المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم بالله، وأن المعرفة فعل القلب لقول الله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} ) - عمدة القاري شرح صحيح البخاري - جـ ١

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌(كتاب الْإِيمَان)

- ‌(بَاب الْإِيمَان وَقَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم بني الْإِسْلَام على خمس)

- ‌(بَاب دعاؤكم إيمَانكُمْ)

- ‌(بَاب أُمُورِ الإِيمَانِ)

- ‌(بَاب المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)

- ‌(بَاب أيُّ الإِسْلَام أفْضَلُ)

- ‌(بَاب إطْعَامُ الطَّعَامِ مِنَ الإِسْلَامِ)

- ‌(بَاب مِنَ الإِيمَانِ أنْ يُحِبَّ لإِخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)

- ‌(بَاب حُبُّ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الإِيمَانِ)

- ‌(بَاب حَلَاوَةِ الإِيمَانِ)

- ‌(بَاب عَلَامَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الانْصَارِ)

- ‌(بَاب)

- ‌(بَاب مِنَ الدِّينِ الفِرَارُ مِنَ الفِتَنِ)

- ‌(بَاب قَوْلِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّه، وأنَّ المَعْرِفَةَ فِعْلُ القَلْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ولَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} )

- ‌(بَاب مَنْ كَرِهَ أنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَن يُلْقَى فِي النارِ مِن الإِيمانِ)

- ‌(بابُ تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمانِ فِي الأَعْمَالِ)

- ‌(بَاب الحَياءُ مِنَ الإيمانِ)

- ‌(بَاب {فَإِن تَابُوا وَأقَامُوا الصَّلَاةَ وآتُوا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} )

- ‌(بابُ مَنْ قَالَ: إنّ الإيمَانَ هُوَ العَمَلُ لقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} )

- ‌(بابُ إذَا لَمْ يَكُنِ الإسْلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وكانَ عَلَى الإستسْلَامِ أَو الْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالىَ {قَالَتِ الَاعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنَا} فَاذَا كانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهْوَ

- ‌(بابُ إفْشاءُ السَّلَامِ مِنَ الإسْلَامِ)

- ‌(بابُ كُفْرَانِ العَشِيرِ وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ)

- ‌(بَاب المَعَاصِي مِنْ أمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكابِهَا إلَاّ بِالشِّرْكِ لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جاهِليَّةٌ وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إنّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ

- ‌(بَاب {وإنْ طَائِفَتَانِ مِنْ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَسَمَّاهُمُ المُؤْمِنِينَ} )

- ‌(بَاب ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ)

- ‌(بابُ عَلَاماتِ المُنَافِقِ)

- ‌(بابُ قِيامُ لَيْلَةِ القَدْرِ مِنَ الإيمانِ)

- ‌(بابٌ الْجِهادُ مِنَ الإيمانِ)

- ‌(بابٌ تَطَوُّعُ قِيام رَمَضَانَ مِنَ الْإِيمَان)

- ‌(بابٌ صَوْمُ رَمَضانَ احْتِسابا مِنَ الإيمانِ)

- ‌(بابٌ الدِّينُ يُسْرٌ)

- ‌(بابٌ الصَّلاةُ مِنَ الإيمانِ)

- ‌(بابُ حُسْنِ إسْلَامِ المَرْء)

- ‌(بَاب أحَبُّ الدِّينِ إلَى اللَّهِ أدْوَمُهُ)

- ‌(بابُ زِيَادَةِ الإيمَانِ ونُقْصَانِهِ)

- ‌(قَالَ أَبُو عبد الله قَالَ أبان حَدثنَا قَتَادَة حَدثنَا أنس عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم " عَن إِيمَان " مَكَان " من خير

- ‌(بَاب الزَّكاةُ مِنَ الإسْلَامِ)

- ‌(بابُ اتِّبَاعُ الْجَنائِزِ مِنَ الإِيمَان)

- ‌(بابُ خَوْفِ ألمُؤمِنِ مِنْ أنْ يَحْبَطَ عَملُهُ لَا يَشْعُرُ)

