الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَعضهم، لِأَن الْعَرَب تعبر عَن الْعِفَّة بنقاء الثَّوْب والمئزر، وجره عبارَة عَمَّا فضل عَنهُ وانتفع النَّاس بِهِ، بِخِلَاف جَرّه فِي الدُّنْيَا للخيلاء فَإِنَّهُ مَذْمُوم. فَإِن قيل: يلْزم من الحَدِيث أَن يكون عمر رضي الله عنه، أفضل من أبي بكر رضي الله عنه، لِأَن المُرَاد بالأفضل الْأَكْثَر ثَوابًا، والأعمال عَلَامَات الثَّوَاب، فَمن كَانَ دينه أَكثر فثوابه أَكثر، وَهُوَ خلاف الاجماع. قلت: لَا يلْزم، إِذْ الْقِسْمَة غير حاصرة لجَوَاز قسم رَابِع سلمنَا انحصار الْقِسْمَة، لَكِن مَا خصص الْقسم الثَّالِث بعمر رضي الله عنه، وَلم يحصره عَلَيْهِ سلمنَا التَّخْصِيص بِهِ، لكنه معَارض بالأحاديث الدَّالَّة على أَفضَلِيَّة الصّديق رضي الله عنه، بِحَسب تَوَاتر الْقدر الْمُشْتَرك بَينهَا، وَمثله يُسمى بالمتواتر من جِهَة الْمَعْنى، فدليلكم آحَاد وَدَلِيلنَا متواتر، سلمنَا التَّسَاوِي بَين الدَّلِيلَيْنِ. لَكِن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أفضليته وَهُوَ دَلِيل قَطْعِيّ، وَهَذَا دَلِيل ظَنِّي، وَالظَّن لَا يُعَارض الْقطع، وَهَذَا الْجَواب يُسْتَفَاد من نفس تَقْرِير الدَّلِيل، وَهَذِه قَاعِدَة كُلية عِنْد أهل المناظرة فِي أَمْثَال هَذِه الإيرادات، بِأَن يُقَال: مَا أردته إِمَّا مجمع عَلَيْهِ أَو لَا، فَإِن كَانَ فالدليل مَخْصُوص بِالْإِجْمَاع وإلَاّ فَلَا يتم الْإِيرَاد إِذْ لَا إِلْزَام إلَاّ بالمجمع عَلَيْهِ. لَا يُقَال: كَيفَ يُقَال: الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَفضَلِيَّة الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد أنكر ذَلِك طَائِفَة الشِّيعَة والخوارج من العثمانية، لأَنا نقُول: لَا اعْتِبَار بمخالفة أهل الضلال، وَالْأَصْل إِجْمَاع أهل السّنة وَالْجَمَاعَة.
(بَيَان استنباط الْفَوَائِد) مِنْهَا: الدّلَالَة على تفاضل أهل الْإِيمَان، وَمِنْهَا: الدّلَالَة على فَضِيلَة عمر رضي الله عنه. وَمِنْهَا: تَعْبِير الرُّؤْيَا وسؤال الْعَالم بهَا عَنْهَا. وَمِنْهَا: جَوَاز إِشَاعَة الْعَالم الثَّنَاء على الْفَاضِل من أَصْحَابه إِذا لم يحس بِهِ بإعجاب وَنَحْوه، وَيكون الْغَرَض التَّنْبِيه على فَضله لتعلم مَنْزِلَته ويعامل بمقتضاها، ويرغب الِاقْتِدَاء بِهِ والتخلق بأخلاقه.
16 -
(بَاب الحَياءُ مِنَ الإيمانِ)
أَي: هَذَا بَاب، وَالْبَاب منون، وَالْحيَاء مَرْفُوع سَوَاء أضفت إِلَيْهِ الْبَاب أم لَا، لِأَنَّهُ مُبْتَدأ، وَمن الْإِيمَان، خبر. فَإِن قلت: قد قلت: إِن الْبَاب منون وَلَا شكّ أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، فَيكون جملَة، وَقَوله: الْحيَاء من الْإِيمَان جملَة أُخْرَى، وعَلى تَقْدِير عدم الْإِضَافَة مَا الرابطة بَين الجملتين؟ قلت: هِيَ محذوفة تَقْدِير الْكَلَام: هَذَا بَاب فِيهِ الْحيَاء من الْإِيمَان يَعْنِي بَيَان أَن الْحيَاء من الْإِيمَان وَبَيَان تَفْسِير الْحيَاء وَوجه كَونه من الْإِيمَان قد تقدما فِي بَاب أُمُور الْإِيمَان.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن فِي الْبَاب الأول بَيَان تفاضل الْإِيمَان فِي الْأَعْمَال، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا من جملَة مَا يفضل بِهِ الْإِيمَان، وَهُوَ الْحيَاء الَّذِي يحجب صَاحبه عَن أَشْيَاء مُنكرَة عِنْد الله وَعند الْخلق.
