الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
ال
مقدمة
الحمد لله القائل {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} والصلاة والسلام على من قيل له {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} صلى الله وسلم وبارك على نبي الهدى ومصباح الدجى محمد الذي أنار الله به السبل وألف بين مناهجها حتى صارت سبيلا واحدا يدعو إلى الله على بصيرة هو ومن اتبعه. ورضي الله عن السائرين في سبيل الحق هداة مهتدين بنور القرآن، مستمسكين بعروته الوثقى التي لا تفصمها هجمة هوى، ولا تغادر عنها بثبوت الحق زعزعة النفس ضلالا وغواية رضي الله عن أولئك الذين استعملهم في سبيل القرآن حَفَظَة لرايته، واستنطق بهم ما طواه العداء للقرآن من أعدائه، فراح الكرام العالمون يسلون سيوف البيان والإفصاح عن براهين تَبايُنِ كلام الله عن كلام الخلق. أسكنهم الله فسيح جناته لقاء ما أفسحوا من مجالات الدراسة، وجزاء ما أسهموا به من ضروب الكياسة، وكل هذا يمثل مظهرا من مظاهر معنى قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
أما بعد:
فكل كتاب يَرِثُّ كلامُه بكثرة البحث فيه، وتنضو الأفكار منه وينضب عطاؤه إلا القرآن الكريم، فإنه كلما قرأته ألفيت نفسك غير التي كانت بالأمس تقرأ، فالقرآن هو هو، وما تَلَقَّاه قارئه اليوم غير ما فتح عليه منه بالأمس، فإنك لا تجد واحدا من الكتب غير القرآن يعطيك هذا، يؤتيك كل
يوم نفسا تقرأ في كل مرة أول مرة، إذ حين تقرؤه ألف مرة تكون كمن قرأ ألف كتاب، ومن يستزده يزده.
"ومن إعجاز القرآن أن يظل مشغلة الدارسين والعلماء جيلا بعد جيل، ثم يبقى أبدا رحب المدى سخيَّ المورد، كلما حسب جيل أنه بلغ منه الغاية امتد الأفق بعيداً وراء كل مطمح، عاليا يفوق طاقة الدارسين (1) ".
وتجلت عظمة الإسلام في كون معجزتِه الخالدةِ هو القرآن، والقرآن كلام، وكل ما عدا الكلام في تغير وتطور مستمر، والكلام البشرى وحده الذي إن لم يقل في عطائه لم يزد، وكل كلام له حد يبلغه معناه، والقرآن لا حد لمعناه وإن حصر كلامُه بين دفتي المصحف.
إنه لبرهان خالد ساطع الدلالة على صحة الدعوة الإسلامية الخاتمة وصدقها.
ولما كانت اللغة مطايا المعاني تبدى لدى الأوائل أن الكلام من حيثيات مختلفة مقصود التحدي فأبدى المختصون منهم وجوه إعجاز فيما يتعلق بلغة القرآن ونظمه، وأساليب الكلام وسائر ما عَنَّ لهم وعَرض في دراستهم. فتشعبت في ذلك فنون وعلوم، ونشأت معارف.
وحين تحَّوَل العرب من جودةٍ إلى اختلالٍ في أركان القريحة العربية في قواعدها وألفاظها نجد تحولا عجيبا يؤكد بقاء هذا الكتاب على نفس صورة عظمته لدى الأوائل، فكانت وجوه الإعجاز مضيئة عمر الأمة الخاتمة منذ عهدها الأول وحتى عصرنا هذا، وإلى ما شاء الله.
(1) من كتاب الإعجاز البياني للقرآن – عائشة عبد الرحمن. بنت الشاطئ صـ17.
وتمثلت عناية المسلمين بهذا المجال أولَ الأمر في صورة الدفاع عن القرآن حتى أصبح هذا علما أفضى إلى علم كالبلاغة، واستقر بقاء الثاني أمارة على الأول، فالبلاغة مفتاح كشف وجه الإعجاز، ووجوه الإعجاز أساس علم البلاغة.
