الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني: في اهتمام العلماء بالتخريج زجهودهم في ذلك
مدخل
…
المدخل: بداية الاهتمام بالتخريج بشكل مؤلفات في القرن الرابع فما بعد:
فمن هنا لم يكن العلماء في القرون الذهبية لرواية الحديث وتدوينه بحاجة إلى تخريج الأحاديث والآثار؛ لأنّها كانت تُروى بالأسانيد وهي محفوظة عندهم بطرقها، إمّا في الصدور أو في السّطور، أو فيهما معاً، لكنه لما وجدت بعض الأحاديث بغير أسانيد، كالبلاغات والمعلّقات التي هي في موطأ مالك، أو الأحاديث الواردة في كتب الفقه وغيره بدون إسناد وعزو، قام أئمة بوصلها، وتخريجها كما قال (1) الغماري:((فصنف الحافظ أبو عمر أحمد بن خالد بن يزيد القرطبي المعروف بابن الجبَّاب (ت322هـ) مسند حديث الموطأ)) .
((وصنف الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي الجوهري المصري (ت335هـ)«مسند الموطأ» أيضاً
…
ولما كان هؤلاء متقدمين موجودين في زمن الإسناد والإخراج، جاءت مصنفاتهم جامعةً بين التخريج والإخراج، فمن حيث إنّها مسندة كانت أصولاً يعزى إليها ويخرج منها، ومن حيث إن أصحابها قصدوا وصل ما في مصنفات غيرهم من المراسيل والمعلقات كانت كالتخاريج لتلك المصنفات)) اهـ.
(1) حصول التفريج بأصول التخريج (24- 46) نقلا عن تخريج الحديث الشريف للبقاعي/ 25، ولم أعرف عن الكتابين هل هما موجودان أو مفقودان؟ ولعلّ الغالب أنّه لم يعثر عليهما، والله أعلم.
وعلى هذا الغرار، ما قام به البيهقي (ت458هـ) في تصنيفه كتاباً مستقلاً لتخريج أحاديث كتاب «الأم» للإمام الشافعي (1) .
وكذا يهتم البيهقي في كتابه «السنن الكبرى» وغيره من كتبه بعزو الحديث إلى مصادره الأصلية بعد أن يسوقه بإسناده، فيقول: متفق عليه أو رواه البخاري أو مسلم.
كما قام بعده أبو بكر محمد بن موسى الحازمي (ت584هـ) فخرج أحاديث كتاب «المهذّب» لأبي إسحاق الشيرازي الشافعي (2) .
ومعلوم أنّ الفقهاء المتقدمين غالباً يوردون الأحاديث من غير عزو، ولا بيان الصحيح من الضعيف، فهذا ما جعل العلماء يهتمون بتخريج أحاديث مثل هذه الكتب، كما ذكر الحافظ العراقي في خطبة تخريجه الكبير للإحياء حيث قال:((عادة المتقدمين السكوت عمّا أوردوا من الأحاديث في تصانيفهم، وعدم بيان مَنْ خَرَّجه، وبيان الصحيح من الضعيف إلا نادراً، وإن كانوا أئمة الحديث حتى جاء النووي (ت676هـ)) ) – أي: فبيّن في كتابه المجموع حيث خرّج، وبين درجة الحديث وعلله-.
وقصد الأولين ألا يغفل الناس النظر في كل علم في مظنته، ولهذا مشى الرافعي على طريقة الفقهاء مع كونه أعلم بالحديث من النووي)) (3) .
(1) مخطوطة: المجلد الأول في دار الكتب المصرية برقم 911 وأخرى في جستربيتي، انظر تخريج أحاديث المدونة (1/45) وتحفة الخريج/ 18، وطبع بتحقيق د. خليل ملا خاطر كما أُفدت بذلك.
(2)
انظر: سير النبلاء للذهبي (21/169) والرسالة المستطرفة/ 143، كتابه لم يعثر عليه حتى الآن حسب علمي، والله أعلم.
(3)
انظر: فيض القدير للمناوي (1/21) .
قلت: الصحيح أنّ النووي سُبق في هذا المجال بمن ذكرنا في القرن الرابع والخامس.
