الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سَائِر الْآيَات الَّتِي فِي الْكتاب مقروءة، قَوْله:(قد عرفنَا ذَلِك الْيَوْم) مَعْنَاهُ: أَنا مَا أهملناه وَلَا خَفِي علينا زمَان نُزُولهَا، وَلَا مَكَان نُزُولهَا، وضبطنا جَمِيع مَا يتَعَلَّق بهَا حَتَّى صفة النَّبِي، عليه السلام، وموضعه فِي زمَان النُّزُول، وَهُوَ كَونه، عليه السلام، قَائِما حِينَئِذٍ، وَهُوَ غَايَة فِي الضَّبْط. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ: أَنا مَا تركنَا تَعْظِيم ذَلِك الْيَوْم وَالْمَكَان، أما الْمَكَان فَهُوَ عَرَفَات، وَهُوَ مُعظم الْحَج الَّذِي هُوَ أحد أَرْكَان الْإِسْلَام، وَأما الزَّمَان فَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة وَيَوْم عَرَفَة. وَهُوَ يَوْم اجْتمع فِيهِ فضلان وشرفان، وَمَعْلُوم تعظيمنا لكل وَاحِد مِنْهُمَا، فَإِذا اجْتمعَا زَاد التَّعْظِيم، فقد اتخذنا ذَلِك الْيَوْم عيدا، وعظمنا مَكَانَهُ أَيْضا، وَهَذَا كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع، وعاش النَّبِي، عليه السلام، بعْدهَا ثَلَاثَة أشهر. قَوْله:(وَالَّذِي نزلت فِيهِ على النَّبِي عليه الصلاة والسلام زَاد مُسلم، عَن عبد بن حميد عَن جَعْفَر بن عون فِي هَذَا الحَدِيث، وَلَفظه: (إِنِّي لأعْلم الْيَوْم الَّذِي أنزلت فِيهِ) . وَلأَحْمَد عَن جَعْفَر بن عون: (والساعة الَّتِي نزلت فِيهَا على النَّبِي عليه السلام فَإِن قلت: كَيفَ طابق الْجَواب السُّؤَال؟ لِأَنَّهُ قَالَ لاتخذناه عيداً؟ فَقَالَ عمر، رضي الله عنه: عرفنَا أَحْوَاله، وَلم يقل جَعَلْنَاهُ عيداً. قلت: لما بَين أَن يَوْم النُّزُول كَانَ عَرَفَة وَمن المشهورت أَن الْيَوْم الَّذِي بعد عَرَفَة عيد للْمُسلمين، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلْنَاهُ عيدا بعد إدراكنا اسْتِحْقَاق ذَلِك الْيَوْم للتعبد فِيهِ. فَإِن قلت: فَلم مَا جعلُوا يَوْم النُّزُول عيدا؟ قلت: لِأَنَّهُ ثَبت فِي الصَّحِيح أَن النُّزُول كَانَ بعد الْعَصْر، وَلَا يتَحَقَّق الْعِيد إلَاّ من أول النَّهَار، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء: ورؤية الْهلَال بِالنَّهَارِ لليلة الْمُسْتَقْبلَة، فَافْهَم.
34 -
(بَاب الزَّكاةُ مِنَ الإسْلَامِ)
أَي: هَذَا بَاب، وَالْبَاب منون، وَيجوز بِالْإِضَافَة إِلَى الْجُمْلَة، وَالزَّكَاة مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره: من الاسلام أَي: الزَّكَاة شُعْبَة من شعب الْإِسْلَام. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق هُوَ زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، وَقد علم أَن الزِّيَادَة تكون بِالْأَعْمَالِ وَالنَّقْص بِتَرْكِهَا، وَهَذَا الْبَاب فِيهِ: أَن أَدَاء الزَّكَاة من الْإِسْلَام، يَعْنِي: أَنه إِذا أدّى الزَّكَاة يكون إِسْلَامه كَامِلا، وَإِذا تَركهَا يكون نَاقِصا. لَا يُقَال: لم أفرد الزَّكَاة بِالذكر فِي التَّرْجَمَة من بَين سَائِر أَرْكَان الْإِسْلَام، لِأَنَّهُ قد أفرد لكل وَاحِد من بَقِيَّة الإركان بَابا بترجمة.
وقَوْلُه {ومَا أُمِرُوا إلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وذَلِكَ دِينُ القيمةِ} (الْبَيِّنَة: 5) .
هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: بَاب الزَّكَاة من الْإِسْلَام، وَقَول الله تَعَالَى:{وَمَا أمروا إلَاّ ليعبدوا الله} (الْبَيِّنَة: 5) الْآيَة وَفِي بعض النّسخ: وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا أمروا} (الْبَيِّنَة: 5) الْآيَة
…
قَوْله: (وَقَول الله) مجرور عطف على مَحل، قَوْله:(الزَّكَاة من الْإِسْلَام) لِأَنَّهَا مُضَاف إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ قَوْله: وَقَوله تَعَالَى. وَأما راوية أبي ذَر، فَإِنَّهَا بِلَا عطف، لِأَن الْوَاو فِي قَوْله:{وَمَا أمروا} (الْبَيِّنَة: 5) وَاو الْعَطف فِي الْقُرْآن عطف بهَا على مَا قبله: {وَمَا تفرق الَّذين أُوتُوا الْكتاب إلَاّ من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَيِّنَة} (الْبَيِّنَة: 4) فَإِن قلت: كَيفَ التئام الْآيَة بالترجمة؟ قلت: الالتئام بَينهمَا معنوي، وَهُوَ أَن الْآيَة فِيهَا ذكر أَن الزَّكَاة من الدّين، وَالدّين هُوَ الْإِسْلَام لقَوْله تَعَالَى:{إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} (آل عمرَان: 19) وَتَحْقِيق ذَلِك أَن الله تَعَالَى ذكر فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة ثَلَاثَة أَشْيَاء: الأول: إخلاص الدّين الَّذِي هُوَ رَأس جَمِيع الْعِبَادَات، وَالثَّانِي: إِقَامَة الصَّلَاة الَّتِي هِيَ عماد الدّين، وَالثَّالِث إيتَاء الزَّكَاة الَّتِي تذكر دَائِما تالية للصَّلَاة، ثمَّ أَشَارَ إِلَى جَمِيع ذَلِك بقوله:{وَذَلِكَ دين الْقيمَة} (الْبَيِّنَة: 5) أَي: الْمَذْكُور من هَذِه الْأَشْيَاء هُوَ دين الْقيمَة، أَي: دين الْملَّة الْقيمَة، فالموصوف مَحْذُوف وقرىء وَذَلِكَ الدّين الْقيمَة. على تَأْوِيل الدّين بالملة وَمعنى: الْقيمَة، المستقيمة الناطقة بِالْحَقِّ وَالْعدْل. فَإِن قلت: كَيفَ خص الزَّكَاة بالترجمة، وَالْمَذْكُور ثَلَاثَة أَشْيَاء؟ قلت: أُجِيب عَن هَذَا عَن قريب. قَوْله: {وَمَا أمروا} (الْبَيِّنَة: 5) أَي: وَمَا أَمر أهل الْكتاب فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إلَاّ بِالدّينِ الحنيفي، وَلَكنهُمْ حرفوا وبدلوا. وَقَالَ الزمحشري: فَإِن قلت:) مَا وَجه قَوْله {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين} (الْبَيِّنَة: 5) قلت: مَعْنَاهُ: وَمَا أمروا فِي الْكِتَابَيْنِ إلَاّ لأجل أَن يعبدوا الله على هَذِه الصّفة. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود، رضي الله عنه: إلَاّ أَن يعبدوا. بِمَعْنى: بِأَن يعبدوا الله انْتهى. قلت: الْعِبَادَة بِمَعْنى التَّوْحِيد، أَي: وَمَا أمروا إلَاّ ليوحدوا الله، وَالِاسْتِثْنَاء من أَعم عَام الْمَفْعُول لأَجله، أَي مَا أمروا لأجل شَيْء إلَاّ لِلْعِبَادَةِ، أَي: التَّوْحِيد، وَالْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ لَا بِخُصُوص
السَّبَب وَيدخل فِيهِ جَمِيع النَّاس. قَوْله: {مُخلصين} حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي (أمروا)، وَقَوله:(الدّين) مَنْصُوب بِهِ. قَوْله: (حنفَاء) ، حَال أُخْرَى، جمع حنيف، وَهُوَ المائل عَن الضلال إِلَى الْهِدَايَة. قَوْله:(ويقيموا الصَّلَاة) عطف على قَوْله: (ليعبدوا الله) من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، وَفِيه تَفْضِيل للصَّلَاة وَالزَّكَاة على سَائِر الْعِبَادَات وَقد مر معنى إِقَامَة الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة.
46 -
حدّثنا إسْماعِيلُ قَالَ حدّثني مالِكُ بْنُ أنَسٍ عَنْ عَمِّهِ أبي سُهَيْلٍ بْنِ مالِكَ عَنْ أبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ جاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أهْلِ نَجْدٍ ثائِرُ الرَّأسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ ولَا يُفْقَهُ مَا يقُولُ حَتَّى دَنا فإذَا هوَ يَسْأَلُ عَنِ الإسْلَامِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خَمْسُ صَلَواتٍ فِي اليَوْمِ واللَّيُلَةِ فَقَالَ هَلْ عَليَّ غَيْرُها قَالَ لَا إِلَّا أنْ تَطَّوَّعَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وصِيَامُ رَمَضانَ قَالَ هَلْ عَليَّ غَيْرُهُ قَالَ لَا إلَاّ أنْ تَطَّوَّع قَال وذَكرَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكاةَ قَالَ هَلْ عَليَّ غَيْرُهَا قالَ لَا إلَاّ أنْ تَطَّوَّعَ قالَ فأدْبَرَ الرَّجُلُ وهوَ يَقُولُ واللَّهِ لَا أزِيدُ عَلَى هَذَا ولَا أنْقُصُ قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أفْلَحَ إنْ صَدَقَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن التَّرْجَمَة: الزَّكَاة من الْإِسْلَام، وَمَوْضِع الدّلَالَة فِي الحَدِيث هُوَ قَوْله: فَإِذا هُوَ يسْأَله عَن الْإِسْلَام، فَذكر الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة، وَهَذَا ظَاهر فِي كَونهَا من الْإِسْلَام، وَكَذَلِكَ مطابقته لِلْآيَةِ ظَاهِرَة من حَيْثُ أَن الْمَذْكُور فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا الصَّلَاة وَالزَّكَاة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن عبد الله الأصبحي الْمدنِي، ابْن أُخْت الإِمَام مَالك بن أنس، شَيْخه وخاله وَأَبُو أويس ابْن عَم مَالك وَقد مر فِي بَاب تفاضل أهل الْإِيمَان. الثَّانِي: مَالك بن أنس الإِمَام الْمَشْهُور، وَقد مر غير مرّة. الثَّالِث: عَمه أَبُو سُهَيْل، وَهُوَ نَافِع بن مَالك بن أبي عَامر الْمدنِي وَقد مر. الرَّابِع: أَبوهُ وَهُوَ مَالك بن أبي عَامر، وَقد مر. الْخَامِس: أَبُو مُحَمَّد طَلْحَة بن عبيد الله بن عُثْمَان بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب الْقرشِي التَّيْمِيّ، أحد الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ، يجْتَمع مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْأَب السَّابِع مثل أبي بكر، رضي الله عنه، أسلمت أمه وَهَاجَرت، شهد الْمشَاهد كلهَا إلَاّ بَدْرًا كسعيد بن زيد، وَقد ضرب لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وآجره فِيهَا، وَكَانَ الصّديق، رضي الله عنه، إِذا ذكر أحدا قَالَ: ذَلِك يَوْم كُله لطلْحَة، وَقد وهم البُخَارِيّ فِي قَوْله: إِن سعيد بن زيد مِمَّن حضر بَدْرًا، وَهُوَ أحد الثَّمَانِية الَّذين سبقوا إِلَى الْإِسْلَام، والخمسة الَّذين أَسْلمُوا على يَد الصّديق، رضي الله عنه، والستة أَصْحَاب الشورى الَّذين توفّي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَنْهُم رَاض، وَهُوَ مِمَّن ثَبت مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَوْم أحد ووقاه بِيَدِهِ ضَرْبَة قصد بهَا فشلت، رَمَاه مَالك بن زُهَيْر يَوْم أحد، فاتقى طَلْحَة بِيَدِهِ عَن وَجه رَسُول الله، عليه السلام، فَأصَاب خِنْصره، فَقَالَ حِين أَصَابَته الرَّمية: حيس، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: لَو قَالَ: بِسم الله لدخل الْجنَّة وَالنَّاس ينظرُونَ. وَقيل: جرح فِي ذَلِك الْيَوْم خمْسا وَسبعين جِرَاحَة، وشلت أصبعاه، وَسَماهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، طَلْحَة الْخَيْر، وَطَلْحَة الْجواد. رُوِيَ لَهُ ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على حديثين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بحديثين، وَمُسلم بِثَلَاثَة، قتل يَوْم الْجمل، أَتَاهُ سهم لَا يدْرِي من وَرَاءه، واتتهم بِهِ مَرْوَان، لعشر خلون من جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ عَن أَربع وَسِتِّينَ سنة، وَقيل: اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَقيل: ثَمَان وَخمسين، وقبره بِالْبَصْرَةِ، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: دفن بقنطرة قُرَّة، ثمَّ رَأَتْ بنته بعد ثَلَاثِينَ سنة فِي الْمَنَام أَنه يشكو إِلَيْهَا النداوة، فَأمرت فاستخرج طريا وَدفن فِي دَار الهجرتين بِالْبَصْرَةِ، وقبره مَشْهُور، رضي الله عنه، روى لَهُ الْجَمَاعَة. وَطَلْحَة فِي الصَّحَابَة جمَاعَة، وَطَلْحَة بن عبيد الله اثْنَان: هَذَا أَحدهمَا، وَثَانِيهمَا التَّيْمِيّ، وَكَانَ يُسمى أَيْضا: طَلْحَة الْخَيْر، فأشكل على النَّاس.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ أَولا حَدثنَا إِسْمَاعِيل، ثمَّ حَدثنِي مَالك، لِأَن فِي الأول الشَّيْخ قَرَأَ لَهُ وَلغيره، وَفِي الثَّانِي: قَرَأَ لَهُ وَحده، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث وَالسَّمَاع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رِجَاله كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده مسلسل بالأقارب، لِأَن إِسْمَاعِيل يروي عَن خَاله عَن عَمه عَن أَبِيه. فَإِن قلت: حكى الكلاباذي وَغَيره عَن ابْن سعد عَن الْوَاقِدِيّ أَن مَالك بن أبي عَامر توفّي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَة، وَأَنه بلغ من الْعُمر: سبعين أَو اثْنَتَيْنِ وَسبعين، فعلى هَذَا يكون مولده بعد موت طَلْحَة بِسنتَيْنِ. قلت: قَالَ بَعضهم: لَعَلَّه صحف التسعين بالسبعين، وَحكى الْمُنْذِرِيّ عَن ابْن عبد الْبر أَن وَفَاته سنة مائَة أَو نَحْوهَا، فَيصح على هَذَا، ويستقيم. وَقد ثَبت سَماع مَالك مِنْهُ وَمن غَيره كعثمان، رضي الله عنه، نبه عَلَيْهِ الثَّوْريّ وَغَيره.