المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(باب ظلم دون ظلم) - عمدة القاري شرح صحيح البخاري - جـ ١

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌(كتاب الْإِيمَان)

- ‌(بَاب الْإِيمَان وَقَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم بني الْإِسْلَام على خمس)

- ‌(بَاب دعاؤكم إيمَانكُمْ)

- ‌(بَاب أُمُورِ الإِيمَانِ)

- ‌(بَاب المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)

- ‌(بَاب أيُّ الإِسْلَام أفْضَلُ)

- ‌(بَاب إطْعَامُ الطَّعَامِ مِنَ الإِسْلَامِ)

- ‌(بَاب مِنَ الإِيمَانِ أنْ يُحِبَّ لإِخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)

- ‌(بَاب حُبُّ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الإِيمَانِ)

- ‌(بَاب حَلَاوَةِ الإِيمَانِ)

- ‌(بَاب عَلَامَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الانْصَارِ)

- ‌(بَاب)

- ‌(بَاب مِنَ الدِّينِ الفِرَارُ مِنَ الفِتَنِ)

- ‌(بَاب قَوْلِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّه، وأنَّ المَعْرِفَةَ فِعْلُ القَلْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ولَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} )

- ‌(بَاب مَنْ كَرِهَ أنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَن يُلْقَى فِي النارِ مِن الإِيمانِ)

- ‌(بابُ تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمانِ فِي الأَعْمَالِ)

- ‌(بَاب الحَياءُ مِنَ الإيمانِ)

- ‌(بَاب {فَإِن تَابُوا وَأقَامُوا الصَّلَاةَ وآتُوا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} )

- ‌(بابُ مَنْ قَالَ: إنّ الإيمَانَ هُوَ العَمَلُ لقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} )

- ‌(بابُ إذَا لَمْ يَكُنِ الإسْلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وكانَ عَلَى الإستسْلَامِ أَو الْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالىَ {قَالَتِ الَاعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنَا} فَاذَا كانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهْوَ

- ‌(بابُ إفْشاءُ السَّلَامِ مِنَ الإسْلَامِ)

- ‌(بابُ كُفْرَانِ العَشِيرِ وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ)

- ‌(بَاب المَعَاصِي مِنْ أمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكابِهَا إلَاّ بِالشِّرْكِ لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جاهِليَّةٌ وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إنّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ

- ‌(بَاب {وإنْ طَائِفَتَانِ مِنْ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَسَمَّاهُمُ المُؤْمِنِينَ} )

- ‌(بَاب ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ)

- ‌(بابُ عَلَاماتِ المُنَافِقِ)

- ‌(بابُ قِيامُ لَيْلَةِ القَدْرِ مِنَ الإيمانِ)

- ‌(بابٌ الْجِهادُ مِنَ الإيمانِ)

- ‌(بابٌ تَطَوُّعُ قِيام رَمَضَانَ مِنَ الْإِيمَان)

- ‌(بابٌ صَوْمُ رَمَضانَ احْتِسابا مِنَ الإيمانِ)

- ‌(بابٌ الدِّينُ يُسْرٌ)

- ‌(بابٌ الصَّلاةُ مِنَ الإيمانِ)

- ‌(بابُ حُسْنِ إسْلَامِ المَرْء)

- ‌(بَاب أحَبُّ الدِّينِ إلَى اللَّهِ أدْوَمُهُ)

- ‌(بابُ زِيَادَةِ الإيمَانِ ونُقْصَانِهِ)

- ‌(قَالَ أَبُو عبد الله قَالَ أبان حَدثنَا قَتَادَة حَدثنَا أنس عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم " عَن إِيمَان " مَكَان " من خير

- ‌(بَاب الزَّكاةُ مِنَ الإسْلَامِ)

- ‌(بابُ اتِّبَاعُ الْجَنائِزِ مِنَ الإِيمَان)

- ‌(بابُ خَوْفِ ألمُؤمِنِ مِنْ أنْ يَحْبَطَ عَملُهُ لَا يَشْعُرُ)

- ‌{بَاب سُؤال جِبْريلَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عنِ الإيمانِ والإسْلامِ والإحْسانِ وعِلْمِ السَّاعةِ} )

- ‌(قَالَ أَبُو عبد الله جعل ذَلِك كُله من الْإِيمَان)

- ‌(بَاب)

- ‌(بابُ فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرأَ لِدِينِهِ)

- ‌(بَاب أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنَ الإيمانِ)

- ‌(بَاب مَا جاءَ أنّ الأعْمَال بالنِّيَّةِ والحِسْبَةِ ولِكُلِّ امرِىء مَا نَوَى)

- ‌(بَاب قَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الدِّينُ النَّصِيحَةُ للَّهِ ولِرَسُولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ

الفصل: ‌(باب ظلم دون ظلم)

قَالُوا بِوُجُوب الْعقَاب للعاصي وَأجِيب: بِالْمَنْعِ لِأَن مَعْنَاهُ: حَقّهمَا أَن يَكُونَا فِي النَّار، وَقد يعْفُو الله عَنهُ، وَقد مر تَحْقِيقه عَن قريب. وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ أَدخل الْحِرْص على الْقَتْل وَهُوَ صَغِيرَة فِي سلك الْقَتْل وَهُوَ كَبِيرَة؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ أدخلهما فِي سلك وَاحِد فِي مُجَرّد كَونهمَا سَببا لدُخُول النَّار فَقَط، وَإِن تَفَاوتا صغرا وكبرا وَغير ذَلِك. وَمِنْهَا مَا قيل: إِنَّمَا سمى الله الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْآيَتَيْنِ: مُؤمنين، وسماهما النَّبِي، عليه السلام، فِي الحَدِيث: مُسلمين، حَال الالتقاء لَا حَال الْقِتَال وَبعده وَأجِيب: بِأَن دلَالَة الْآيَة ظَاهِرَة، فَإِن فِي قَوْله تَعَالَى:{فأصلحوا بَين أخويكم} (لُقْمَان: 13) سماهما الله أَخَوَيْنِ وَأمر بالاصلاح بَينهمَا، وَلِأَنَّهُمَا عاصيان قبل الْقِتَال، وَهُوَ من حِين سعيا إِلَيْهِ وقصداه، وَأما الحَدِيث فَمَحْمُول على معنى الْآيَة، وَالله أعلم.

23 -

(بَاب ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ)

الْكَلَام فِيهِ على وَجْهَيْن. الأول: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ أَن الله تَعَالَى سمى الْبُغَاة مُؤمنين، وَلم ينف عَنْهُم اسْم الْإِيمَان مَعَ كَونهم عصاة، وَأَن الْمعْصِيَة لَا تخرج صَاحبهَا عَن الْإِيمَان، وَلَا شكّ أَن الْمعْصِيَة ظلم، وَالظُّلم فِي ذَاته مُخْتَلف، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب الْإِشَارَة إِلَى أَنْوَاع الظُّلم حَيْثُ قَالَ: ظلم دون ظلم، وَقَالَ ابْن بطال: مَقْصُود الْبَاب أَن تَمام الْإِيمَان بِالْعَمَلِ، وَأَن الْمعاصِي ينقص بهَا الْإِيمَان وَلَا تخرج صَاحبهَا إِلَى كفر، وَالنَّاس مُخْتَلفُونَ فِيهِ على قدر صغر الْمعاصِي وكبرها.

الثَّانِي: قَوْله: (بَاب) لَا يعرب إلَاّ بِتَقْدِير مُبْتَدأ قبله، لأَنا قد قُلْنَا غير مرّة إِن الْإِعْرَاب لَا يكون إلَاّ بعد التَّرْكِيب، وَلَا يُضَاف إِلَى مَا بعده، وَالتَّقْدِير فِي الْحَقِيقَة: هَذَا بَاب يبين فِيهِ ظلم دون ظلم، وَهَذَا لفظ أثر رَوَاهُ أَحْمد فِي كتاب الْإِيمَان من حَدِيث عَطاء بن أبي رَبَاح وَغَيره، أَخذه البُخَارِيّ وَوَضعه تَرْجَمَة، ثمَّ رتب عَلَيْهِ الحَدِيث الْمَرْفُوع. وَلَفظه: دون، إِمَّا بِمَعْنى: غير، يَعْنِي: أَنْوَاع الظُّلم مُخْتَلفَة مُتَغَايِرَة؛ وَإِمَّا بِمَعْنى: الْأَدْنَى، يَعْنِي: بَعْضهَا أَشد فِي الظلمية وَسُوء عَاقبَتهَا.

32 -

حدّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ ح قَالَ وحدّثني بِشْرٌ قَالَ حدّثنا مُحَمَّدٌ عَن شُعْبَةَ عَن سُلَيْمَانَ عَن إبْراهِيمَ عَن عَلْقَمَةَ عَن عبدِ اللَّهِ قالَ لَمَّا نَزَلَت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ فأنْزَلَ {اللَّهُ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ..