والقرآن كنز يستفتحه كل عصر بأدواته ليأخذ منه ما تسنى له من جواهره ودرره، وهو كريم كلما استثير أعطى، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"من أراد العلم فليثور القرآن فإنه فيه علم الأولين والآخرين"(1) ، لذلك كان علينا أن نستزيد من العلم بالقرآن بكثرة مدارسته، فإنه لا يخلق على كثرة الرد، بل تَرْكُه دون إثارة فيه أفدح خسارة، فعن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال:"سَيَبْلَى القرآنُ في صدور أقوام كما يبلى الثوب، فيتهافت يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا سنبلغ، وإن أساءوا قالوا سيُغفر لنا إنا لا نشرك بالله شيئا"(2) .
وهو غير مُتَبَذَّل، وخفاؤه فى يسره، تمر به مرَّ الغافل فلا يزجي إليك منه شيئا، إذ هو لنزاهته أغفل منك عنك إن غفلت عنه، وإن أعطيته نفسك أعطاك رفده، وهو حَمَّال أوجه، وإلى هذه النكتة أشار أبو الدرداء رضي الله
(1) رواه ابن أبى شيبة في مصنفه 10/ 485 نقلا عن كتاب معرفة شأن القرآن إعداد محمد أبو البشر رفيع الدين صـ 86.
(2)
أخرجه الدارمي في سننه رقم 2312 كتاب فضائل القرآن باب تعاهد القرآن، نقلا عن الكتاب السابق الإشارة إليه. صـ 79
عنه حين قال "لا يكون الرجل فقيها حتى يحمل الآية الواحدة على محامل متعددة (1)
ويدور القرآن مع الزمن فيفيض عليه من سَيْبه حسب طلعة السائرين على مدرجات هذا الزمن، وكلما امتدت إليه يد لم يُصْفِرْها، أو لهفة ظمأى ما صد عنها، بل كان الرُّواء، يعطى لكلٍ شِرْبَه، وعلى حسب الدِّلاء يكون العطاء.
اثنان لا يخجل أحدهما من الآخر ولا يستحِي منه ولا يعارضه، القرآن كتاب الله المقروء، والكون كتابه المنظور، لذلك لا تصادفُ نَفْرةً من أحدهما في مواجهة الآخر.
ولقد قال الله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) وحين كفّ الإنسان نظره عن رؤية القدرة الإلهية في الكون، أنزل الله كلمته المسموعةَ في هذا القرآن فألح القرآن في دعوته إلى أن يُفْترى شئ من مثله، وإذ قالوا: افتراه وليس من عند الله دعاهم إلى افتراءِ مثله، وعجزوا جميعا متظاهرين متعاونين أو فرادى ناكصين {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء: 88) .
واستحكمت الغيرة في نفوس العلماء وراعهم أن ينال أحد من كتاب الله فأخذوا في بيان إعجازه وجوها عدة. حتى أفضت الدراسة إلى اعتبارِ رُؤيةِ التطابق بين القرآن وآفاق الكون في علوم العصر الحديثة وُجوهاً للإعجاز، أو بينه وما في النفس من دقائق الأسرار.
(1) الفوز الكبير في أصول التفسير، ولي الله الدهلوي ص98.
وتدخل ضمن هذين الإطارين منظوماتُُ أخرى فرعيهٌ تدل على مدى سَعة وجوه الإعجاز القرآني، وكثرة القائمين على العناية بها.
ولم يَحْبُ الله أمة بمثل ما أوتيت أمة الإسلام، فقد خَصَّها بالفضل كله، بنبيها الخاتم صلى الله عليه وسلم وبكتابه الخالد المعجز، وكونِها خيرَ أمة أخرجت للناس.
وجعل عصمتَها بكتابِه سرَّ قوتها، وتمسكَها به سبيلَ هدايتها فهو الكتاب الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:" مأدبة الله والنور المبين، والشفاء النافع، عصمةٌ لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوم، ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد (1) ".