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشَّهَادَات عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَأخرجه أَيْضا فِي الصَّوْم، وَفِي ترك الْحِيَل عَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن أبي سُهَيْل بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة وَيحيى بن أَيُّوب كِلَاهُمَا عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ، وَقَالَ مُسلم فِي حَدِيث يحيى بن أَيُّوب: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (أَفْلح وَأَبِيهِ إِن صدق) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ، وَعَن أبي الرّبيع سُلَيْمَان بن دَاوُد عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَفِي الصَّوْم عَن عَليّ بن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ، وَفِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن عبد الرَّحْمَن بن قَاسم عَن مَالك بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (من أهل نجد) بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْجِيم، قَالَ الْجَوْهَرِي: نجد من بِلَاد الْعَرَب، وكل مَا ارْتَفع من تهَامَة إِلَى أَرض الْعرَاق فَهُوَ نجد، وَهُوَ مُذَكّر. قلت: النجد النَّاحِيَة الَّتِي بَين الْحجاز وَالْعراق، وَيُقَال: مَا بَين الْعرَاق وَبَين وجرة وغمرة الطَّائِف نجد، وَيُقَال: هُوَ مَا بَين جرش وَسَوَاد الْكُوفَة، وَحده من الغرب الْحجاز، وَفِي (الْعباب) : نجد من بِلَاد الْعَرَب، خلاف الْغَوْر، والغور هُوَ تهَامَة، وكل مَا ارْتَفع من تهَامَة إِلَى أَرض الْعرَاق فَهُوَ نجد، وَهُوَ فِي الأَصْل مَا ارْتَفع من الأَرْض، وَالْجمع: نجاد ونجود وانجد. قَوْله: (ثَائِر الرَّأْس) أَي: منتفش شعر الرَّأْس ومنتشره، يُقَال: ثار الْغُبَار أَي: انتفش، وفتنة ثائرة أَي: منتشرة. قلت: مادته واوية من: ثار الْغُبَار يثور ثورا، وَحَاصِله أَن شعره متفرق منتشر من عدم الارتفاق والرفاهية. قَوْله:(دوى صَوته) ، بِفَتْح الدَّال وَكسر الْوَاو وَتَشْديد الْيَاء، كَذَا هُوَ فِي عَامَّة الرِّوَايَات، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: جَاءَ عندنَا فِي البُخَارِيّ، بِضَم الدَّال. قَالَ: وَالصَّوَاب الْفَتْح، قَالَ الْخطابِيّ: الدوي: صَوت مُرْتَفع متكرر لَا يفهم، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك لِأَنَّهُ نَادَى من بعد، وَيُقَال الدوي: بعد الصَّوْت فِي الْهَوَاء وعلوه، وَمَعْنَاهُ: صَوت شَدِيد لَا يفهم مِنْهُ شَيْء كَدَوِيِّ النَّحْل. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: هُوَ شدَّة الصَّوْت وَبعده فِي الْهَوَاء، مَأْخُوذ من دوِي الرَّعْد، وَيُقَال: هُوَ شدَّة صَوت لَا يفهم، فَلَمَّا دنا فهم كَلَامه، فَلهَذَا قَالَ: فَلَمَّا دنا فَإِذا هُوَ يسْأَل. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: دوِي الرّيح حفيفها، وَكَذَلِكَ دوِي النَّحْل والطائر وَيُقَال: دوى النَّحْل تدوية، وَذَلِكَ إِذا سَمِعت لهديره دويا، والدوي أَيْضا السَّحَاب ذُو الرَّعْد المرتجس. قَوْله:(وَلَا يفقه) من الْفِقْه وَهُوَ الْفَهم، قَالَ الله تَعَالَى:{يفقهوا قولي} (طه: 28) أَي يفهموا. قَوْله: (حَتَّى دنا) من الدنو وَهُوَ التَّقَرُّب. قَوْله: (إِلَّا أَن تطوع)، بتَشْديد الطَّاء وَالْوَاو كليهمَا أَصله: تتطوع بتائين فادغمت إِحْدَى التائين فِي الطَّاء، وَيجوز تَخْفيف الطَّاء على الْحَذف، أَعنِي: حذف إِحْدَى التائين، وَأي التائين هِيَ المحذوفة فِيهِ خلاف، فَقَالَ بَعضهم: حذف التَّاء الزَّائِدَة أولى لزيادتها. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْأَصْلِيَّة أولى بالحذف، لِأَن الزَّائِدَة إِنَّمَا دخلت لإِظْهَار معنى فَلَا تحذف، لِئَلَّا يَزُول الْغَرَض الَّذِي لأَجله دخلت، وَيجوز إِظْهَار التائين أَيْضا من غير إدغام، وَهَذِه ثَلَاثَة أوجه فِي الْمُضَارع. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمَشْهُور التَّشْدِيد، وَمَعْنَاهُ: إلَاّ أَن تَفْعَلهُ بطواعيتك. وَفِي ماضيه لُغَتَانِ: تطوع وأطوع، وَكِلَاهُمَا يفعل، إِلَّا أَن إدغام التَّاء فِي الطَّاء أوجب جلب ألف الْوَصْل ليتَمَكَّن من النُّطْق بالساكن. قَوْله:(فادبر) من الإدبار وَهُوَ التولي. قَوْله: (أَفْلح) من الإفلاح وَهُوَ الْفَوْز والبقاء، وَقيل: هُوَ الظفر وَإِدْرَاك البغية، وَقيل: إِنَّه عبارَة عَن أَرْبَعَة أَشْيَاء: بَقَاء بِلَا فنَاء وغناء بِلَا فقر، وَعز بِلَا ذل، وَعلم بِلَا جهل. قَالُوا: وَلَا كلمة فِي اللُّغَة أجمع لِلْخَيْرَاتِ مِنْهُ، وَالْعرب تَقول لكل من أصَاب خيرا: مُفْلِح، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: أَفْلح الرجل وأنجح: أدْرك مَطْلُوبه.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (من أهل نجد) فِي مجل الرّفْع لِأَنَّهُ صفة لقَوْله: رجل. قَوْله: (ثَائِر الرَّأْس) يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه صفة لرجل، وَأما النصب فعلى أَنه حَال، وَهَهُنَا سؤالان أَحدهمَا: ذكره الْكرْمَانِي وَأجَاب عَنهُ، وَهُوَ أَن شَرط الْحَال أَن تكون نكرَة، وَهُوَ مُضَاف فَيكون معرفَة فَأجَاب: بِأَن إِضَافَته لفظية فَلَا تفِيد إلَاّ تَخْفِيفًا. وَالْآخر: ذكرته فِي