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه لما علم أَن الظُّلم على أَنْوَاع، وَأَن بعض أَنْوَاع الظُّلم كفر وَبَعضهَا لَيْسَ بِكفْر، فَيعلم من ذَلِك ضَرُورَة أَن بَعْضهَا دون بعض، وَأخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين إِحْدَاهمَا: عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله. وَالْأُخْرَى: عَن بشر بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله. فَإِن قلت: الحَدِيث عَال فِي الطَّرِيق الأولى لِأَن رجالها خَمْسَة، وَرِجَال الثَّانِيَة سِتَّة، فلِمَ لم يكتف بِالْأولَى؟ قلت: إِنَّمَا أخرجه بِالطَّرِيقِ الثَّانِيَة أَيْضا لكَون مُحَمَّد بن جَعْفَر أثبت النَّاس فِي شُعْبَة، وَأَرَادَ بِهَذَا التَّنْبِيه عَلَيْهِ. فَإِن قلت: اللَّفْظ الَّذِي سَاقه لِمَنْ من شيخيه؟ قلت: اللَّفْظ لبشر بن خَالِد. وَكَذَلِكَ أخرجه النَّسَائِيّ عَنهُ، وَتَابعه ابْن أبي عدي عَن شُعْبَة، وَهُوَ عِنْد البُخَارِيّ فِي تَفْسِير الْأَنْعَام. وَأما لفظ ابْن الْوَلِيد فساقه البُخَارِيّ فِي قصَّة لُقْمَان بِلَفْظ:(أَيّنَا لم يلبس إيمَانه بظُلْم) ؟ وَزَاد فِيهِ أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) من طَرِيق سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة بعد قَوْله: {إِن الشّرك لظلم عَظِيم} (لُقْمَان: 13) فطابت أَنْفُسنَا.

بَيَان رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة. الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ، وَقد مر ذكره. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَقد مر ذكره أَيْضا. الثَّالِث: بشر، بِكَسْر الْبَاء وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، ابْن خَالِد العسكري أَبُو مُحَمَّد الفارض، روى عَنهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ: ثِقَة، وَمُحَمّد بن يحيى بن مَنْدَه وَمُحَمّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة. توفّي سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن جَعْفَر الْهُذلِيّ، مَوْلَاهُم، الْبَصْرِيّ صَاحب الكراديس الْمَعْرُوف بغندر، وَسمع السفيانين وَشعْبَة وجالسه نَحوا من عشْرين سنة، وَكَانَ شُعْبَة زوج أمه، روى عَنهُ أَحْمد وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَبُنْدَار وَخلق كثير، صَامَ خمسين سنة يَوْمًا وَيَوْما، وَقَالَ يحيى بن معِين: كَانَ من أصح النَّاس كتابا. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق، وَهُوَ فِي شُعْبَة: ثِقَة، وغندر لقب لَهُ لقبه بِهِ ابْن جريج لما قدم الْبَصْرَة، وَحدث عَن الْحسن؟ فَجعل مُحَمَّد يكثر التشغيب عَلَيْهِ، فَقَالَ: أسكت يَا غنْدر. وَأهل الْحجاز يسمون المشغب: غندرا