المعجزة القولية الكبرى، يحوى في آمادِ آبادِ سَعته أعاظم العجائب الكونية، ردَّ على طالبي الآيات الحسية ليردهم إليه، فأخرس في نفوسهم الكلامَ بإقامة التوجيه نحو القرآن وحده.
وقد حكى عنهم قولهم {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت 50، 51)
ولم يكن التحدي من القرآن إلا لمن لم يقبل كونه كلام الله، فحين يكون كلاما لأحد من البشر يتصور عدم انفراد قائله بمثله، ولم يكن لأحد أبدا أن يحوز ميزة في كلام لم يبلغه في درجته سابق أو لاحق.
وهاهو القرآن عبر القرون جميعا يمد تحديه شامخا ما نال منه أحد أبدا إلا كما قيل:
(1) أخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن مسعود 1، 555
كناطحٍ صخرةً يوما ليوهنها
فلم يضِرْها وأوهى قرنَه الوعل
وتنوعت أساليب العناية وأشكالها حين تناول المهتمون بإبراز وجوه الإعجاز على أنحاء عدة، تعرف ذلك من خلال هذه الأوراق البالغة في الدلالة قصورَ مَن خط ما فيها. وأسأل الله تعالى القبول والتوفيق إنه سميع قريب.
كاتبه
حسن عبد الفتاح أحمد
سبب اختيار الموضوع
لم يقترح لي موضوع من جملة ما طرح، مما أربك سرعة الشروع فى تقصى جوانب البحث بصفة شمولية، لذلك رحت أفاضل بين الموضوع والآخر على أسس شخصية فردية بحتة، وكلما استقرت النفس على موضوع بكرةً حادت عنه عشية، إلى أن هداني الله تعالى إلى موضوع عناية المسلمين ببيان وجوه إعجاز القرآن الكريم.
وصَمدَت في نفسي فكرة البحث في هذا الموضوع حيث يدعمها واقع المسلمين اليوم. وكأنهم بحاجة ماسة فعلا إلى آية، لا أقول ليؤمنوا بالقرآن، ولكن ليعلنوا هم لأنفسهم أنهم جادون في الأخذ بما في هذا الكتاب.
وحفظ الله الكتابَ تتنوع فيه المعارض، فصروح الطباعة صورة من صور الحفظ، والمنتديات المتعلقة بها وجوه التباحث في القرآن الكريم صورة ثانية، والهيئات الدولية كالتي تتبع رابطة العالم الإسلامي والمنوط بها دراسات الكتاب والسنة عموما، وبيان وجوه الإعجاز فيهما خصوصاً مظهر آخر.
ومن الواجب أننا بعد بيان مثل هذه الوجوه للإعجاز القرآني علينا أن نخرج من ضيق القول إلى سعة العمل ورحبه، فالكلام لا يجدي دون تجسيده في صورة عملية.
نعم. حين نجوب أرجاء إثارة الكلمات القرآنية تمطرنا سموات عليائها بسامي المعاني، ولكن نجتزئ من الموضوعات ما يناسب إطار البحث دون تجوز أو تجاوز.
وابتناءُ أمرٍ على غير أساس ينزع إلى التعجيل به وإن أقيم، وكذلك مظهر الدين لا يبقيه عدم جوهره وهو الإيمان، لِذلك يلزم الدخول إلى القرآن بسابق إيمان بحت بأنه غالب قاهر لسلطان العقل ونظريات العلم، متعانق هو والحقائق بآصرة الصدق والثبات، وإلا فما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون؟.
لهذا وغير هذا اخترت هذا الموضوع، موردا نفسي موارد التقحم بغير أهلية البحث، أشابه أهله وإن لم أشبه أدناهم.
عسى الله أن يجعل في عجز القصور قبولا، وفى قصور العجز منالا، وأن يكون الذي حمل على نفسه تتبع خطو السابقين قد أجمل في سبيلهم المسير، والله الهادي إلى سبيل الرشد وسواء الصراط.