- ‌{بَاب سُؤال جِبْريلَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عنِ الإيمانِ والإسْلامِ والإحْسانِ وعِلْمِ السَّاعةِ} )

- ‌(قَالَ أَبُو عبد الله جعل ذَلِك كُله من الْإِيمَان)

- ‌(بَاب)

- ‌(بابُ فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرأَ لِدِينِهِ)

- ‌(بَاب أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنَ الإيمانِ)

- ‌(بَاب مَا جاءَ أنّ الأعْمَال بالنِّيَّةِ والحِسْبَةِ ولِكُلِّ امرِىء مَا نَوَى)

- ‌(بَاب قَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الدِّينُ النَّصِيحَةُ للَّهِ ولِرَسُولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ

الفصل: ‌(باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم بالله، وأن المعرفة فعل القلب لقول الله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} )

(الأسئلة والأجوبة) . مِنْهَا مَا قيل: لِمَ قيد بالغنم؟ وَأجِيب: بِأَن هَذَا النَّوْع من المَال نموه وزيادته أبعد من الشوائب الْمُحرمَة كالربا والشبهات الْمَكْرُوهَة، وخصت الْغنم بذلك لما فِيهَا من السكينَة وَالْبركَة، وَقد رعاها الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَعَ أَنَّهَا سهلة الانقياد خَفِيفَة المؤونة كَثِيرَة النَّفْع. وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ قيد الِاتِّبَاع بالمواضع الخالية مثل شعف الْجبَال وَنَحْوهَا؟ وَأجِيب: بِأَنَّهَا أسلم غَالِبا من المعادلات المؤدية إِلَى الكدورات. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا وَجه كَون الْغنم خير مَال الْمُسلم؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لما كَانَ فِيهَا الْجمع بَين الرِّفْق وَالرِّبْح وصيانة الدّين، كَانَت خير الْأَمْوَال الَّتِي يعْنى بهَا الْمُسلم، وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ قيد الِاتِّبَاع الْمَذْكُور بقوله: (يفر بِدِينِهِ) من الْفِتَن وَأجِيب: للإشعار بِأَن هَذَا الِاتِّبَاع يَنْبَغِي أَن يكون استعصاماً للدّين لَا لِلْأَمْرِ الدنيوي كَطَلَب كَثْرَة الْعلف وَقلة أطماع النَّاس فِيهِ. وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ يجمع بَين مُقْتَضى هَذَا الحَدِيث من اخْتِيَار الْعُزْلَة، وَبَين مَا ندب إِلَيْهِ الشَّارِع من اخْتِلَاط أهل الْمحلة لإِقَامَة الْجَمَاعَة، وَأهل السوَاد مَعَ أهل الْبَلدة للعيد وَالْجُمُعَة، وَأهل الْآفَاق لوقوف عَرَفَة؟ وَفِي الْجُمْلَة اهتمام الشَّارِع بالاجتماع مَعْلُوم، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء: يجوز نقل اللَّقِيط من الْبَادِيَة إِلَى الْقرْيَة وَمن الْقرْيَة إِلَى الْبَلَد لاعكسهما؛ وَأجِيب: بِأَن ذَلِك عِنْد عدم الْفِتْنَة وَعدم وُقُوعه فِي الْمعاصِي وَعند الِاجْتِمَاع بالجلساء الصلحاء، وَأما اتِّبَاع الشعف والمقاطر وَطلب الْخلْوَة والانقطاع إِنَّمَا هُوَ فِي أضداد هَذِه الْحَالَات.

13 -

(بَاب قَوْلِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّه، وأنَّ المَعْرِفَةَ فِعْلُ القَلْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ولَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} )

أَي: هَذَا بَاب قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَالْإِضَافَة هَهُنَا متعينة. وَقَوله:(أَنا أعلمكُم بِاللَّه) مقول القَوْل، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَهُوَ لفظ الحَدِيث الَّذِي أوردهُ فِي جَمِيع طرقه، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: أعرفكُم، فَعَن قريب يَأْتِي الْفرق بَين الْمعرفَة وَالْعلم.

وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ: أَن الْبَاب الأول يبين فِيهِ أَن من الدّين الْفِرَار من الْفِتَن، وَهَذَا لَا يكون إلَاّ على قدر قُوَّة دين الرجل حَيْثُ يحفظ دينه ويعتزل النَّاس خوفًا من الْفِتَن، وَقُوَّة الدّين تدل على قُوَّة الْمعرفَة بِاللَّه تَعَالَى، فَكلما كَانَ الرجل أقوى فِي دينه كَانَ أقوى فِي معرفَة ربه، وَمن هَذَا الْبَاب يبين أَن أعرف النَّاس بِاللَّه تَعَالَى هُوَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَلَا جرم هُوَ أقوى دينا من الْكل. وَبَقِي الْكَلَام هَهُنَا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. الأول: أَن هَذَا كتاب الْإِيمَان، فَمَا وَجه تعلق هَذِه التَّرْجَمَة بِالْإِيمَان. وَالثَّانِي: مَا مُنَاسبَة قَوْله: (وَأَن الْمعرفَة فعل الْقلب) بِمَا قبله، وَلَا تعلق للْحَدِيث بِهِ أصلا وَلَا دلَالَة لَهُ عَلَيْهِ لَا عقلا وَلَا وضعا. وَالثَّالِث: مَا مُنَاسبَة ذكر قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} (الْبَقَرَة: 225) هَهُنَا فَلَا تعلق لَهُ بِالْإِيمَان لِأَنَّهُ فِي الْإِيمَان، وَلَا تعلق لَهُ بِالْبَابِ أَيْضا. قلت: أما وَجه الأول: فَهُوَ أَن الْمعرفَة بِاللَّه تَعَالَى وَالْعلم بِهِ من الْإِيمَان، فحينئذٍ دخل فِي كتاب الْإِيمَان، وَفِيه رد على الكرامية لأَنهم يَقُولُونَ: إِن الْإِيمَان مُجَرّد الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، وَزَعَمُوا أَن الْمُنَافِق مُؤمن فِي الظَّاهِر وَكَافِر فِي السريرة، فَيثبت لَهُ حكم الْمُؤمنِينَ فِي الدُّنْيَا وَحكم الْكَافرين فِي الْآخِرَة، وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِالرَّدِّ عَلَيْهِم: بِأَن الْإِيمَان، هُوَ أَو بعضه، فعل الْقلب بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور. وَأما وَجه الثَّانِي: فَهُوَ أَن الصَّحَابَة رضي الله عنهم، لما أَرَادوا أَن يزِيدُوا أَعْمَالهم على عمل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُم: لَا يتهيأ لكم لِأَنِّي أعلمكُم، وَالْعلم من جملَة الْأَفْعَال، بل من أشرفها لِأَنَّهُ عمل الْقلب، فَنَاسَبَ قَوْله:(وَأَن الْمعرفَة فعل الْقلب) بِمَا قبله. وَأما وَجه الثَّالِث: فَهُوَ أَنه أَرَادَ أَن يسْتَدلّ بِالْآيَةِ على أَن الْإِيمَان بالْقَوْل وَحده لَا يتم، وَلَا بُد من انضمام العقيدة إِلَيْهِ، وَلَا شكّ أَن الِاعْتِقَاد فعل الْقلب فَهُوَ مُنَاسِب لقَوْله:(وَأَن الْمعرفَة فعل الْقلب) . وَلَا يضر استدلاله كَون مورد الْآيَة فِي الْأَيْمَان بِالْفَتْح، لِأَن مدَار الْعلم فِيهَا أَيْضا على عمل الْقلب، فنبه البُخَارِيّ هَهُنَا على شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: الرَّد على الكرامية الَّذِي هُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ بِالْوَجْهِ الَّذِي ذكرنَا وَالْآخر: الدَّلِيل على زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه على مُقْتَضى مذْهبه، لِأَن قَوْله صلى الله عليه وسلم:(أَنا أعلمكُم بِاللَّه) يدل ظَاهرا على أَن النَّاس متفاوتون فى معرفَة الله تَعَالَى، وَأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم هُوَ أعلمهم، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون الْإِيمَان قَابلا للزِّيَادَة وَالنُّقْصَان. قَوْله:(وَأَن الْمعرفَة) بِفَتْح الْهمزَة عطفا على القَوْل لَا على الْمَقُول، وإلَاّ لَكَانَ تَكْرَارا، إِذْ الْمَقُول وَمَا عطف عَلَيْهِ حكمهمَا وَاحِد، وَيجوز كسر: إِن وَيكون كلَاما مستأنفاً، قَوْله:(لقَوْل الله تَعَالَى) اسْتِدْلَال