ص: 213

وَزعم أَبُو جَعْفَر النّحاس فِي كتاب (الِاشْتِقَاق) أَنه من الْغدر، وَأَن نونه زَائِدَة، وَالْمَشْهُور فِي داله الْفَتْح، وَحكى الْجَوْهَرِي ضمهَا. مَاتَ سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة، قَالَه أَبُو دَاوُد، وَقيل: سنة أَربع، وَقَالَ ابْن سعد: سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ. وَقد تلقب عشرَة أنفس بغندر. الْخَامِس: سُلَيْمَان بن مهْرَان، أَبُو مُحَمَّد الْأَسدي الْكَاهِلِي، مَوْلَاهُم، الْكُوفِي الْأَعْمَش. وكاهل هُوَ أَسد بن خُزَيْمَة، يُقَال: أَصله من طبرستان من قَرْيَة يُقَال لَهَا دباوند، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْألف وَفتح الْوَاو وَسُكُون النُّون وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، ولد بهَا الْأَعْمَش وَجَاء بِهِ أَبوهُ حميلاً إِلَى الْكُوفَة، فَاشْتَرَاهُ رجل من بني أَسد فَأعْتقهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي (جَامِعَة) فِي بَاب الاستتار عِنْد الْحَاجة، عَن الْأَعْمَش أَنه قَالَ: كَانَ أبي حميلا فورثه مَسْرُوق. فالحميل على هَذَا أَبوهُ، والحميل: الَّذِي يحمل من بَلَده صَغِيرا وَلم يُولد فِي الْإِسْلَام، وَظهر للأعمش أَرْبَعَة ألآف حَدِيث، وَلم يكن لَهُ كتاب، وَكَانَ فصيحا لم يلحن قطّ، وَكَانَ أَبوهُ من سبي الديلم، يُقَال: إِنَّه شهد قتل الْحُسَيْن، رضي الله عنه، وَأَن الْأَعْمَش ولد يَوْم قتل الْحُسَيْن، يَوْم عَاشُورَاء سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ. وَقَالَ البُخَارِيّ: ولد سنة سِتِّينَ، وَمَات سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة، رأى أنسا، قيل: وَأَبا بكرَة، وروى عَن عبد الله بن أبي أوفى، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي (شَرحه) : رأى أنس بن مَالك وَعبد الله بن أبي أوفى وَلم يثبت لَهُ سَماع من أَحدهمَا، وَسمع أَبَا وَائِل ومعرورا ومجاهدا وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ والتيمي وَالشعْبِيّ وخلقا، روى عَنهُ السبيعِي وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ وَالثَّوْري وَشعْبَة وَيحيى الْقطَّان وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَخلق سواهُم. وَقَالَ يحيى الْقطَّان: الْأَعْمَش من النساك المحافظين على الصَّفّ الأول، وَكَانَ عَلامَة الْإِسْلَام، وَقَالَ وَكِيع: بَقِي الْأَعْمَش قَرِيبا من سبعين سنة لم تفته التَّكْبِيرَة الأولى، وَكَانَ شُعْبَة إِذا ذكر الْأَعْمَش قَالَ: الْمُصحف الْمُصحف، سَمَّاهُ الْمُصحف لصدقه، وَكَانَ يُسمى: سيد الْمُحدثين، وَكَانَ فِيهِ تشيع، وَنسب إِلَى التَّدْلِيس، وَقد عنعن هَذَا الحَدِيث عَن إِبْرَاهِيم، وَلم ير فِي جَمِيع الطّرق الَّتِي فِيهَا رِوَايَة الْأَعْمَش للْبُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا أَنه صرح بِالتَّحْدِيثِ أَو الْإِخْبَار إلَاّ فِي رِوَايَة حَفْص بن غياث عَن الْأَعْمَش، الحَدِيث الْمَذْكُور فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عليه السلام، على مَا سَيَجِيءُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى: فَإِن قلت: المعنعن إِذا كَانَ مدلسا لَا يحمل حَدِيثه على السماع، إِلَّا أَن يبين، فَيَقُول: حَدثنَا، أَو أخبرنَا، أَو سَمِعت، أَو مَا يدل على