الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: نشأة علم التخريج وتطوره:
انتقاء الأئمة أحاديث مصنفاتهم من مئات الألوف من الأحاديث:
لا شك أن «علوم الحديث» وبطون الكتب الحديثية حوت أشياء كثيرة في «التخريج» وأصوله.
قال د. بكر أبو زيد: «إن أصوله تستمد منها (أي من علوم الحديث) ومن سائر كتب الحديث وشروحه ورجاله، ولهذا فإن إفراده بالتأليف ليس اختراعاً لعلم جديد، وإنما هو جمع لما هنالك، ولعل هذا هو السبب لدى المتقدمين، ولسبب آخر، وهو أن التخريج لم يكن يمارسه إلاّ الحفاظ الجامعون (1) ....)) .
وزيادة على ذلك أقول: إن علم التخريج وإن لم يكن مدوناً في كتب مستقلة وذلك لمهارتهم وعدم الحاجة إليها لما كانوا يحفظونها، مع حثهم على ذلك، كما ورد عن ابن معين:«إذا كتبت فقمش وإذا حدثت ففتش» ، وما تقدم عن ابن المديني:«الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه» وعن أبي حاتم الرازي: «لو لم نكتب الحديث من ستين وجهاً ما عقلناه» ، ومثله عن ابن معين لكنه بلفظ ثلاثين.
ولذلك نجد الأئمة مثل البخاري ومسلم وأبي داود وغيرهم يصرحون بذلك كما سيأتي.
(1) انظر التأصيل/ 87.
بل المحدِّث عندهم لا يصبح محدِّثًا وعالماً بالحديث وماهراً فيه بصحيحه من سقيمه، وعارفاً بعلله وغير ذلك إلا بعد أن يروي الحديث بوجوه مختلفة وأسانيد متعددة، ومن هنا نرى الإمام البخاري -كما ذكر ابن عدي والخطيب والحازمي والذهبي (1) عنه- يقول:((أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح)) .
وقال أيضاً: ((ما أدخلت في كتابي «الجامع» إلا ما صَحَّ، وتركت من الصحيح خشية أن يطول)) (2) .
وقال أيضاً: ((أحفظ منه – أي من الصحيح – عشر ألف ألف حديث – أي مائة ألف حديث – ومائة ألف حديث غير صحيح)) وذكر السخاوي أنه أراد بلوغ العدد المذكور بالتكرار لها.. فربّ حديث له مائة طريق فأكثر)) (3) .
وذكر الخطيب البغدادي قول البخاري: ((صنفت كتابي الصحاح لست عشرة سنة خرّجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله)) (4) .
وقال أبو محمد السرخسي راوي الصحيح ومن تبعه: ((إن الذي لم يخرجه البخاري من الصحيح أكثر ممّا خرجه)) (5) .
(1) انظر: مقدمة الكامل لابن عديّ (1/140) ، وتاريخ بغداد (2/25) ، وشروط الأئمة الخمسة للحازمي/64 وسير أعلام النبلاء (12/415) .
(2)
المصدر السابق نفسه للذهبي وفتح المغيث للسخاوي (1/45)
(3)
المصدر السابق (1/46) .
(4)
تاريخ بغداد (2/14) .
(5)
فتح المغيث (1/47- 48) .
ولذلك نجد الذين استخرجوا على الصحيحين أتوا بطرق كثيرة زيادة على ما عندهم، وعلى سبيل المثال نذكر ما ذكره ابن حجر وتبعه تلميذه السخاوي عن الجوزقاني:((أنه استخرج على أحاديث الصحيحين حديثاً حديثاً، فكانت عدته خمسة وعشرين ألف طريق وأربعمائة وثمانين طريقاً)) (1) .
وهكذا صرّح مسلم رحمه الله: أن الأحاديث التي لم يخرجها لم يقل عنها إنها ضعيفة، حيث قال:((إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت: هو صحاح، ولم أقل إن ما لم أخرجه من الحديث فيه ضعف)) (2)، وورد عنه قوله:((صنفت هذا الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث)) (3) .
وهكذا صرّح الإمام أبو داود السجستاني كما نقل عنه تلميذه أبو بكر ابن داسة راوي سننه حيث قال: ((سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب، جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يُشْبِهُه ويُقَاربُه
…
)) (4) .
وهكذا الإمام النسائي أبو عبد الرحمن – رحمه الله – ألَّف كتابه «السنن الكبرى» فذكر محمد بن معاوية الأحمر راوي الكتاب عن النسائي قوله: ((كتاب السنن كلّه صحيح وبعضه معلول)) إلاّ أنّه لم يبين علته، والمنتخب
(1) النكت للحافظ ابن حجر (1/297) والمصدر السابق (1/47) .
(2)
فتح المغيث (1/46) .
(3)
تاريخ بغداد (13/101) ، وتذكرة الحفاظ للذهبي (2/589) ، ومقدمة البدر المنير لابن الملقن (1/228) .