شرح سنَن أبي دَاوُد، وَهُوَ أَنه إِذا وَقع الْحَال عَن النكرَة وَجب تَقْدِيم الْحَال على ذِي الْحَال، فَكيف يكون هَذَا حَالا؟ قلت: يجوز وُقُوع صَاحبهَا نكرَة من غير تَأْخِير إِذا اتّصف بِشَيْء كَمَا فِي الْمُبْتَدَأ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فِيهَا يفرق كل أَمر حَكِيم أمرا من عندنَا} (الدُّخان: 4) أَو أضيف، نَحْو: جَاءَ غُلَام رجل قَائِما، أَو وَقع بعد نفي كَقَوْلِه تَعَالَى:{وَمَا أهلكنا من قَرْيَة إلَاّ وَلها كتاب مَعْلُوم} (الْحجر: 4) وَهنا اتصفت النكرَة بقوله: من أهل نجد، فَافْهَم. قَوْله:(يسمع) بِضَم الْيَاء على صِيغَة الْمَجْهُول، (ودوي صَوته) كَلَام أضافي مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَفِي رِوَايَة: نسْمع، بالنُّون المصدرة للْجَمَاعَة، ودوي صَوته بِالنّصب على أَنه مفعول، وَكَذَلِكَ: وَلَا نفقه، بالنُّون. وَقَوله:(مَا يَقُول) فِي مَحل النصب على أَنه مفعول، وَهَذِه الرِّوَايَة هِيَ الْمَشْهُورَة، وَعَلَيْهَا الِاعْتِمَاد. وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة، و: يَقُول، جملَة صلتها، والعائد مَحْذُوف تَقْدِيره: مَا يَقُوله. قَوْله: (حَتَّى) هُنَا للغاية بِمَعْنى: إِلَى أَن دنا. قَوْله: (فَإِذا) هِيَ الَّتِي للمفاجأة. وَقَوله: (هُوَ) مُبْتَدأ، و:(يسْأَل عَن الْإِسْلَام) خَبره. وَقد علم أَن إِذا الَّتِي للمفاجأة تخْتَص بالجمل الاسمية، وَلَا تحْتَاج إِلَى الْجَواب، وَلَا تقع فِي الِابْتِدَاء. وَمَعْنَاهُ الْحَال لَا الِاسْتِقْبَال، وَهِي حرف عِنْد الْأَخْفَش وَاخْتَارَهُ ابْن مَالك، وظرف مَكَان، عِنْد الْمبرد وَاخْتَارَهُ ابْن عُصْفُور؛ وظرف زمَان عِنْد الزّجاج وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيّ. قَوْله:(خمس صلوَات) يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب والجر. أما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هِيَ خمس صلوَات. وَأما النصب فعلى تَقْدِير: خُذ خمس صلوَات أَو هاك
…
أَو نَحْوهمَا. وَأما الْجَرّ فعلى أَنه بدل من الْإِسْلَام، وَفِيه حذف أَيْضا تَقْدِيره إِقَامَة خمس صلوَات. عين الصَّلَوَات الْخمس لَيست عين الاسلام، بل إِقَامَتهَا من شرائع الْإِسْلَام. قَوْله:(فَقَالَ) أَي: الرجل الْمَذْكُور، و:(هَل) للاستفهام، و (غَيرهَا) بِالرَّفْع مُبْتَدأ و (عَليّ) مقدما خَبره. قَوْله:(فَقَالَ: لَا)، أَي: فَقَالَ الرَّسُول، عليه السلام، لَيْسَ عَلَيْك شَيْء غَيرهَا. قَوْله:(إِلَّا أَن تطوع) اسْتثِْنَاء من قَوْله: لَا، وَسَيَجِيءُ الْكَلَام فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله:(وَصِيَام شهر رَمَضَان) كَلَام إضافي مَرْفُوع عطف على قَوْله: خمس صلوَات. قَوْله: (قَالَ وَذكر لَهُ رَسُول الله عليه الصلاة والسلام أَي: قَالَ الرَّاوِي، وَهُوَ طَلْحَة بن عبيد الله. قَوْله: (وَهُوَ يَقُول) جملَة حَالية. قَوْله: (افلح) أَي الرجل. قَوْله: (إِن صدق) أَي فِي كَلَامه وَجَوَاب أَن مَحْذُوف فَافْهَم.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (جَاءَ رجل) ، هُوَ ضمام بن ثَعْلَبَة أَخُو بني سعد بن بكر، قَالَه القَاضِي مستدلاً بِأَن البُخَارِيّ سَمَّاهُ فِي حَدِيث اللَّيْث، يُرِيد مَا أخرجه فِي بَاب الْقِرَاءَة، وَالْعرض على الْمُحدث عَن شريك عَن أنس قَالَ:(بَيْنَمَا نَحن جُلُوس فِي الْمَسْجِد، إِذْ دخل رجل على جمل، فأناخه فِي الْمَسْجِد) وَفِيه (ثمَّ قَالَ: أَيّكُم مُحَمَّد؟) وَذكر الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ:(وَأَنا ضمام بن ثَعْلَبَة أَخُو بني سعد بن بكر) ، فَجعل حَدِيث طَلْحَة هَذَا وَحَدِيث أنس هَذَا لَهُ، وَتَبعهُ ابْن بطال وَغَيره وَفِيه نظر لتباين ألفاظهما، كَمَا نبه عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيّ، وَأَيْضًا فَإِن إِبْنِ إِسْحَاق فَمن بعده: كَابْن سعد وَابْن عبد الْبر لم يذكرُوا لضمام غير حَدِيث أنس. قَوْله: (ثَائِر الرَّأْس) أَي: ثَائِر شعر الرَّأْس، وَأطلق اسْم الرَّأْس على الشّعْر، إِمَّا لِأَن الشّعْر مِنْهُ ينْبت، كَمَا يُطلق اسْم السَّمَاء على الْمَطَر لِأَنَّهُ من السَّمَاء ينزل، وَإِمَّا لأنَّه جعل نفس الرَّأْس ذَا ثوران على طَرِيق الْمُبَالغَة، أَو يكون من بَاب حذف الْمُضَاف بِقَرِينَة عقلية. قَوْله:(عَن الْإِسْلَام) أَي: عَن أَرْكَان الاسلام، وَلَو كَانَ السُّؤَال عَن نفس الْإِسْلَام كَانَ الْجَواب غير هَذَا، لِأَن الْجَواب يَنْبَغِي أَن يكون مطابقا للسؤال، فَلَمَّا أجَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم بقوله:(خمس صلوَات) عرف أَن سُؤَاله كَانَ عَن أَرْكَان الْإِسْلَام وشرائعه، فَأجَاب مطابقا لسؤاله. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيُمكن أَنه سَأَلَهُ عَن حَقِيقَة الْإِسْلَام، وَقد ذكر لَهُ الشَّهَادَة فَلم يسْمعهَا طَلْحَة مِنْهُ لبعد مَوْضِعه، أَو لم يَنْقُلهُ لشهرته. قلت: هَذَا بعيد، إِذْ لَو كَانَ السُّؤَال عَن حَقِيقَة الْإِسْلَام لما كَانَ الْجَواب مطابقا للسؤال، وَفِيه نِسْبَة الرَّاوِي الصَّحَابِيّ إِلَى التَّقْصِير فِي إبلاغ كَلَام الرَّسُول، وَقد ندب النَّبِي، عليه السلام، إِلَى ضبط كَلَامه وَحفظه وإبلاغه مثل مَا سَمعه مِنْهُ فِي حَدِيثه الْمَشْهُور. قَوْله:(إِلَّا أَن تطوع) هَذَا الِاسْتِثْنَاء يجوز أَن يكون مُنْقَطِعًا، بِمَعْنى: لَكِن، وَيجوز أَن يكون مُتَّصِلا واختارت الشَّافِعِيَّة الِانْقِطَاع، وَالْمعْنَى: لَكِن اسْتحبَّ لَك أَن تطوع، واختارت الْحَنَفِيَّة الِاتِّصَال فَإِنَّهُ هُوَ