ومن هذا نعرف أيضاً أن ما ذهب إليه الدكتور محمود الطحّان في كتابه أصول (1) التخريج بقوله: ((وكان من أوائل تلك الكتب (2) –فيما أعلم– الكتب التي خرّج الخطيب البغدادي (ت463هـ) أحاديثها وأشهرها ((تخريج الفوائد المنتخبة)) و ((الصحاح والغرائب))
…
إلى آخر ما ذكره.
فغير مسلّم له؛ لأن كتبه -أي الخطيب- المخرجة ومنها كتابا «تخريج الفوائد المنتخبة» و «الصحاح والغرائب» لأبي القاسم الحسيني ليسا من كتب التخريج بالمعنى الذي قصده هو، وإنّما التخريج هنا بمعنى الانتخاب والانتقاء (3) .
وحتى التخريج بالمعنى المذكور: أي الانتقاء، ليس الخطيب هو أوّل من صنف فيه، بل سبقه الإمام الدارقطني أبو الحسن علي بن عمر (ت385هـ) ، حيث صنف في تخريج الأفراد والغرائب الحسان، فخرَّج حديث أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي النيسابوري عن شيوخه.
(1) ص 16.
(2)
أي «الكتب التي خرجت أحاديث بعض الكتب المصنفة في غير الحديث وعزت الأحاديث إلى مصادرها الأصلية وذكرت طرقها وتكلموا على بعضها أو كلها بالتصحيح والتضعيف
…
فظهر ما يسمى بكتب التخريج وكان من أوائل تلك الكتب
…
»
(3)
وقد نبّه على ذلك د. بكر أبو زيد في التأصيل/ 90 تعليق 71، ود. علي بقاعي في تخريج الحديث الشريف/ 25-26، ود. عبد الغني أحمد مزهر في تخريج الحديث النبوي/ 24 ص 16.
وكما قام «بتخريج الفوائد المنتقاة» لأبي بكر محمد بن عبيد الله الكاتب الكوفي وله غير ذلك من الفوائد المنتخبة (1) .
بل قد سُبق إلى ذلك بصنيع الأئمة المذكورين في أوّل هذا المبحث وغيرهم.
لاشك أنّ الانتقاء والانتخاب إنما يتم للأسانيد العالية والأحاديث الصحيحة كما ذكر الخطيب فقال: ((ينبغي للمنتخب أن يقصد تخيُّر الأسانيد العالية، والطرق الواضحة، والأحاديث الصحيحة، والروايات المستقيمة، ولا يُذْهب وقته في التُرُّهات من تتبع الأباطيل والموضوعات وتطلُّب الغرائب المنكرات)) (2) .
وممّا يجدر الإشارة إليه هنا أن العلماء قد اهتموا بالتخريج وجمع الطرق، إبان ظهور الكتب الصحيحة، فتزامن هذا الاهتمام مع فترة الانتخاب والانتقاء كما تقدم، فقام أئمة من الحفاظ المحدثين بتصنيف «المستخرجات» فمن أوائل ما وقفنا عليه أنّه استخرج هو الحافظ محمد بن محمد بن رجاء أبو بكر الإسفرائيني
(ت286هـ) حيث استخرج على صحيح مسلم في كتابه المسمى «الصحيح المخرج على صحيح مسلم» (3) .
(1) انظر الجامع لأخلاق الراوي (2/158) ومقدمة د. موفق بن عبد الله للمؤتلف والمختلف للدارقطني
(1/53) والمدخل إلى التخريج للدكتور. عبد الصمد/ 18.
(2)
الجامع لأخلاق الراوي (2/159) .
(3)
ذكره ابن عبد الهادي في طبقات علماء الحديث (2/404) والذهبي في سير النبلاء (13/492) وتذكرة الحفاظ (2/686) .
ثم توالت المؤلفات في «المستخرجات» على الصحيحين أو أحدهما، وبلغ مجموع ما علمناه منها، نحو عشرين كتاباً مستخرجاً عليهما أو على أحدهما ألِّفت في القرن الثالث والرابع والخامس؛ إذ قام بعض الحفاظ بالاستخراج على سنن أبي داود والترمذي في القرن الرابع والخامس (1) .