(4)
رواه الخطيب بسنده في تاريخ بغداد (9/57) في ترجمة أبي داود وكذا ذكره الحازمي في شروط الأئمة الخمسة/ 72 والذهبي في السير (13/209-210) في ترجمة أبي داود، وكذا السيوطي في البحر الذي زخر شرح ألفية الأثر (3/1129) .
المسمى «بالمجتبى» – «السنن الصغرى» – صحيح (1) كله، وذكر بعضهم أن النسائي لما صنف «السنن الكبرى» أهداه إلى أمير الرّملة، فقال له الأمير: أكل ما في هذا صحيح؟! قال: لا، قال: فجرّد الصحيح منه، فصنف «المجتبى» (2) .
وكان الإمام النسائي للمحدثين مرجعاً في الانتخاب للأحاديث، كما ذكر الذهبي (3) عن مأمون المصري المحدِّث قال:((خرجنا إلى طرسوس مع النسائي سنة الفداء، فاجتمع جماعة من الأئمة: عبد الله بن أحمد بن حنبل، ومحمد بن إبراهيم مُربَّع وأبو الأذان، وكيلَجة (محمد بن صالح أبو بكر الأنماطي) فتشاوروا: من ينتقي لهم على الشيوخ؟ فأجمعوا على أبي عبد الرحمن النسائي، وكتبوا كلهم بانتخابه))
وهذا الذي صنعه الإمام البخاري وغيره هو جزء مهمّ من أسس التخريج وأساس معتمد قويّ ألا وهو جمع الطرق للأحاديث، ثم اختيار الصحيح من بينها وهذا ما فعله الأئمة المشهورون، فالانتخاب أحد معاني التخريج كما تقدم.
وأضرب نموذجاً آخر من هذا القبيل وذلك بمسند الإمام الأجل إمام أهل السنة أحمد بن حنبل حيث شرع في تصنيف «مسنده» منصرفه من عند عبد الرزاق – شيخه – نحو سنة (200هـ) ، وهو في السادسة والثلاثين من
(1) أي عنده.
(2)
انظر: السير للذهبي (14/131) ومقدمة السيوطي والشيخ عابد السندي على النسائي (1/5) .
(3)
سير النبلاء (14/130) .
عمره، انتقاه من أكثر من سبعمائة ألف حديث (1) سمعها في رحلاته، فضمّ نحو ثلاثين ألف حديث (2) يرويها عن مائتين وثلاثة وثمانين شيخاً من شيوخه (3) .
ومن أهم ثمرات التخريج تمييز الصحيح من السقيم والمقبول من المردود وهذا ما حققه عدد من الأئمة، بل كان هدفهم من تأليفهم الذي جعلوه نصب أعينهم هذا الغرض المهم.
ذكر الحافظ ابن حجر (4) ما يشير إلى وجود شعور الإمام البخاري بهذه الحاجة وزاده همّةً بقيام هذه المهمة شيخه الإمام إسحاق بن راهويه حيث قال: لماَّ رأى الإمام البخاري –رحمه الله– هذه المصنفات ورُواءها وانتشق رياها واستجلى محياها، وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل التصحيح والتحسين، والكثير منها يشمله التضعيف، فلا يقال لغثه سمين، فحرّك همته لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أمين، وقوَّى عزمَه على ذلك ما سمعه من أستاذه أمير المؤمنين في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، فيما أخبرنا أبو العباس أحمد بن عمرو ثم ساقه بسنده إلي أبي عبد الله البخاري أنّه قال: «كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فوقع ذلك في قلبي في جمع الجامع الصحيح)) .
(1) خصائص المسند 21، 25 ومقدمة المحققين للمسند (1/60) .
(2)
مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي / 191.
(3)
المصعد الأحمد / 34، ومقدمة المحققين للمسند / 60.
(4)
هَدْي الساري مقدمة فتح الباري /6.
وهكذا أشار مسلم في مقدمة (1) صحيحه مبيناً سبب تأليفه. وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه ((الصحيح)) أول كتاب الوضوء (2) حيث قال: ((مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه من غير قطع في أثناء الإسناد ولا جرح ناقلي الأخبار
…
)) .
وكذا صرّح ابن حبان في مقدمة (3) صحيحه حيث قال: ((وإني لما رأيت الأخبار طُرقها كثرت ومعرفة الناس بالصحيح منها قلّت، لاشتغالهم بِكتْبَةِ الموضوعات، وحفظ الخطأ والمقلوبات، حتى صار الخبر الصحيح مهجورًا لا يكتب، والمنكر المقلوب عزيزاً يستغرب ....
فتدبرت الصحاح لأسهّل حفظها على المتعلمين وأمعنت الفكر فيها لئلا يصعب وعيها على المقتبسين، ثم نملي الأخبار بألفاظ الخطاب، بأشهرها إسناداً وأوثقها عماداً من غير قطع في سندها ولا ثبوت جرح في ناقليها
…
)) .
فبذلك تحقق ركنا التخريج: جمع الطرق، والحكم على الحديث في ضوئها.
(1) انظر (1 / 4) .
(2)
(1/ 3) .
(3)
(1/ 36، 37) من الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، تحقيق يوسف الحوت.