الأَصْل فِي الِاسْتِثْنَاء، ويستدل بِهِ على أَن من شرع فِي صَلَاة نفل أَو صَوْم نفل وَجب عَلَيْهِ اتمامه، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} (مُحَمَّد: 33) وبالاتفاق على أَن حج التَّطَوُّع يلْزم بِالشُّرُوعِ. وَلما حملت الشَّافِعِيَّة على الِانْقِطَاع قَالُوا: لَا تلْزم النَّوَافِل بِالشُّرُوعِ، وَلَكِن يسْتَحبّ لَهُ إِتْمَامه، وَلَا يجب بل يجوز قطعه. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الحَدِيث متمسك لنا فِي أصلين: أَحدهمَا فِي شُمُول عدم الْوُجُوب فِي غير مَا ذكر فِي الحَدِيث، كَعَدم وجوب الْوتر. وَالثَّانِي: فِي أَن الشُّرُوع غير مُلْزم لِأَنَّهُ نفي وجوب شَيْء آخر مُطلقًا شرع فِيهِ أَو لم يشرع، وَتمسك الْخصم بِهِ على أَن الشُّرُوع مُلْزم لِأَنَّهُ نفي وجوب شَيْء آخر إلَاّ مَا تطوع بِهِ، وَالِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، فَيكون الْمُثبت بِالِاسْتِثْنَاءِ وجوب مَا تطوع بِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوب. قَالَ: وَهَذَا مغالطة، لِأَن هَذَا الِاسْتِثْنَاء من وَادي قَوْله تَعَالَى:{لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} (الدُّخان: 56) أَي: لَا يجب شَيْء إلَاّ أَن اتطوع، وَقد علم أَن التَّطَوُّع لَيْسَ بِوَاجِب، فَلَا يجب شَيْء آخر أصلا. قلت: أما الأول: فَلَا نسلم شُمُول عدم الْوُجُوب مُطلقًا، بل الشُّمُول بِالنّظرِ إِلَى تِلْكَ الْحَالة، وَوقت الْإِخْبَار، وَالْوتر لم يكن وَاجِبا حِينَئِذٍ، يدل عَلَيْهِ أَنه لم يذكر الْحَج وَالْوتر مثله. وَأما الثَّانِي: فَلَيْسَ من وَادي قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} (الدُّخان: 56) على أَن يكون الْمَعْنى: لَا يجب شَيْء، إلَاّ أَن تطوع، بل معنى إلَاّ أَن تطوع: أَن تشرع فِيهِ، فَيصير وَاجِبا كَمَا يصير وَاجِبا بِالنذرِ. وَقَالَ بَعضهم: من قَالَ: إِنَّه مُنْقَطع احْتَاجَ إِلَى دَلِيل، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا روى النَّسَائِيّ وَغَيره أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ أَحْيَانًا يَنْوِي صَوْم التَّطَوُّع ثمَّ يفْطر، وَفِي البُخَارِيّ أَنه أَمر جوَيْرِية بنت الْحَارِث أَن تفطر يَوْم الْجُمُعَة. بعد أَن شرعت فِيهِ، فَدلَّ على أَن الشُّرُوع فِي الْعِبَادَة لَا يسْتَلْزم الْإِتْمَام إلَاّ إِذا كَانَت نَافِلَة بِهَذَا النَّص فِي الصَّوْم، وبالقياس فِي الْبَاقِي. قلت: من الْعجب أَن هَذَا الْقَائِل كَيفَ لم يذكر الْأَحَادِيث الدَّالَّة على استلزام الشُّرُوع فِي الْعِبَادَة بالإتمام، وعَلى الْقَضَاء بالإفساد، وَقد روى أَحْمد فِي مُسْنده، عَن عَائِشَة، رضي الله عنها، قَالَت: أَصبَحت أَنا وَحَفْصَة صائمتين، فأهديت لنا شَاة فأكلنا مِنْهَا، فَدخل علينا النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرنَاهُ فَقَالَ:(صوما يَوْمًا مَكَانَهُ) . وَفِي لفظ آخر: بَدَلا، أَمر بِالْقضَاءِ. وَالْأَمر للْوُجُوب، فَدلَّ على أَن الشُّرُوع ملزوم، وَأَن الْقَضَاء بالإفساد وَاجِب. وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن أم سَلمَة أَنَّهَا صَامت يَوْمًا تَطَوّعا فأفطرت، فَأمرهَا النَّبِي، عليه السلام، أَن تقضي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَحَدِيث النَّسَائِيّ لَا يدل على أَنه، عليه السلام، ترك الْقَضَاء بعد الْإِفْطَار، وإفطاره رُبمَا كَانَ عَن عذر. وَحَدِيث جوَيْرِية إِنَّمَا أمرهَا بالأفطار عِنْد تحقق وَاحِد من الْأَعْذَار: كالضيافة، وكل مَا جَاءَ من أَحَادِيث هَذَا الْبَاب فَمَحْمُول على مثل هَذَا، وَلَو وَقع التَّعَارُض بَين الْأَخْبَار، فالترجيح مَعْنَاهُ لثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا إِجْمَاع الصَّحَابَة، وَالثَّانِي: أَن أحاديثنا مثبتة وأحاديثهم نَافِيَة، والمثبت مقدم. وَالثَّالِث: أَنه احْتِيَاط فِي الْعِبَادَة فَافْهَم. قَوْله: (وَذكر لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الزَّكَاة) هَذَا قَول الرَّاوِي، كَأَنَّهُ نسي مَا نَص عَلَيْهِ رَسُول الله والتبس عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَذكر لَهُ الزَّكَاة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: وَذكر لَهُ، عليه السلام، الصَّدَقَة. وَالْمرَاد مِنْهَا: الزَّكَاة أَيْضا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} (التَّوْبَة: 60) وَهَذَا يُؤذن بِأَن مُرَاعَاة الْأَلْفَاظ مَشْرُوطَة فِي الرِّوَايَة، فَإِذا الْتبس عَلَيْهِ يُشِير فِي لَفظه إِلَى مَا ينبىء عَنهُ، كَمَا فعل الرَّاوِي هَهُنَا، وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر قَالَ:(فَأَخْبرنِي بِمَا فرض الله عَليّ من الزَّكَاة) . قَالَ: فَأخْبر رَسُول الله، عليه الصلاة والسلام بشرائع الْإِسْلَام. قَوْله:(وَالله لَا أَزِيد على هَذَا وَلَا أنقص)، وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر:(وَالَّذِي أكرمك) أَي: لَا أَزِيد على مَا ذكرت وَلَا أنقص مِنْهُ شَيْئا. قَوْله: (أَفْلح إِن صدق) وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عِنْد مُسلم: (أَفْلح وَأَبِيهِ إِن صدق، أَو دخل الْجنَّة وَأَبِيهِ إِن صدق) . وَلأبي دَاوُد مثله، لَكِن بِحَذْف: أَو. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قيل: الْفَلاح رَاجع إِلَى لفظ: وَلَا أنقص خَاصَّة، وَالْمُخْتَار أَنه رَاجع إِلَيْهِمَا بِمَعْنى أَنه إِذا لم يزدْ وَلم ينقص كَانَ مفلحا، لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ، وَمن أَتَى بِمَا عَلَيْهِ كَانَ مفلحا، وَلَيْسَ فِيهِ أَنه إِذا أَتَى بزائد على ذَلِك لَا يكون مفلحا، لِأَن هَذَا مِمَّا يعرف بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّهُ إِذا أَفْلح بِالْوَاجِبِ ففلاحه بالمندوب مَعَ الْوَاجِب أولى، وَقَالَ ابْن بطال: دلّ قَوْله: أَفْلح إِن صدق على أَنه إِن لم يصدق فِي التزامها أَنه لَيْسَ بمفلح، وَهَذَا خلاف قَول المرجئة. وَيُقَال: يحْتَمل أَن يكون السَّائِل رَسُولا، فَحلف أَن لَا أَزِيد فِي الإبلاغ على مَا سَمِعت، وَلَا أنقص فِي تَبْلِيغ مَا سمعته مِنْك إِلَى قومِي. وَيُقَال: يحْتَمل صُدُور هَذَا الْكَلَام مِنْهُ على الْمُبَالغَة فِي التَّصْدِيق وَالْقَبُول، أَي: قبلت قَوْلك فِيمَا سَأَلتك عَنهُ قبولاً لَا مزِيد عَلَيْهِ من جِهَة السُّؤَال، وَلَا نُقْصَان فِيهِ من طرق الْقبُول. وَيُقَال: يحْتَمل أَن هَذَا كَانَ قبل شَرْعِيَّة أَمر آخر، وَيُقَال: يحْتَمل أَنه أَرَادَ: لَا أَزِيد عَلَيْهِ بتغيير حَقِيقَته، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُصَلِّي الظّهْر خمْسا. وَيُقَال: يحْتَمل أَنه أَرَادَ أَنه لَا يُصَلِّي النَّوَافِل بل يحافظ على كل الْفَرَائِض، وَهَذَا مُفْلِح بِلَا شكّ، وَإِن كَانَت مواظبته على ترك النَّوَافِل مذمومة. وَيُقَال: يحْتَمل أَنه المُرَاد أَنِّي لَا أَزِيد على
شرائع الْإِسْلَام وَلَا أنقص مِنْهَا شَيْئا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الصّيام قَالَ:(وَالَّذِي أكرمك لَا أتطوع شَيْئا وَلَا أنقص مِمَّا فرض الله تَعَالَى عَليّ شَيْئا) .
بَيَان استنباط الاحكام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: ان الصَّلَاة ركن من أَرْكَان الاسلام. الثَّانِي: أَنَّهَا خمس صلوَات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة. الثَّالِث: ان الصَّوْم أَيْضا ركن من أَرْكَان الاسلام، وَهُوَ فِي كل سنة شهر وَاحِد. الرَّابِع: أَن الزَّكَاة أَيْضا ركن من أَرْكَان الاسلام. الْخَامِس: عدم وجوب قيام اللَّيْل، وَهُوَ إِجْمَاع فِي حق الامة، وَكَذَا فِي حق سيدنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على الاصح. السَّادِس: عدم وجوب الْعِيدَيْنِ. وَقَالَ الاصطخري، من أَصْحَاب الشَّافِعِي: صَلَاة الْعِيدَيْنِ فرض كِفَايَة. السَّابِع: عدم وجوب صَوْم عَاشُورَاء وَغَيره سوى رَمَضَان، وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ الْآن، وَاخْتلفُوا أَن صَوْم عَاشُورَاء كَانَ وَاجِبا قبل رَمَضَان أم لَا؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِي فِي الْأَظْهر مَا كَانَ وَاجِبا، وَعند أبي حنيفَة، رضي الله عنه، كَانَ وَاجِبا، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيّ. الثَّامِن: انه لَيْسَ فِي المَال حق سوى الزَّكَاة على من ملك نِصَابا وَتمّ عَلَيْهِ الْحول. التَّاسِع: أَن من يَأْتِي بالخصال الْمَذْكُورَة ويواظب عَلَيْهَا صَار مفلحاً بِلَا شكّ. الْعَاشِر: أَن السّفر والارتحال من بلد إِلَى بلد لأجل تعلم علم الدّين وَالسُّؤَال عَن الأكابر أَمر مَنْدُوب. الْحَادِي عشر: جَوَاز الْحلف بِاللَّه تَعَالَى من غير استحلاف وَلَا ضَرُورَة، لِأَن الرجل حلف هَكَذَا بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَلم يُنكر عَلَيْهِ. الثَّانِي عشر: صِحَة الِاكْتِفَاء بالاعتقاد من غير نظر وَلَا اسْتِدْلَال، لكنه يحْتَمل ان ذَلِك صَحَّ عَنهُ بِالدَّلِيلِ. وَإِنَّمَا أشكلت عَلَيْهِ الْأَحْكَام. الثَّالِث عشر: فِيهِ الرَّد على المرجئة، إِذْ شَرط فِي فلاحه أَن لَا ينقص من الْأَعْمَال والفرائض الْمَذْكُورَة. الرَّابِع عشر: فِيهِ جَوَاز قَول: رَمَضَان، من غير ذكر: شهر. الْخَامِس عشر: فِيهِ اسْتِعْمَال الصدْق فِي الْخَبَر الْمُسْتَقْبل، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْكَذِب مُخَالفَة الْخَبَر فِي الْمَاضِي، وَالْحلف فِي مُخَالفَته فِي الْمُسْتَقْبل، فَيجب على هَذَا أَن يكون الصدْق فِي الْخَبَر عَن الْمَاضِي، وَالْوَفَاء فِي الْمُسْتَقْبل، وَفِي هَذَا الحَدِيث مَا يرد عَلَيْهِ مَعَ قَوْله تَعَالَى {ذَلِك وعد غير مَكْذُوب} (هود: 65) .
الاسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: كَيفَ أثبت لَهُ الْفَلاح بِمُجَرَّد مَا ذكر مَعَ أَنه لم يذكر المنهيات وَلَا جَمِيع الْوَاجِبَات؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، فِي آخر هَذَا الحَدِيث، قَالَ: فاخبره رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الْإِسْلَام، فَأَدْبَرَ الرجل وَهُوَ يَقُول: لَا أَزِيد وَلَا أنقص مِمَّا فرض الله عَليّ شَيْئا، فعلى عُمُوم قَوْله بشرائع الْإِسْلَام، وَقَوله: مِمَّا فرض الله، يَزُول الْإِشْكَال فِي الْفَرَائِض. وَأما النَّوَافِل فَقيل: يحْتَمل أَن هَذَا كَانَ قبل شرعها، وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ أَنه لَا يُصَلِّي النَّافِلَة مَعَ أَنه لَا يخل بِشَيْء من الْفَرَائِض، وَأما المنهيات فَإِنَّهَا دَاخِلَة فِي شرائع الْإِسْلَام. وَقَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك وَقع قبل وُرُود النَّهْي. قلت: فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ جزم بِأَن السَّائِل هُوَ ضمام بن ثَعْلَبَة وَقد قيل إِنَّه وَفد سنة خمس، وَقيل: بعد ذَلِك، وَكَانَ أَكثر المنهيات وَاقعَة قبل ذَلِك. وَمِنْهَا مَا قيل: إِنَّه لم يذكر الْحَج فِي هَذَا الحَدِيث. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لم يفْرض حِينَئِذٍ أَو لِأَن الرجل سَأَلَ عَن حَاله حَيْثُ قَالَ: هَل عَليّ غَيرهَا؟ فاجاب عليه السلام بِمَا عرف من حَاله، وَلَعَلَّه مِمَّن لم يكن الْحَج وَاجِبا عَلَيْهِ. وَقيل: لم يَأْتِ فِي هَذَا الحَدِيث بِالْحَجِّ كَمَا لم يذكر فِي بَعْضهَا الصَّوْم وَفِي بَعْضهَا الزَّكَاة، وَقد ذكر فِي بَعْضهَا صلَة الرَّحِم وَفِي بَعْضهَا أَدَاء الْخمس، فتفاوتت هَذِه الْأَحَادِيث فِي عدد خِصَال الْإِيمَان زِيَادَة ونقصاناً، وَسبب ذَلِك تفَاوت الروَاة فِي الْحِفْظ والضبط، فَمنهمْ من إقتصر على مَا حفظه فأداه وَلم يتَعَرَّض لما زَاده غَيره بِنَفْي وَلَا اثبات، وَذَلِكَ لَا يمْنَع من ايراد الْجَمِيع فِي الصَّحِيح، لما عرفت أَن زِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة، وَالْقَاعِدَة الْأُصُولِيَّة فِيهَا أَن الحَدِيث إِذا رَوَاهُ راويان، واشتملت إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ على زِيَادَة، فَإِن لم تكن مُغيرَة لإعراب الْبَاقِي قبلت، وَحمل ذَلِك على نِسْيَان الرَّاوِي أَو ذُهُوله أَو اقْتِصَاره بِالْمَقْصُودِ مِنْهُ فِي صُورَة الاستشهاد، وَإِن كَانَت مُغيرَة تَعَارَضَت الرِّوَايَتَانِ وَتعين طلب التَّرْجِيح، فَافْهَم. وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ أقره على حلفه وَقد ورد النكير على من حلف أَن لَا يفعل خيرا؟ وَأجِيب: بِأَن ذَلِك يخْتَلف باخْتلَاف الْأَحْوَال والأشخاص، وَهَذَا جَار على الأَصْل بِأَنَّهُ لَا إِثْم على غير تَارِك الْفَرَائِض فَهُوَ مُفْلِح، وَإِن كَانَ غَيره أَكثر فلاحاً مِنْهُ. وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ الْجمع بَين حلفه بقوله: وَأَبِيهِ إِن صدق، مَعَ نَهْيه عَن الْحلف بِالْآبَاءِ؟ وَأجِيب: بِأَن ذَلِك كَانَ قبل النَّهْي، أَو بِأَنَّهَا كلمة جَارِيَة على اللِّسَان لَا يقْصد بهَا الْحلف، كَمَا جرى على لسانهم: عقرى حلقى، وتربت يَمِينك، وَالنَّهْي إِنَّمَا ورد فى القاصد بِحَقِيقَة الْحلف