التحديث. قلت: قَالَ ابْن الصّلاح وَغَيره: مَا كَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من ذَلِك عَن المدلسين: كالسفيانين وَالْأَعْمَش وَقَتَادَة وَغَيرهم، فَمَحْمُول على ثُبُوت السماع عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم من طَرِيق آخر، وَقد ذكر الْخَطِيب عَن بعض الْحفاظ، أَن الْأَعْمَش يُدَلس عَن غير الثِّقَة، بِخِلَاف سُفْيَان فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُدَلس عَن ثِقَة. وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَا بُد أَن يبين حَتَّى يعرف، وَالله أعلم، روى لَهُ الْجَمَاعَة. السَّادِس: إِبْرَاهِيم بن يزِيد بن قيس بن الْأسود بن عَمْرو بن ربيعَة بن ذهل بن سعد بن مَالك بن النخع، النَّخعِيّ أَبُو عمرَان الْكُوفِي، فَقِيه أهل الْكُوفَة، دخل على عَائِشَة، رضي الله عنها، وَلم يثبت مِنْهَا لَهُ سَماع. وَقَالَ الْعجلِيّ: أدْرك جمَاعَة من الصَّحَابَة وَلم يحدث من أحد مِنْهُم، وَكَانَ ثِقَة. مفتي أهل زَمَانه هُوَ وَالشعْبِيّ، وَسمع عَلْقَمَة وَالْأسود بن زيد وخالدا ومسروقا وخلقا كثيرا، روى عَنهُ الشّعبِيّ وَمَنْصُور وَالْأَعْمَش وَغَيرهم، وَكَانَ أَعور، وَقَالَ الشّعبِيّ: لما مَاتَ إِبْرَاهِيم مَا ترك أحدا أعلم مِنْهُ وَلَا أفقه، فَقيل لَهُ: وَلَا الْحسن وَابْن سِيرِين؟ قَالَ: وَلَا هما، وَلَا من أهل الْبَصْرَة، وَلَا من أهل الْكُوفَة والحجاز. وَفِي رِوَايَة: وَلَا بِالشَّام. قَالَ الْأَعْمَش: كَانَ إِبْرَاهِيم صيرفي الحَدِيث، مَاتَ وَهُوَ مختف من الْحجَّاج، وَلم يحضر جنَازَته إلَاّ سَبْعَة أنفس سنة سِتّ وَتِسْعين، وَهُوَ ابْن تسع، وَقيل: ثَمَان وَخمسين. قيل: ولد سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ، وَقيل: سنة خمسين، فَيكون على هَذَا توفّي ابْن سِتّ وَأَرْبَعين، روى لَهُ الْجَمَاعَة. السَّابِع: عَلْقَمَة بن قيس بن عبد الله بن عَلْقَمَة بن سلامان بن كهيل بن بكر بن عَوْف بن النَّخعِيّ، أَبُو شبْل الْكُوفِي، عَم الْأسود وَعبد الرَّحْمَن ابْني يزِيد، خَالِي إِبْرَاهِيم بن يزِيد النَّخعِيّ لِأَن أم إِبْرَاهِيم مليكَة ابْنة يزِيد، وَهِي أُخْت الْأسود وَعبد الرَّحْمَن ابْني يزِيد، روى عَن أبي بكر، رضي الله عنه، وَسمع عَن عمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة، رضي الله عنهم، وروى عَنهُ أَبُو وَائِل وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَغَيرهم، اتّفق على جلالته وتوثيقه، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: كَانَ عَلْقَمَة يشبه عبد الله بن مَسْعُود. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: كَانَ عَلْقَمَة من الربانيين. وَقَالَ أَبُو قيس: رَأَيْت إِبْرَاهِيم آخِذا بركاب عَلْقَمَة. مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَقيل: وَسبعين، وَلم يُولد لَهُ قطّ، روى لَهُ الْجَمَاعَة إلَاّ ابْن مَاجَه. الثَّامِن: عبد الله بن مَسْعُود، رضي الله عنه، وَقد مر ذكره فِي أول كتاب الْإِيمَان. وَفِي الصَّحَابَة ثَلَاثَة عبد لله بن مَسْعُود أحدهم: هَذَا وَالثَّانِي: أَبُو عَمْرو الثَّقَفِيّ، أَخُو أبي عُبَيْدَة، اسْتشْهد يَوْم الجسر. وَالثَّالِث: غفاري، لَهُ حَدِيث. وَفِيهِمْ رَابِع: اخْتلف فِي إسمه فَقيل: ابْن مسْعدَة، وَقيل: ابْن مَسْعُود الْفَزارِيّ.