ص: 164

بِهَذِهِ الْآيَة على أَن الْإِيمَان بالْقَوْل وَحده لَا يتم. قَوْله: (بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ) أَي: بِمَا عزمت عَلَيْهِ قُلُوبكُمْ وقصدتموه، إِذْ كسب الْقلب عزمه وَنِيَّته، وَفِي الْآيَة دَلِيل لما عَلَيْهِ الْجُمْهُور، أَن أَفعَال الْقُلُوب إِذا اسْتَقَرَّتْ يُؤَاخذ بهَا، وَقَوله عليه السلام:(إِن الله تجَاوز لأمتي مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم يتكلموا أَو يعملوا بِهِ) ، مَحْمُول على مَا إِذا لم يسْتَقرّ، وَذَلِكَ مَعْفُو عَنهُ بِلَا شكّ، لِأَنَّهُ لَا يُمكن الانفكاك عَنهُ بِخِلَاف الِاسْتِقْرَار. فَإِن قلت: مَا حَقِيقَة الْمعرفَة؟ قلت: فِي اللُّغَة الْمعرفَة: مصدر عَرفته أعرفهُ، وَكَذَلِكَ الْعرْفَان، وَأما فِي اصْطِلَاح أهل الْكَلَام فَهِيَ معرفَة الله تَعَالَى بِلَا كَيفَ وَلَا تَشْبِيه. وَالْفرق بَينهمَا وَبَين الْعلم: أَن الْمعرفَة عبارَة عَن الْإِدْرَاك الجزئي، وَالْعلم عَن الْإِدْرَاك الْكُلِّي. وَبِعِبَارَة أُخْرَى: الْعلم إِدْرَاك المركبات، والمعرفة إِدْرَاك البسائط وَهَذَا مُنَاسِب لما يَقُوله أهل اللُّغَة من: أَن الْعلم يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، والمعرفة إِلَى مفعول وَاحِد. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: أجمع الْعلمَاء على وجوب معرفَة الله تَعَالَى، وَقد اسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى:{فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إلَاّ الله} (مُحَمَّد: 19) وَاخْتلف فِي أول وَاجِب على الْمُكَلف، فَقيل: معرفَة الله تَعَالَى، وَقيل: النّظر، وَقيل: الْقَصْد إِلَى النّظر الصَّحِيح. وَقَالَ الإِمَام: الَّذِي أرَاهُ أَنه لَا اخْتِلَاف بَينهمَا، فَإِن أول وَاجِب خطابا ومقصوداً: الْمعرفَة، وَأول وَاجِب اشتغالاً واداءً: الْقَصْد فَإِن مَا لَا يتَوَصَّل إِلَى الْوَاجِب إلَاّ بِهِ فَهُوَ وَاجِب، وَلَا يتَوَصَّل إِلَى المعارف إلَاّ بِالْقَصْدِ.

20 -

حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلَامٍ قَالَ أخْبَرَنَا عَبْدَةُ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ قالتْ كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَرَهُمْ أمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِما يُطِيقُونَ قَالُوا إنَّا لسْنَا كَهْيَئتِكَ يَا رسولَ اللَّهِ إنّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ فَيَغْضَبُ حَتى يُعْرَفَ الغَضَبُ فِي وجْهِهِ ثمَّ يَقُولُ إنَّ أَتْقاكُمْ وأَعْلَمَكُمْ باللَّهِ أَنَا.

