هؤلاء من يُعْتبر بحديثه في المتابعات والشواهد ويتقوى عند حصولها وهو الذي ضعفه ليس بشديد من قبل ضبطه لا من جهة عدالته، أما الذي ضعفه شديد فهو الذي طعن في عدالته، بالكذب أو الاتهام به، أو وصف بسرقة الحديث، أو بالفسق أو بأنه لا تحل الرواية عنه ونحو ذلك من الألفاظ (1) .
أما الصنف المسكوت عنهم وهم المجاهيل أو مستورو الحال (2) ، فلا يحتج بأحاديثهم ويدخل في ذلك الجهالة بقسميها، جهالة الحال وجهالة العين (3) وكذا يلحق بهما المبهم الذي لم يعرف.
قال الخطيب البغدادي: ((المجهول عند أهل الحديث هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء به ومن لم يعرف حديثه إلاّ من جهة راو واحد)) (4) .
فيدخل فيه الصنفان مجهول العين والحال.
(1) انظر حول مراتب هذا الصنف والألفاظ التي وصفوا بها: فتح المغيث (1/399- 400) .
(2)
فرق الحافظ ابن كثير وغيره، بين المجهول وهو من لم تعرف عدالته ظاهراً وباطناً، والمستور وهو الذي جهلت عدالته باطناً، ولكنه عدل في الظاهر انظر اختصار علوم الحديث مع شرحه الباعث الحثيث
(1/292) .
(3)
تقدم تعريفهما.
(4)
الكفاية في علم الرواية /88.
وقال الحافظ ابن كثير: ((فأما المبهم الذي لم يسمّ أو مَنْ سُمِّي ولا تعرف عينه فهذا ممن لا يقبل روايته أحدٌ علمناه، ولكنه إذا كان في عصر التابعين والقرون المشهود لهم بالخير، فإنه يستأنس بروايته ويستضاء بها في مواطن)) (1) .
وأمّا الصنف المختلف فيهم من الرواة من حيث الجرح والتعديل، وهذا شيء متوقع لا مفّر منه، فإن توثيق الرواة وتجريحهم أمر اجتهاديّ ومن طبيعة الحال لابد أن يقع الاختلاف بين العلماء.
فالرواة المختلف فيهم هم الذين اجتمع فيهم الجرح والتعديل سواء من عدد من الأئمة أو من إمام واحد، جرحه مرة ووثقه مرة.
فمنهم من ينظر إلى الكثرة وقبول قولهم ورد القول الآخر، فيرى الأخذ بقول الجمهور، كما ذكر الذهبي عن ابن معين حيث قال عنه:((فإنّا نقبل قوله دائماً في الجرح والتعديل ونقدمه على كثير من الحفاظ ما لم يخالف الجمهور في اجتهاده، فإذا انفرد بتوثيق من لينه الجمهور أو بتضعيف من وثقه الجمهور وقبلوه، فالحكم لعموم أقوال الأئمة لا لمن شذّ)) (2) .
لاشك أن لاختلاف الأئمة أسباباً كثيرة لا يتسع هذا البحث لبيانها (3) .
وإن أمكن أن يجمع بين الجرح والتعديل جمع بين ذلك، وحمل كل قول على جانب، كما حمل كلام الإمام أحمد في قبيصة السوائي أنّه كثير الوهم ثقة لا بأس به، على حين ما كان يحفظ وكلام أبي حاتم فيه أنه لم ير من المحدثين من يحفظ ويأتي بالحديث على لفظ واحد لا يغيره يحمل على ما كان
(1) اختصار علوم الحديث (1/293) .
(2)
معرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد / 49.
(3)
انظر في ذلك التأسيس / 263 – 265.
يحفظ، وكلام أبي داود فيه هو الذي يجمع بين القولين، حيث قال:((كان قبيصة لا يحفظ ثم حفظ بعد ذلك))
(1)
.
وإن لم يمكن الجمع فالترجيح كما تقدم من قول الذهبي من ترجيح قول الجمهور على الفرد، من هذا القبيل ما ذكره ابن رجب بعد نقله عن الترمذي قول البخاري ((ما نعلم مالكا حدّث عمن يترك حديثه إلا عن عطاء الخراساني)) فيفهم من قوله أن عطاء الخراساني متروك– ثم قال ابن رجب:
((وقد ذكر فيما تقدم أن عطاء الخراساني ثقة عالم رباني وثقه كل الأئمة ما خلا البخاري، ولم يوافق على ما ذكره، وأكثر ما فيه أنه كان في حفظه بعض سوء)) (2) .
وإن كان يمكن حمل كلام البخاري على سوء حفظه وفساد ذاكرته، فيكون الجمع أولى.
وقال الحافظ ابن حجر: ((والجرح مقدّم على التعديل وأطلق ذلك جماعة، ولكنّ محله إن صدر مبيناً من عارف بأسبابه؛ لأنه إن كان غير مفسَّر لم يقدح فيمن ثبتت عدالته، وإن صدر من غير عارف بالأسباب، لم يعتبر به أيضاً، فإن خلا المجروح عن التعديل، قبل الجرح فيه، مجملاً غير مبيّن السبب إذا صدر من عارف على المختار؛ لأنّه إذا لم يكن فيه تعديل فهو في حيِّز المجهول، وإعمال قول المجرح أولى من إهماله)) (3) .
(1) المصدر السابق والهدي الساري / 436.
(2)
شرح علل الترمذي (2/877) .
(3)
نزهة النظر / 193.
5-
وقال الحافظ ابن كثير: -بعد ذكره قول ابن الصلاح في تعارض الجرح والتعديل- «والصحيح أن الجرح مقدم مطلقاً إذا كان مفسراً» (1) .
6-
ومن تتمة الأمور المذكورة، أن يعرف الدارس لرجال الإسناد اصطلاحات الأئمة في الجرح والتعديل ومدلول عباراتهم، كما قال الإمام الذهبي: ((ثم نحن نفتقر إلى تحرير عبارات التعديل والجرح، وما بين ذلك من العبارات المتجاذبة، ثم أهمّ من ذلك أن نعلم بالاستقراء التام: عرف ذلك الإمام الجهبذ، واصطلاحه ومقاصده بعباراته الكثيرة .... فمنهم من نفسه حادٌّ في الجرح، ومنهم من هو معتدل، ومنهم من هو متساهل
…
ثم قال ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله تعالى، لم يجتمع علماؤه على ضلالة، لا عمداً ولا خطأ، فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف، ولا على تضعيف ثقة، إنما يقع اختلافهم في مراتب القوة، أو مراتب الضعف
…
)) (2) .
(1) اختصار علوم الحديث مع شرحه الباعث الحثيث (1/289) .
(2)
الموقظة / 82 – 84، والمدخل إلى التخريج / 107.