والحمد لله رب العالمين
إيجاز البسط وإجمال التفصيل
في هذه الصفحات عرضت إلى عناية علماء الإسلام بتعريف المعجزة وبيان الإعجاز، ثم بالأسس التي عليها تبنى وجوه الإعجاز، ثم شرعت في المقابلة بين وحدة الوجه الإعجازي وتعدده موضحا نوعين من وجوه الإعجاز، أولهما: ما يتعلق بالنص القرآني من حيث إنه كلام عربي فقط، وثانيهما: ما استقر في عرف العلوم الكونية من عجائب القدرة في الكون مما صادف وجود إشارات لمثلها في القرآن الكريم. متناولا إياهما في إطار مظهر عناية المسلمين بذلك.
وفى معرض الحديث عن النوعين أشرت إلى ما يسر الله لي من كتب تناولت كل موضوع على حِدة، أو مزَجَتْ بينهما، أو تناولت من الوجوه كلها وجها أو بعض وجوه لبيان ما يتعلق بها مؤكدا في البحث ضرورة التحري والتمهل في احتساب نظريات العلم تفسيرا مطلقا لبعض آيات القرآن الكريم.
وهذه عبارة مقتضبة عجلى استعرضت بها رءوس المسائل التي دار حولها ترقيع ما انتسجتهُ من الإقدام على مثل هذا الأمر مع تخلُّفِ العُدَّة والعَتاد عن مثلي، لسقوط الأهلية مني لبحوث علمية كهذه، ولكن الأمل يحدوني نحو المشابهة للعلماء وإن حط بي القصور عن التشبه، عسى أن يكون التشبه بهم وجه شبه.
هذا والله تعالى ولي التوفيق
مظهر العناية بما هية الإعجاز
مادة عجز في القاموس المحيط أوردها الفيروز آبادي على النحو التالي:
العجز مثلثة وكَندُسٍ وكَتِفٍ مُؤَخَّر الشيء جمع أعجاز، وأعجزَه الشيءُ فاته، وأعجز فلانا وجده عاجزا وصيره عاجزا، والتعجيز التثبيط والنسبة إلى العَجزِ.
ومعجزة النبي صلى الله عليه وسلم ما أَعْجَزَ به الخصمَ عند التحدي، والهاءُ للمبالغة وعاجزٌ فلانٌُ ذهب فلم يُوْصَلْ إليه، وفلاناً سابَقَهَ فعَجزَه فسبقه، وإلى ثِقَةٍ مال إليه. وتَعَجَّزْتُ البعيرَ ركبتُ عَجُزَه.
وقوله تعالى {مُعَاجِزِينَ} "أي يعاجزون الأنبياءَ وأولياءهم، يقاتلونهم ويمانعونهم ليعيدوهم إلى العجز عن أمر الله تعالى، أو معاندين مسابقين أو ظانين أنهم يعجزوننا (1) .
وعرَّف الرازي في محصله المعجز بأنه "أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي، مع عدم المعارضة. وعقَّب بمحترزات التعريفِ فقال:
وإنما قلنا - والكلام للفخر الرازي - أمر: لأن المعجز قد يكون إتيانا بغير المعتاد، وقد يكون منعا من المعتاد، وإنما قلنا: إنه خارق للعادة: ليتميز به المدعى عن غيره، وإنما قلنا إنه مقرون بالتحدي لئلا يتخذ الكاذب مُعْجِزَ مَنْ
(1) باب الزاى فصل العين جـ2 صـ187، صـ188 من القاموس المحيط لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادى الطبعة الثانية، مصطفى البابى الحلبى.
مضى حجة لنفسه، وليتميز عن الإرهاص والكرامات. وإنما قلنا: إنه مع عدم المعارضة، ليتميز عن السحر والشعبذة (1) .
والمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة وهى: إما حسية، وإما عقلية (2) .