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِنَّهَا جُزْء مِنْهُ.

(بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سَلام بن الْفرج السّلمِيّ، مَوْلَاهُم، البُخَارِيّ البيكندي، سمع ابْن عُيَيْنَة وَابْن الْمُبَارك وَغَيرهمَا من الْأَعْلَام، وَعنهُ الْأَعْلَام الْحفاظ: كالبخاري وَنَحْوه، انفق فِي الْعلم أَرْبَعِينَ ألفا، وَمثلهَا فِي نشره، وَيُقَال: إِن الْجِنّ كَانَت تحضر مَجْلِسه، وَقَالَ: أدْركْت مَالِكًا وَلم أسمع مِنْهُ، وَكَانَ أَحْمد يعظمه، وَعنهُ أحفظ أَكثر من خَمْسَة آلَاف حَدِيث كذب، وَله رحْلَة ومصنفات فِي أَبْوَاب من الْعلم، وانكسر قلمه فِي مجْلِس شيخ فَأمر أَن يُنَادى: قلم بِدِينَار، فطارت إِلَيْهِ الأقلام، توفّي سنة خمس وَعشْرين ومائيتن، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِهِ عَن الْكتب السِّتَّة. ثمَّ اعْلَم أَن: سَلاما، وَالِد مُحَمَّد الْمَذْكُور بِالتَّخْفِيفِ على الصَّوَاب، وَبِه قطع الْمُحَقِّقُونَ، مِنْهُم: الْخَطِيب وَابْن مَاكُولَا، وَهُوَ مَا ذكره غبخار فِي (تَارِيخ بخاري) ، وَهُوَ أعلم ببلاده، وَحَكَاهُ أَيْضا عَنهُ فَقَالَ: قَالَ سهل بن المتَوَكل: سَمِعت مُحَمَّد بن سَلام يَقُول: أَنا مُحَمَّد بن سَلام، بِالتَّخْفِيفِ، وَلست بِمُحَمد بن سَلام، وَذكر بعض الْحفاظ أَن تشديده لحن، وَأما صَاحب (الْمطَالع) فَادّعى أَن التَّشْدِيد رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَلَعَلَّه أَرَادَ أَكثر شُيُوخ بَلَده. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا يُوَافق على هَذِه الدَّعْوَى، فَإِنَّهَا مُخَالفَة للمشهور. الثَّانِي: أَبُو مُحَمَّد عَبدة، بِسُكُون الْبَاء، ابْن سُلَيْمَان بن حَاجِب بن زُرَارَة بن عبد الرَّحْمَن بن صرد بن سمير بن مليك بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب الْكلابِي الْكُوفِي، هَكَذَا نسبه مُحَمَّد بن سعد فِي (الطَّبَقَات)، وَقيل: اسْمه عبد الرَّحْمَن، وَعَبدَة لقبه، سمع جمَاعَة من التَّابِعين، مِنْهُم: هِشَام وَالْأَعْمَش، وَعنهُ الْأَعْلَام: أَحْمد وَغَيره. قَالَ أَحْمد: ثِقَة ثِقَة وَزِيَادَة مَعَ صَلَاح، وَقَالَ الْعجلِيّ: ثِقَة رجل صَالح صَاحب قُرْآن، توفّي بِالْكُوفَةِ فِي جُمَادَى، وَقيل: فِي رَجَب سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة؛ قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقَالَ البُخَارِيّ: سنة سبع، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبُو عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة رضي الله عنها، وَقد ذكرُوا فِي بَاب الْوَحْي.