فهكذا وجد التخريج عند المتقدمين، بمعنى الاستخراج أو الانتخاب والانتقاء في القرن الثالث الهجري واستمر إلى القرن الخامس الهجري.
وبجانب هذا ظهرت كتب في فنّ التخريج مستقلة في القرن الرابع (2) ، كما تقدم ذكر بعضها، واستمر التأليف بعد ذلك في التخريج إلى يومنا هذا، وما زال مستمراً إلى الآن في الكتب التي بحاجة إلى التخريج. وقبل أن أنتقل إلى بيان كتب التخريج وسردها، أريد أن أنبّه على ما ذكره الدكتور عبد الموجود في كتابه «كشف اللثام
…
» (3) وتبعه د. عبد الصمد بكر عابد في كتابه «المدخل إلى تخريج الأحاديث
…
» (4) .
حيث يقول د. عبد الموجود: ((وكانت أولى المحاولات لوضع ضوابط لهذا العلم –حسبما توصلت إليه– هي ما قام به ذلك الحافظ الفذّ أبو عيسى محمد
(1) انظر لكتب " المستخرجات ":مقدمة د. أنيس بن أحمد الأندونوسي لكتاب مستخرج الطوسي على سنن الترمذي (1/103 – 128) .
(2)
انظر: كشف اللثام (1/67) .
(3)
(1/42، 43) .
(4)
ص 16، 17.
ابن عيسى بن سورة الإمام الترمذي (ت279هـ) حيث استخدم ولأوّل مرة طريقة عزو أحاديث الباب إلى عدد من الرّواة، فيذكر بعد إيراد الأحاديث في الباب، وفي الباب عن فلان، عن فلان)) .
وذكر د. عبد الصمد بقوله: ((ولعلّ أول من يمكن أن ننسب إليه نشأة هذا العلم وتأسيسه هو: الإمام أبو عيسى الترمذي في كتابه «الجامع» حيث يقول عقب الأحاديث التي يوردها وفي الباب عن فلان وعن فلان
…
، فصنيعه بالنسبة لذلك الوقت يُعد تخريجاً
…
ونسبنا إليه نشأة هذا العلم مع وجوده في كلام الأئمة السابقين له وفي وقته؛ لأنّه هو الذي التزم به كمنهج اتبعه في كتاب يُروى عنه، فكان بزوغ فجر التخريج – في اعتبارنا – على يديه رحمه الله) .
فأقول: إنّ ما يذكره الترمذي، وفي الباب عن فلان وعن فلان، ليس إلاّ مفتاحاً للتخريج ونواة أوّلية، ولا يُعدّ محاولة لوضع ضوابط لهذا العلم، كما ذكر د. عبد الموجود، ولا أول مؤسس ومنشئ لعلم التخريج لا على طريقة المتقدمين ولا على طريقة المتأخرين كما هو معلوم، بل يتطلب ما ذكره أولا البحث عن متن حديث الصحابي ثم عن إسناده ومن خرّجه، فكل هذه الأمور، بجانب جمع طرقه والوصول إلى حكمه يُسمّى تخريجاً، وليس مجرد القول: عن فلان يقال له التخريج، والله أعلم.
بعد هذا العرض حول نشأة التخريج وتطوره أشرع في اهتمام العلماء في خدمة السنة النبوية عن طريق التخريج ودراسة الأسانيد والبحث عن اختيار الصحيح وهجر الضعيف وبيان ذلك، فنرى من هذا الجانب أنّ كتب التخريج التي وضعها العلماء تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: كتب اعتنت بتخريج الأحاديث الواقعة في كلام بعض المصنفين من أهل الفنون المختلفة، سواء في العقائد، أو التفسير، أو الفقه وأصوله وغير ذلك.
القسم الثاني: كتب اعتنى أصحابها – بدون تقيّد بكتاب معيّن– بتخريج الأحاديث عامة إمّا مقيداً بموضوع معين، ككتب أحاديث الأحكام، أو بدون تقييد بموضوع معين، وسأتناول ذلك في فصلين إن شاء الله تعالى.