24 -
حدّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مَالِكُ بنُ أَنَسٍ عَن ابنِ شِهابٍ عَن سالِمِ بنِ عبدِ اللَّهِ عَنْ أبِيهِ أنّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أخاهُ فِي الْحيَاء فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعْهُ فَإن الْحَياءَ مِنَ الْإِيمَان.
(الحَدِيث 24 طرفه فِي: 6118)
الحَدِيث مُطَابق للتَّرْجَمَة لِأَنَّهُ أَخذ جزأ مِنْهُ فبوب عَلَيْهِ كَمَا هُوَ عَادَته.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن يُوسُف التنيسِي، نزيل دمشق، وَقد ذكره. الثَّانِي: الإِمَام مَالك بن أنس. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: سَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب الْقرشِي الْعَدوي التَّابِعِيّ الْجَلِيل، أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ على أحد الْأَقْوَال، وَقَالَ ابْن الْمسيب: كَانَ سَالم أشبه ولد عبد الله بِعَبْد الله، وَعبد الله أشبه ولد عمر بعمر، رضي الله عنه، وَقَالَ مَالك: لم يكن فِي زمن سَالم أشبه بِمن مضى من الصَّالِحين فِي الزّهْد مِنْهُ، كَانَ يلبس الثَّوْب بِدِرْهَمَيْنِ. وَقَالَ ابْن رَاهَوَيْه: أصح الْأَسَانِيد كلهَا: الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه. وَكَانَ أَبوهُ يلام فِي إفراط حب سَالم، وَكَانَ يقبله وَيَقُول: أَلا تعْجبُونَ من شيخ يقبل شَيخا؟ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة سِتّ وَمِائَة، وَقيل: خمس، وَقيل: ثَمَان، وَصلى عَلَيْهِ هِشَام بن عبد الْملك، وَله أخوة: عبد الله وَعَاصِم وَحَمْزَة وبلال وواقد وَزيد، وَكَانَ عبد الله وصّى أَبِيهِم فيهم، وروى عَنهُ مِنْهُم أَرْبَعَة: عبد الله وَسَالم وَحَمْزَة وبلال. الْخَامِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رضي الله عنه.
(بَيَان لطائف إِسْنَاده) وَمِنْهَا: أَن رِجَاله كلهم مدنيون مَا خلا عبد الله. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: أخبرنَا مَالك، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: حَدثنَا مَالك بن أنس، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: مَالك بن أنس، والْحَدِيث فِي الْمُوَطَّأ.
(بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره:) أخرجه هُنَا عَن عبد الله عَن مَالك، وَأخرجه فِي الْبر والصلة عَن أَحْمد بن يُونُس عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة عَن الزُّهْرِيّ. وَأخرجه مُسلم هُنَا أَيْضا عَن الناقدي، وَزُهَيْر عَن سُفْيَان، وَعَن عبد الله بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ وَلم يَقع لمُسلم لَفْظَة: دَعه، وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ أَيْضا.
(بَيَان اللُّغَات) : قَوْله: (مر عَليّ رجل) يُقَال: مر عَلَيْهِ وَمر بِهِ، بِمَعْنى وَاحِد. أَي: اجتازه، وَفِي (الْعباب) : مر عَلَيْهِ وَبِه يمر مرا، أَي: اجتاز، وَبَنُو يَرْبُوع يَقُولُونَ: مر علينا بِكَسْر الْمِيم، وَمر يمر مرا ومرورا وممرا أَي ذهب، والممر مَوضِع الْمُرُور أَيْضا. وَالْأَنْصَار: جمع النَّاصِر كالأصحاب جمع الصاحب، أَو جمع النصير كالأشراف جمع الشريف. قَوْله:(يعظ أَخَاهُ) أَي: ينصح أَخَاهُ من الْوَعْظ وَهُوَ: النصح والتذكير بالعواقب. وَقَالَ ابْن فَارس: هُوَ التخويف والإنذار. وَقَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد هُوَ التَّذْكِير بِالْخَيرِ فِيمَا يرق الْقلب. وَفِي (الْعباب) : الْوَعْظ والعظة وَالْمَوْعِظَة مصَادر قَوْلك: وعظته عظة. قَوْله: (دَعه) أَي: أتركه، وَهُوَ أَمر لَا ماضي لَهُ، قَالُوا: أماتوا ماضي يدع ويذر. قلت: اسْتعْمل ماضي: دع، وَمِنْه قِرَاءَة من قَرَأَ {مَا وَدعك رَبك} (الضُّحَى: 3) بِالتَّخْفِيفِ فعلى هَذَا هُوَ أَمر من: ودع يدع، وأصل يدع: يودع، حذفت الْوَاو فَصَارَ: يدع، وَالْأَمر: دع، وَفِي (الْعباب) قَوْلهم: دع ذَا أَي: أتركه، وَأَصله، ودع يدع، وَقد أميت ماضيه. لَا يُقَال: ودعه، إِنَّمَا يُقَال: تَركه وَلَا: وادع، وَلَكِن: تَارِك، وَرُبمَا جَاءَ فِي ضَرُورَة الشّعْر: ودعه، فَهُوَ مودوع على أَصله قَالَ أنس بن زنينم.