(بَيَان الْأَنْسَاب) السّلمِيّ، بِضَم السِّين وَفتح اللَّام، فِي قيس غيلَان، وَفِي الأزد، فَالَّذِي فِي قيس غيلَان: سليم بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن حَفْصَة بن قيس بن غيلَان، وَالَّذِي فِي الأزد: سليم بن بهم بن غنم بن دوس، وَهُوَ من شَاذ النّسَب، وَقِيَاسه: سليمي. البُخَارِيّ: نِسْبَة إِلَى بُخَارى، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، مَدِينَة مَشْهُورَة بِمَا وَرَاء النَّهر، خرجت مِنْهَا

ص: 165

الْعلمَاء والصلحاء، ويشتمل على بُخَارى وعَلى قراها ومزارعها سور وَاحِد نَحْو اثْنَي عشر فرسخاً، فِي مثلهَا، وَقَالَ ابْن حوقل: ورساتيق بُخَارى تزيد على خَمْسَة عشر رستاقاً، جَمِيعهَا دَاخل الْحَائِط الْمَبْنِيّ على بلادها، وَلها خَارج الْحَائِط أَيْضا عدَّة مدن مِنْهَا: فربر وَغَيرهَا. البيكندي: بباء مُوَحدَة مكسوة ثمَّ يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة ثمَّ كَاف مَفْتُوحَة ثمَّ نون سَاكِنة، نِسْبَة إِلَى بيكند، بَلْدَة من بِلَاد بُخَارى على مرحلة مِنْهَا، خربَتْ، وَيُقَال: الباكندي أَيْضا، وَيُقَال بِالْفَاءِ أَيْضا: الفاكندي، وينسب إِلَيْهَا ثَلَاثَة أنفس انْفَرد البُخَارِيّ بهم، أحدهم: مُحَمَّد بن سَلام الْمَذْكُور، وثانيهم: مُحَمَّد بن يُوسُف، وثالثهم: يحيى بن جَعْفَر الْكلابِي فِي قيس غيلَان ينْسب إِلَى: كلاب بن ربيعَة بن عَامر بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوزان بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن حَفْصَة بن قيس بن غيلَان.

(بَيَان لطائف أسناده) : مِنْهَا: أَن فِيهِ تحديثاً وإخباراً وعنعنة، والإخبار فِي قَوْله: أخبرنَا عُبَيْدَة بن سُلَيْمَان، وفى رِوَايَة الْأصيلِيّ، حَدثنَا. وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده مُشْتَمل على: بخاري وكوفي ومدني، وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء.

(بَيَان من أخرجه) هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن مُسلم، وَهُوَ من غرائب الصَّحِيح، لَا يعرف إلَاّ من هَذَا الْوَجْه، وَهُوَ مَشْهُور عَن هِشَام، فَرد مُطلق من حَدِيثه، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة.

(بَيَان اللُّغَات) قَوْله: (بِمَا يُطِيقُونَ) من: أطَاق يُطيق إطاقة، وطوقتك الشَّيْء أَي: كلفتك بِهِ. قَوْله (كهيئتك) الْهَيْئَة الْحَالة وَالصُّورَة، وَفِي (الْعباب) الْهَيْئَة الشاردة، وَفُلَان حسن الْهَيْئَة، والهيئة بِالْفَتْح وَالْكَسْر، والهيء على فيعل: الْحسن الْهَيْئَة من كل شَيْء يُقَال: هَاء يهاء هَيْئَة. قَوْله: (إِن الله قد غفر) الغفر فِي اللُّغَة السّتْر. وَفِي (الْعباب) : الغفر التغطية، والغفر والغفران وَالْمَغْفِرَة وَاحِد، ومغفرة الله لعَبْدِهِ إلباسه إِيَّاه الْعَفو، وَستر ذنُوبه. قَوْله:(فيغضب) من غضب عَلَيْهِ غَضبا ومغضبة أَي: سخط، وَقَالَ ابْن عَرَفَة الْغَضَب من المخلوقين شَيْء يداخل قُلُوبهم، وَيكون مِنْهُ مَحْمُود ومذموم، والمذموم مَا كَانَ فِي غير الْحق، وَأما غضب الله تَعَالَى فَهُوَ إِنْكَاره على من عَصَاهُ فيعاقبه. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رحمه الله: إِن الله يغْضب ويرضى لَا كَأحد من الورى، قَالَ فِي (الْعباب) : وأصل التَّرْكِيب يدل على شدَّة وَقُوَّة.

(بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله: (رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اسْم كَانَ، وَخَبره قَوْله: إِذا أَمرهم، قَوْله: (قَالُوا) جَوَاب: إِذا، قَوْله:(لسنا كهيئتك) ، لَيْسَ المُرَاد نفي تَشْبِيه ذواتهم بحالته عليه الصلاة والسلام، فَلَا بُد من تَأْوِيل فِي أحد الطَّرفَيْنِ، فَقيل: المُرَاد كهيئتك: كمثلك، أَي: كذاتك، أَو: كنفسك، وَزيد لفظ الْهَيْئَة للتَّأْكِيد، نَحْو: مثلك لَا يبخل أَو التَّقْدِير فِي لسنا: لَيْسَ حَالنَا، فَحذف الْحَال وأقيم الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه، واتصل الْفِعْل بالضمير فَقيل: لسنا، فالنون اسْم لَيْسَ، وَخَبره قَوْله: كهيئتك، قَوْله:(مَا تقدم) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول غفر، وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة وَقَوله:(وَمَا تَأَخّر) عطف عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِير: وَمَا تَأَخّر من ذَنْبك. قَوْله: (فيغضب) على صُورَة الْمُضَارع، فَهُوَ وَإِن كَانَ بِلَفْظ الْمُضَارع وَلَكِن الْمَقْصُود حِكَايَة الْحَال الْمَاضِيَة، واستحضار تِلْكَ الصُّورَة الْوَاقِعَة للحاضرين، وَفِي أَكثر النّسخ: فَغَضب، بِلَفْظ الْمَاضِي، قَوْله:(حَتَّى يعرف الْغَضَب) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالْغَضَب مَرْفُوع بِهِ، وَإِمَّا يعرف فَإِنَّهُ مَنْصُوب بِتَقْدِير: أَن، أَي: حَتَّى أَن يعرف الْغَضَب، وَالنّصب هُوَ الرِّوَايَة، وَيجوز فِيهِ الرّفْع بِأَن يكون عطفا على: فيغضب، فَافْهَم. قَوْله:(إِن أَتْقَاكُم) أَي: أَكْثَرَكُم تقوى وخشية من الله تَعَالَى، واتقاكم: اسْم إِن، و: أعلمكُم، عطف عَلَيْهِ، وَقَوله: أَنا، خَبره، وَفِي كتاب أبي نعيم:(وَأعْلمكُمْ بِاللَّه لأَنا) بِزِيَادَة لَام التَّأْكِيد.

(بَيَان الْمعَانِي) : قَوْله: (إِذا أَمرهم من الْأَعْمَال) أَي: إِذا أَمر النَّاس بِعَمَل أَمرهم بِمَا يُطِيقُونَ ظَاهره أَنه كَانَ يكلفهم بِمَا يُطَاق فعله، لَكِن السِّيَاق دلّ على أَن المُرَاد أَنه يكلفهم بِمَا يُطَاق الدَّوَام على فعله، وَوَقع فِي مُعظم الرِّوَايَات:(كَانَ إِذا أَمرهم أَمرهم من الْأَعْمَال) بتكرار أَمرهم، وَفِي بَعْضهَا أَمرهم مرّة وَاحِدَة، وَهُوَ الَّذِي وَقع فِي طرق هَذَا الحَدِيث من طَرِيق عَبدة، وَكَذَا من طَرِيق ابْن نمير وَغَيره، عَن هِشَام عِنْد أَحْمد، وَكَذَا ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة أبي أُسَامَة، عَن هِشَام وَلَفظه:(كَانَ إِذا أَمر النَّاس بالشَّيْء قَالُوا)، وَالْمعْنَى على التكرير: كَانَ إِذا أَمرهم بِعَمَل من الْأَعْمَال أَمرهم بِمَا يُطِيقُونَ الدَّوَام عَلَيْهِ، فَأَمرهمْ: الثَّانِي يكون جَوَاب الشَّرْط. فَإِن قلت: فعلى هَذَا مَا يكون قَوْله: قَالُوا؟ قلت: يكون جَوَابا ثَانِيًا. قَوْله

ص: 166