ص: 214

بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصُورَة الْجمع وَصُورَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين الْكُوفِيّين يروي بَعضهم عَن بعض: الْأَعْمَش وَإِبْرَاهِيم وعلقمة، وَهَذَا الْإِسْنَاد أحد مَا قيل فِيهِ إِنَّه أصح الْأَسَانِيد. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم حفاظ أَئِمَّة أجلاء. وَمِنْهَا: أَن فِي بعض النّسخ قبل قَوْله: (وحَدثني بشر) صُورَة: ح، أَشَارَ إِلَى التَّحْوِيل حَائِلا بَين الإسنادين، فَهَذَا إِن كَانَ من المُصَنّف، فَهِيَ تدل على التَّحْوِيل قطعا، وَإِن كَانَ من بعض الروَاة قد زَادهَا فَيحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا، أَن تكون مُهْملَة دَالَّة على التَّحْوِيل كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَالْآخر: أَن تكون مُعْجمَة دَالَّة على البُخَارِيّ بطرِيق الرَّمْز، أَي: قَالَ البُخَارِيّ: وحَدثني بشر، وَالرِّوَايَة الصَّحِيحَة بواو الْعَطف. فَافْهَم.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عليهم السلام، عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة، وَعَن بشر بن خَالِد عَن غنْدر عَن شُعْبَة، وَفِي التَّفْسِير عَن بنْدَار عَن ابْن عدي عَن شُعْبَة، وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عليهم السلام، عَن ابْن حَفْص بن غياث عَن أَبِيه، وَعَن إِسْحَاق عَن عِيسَى بن يُونُس، وَفِي التَّفْسِير واستتابة الْمُرْتَدين عَن قُتَيْبَة عَن جرير. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي بكر عَن ابْن إِدْرِيس، وَأبي مُعَاوِيَة ووكيع، وَعَن إِسْحَاق وَابْن خشرم عَن عِيسَى، وَعَن منْجَاب عَن عَليّ بن مسْهر، وَعَن أبي كريب عَن ابْن إِدْرِيس كلهم عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَفِي بعض طرق البُخَارِيّ: لما نزلت الْآيَة شقّ ذَلِك على أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالُوا: أَيّنَا لم يلبس إِيمَانًا بظُلْم؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّه لَيْسَ كَذَلِك، أَلا تَسْمَعُونَ إِلَى قَول لُقْمَان {إِن الشّرك لظلم عَظِيم} (لُقْمَان: 13) وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا.

بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (لم يلبسوا) من بَاب: لبست الْأَمر ألبسهُ، بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي، وَالْكَسْر فِي الْمُسْتَقْبل، إِذا خلطته؛ وَفِي: لبس الثَّوْب بضده يَعْنِي، بِالْكَسْرِ فِي الْمَاضِي، وَالْفَتْح فِي الْمُسْتَقْبل. والمصدر من الأول: لبس، بِفَتْح اللَّام، وَمن الثَّانِي: لبس بِالضَّمِّ. وَفِي (الْعباب) : قَالَ الله تَعَالَى: {وللبسنا عَلَيْهِم مَا يلبسُونَ} (الْأَنْعَام: 9) أَي شبهنا عَلَيْهِم وأضللناهم كَمَا ضلوا، قَالَ ابْن عَرَفَة فِي قَوْله تَعَالَى:{وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ} (الْبَقَرَة: 42) أَي: لَا تخلطوه بِهِ، وَقَوله تَعَالَى:{أويلبسكم شيعًا} (الْأَنْعَام: 65) أَي يخلط أَمركُم خلط اضْطِرَاب لَا خلط اتِّفَاق. وَقَوله جلّ ذكره: {وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} (الْأَنْعَام: 82) أَي: لم يخلطوه بشرك، قَالَ العجاج:

(ويفصلون اللّبْس بعد اللّبْس

من الْأُمُور الربس بعد الربس)

واللبس أَيْضا: اخْتِلَاط الظلام، وَفِي الْأَمر لبسة، بِالضَّمِّ، أَي: شُبْهَة وَلَيْسَ بواضح. قَوْله: (بظُلْم)، الظُّلم فِي أصل الْوَضع: وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، يُقَال: ظلمه يَظْلمه ظلما ومظلمة والظلامة والظليمة والمظلمة: مَا تطلبه عِنْد الْمَظَالِم، وَهُوَ اسْم مَا أَخذ مِنْك. وتظلمني فلَان أَي: ظَلَمَنِي مَالِي. قَوْله: (لما)، بِمَعْنى: حِين، وَقَوله:(قَالَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم جَوَابه. قَوْله: (نزلت) : فعل وفاعله، قَوْله:( {الَّذين آمنُوا} (الْأَنْعَام: 82)) الْآيَة، والتأنيث بِاعْتِبَار الْآيَة، وَالتَّقْدِير: لما نزلت هَذِه الْآيَة: ( {الَّذين آمنُوا} (الْأَنْعَام: 82)) إِلَى آخرهَا. قَوْله: (أَيّنَا) ، كَلَام إضافي مُبْتَدأ، وَقَوله:(لم يظلم) خَبره، وَالْجُمْلَة مقول القَوْل، قَوْله:(فَأنْزل الله) عطف على: قَالَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَالْفَاء مَعْنَاهَا التعقيب، وَقد تكون بِمَعْنى: ثمَّ، يَعْنِي للتراخي، وَالَّذِي تَقْتَضِيه الْحَال أَنَّهَا هَهُنَا على أَصْلهَا.

بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (أَيّنَا لم يظلم)، وَفِي بعض النّسخ:(أَيّنَا لم يظلم نَفسه)، بِزِيَادَة: نَفسه، وَالْمعْنَى: إِن الصَّحَابَة فَهموا الظُّلم على الْإِطْلَاق، فشق عَلَيْهِم ذَلِك، فَبين الله تَعَالَى أَن المُرَاد الظُّلم الْمُقَيد، وَهُوَ الظُّلم الَّذِي لَا ظلم بعده. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا شقّ عَلَيْهِم لِأَن ظَاهر الظُّلم الافتيات بِحُقُوق النَّاس، والافتيات السَّبق إِلَى الشَّيْء، وَمَا ظلمُوا بِهِ أنفسهم من ارْتِكَاب الْمعاصِي، فظنوا أَن المُرَاد هَهُنَا مَعْنَاهُ الظَّاهِر، فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَة. وَمن جعل الْعِبَادَة وَأثبت الربوبية لغير الله تَعَالَى فَهُوَ ظَالِم، بل أظلم الظَّالِمين. وَقَالَ التَّيْمِيّ: معنى الْآيَة: لم يفسدوا إِيمَانهم ويبطلوه بِكفْر، لِأَن الْخَلْط بَينهمَا لَا يتَصَوَّر، أَي: لم يخلطوا صفة الْكفْر بِصفة الْإِيمَان فَتحصل لَهُم صفتان إِيمَان مُتَقَدم وَكفر مُتَأَخّر بِأَن كفرُوا بعد إِيمَانهم، وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: ينافقوا فيجمعوا بَينهمَا ظَاهرا وَبَاطنا، وَإِن كَانَا لَا يَجْتَمِعَانِ. قلت: اخْتلفت أَلْفَاظ الحَدِيث فِي هَذَا، فَفِي رِوَايَة جرير عَن الْأَعْمَش:(فَقَالُوا أَيّنَا لم يلبس إيمَانه بظُلْم؟ فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِك، أَلا تَسْمَعُونَ إِلَى قَول لُقْمَان) ؟ وَفِي رِوَايَة وَكِيع عَنهُ: (فَقَالَ لَيْسَ كَمَا تظنون) . وَفِي رِوَايَة عِيسَى بن يُونُس عَنهُ: (إِنَّمَا هُوَ الشّرك، ألم تسمعوا مَا قَالَ لُقْمَان؟) وَفِي رِوَايَة شُعْبَة عَنهُ مَا مضى ذكره هَهُنَا، فَبين