والمعجز بهذا المعنى يدخل فيه من وجوه الإعجاز ما اتُّفِقَ عليها وما اخْتُلِفَ فيها ويخرج عنه ما قاله أبو الحسن الأشعري على النحو الذي سيأتي إن شاء الله بيانه عند تقسيم الوجوه.
ولقد أجمع عامة الباحثين من علماء العربية والتشريع والفلسفة والفرق المختلفة، أن القرآن معجز، فما معنى أنه معجز؟
للجواب عن معنى الإعجاز ثَمَّةَ تعريفان للإعجاز (3) :-
أحدهما: هو المعتمد لدى جمهور العلماء والباحثين وهو: أن القرآن قد سما في علوه إلى شأو بعيد بحيث تعجز القدرة البشرية عن الإتيان بمثله، سواء كان هذا العلو في بلاغته أو تشريعه أو مغَيَّباته أو غير ذلك.
ثانيهما: تفرد به (4) أبو إسحاق إبراهيم بن سيار بن هاني النظام (ت 231هـ) اللغوي والمعتزلي المعروف ثم تبعه في ذلك بعض الناس من فرقته
(1) كتاب المحصل " وهو محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الحكماء والمتكلمين " لأبى عبد الله محمد بن عمر بن حسين فخر الدين الرازي (544هـ – 606 هـ)(1148 م – 1209 م) تقديم وتحقيق، دكتور / حسين أتاى مكتبة التراث 22 شارع الجمهورية – القاهرة – صـ489 الطبعة الأولى.
(2)
الإتقان للسيوطي صـ1001.
(3)
من روائع القرآن تأملات علمية وأدبية في كتاب الله عز وجل د/ محمد سعيد رمضان البوطي. مكتبة الفارابي - دمشق، صـ125بتصرف يسير.
(4)
مقالات الإسلاميين للأشعري جـ1، صـ296
وجماعته، فالإعجاز عنده هو: أن الله قد صرف قدرات عباده وسلب همتهم وحبس ألسنتهم عن الإتيان بمثله.
وإتماما للفائدة فإنه إذا كان النظام أول من جاهر بالقول بالصرفة، إلا أن ابن الراوندي أحمد بن يحيى المتوفى سنة 245 في كتابه "فضيحة المعتزلة" الذي رد به على كتاب الجاحظ "فضيلة المعتزلة" هو أول من أثار مذهب الصرفة المشهور ونَسَبَهُ إلى أبي إسحاق إبراهيم النظام، وذلك ما أورده أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط المعتزلي في كتابه "الانتصار" الذي ينقض فيه كتاب ابن الراوندي "فضيحة المعتزلة"(1) .
والتعريف الأول يجعل مصدر الإعجاز علو منزلة القرآن عن مستوى الطوق البشري.
والتعريف الثاني يجعل المصدر حبس القدرات وصرف الهمم عن معارضته وتقليده، فالمنع هو المعجز وليس القرآن.
وابن حزم يروي في كتابه الفصل (2) كلاما عزاه إلى الباقلاني إذ يقول عنه: "ورأيت للباقلاني في فصل من كلامه، أن الناس ليسوا بعاجزين عن مثل هذا القرآن ولا قادرين عليه، ولا هم عاجزون عن الصعود إلى السماء، ولا عن إحياء الموتى، ولا عن خلق الأجسام ولا اختراعها، ولا قادرين على ذلك. هذا نص كلامه دون تأويل منا عليه، ثم قال: إن القدرة لا تقع إلا حيث يقع العجز"
(1) قضية الإعجاز القرآني صـ143.
(2)
الفصل جـ5، صـ11.
ومن أراد الرجوع إلى الرد على هذا الكلام الذى أسماه ابن حزم بالهوس فليطالعه عند كلام ابن حزم على المعجزات.