(لَيْت شعري عَن خليلي مَا الَّذِي
…
غاله فِي الْوَعْد حَتَّى ودعه)
ثمَّ قَالَ الصغاني: وَقد اخْتَار النَّبِي صلى الله عليه وسلم أصل هَذِه اللُّغَة فِيمَا روى ابْن عَبَّاس، رضي الله عنهما، أَنه قَالَ قَرَأَ {وَمَا وَدعك رَبك} (الضُّحَى: 3) بِالتَّخْفِيفِ أَعنِي؛ بتَخْفِيف الدَّال، وَكَذَلِكَ قَرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَة: عُرْوَة وَمُقَاتِل وَأَبُو حَيْوَة وَابْن أبي عبلة وَيزِيد النَّحْوِيّ، رَحِمهم الله تَعَالَى.
(بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله: (مر عَليّ رجل) جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا وَقعت خَبرا، لِأَن قَوْله:(من الْأَنْصَار) صفة لرجل، وَالْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد، أَي: أنصار رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الَّذين آووا ونصروا من أهل الْمَدِينَة، رضي الله عنهم. قَوْله:(وَهُوَ يعظ أَخَاهُ) جملَة إسمية محلهَا النصب على الْحَال. قَوْله: (فِي الْحيَاء) يتَعَلَّق بقوله: يعظ، قَوْله:(ودعه) جملَة من: الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول لِأَنَّهَا وَقعت مقول القَوْل، قَوْله:(فَإِن الْحيَاء) الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل.
(بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان) قَوْله: (وَهُوَ يعظ أَخَاهُ) يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون الرجل الَّذِي وعظ أَخا للواعظ فِي الْإِسْلَام، على مَا هُوَ عرف الشَّرْع، فعلى هَذَا يكون مجَازًا لغويا، أَو حَقِيقَة عرفية، وَالْآخر وَهُوَ الظَّاهِر: أَن يكون أَخَاهُ فِي الْقَرَابَة وَالنّسب، فعلى هَذَا هُوَ حَقِيقَة، قَوْله:(فِي الْحيَاء) فِيهِ حذف، أَي: فِي شَأْن الْحيَاء وَفِي حَقه مَعْنَاهُ أَنه ينهاه عَنهُ ويخوفه مِنْهُ، فزجره النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن وعظه، فَقَالَ: دَعه، أَي: اتركه على حيائه، فَإِن الْحيَاء من الْإِيمَان. وَقَالَ التَّيْمِيّ: الْوَعْظ الزّجر، يَعْنِي يزجره عَن الْحيَاء، وَيَقُول لَهُ: لَا تَسْتَحي، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: دَعه يستحي فَإِن الْحيَاء من الْإِيمَان، إِذْ الشَّخْص يكف عَن أَشْيَاء من مناهي الشَّرْع للحياء، وَيكثر مثل هَذَا فِي زَمَاننَا. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ أَن الْحيَاء يمْنَع صَاحبه من ارْتِكَاب الْمعاصِي، كَمَا يمْنَع الْإِيمَان فَسُمي إِيمَانًا كَمَا يُسمى الشَّيْء باسم مَا قَامَ مقَامه، وَقَالَ بَعضهم: الأولى أَن نشرح يَعْنِي قَوْله: يعظ بِمَا جَاءَ عَن المُصَنّف فِي الْأَدَب من طَرِيق عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة عَن ابْن شهَاب. وَلَفظه: (يُعَاتب أَخَاهُ فِي الْحيَاء يَقُول إِنَّك لتستحي حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُول قد أضربك) . انْتهى. قلت: هَذَا بعيد من حَيْثُ اللُّغَة، فَإِن معنى الْوَعْظ الزّجر، وَمعنى العتب الوجد. وَفِي (الْعباب) : عتبَة عَلَيْهِ إِذا وجد، يعتب عَلَيْهِ، وَيَعْتِبُ عتبا ومعتبا، على أَن الرِّوَايَتَيْنِ تدلان على مَعْنيين جليين لَيْسَ فِي وَاحِد مِنْهُمَا خَفَاء حَتَّى يُفَسر أَحدهمَا بِالْآخرِ، غَايَة فِي الْبَاب أَن الْوَاعِظ الْمَذْكُور وعظ أَخَاهُ فِي اسْتِعْمَاله الْحيَاء، وعاتبه عَلَيْهِ. والراوي حكى فِي إِحْدَى روايتيه بِلَفْظ الْوَعْظ، وَفِي الْأُخْرَى بِلَفْظ المعاتبة، وَذَلِكَ أَن