ص: 215

رِوَايَة شُعْبَة عَنهُ وَبَين رِوَايَات جرير ووكيع وَعِيسَى بن يُونُس اخْتِلَاف، والتوفيق بَينهمَا أَن يَجْعَل إِحْدَاهمَا مبينَة لِلْأُخْرَى، فَيكون الْمَعْنى: لما شقّ عَلَيْهِم أنزل الله تَعَالَى {إِن الشّرك لظلم عَظِيم} (لُقْمَان: 13) فأعلمهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن الظُّلم الْمُطلق فِي إِحْدَاهمَا يُرَاد بِهِ الْمُقَيد فِي الْأُخْرَى، وَهُوَ الشّرك. فالصحابة، رضي الله عنهم، حملُوا اللَّفْظ على عُمُومه، فشق عَلَيْهِم إِلَى أَن أعلمهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا ظننتم، بل كَمَا قَالَ لُقْمَان عليه السلام. فَإِن قلت: من أَيْن حملوه على الْعُمُوم؟ قلت: لِأَن قَوْله: (بظُلْم) نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي، فاقتضت التَّعْمِيم. فَإِن قلت: من أَيْن لزم أَن من لبس الْإِيمَان بظُلْم لَا يكون آمنا وَلَا مهتديا حَتَّى شقّ عَلَيْهِم؟ قلت: من تَقْدِيم: لَهُم، على الْأَمْن، فِي قَوْله:{أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن} (الْأَنْعَام: 82) أَي: لَهُم الْأَمْن لَا لغَيرهم، وَمن تَقْدِيم {وهم} على {مهتدون} (الْأَنْعَام: 82) فِي قَوْله: {وهم مهتدون} (الْأَنْعَام: 82) وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي: {كلمة هُوَ قَائِلهَا} (الْمُؤْمِنُونَ: 100) إِنَّه: للتخصيص، أَي: هُوَ قَائِلهَا لَا غَيره. فَإِن قلت: لَا يلْزم من قَوْله تَعَالَى: {إِن الشّرك لظلم عَظِيم} (لُقْمَان: 13) إِن غير الشّرك لَا يكون ظلما. قلت: التَّنْوِين فِي: بظُلْم، للتعظيم، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم عَظِيم، فَلَمَّا تبين أَن الشّرك ظلم عَظِيم، علم أَن المُرَاد: لم يلبسوا إِيمَانهم بشرك، وَقد ورد ذَلِك صَرِيحًا عِنْد البُخَارِيّ من طَرِيق حَفْص بن غياث عَن الْأَعْمَش، وَلَفظ:(قُلْنَا: يَا رَسُول الله أَيّنَا لم يظلم نَفسه؟ قَالَ: لَيْسَ كَمَا تَقولُونَ، لم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم بشرك، أولم تسمعوا إِلَى قَول لُقْمَان) ؟ فَذكر الْآيَة. فَإِن قلت: لِمَ ينْحَصر الظُّلم الْعَظِيم على الشّرك؟ قلت: عَظمَة هَذَا الظُّلم مَعْلُومَة بِنَصّ الشَّارِع، وعظمة غَيره غير مَعْلُومَة، وَالْأَصْل عدمهَا.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: إِن الْعَام يُطلق وَيُرَاد بِهِ الْخَاص، بِخِلَاف قَول أهل الظَّاهِر، فَحمل الصَّحَابَة ذَلِك على جَمِيع أَنْوَاع الظُّلم، فَبين الله تَعَالَى أَن المُرَاد نوع مِنْهُ، وَحكى الْمَاوَرْدِيّ فِي الظُّلم فِي الْآيَة قَوْلَيْنِ. أَحدهمَا: أَن المُرَاد مِنْهُ الشّرك، وَهُوَ قَول أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود عملا بِهَذَا الحَدِيث. قَالَ: وَاخْتلفُوا على الثَّانِي، فَقيل: إِنَّهَا عَامَّة، وَيُؤَيِّدهُ مَا وَرَاه عبد بن حميد عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ (أَن رجلا سَأَلَ عَنْهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَسكت حَتَّى جَاءَ رجل فَأسلم، فَلم يلبث قَلِيلا حَتَّى اسْتشْهد. فَقَالَ، عليه السلام: هَذَا مِنْهُم، من الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم) . وَقيل: إِنَّهَا خَاصَّة نزلت فِي إِبْرَاهِيم، عليه السلام، وَلَيْسَ فِي هَذِه الْآيَة فِيهَا شَيْء، قَالَه عَليّ، رضي الله عنه. وَقيل: إِنَّهَا فِيمَن هَاجر إِلَى الْمَدِينَة. قَالَه عِكْرِمَة. قلت: جعل صَاحب (الْكَشَّاف) هَذِه الْآيَة جَوَابا عَن السُّؤَال، أَعنِي قَوْله:{فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن إِن كُنْتُم تعلمُونَ} (الْأَنْعَام: 81) وَأَرَادَ بالفريقين فريقي الْمُشْركين والموحدين، وَفسّر الشّرك بالمعصية. فَقَالَ: أَي لم يخلطوا إِيمَانهم بِمَعْصِيَة تفسقهم، ثمَّ قَالَ: وأبى تَفْسِير الظُّلم بالْكفْر لفظ اللّبْس، وَهَذَا لَا يمشي إلَاّ على قَول من قَالَ: إِنَّهَا خَاصَّة نزلت فِي إِبْرَاهِيم. الثَّانِي: إِن الْمُفَسّر يقْضِي على الْمُجْمل. الثَّالِث: إِثْبَات الْعُمُوم. الرَّابِع: عُمُوم النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي لفهم الصَّحَابَة وَتَقْرِير الشَّارِع عَلَيْهِ وَبَيَانه لَهُم التَّخْصِيص، وَأنكر القَاضِي الْعُمُوم، فَقَالَ: حملوه على أظهر مَعَانِيه، فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ يُطلق على الْكفْر وَغَيره لُغَة وَشرعا، فَعرف الِاسْتِعْمَال فِيهِ الْعُدُول عَن الْحق فِي غير الْكفْر، كَمَا أَن لفظ الْكفْر يُطلق على معَان من: جحد النعم والستر، لَكِن الْغَالِب عِنْد مُجَرّد الْإِطْلَاق حمله على ضد الْإِيمَان، فَلَمَّا ورد لفظ الظُّلم من غير قرينَة حمله الصَّحَابَة على أظهر وجوهه، فَلَيْسَ فِيهِ دلَالَة الْعُمُوم. قلت: يرد هَذَا مَا ذَكرْنَاهُ من أَن النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي تفِيد الْعُمُوم، وَرِوَايَة البُخَارِيّ أَيْضا. الْخَامِس: استنبط مِنْهُ الْمَازرِيّ وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهمَا تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقت الْحَاجة وَقَالَ القَاضِي عِيَاض فِي الرَّد على ذَلِك بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِه الْقَضِيَّة تَكْلِيف عمل، بل تَكْلِيف اعْتِقَاد بِتَصْدِيق الْخَبَر، واعتقاد بِتَصْدِيق لَازم لأوّل وُرُوده، فَمَا هِيَ الْحَاجة المؤخرة إِلَى الْبَيَان؟ لكِنهمْ لما أشفقوا بَين لَهُم المُرَاد. وَقَالَ بَعضهم: وَيُمكن أَن يُقَال: المعتقد أَيْضا يحْتَاج إِلَى الْبَيَان فَمَا انْتَفَت الْحَاجة، وَالْحق أَن فِي الْقَضِيَّة تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب لأَنهم حَيْثُ احتاجوا إِلَيْهِ لم يتَأَخَّر. قلت: لَو فهم هَذَا الْقَائِل كَلَام القَاضِي لما استدرك عَلَيْهِ بِمَا قَالَه، فَالْقَاضِي يَقُول: اعْتِقَاد التَّصْدِيق لَازم

الخ، فَالَّذِي يفهم هَذَا الْكَلَام كَيفَ يَقُول: فَمَا انْتَفَت الْحَاجة. وَقَوله: وَالْحق أَن فِي الْقِصَّة تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب، لَيْسَ بِحَق، لِأَن الْآيَة لَيْسَ فِيهَا خطاب، وَالْخطاب من بَاب الْإِنْشَاء، وَالْآيَة إِخْبَار. على أَن تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب مُمْتَنع عِنْد جمَاعَة. وَقيد الْكَرْخِي جَوَازه فِي الْمُجْمل على مَا عرف

ص: 216