وإيراد كلام الباقلاني هنا مقصود، لبيان جملة من الأقوال التي ضربت في معنى الإعجاز بسهم، لكن الباقلانِيَّ لم ينظر إلى المعجز بقدر نظره الناسَ منطلق بدوالعجز والقدرة، ويفهم من قوله، أن الناس على جبلتهم لا يوصفون بعجز ولا قدرة، فمن أودعت فيه قدرة كان قادرا، ومن أودع فيه العجزُ صار عاجزا. ولا تُعْلم القدرة إلا حيث يبرز العجْزُ فمن عجز عن أمر فإن هذا الأمر يكون مقدورا عليه من غيره حتما، لأنه لا يوصف العاجز إلا حيث لم يتحقق منه الأمر، والأمر حتما لا يُعْلم إلا حيث يقع مقدورا من الغير.
ويسوق ابن حزم (1) قولا للأشعري بأن المعجز الذي تحدى الناسَ بالمجيء بمثله هو الذي لم يزل مع الله تعالى ولم يفارقه قط ولا نزل إلينا ولا سمعناه.
ويقول ابن حزم في رده على ذلك: "وهذا كلام في غاية النقصان والبطلان، إذ من المحال أن يكلف أحد أن يجيء بمثل ما لم يعرفه قط ولا سمعه، وأيضا فيلزمه ولابد بل هو نفس قوله: إذا لم يكن المعجز إلا ذلك فالمسموع المتلو عندنا ليس معجزا، بل مقدور على مثله، وهذا كفر مجرد، لا خلاف فيه لأحد، فإنه خلاف للقرآن لأن الله تعالى ألزمهم بسورة أو عشر سور منه وذلك الكلام الذي هو عند الأشعري هو المعجز ليس له سور ولا كثير، بل هو واحد فقط، هذا القول والحمد لله رب العالمين".
(1) الفصل جـ3، صـ15.
ويذكر الأشعري في "مقالات الإسلاميين" قولا لهشام وعباد (1) هو أنهما قالا: لا نقول إن شيئا من الأعراض يدل على الله سبحانه، ولا نقول أيضا: إن عرضا يدل على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يجعلا القرآن علما للنبي صلى الله عليه وسلم، وزعما أن القرآن أعراض (2) .
ومن جميع ما سبق نخلص إلى نتيجة مفادها: أن الناظر إلى القرآن ككلام يحوي أعاجيب لا تنقضي، قال بالإعجاز القرآني، وبّيَّن وجوها منه على نَحْوِ مَا سيرد إن شاء الله، ومن نظر إلى كلام الله النفسي جعله هو المعجز، وهذا حق متى علم، وهو لم يطلع عليه أحد بعد ولم يكن منه تحد إلى أحد من الخلق لأن التحدي كان حينما سمع المعرضون القرآن وقالوا إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد افتراه، حينئذ قال لهم: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وما تحداهم إلا بمثل ما سمعوا، ومن نظر إلى الناس فرأى فيهم ذا القدرة الفائقة على البيان وإجادة الكلام بنظم بليغ وقول مجيد ولم يجد منهم إقداما نحو الإتيان بمثله، بل من دفعه طيشه ونزقُه وأفنُ عقله إلى المعارضة، أتى بالسخيف مما لا يرقى إلى مستوى الإجادة المعتادة في كلام العرب، ومن رأى فيهم غلبة القرآن عليهم، قال بصرف الله لهم عن المماثلة والمحاكاة.
(1) هشام بن عمر والغوطي من المعتزلة ته226هـ، وصاحبه عباد بن سليمان الضمري من الطبقة السابعة من المعتزلة ت سنة 250هـ.
انظر الملل والنحل للشهرستاني ط مؤسسة ناصر للثقافة ببيروت 1981م صـ31.
(2)
مقالات الإسلاميين جـ1 صـ296.
ومن رأى أن الأصل في الناس التفاوت قال إنهم ليسوا بعاجزين ولا قادرين، وهذا يصح فيما كان بينهم، ولكن فيما يكون من عند الله، فهم العاجزون والله تعالى على كل شيء قدير، ومن غالى استعظم أن يكون القرآن - وهو في زعمه عرض - دالاًّ على الله أو على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهب أنه ينزه اللهَ أو يجعلُ رسولَه صلى الله عليه وسلم بهذا النحو، إلا أنه يخالف واقع التحدي الدائم، والعجز المطَّرِد من كل من خاطبهم القرآن بالتحدي (1) .
ويقول الرافعي (2)"إن القرآن معجز بالمعنى الذي يفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه حين يُنْفَى الإمكان بالعجز عن غير الممكن".
وحين انتقى إمكان العرب بعجزهم عن الإتيان بمثله بل عجز كل الإنس ومعهم الجن عن ذلك، حينئذ تفهم معنى إعجاز القرآن الكريم على إطلاقه.
ولا يقال: عجز فلان إلا بعد سبق، فالعرب كان لهم السبق، لم تعجزهم أمة في الإعراب والبيان، ولما نزل القرآن سبقهم. وهذا شأن الخلق دائما فإنه ليس لأحد منهم أن ينفرد بوصف ذاتي أبدا، والعرب أسبق الأمم وأبينهم فيما يعربون فلابد أن لا يكون لهم هذا التفرد، لأنه لا يتوحد بوصف إلا الواحد تعالى، فكان القرآن المقدم وصار اللسان الأقوم والأبين من العرب في الدرجة الثانية، وبعد أن كانوا في الصدارة صاروا في عربيتهم وبيانهم في تاليها.
وحق للقرآن أن يكون عربيا ما دامت العربية في درجة اللغات هي الأولى، ومع هذا تبوأ القرآن المنزلة الأولى من هذه اللغة العظمى.
(1) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحياً أو حاه الله إليّ فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة".
(2)
تاريخ آداب العرب جـ2صـ156 الناشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان، الطبعة الرابعة 1394هـ، 1974م.
وفي النكت في إعجاز القرآن لأبي الحسن علي بن عيسى الرماني (296هـ - 386هـ) اعتراض افترضه الشيخ ورد عليه " إذ يقول (1) :
"فإن قال قائل: فلم اعتمدتم على الاحتجاج بعجز العرب دون المولدين وهو عندكم معجز للجميع، مع أنه يوجد للمولدين من الكلام البليغ شيء كثير؟.
قيل: لأن العرب كانت تقيم الأوزان والإعراب بالطباع، وليس في المولدين من يقيم الإعراب بالطباع كما يقيم الأوزان، والعرب على البلاغة أقدر لما بَيَّنَّا (2) من فطنتهم لما لا يَفْطن له المولدون من إقامة الإعراب بالطباع، فإذا عجزوا عن ذلك فالمولدون عنه أعجز".
والجرجاني في رسالته الشافية (3) يفضي بباب من التلبيس يدور في أنفس قوم من الأشقياء يستهوون به وعي الغِرِّ الغَبِي بذكره، وهو قولهم: قد جرت العادة بأن يبقى في الزمان من يفوت أهله حتى يسلموا له، وحتى لا يطمع أحد في مداناته، وحتى يقع الإجماع فيه أنه الفرد الذي لا ينازع، ثم يذكرون امرأ القيس وربما ذكروا الجاحظ.
وهم يريدون بذلك أن القرآن معجز لا لأنه كلام الله، بل لمزية كانت للنبي صلى الله عليه وسلم في كلامه دون غيره من أرباب الفصاحة فاق بها الفصحاء والبلغاء.
(1) ذخائر العرب 16 ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والحطابي وعبد القادر الجرجاني حققها وعلق عليها محمد خلف الله أحمد ودكتور محمد زغلول سلام ط دار المعارف الطبعة الرابعة صـ 113.
(2)
المرجع السابق صـ111 حيث تكلم على نقض العادة كوجه من وجوه الإعجاز.
(3)
الرسالة الشافية للجرجاني ثلاث رسائل في الإعجاز صـ 128، 129.
ولكن الجرجاني ذكر شرطاً للمزية والتفرد وهو أن المزية الناقضة للعادة يبلغ الأمر فيها إلى حيث يبهر ويقهر، حتى تنقطع الأطماع عن المعارضة، وتخرس الألسن عن دعوى المداناة، وحتى لا تحدِّثَ نفس ُُ صاحبها بأن يَتَحَدَّى، ولا يَجُول في خلَدٍ أن الإتيان بمثلها يمكن، وحتى يكون يَأْسُهُم منه وإحساسهم بالعجز عنه في بعضه مثل ذلك في كله.
ثم يقول الجرجاني نافيا أن يكون لأحد كائنا من كان كلُّ هذا:
"وليت شعري من هذا الذي سَلَّم لهم أنه كان في وقت من الأوقات من بلغ أمرُه في المزية وفى العلو على أهل زمانه هذا المبلغَ وانتهى إلى هذا الحد".
ثم ساق القصة الشهيرة بين امرئ القيس وعلقمةَ الفحلِ والتي كان فيها الحكم بين الشاعرين أُمَّ جندب امْرأةَ امرئ القيس والتي فضلت علقمةَ في الشعر على زوجها.
وأردف الرجل برهانا بعد آخر إبطالا لهذا القول، ومن براهينه أن للشعراء طبقات، وبَيّنَ أنهم في كل طبقة منها أكفاء نظراء. ولم ينفرد واحد بمزية تخصه، فسقطت بذلك مقولة المزية.
هل العجز هو الإفحام؟
يقول الشيخ محمد عبده (1)"يقول واهم إن الإعجاز حجة على من عَجَزَ فإن العجز هي حجةُ الإفحام وإلزامُ الخصم، وقد يلتزم الخصم ببعض المسَلَّمَات عنده فَيُفْحَم ويعجز عن الجواب فتلزمه الحجة، ولكن ليس ذلك بملزم لغيره، فمن الممكن أن لا يُسَلِّم غيرُه بما سلمه، فلا يُفْحِمُه الدليلُ، بل يجد إلى إبطاله أقرب سبيل"
(1) رسالة التوحيد للإمام محمد عبده صـ127 – دار إحياء العلوم بيروت طـ/1396هـ / 1976م.
ويرد الشيخ بقوله: "وهو وهم بما قدمنا من البيان إذ لا يوجد من المشابهة بين إعجاز القرآن وإفحام الدليل، إلا أنه يوجد عن كل منهما وجه عجز، وشتَّان بين العجْزَين، وبُعْد ما بين وِجْهتَي الاستدلال فيهما، فإن إعجاز القرآن برهن على أمر واقعي، وهو تقاصر البشرية دون مكانته من البلاغة ".
وأضيفُ: إنه إذا كان الإفحام يتصور إبطاله من أحد غير العاجز أو من نفسه هو في وقت لاحق، فهل أبطل الإعجاز على مَدِّ زمن التحدي من القرآن للثقلين أي أحد.
وبعد إيراد كل هذا في مضمار بيان المعجزة والإعجاز نخلص إلى أن المعجز هو:
أمر خارق للعادة مقرونا بالتحدي يظهره الله على يد مدعي النبوة تصديقا لدعواه.
وإذا كان باب الدخول إلى صلب الموضوع قد أخذ من علمائنا هذه العناية بإحكام الشروع والبيان عند إرادة التفاصيل، فإن هذا ينم عن غاية تغياها هؤلاء، وهى سد أبواب التنطع في وجه كل لئيم دائر النظر، بحثا عن مطعن يقدح من خلاله في أجَلِّ كلام عرفَتْه البشرية وهو كلام الله تعالى.
لقد أدام علماؤنا افتراضاتِ الرافضين لكون القرآن كلامَ الله، فأداروا في رءوسهم كل رد لتخرس الألسنة عن تقليب ما جال في الخواطر الفاسدة الناشئة من رداءة أصل التوجه، وما أفاد العلماء من مثل هذا إلا شرفَ عنايتهم وغايتِهم من هذا، فالقرآن قد استبقى لنفسه دفُوُعاً شتى، يواجِهُ بها في كل جيل ما جلَّ من خطبه وخطره في سبيل النيل من القرآن ودرجته العليا.