الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: دواعي بيان الإعجاز
اتخذ مظهر الولاء لهذا الدين والدفاع عن كتابه صورتين: دَفْع بالسنان ودفاع باللسان. فمن ادعى النبوة كمسيلمة لاقى في حروب الردة ما لاقى، ومن اعتلاه شيطانه واعترته وساوسه وطعن في القرآن، أصابه ما أصاب سلفه، أو أرغمت الحجة أنفه.
وفى صدر الإسلام كان الطبع العربي لم يزل على سلامة سليقته في الإعراب، إذ لم يكن بحاجة إلى وسائل يُتَفَهَّمُ بها القرآن الكريم، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يدركون معانيَ الألفاظ وما وراءها بفطرتهم العربية الأصيلة، فإذا أشكل عليهم شيء من وراء ذلك سألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم كانت رقعة حياتهم ضيقة لا تزخر أو تتزاحم فيها التقاليد والأفكار والمشكلات الطارئة فكانت معارفهم في أذهانهم، وكان مرجعهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كبار الصحابة مِنْ بَعْدِه، فلم يكن عندهم شيء مما أطلق عليه فيما بعد اسمُ "علوم القرآن"(1) .
ومع أن العرب بصحة عربيتهم قد أدركوا إعجاز القرآن في نفوسهم سواء منهم من آمن ومن لم يؤمن إلا أن مادة " ع، ج،ز" لم ترد بهذا المعنى، بل اشتهرت لدى المسلمين ألفاظ أخرى كالآية والبرهان والسلطان (2) .
مع هذا لم يَخْلُ القرن الأول من تعبيرات مفادها أن للقرآن من غلبة اللسان وسلطان البيان ما ليس لغيره من سائر الكلام.
(1) من روائع القرآن صـ66.
(2)
فكرة إعحاز القرآن صـ8.
وخرج المسلمون على غيرهم بنور الإيمان فاتحين فانفتحوا هم في المقابل على ما كانت لدى الأمم من علوم، فسيِطرت الفلسفة على عقول بعض الناس، وربما اتجه المتفلسفون إلى الفكرة لا لأصالتها أو صِلتِها بالحق ولكن لغرابتها، لا رغبة في تحقيق الحق وإبطال الباطل، ولكن للترف العقلي، لا يفرقون بين أمر يتصل بالإيمان وأمر لا صلة له بالإيمان.
ومن جملة ما اطلع عليه بعض المتفلسفين من المسلمين أقوالُ البراهمة في كتابهم " الفَيْدَا"(1) وهو يشتمل على مجموعة أشعار ليس في كلام الناس ما يماثلها في زعمهم.
ويقول جمهور علمائهم: إن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثلها، لأن "براهما" صرفهم عن أن يأتوا بمثلها.
وحكى الإمام محمد أبو زهرة ما أورده أبو الريحان البيروني (2) في كتابه "ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ما نصه".
"إن خاصتهم يقولون إن في مقدورهم أن يأتوا بأمثالها، ولكنهم ممنوعون من ذلك احتراما لها" وعقب الشيخ أبو زهرة بقوله:
ولم يبين البيروني وجه المنع أهو منع تكليفي يسبقه الإيمان بهذه الكتب، وتكون دلائل وجوب الإيمان من نواح أخرى، أم هو منع تكويني بمعنى أن براهما صرفهم بمقتضى التكوين من أن يأتوا بمثلها. أي أنه جعل خَلْقَهُمْ وتَكوينهم على نحوٍ لا يستطيعون معه الإتيان بمثلها.
ورجح الشيخ الوجه الأخير بناء على أنه المتفِق مع قَوْلِ جمهور علمائهم، وما اشتهر من أن القول بالصرفة نبع في واديهم.
(1) المعجزة الكبرى القرآن للإمام محمد أبي زهرة ط دار الفكر العربي صـ76.
(2)
توفي سنة 430.
ودخلت الأفكار الهندية في عهد المنصور أبى جعفر (1) فتلقفها المحبون لكل وافد من الفكر ركونا إلى الاستغراب في أقوالهم فدفعتهم الفلسفة إلى اعتناق ذلك القول، وطبقوه على القرآن وإن كان لا ينطبق. فقال قائلهم: إن العرب إذ عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن ما كان عجزهم لأمر ذاتي من ألفاظه ومعانيه ونسجه ونظمه، بل كان لأن الله صرفهم عن أن يأتوا بمثله (2) .
ولم يُسَمِّ الشيخُ أحدا ممن قال بهذه المقولَةِ قبلَ النظام ولكنه أبرز مَرْمَى رَوَاجِ هذه الفكرة وجعل مؤداها إلى أمرين (3) :
أولهما: أن القرآن ليس في درجة تمنع محاكاته، وليس الإعجاز من صفاته الذاتية.
ثانيهما: الحكم على القرآن بأنه ككلام الناس.
لكن الرافعيَّ في كتابه "تاريخ آداب العرب"(4) يقول: "كان أول ما ظهر من الكلام في القرآن، مقالة تُعْزَى إلى رجل يهودي يُسَمى لبيد بن الأعصم فكان يقول: إن التوراة مخلوقةٌ فالقرآن كذلك، ثم أخذها عنه طالوتُ ابن أخته وأشاعها، فقال بها بنان بن سمعان الذي تنسب إليه البنانية، وتلقاها عنه الجَعْدُ بن درهم" مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية " وكان زنديقا فاحش الرأي واللسان. وهو أول من صرح بالإنكار على القرآن والرد عليه وجحد أشياءَ مما فيه، وأضاف إلى القول بخلقه أن فصاحتَه
(1) ثاني الخلفاء العباسيين توفي سنة 156.
(2)
المعجزة الكبرى القرآن لأبي زهرة صـ76.
(3)
المرجع السابق صـ76، 77.
(4)
تاريخ آداب العرب للرافعي جـ2 صـ143.
غيرُ معجزة، وأن الناس يقدرون على مثلها وعلى أحسن منها. ولم يقل بذلك أحد قبله، ولا فشت المقالة بخلق القرآن إلا مِنْ بعده.
وإذا كان الجعد بن درهم أولَ من صرح بالقول بخلق القرآن وبأنه غير معجز، فإن أول من جَهَرَ بالقول بالصرفة من المتكلمين المعتزلة، أبو إسحاق إبراهيم بن سيار بن هاني النظام (ت424هـ) . خلط كلام الفلاسفة بكلام المعتزلة وانفرد أصحابه بمسائل: منها قوله في إعجاز القرآن أنه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية، ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة، ومَنْع العرب عن الاهتمام به جبرا وتعجيزا، حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة وفصاحة ونظما (1) .
وهذان هما الدافعان اللذان أثارا حفائظ المؤمنين غيرة على الحق، أما أبان ابن سمعان والجعد بن درهم فقد قتلهما خالد بن عبد الله القسرى المتوفى سنة 126هـ رحمه الله وجزاه خيرا.
وأما النظَّام فإن تلميذه الجاحظ لم ينتظم في سلك طائفته بل خرج عليه راميا نحوه بسهام ما أصاب من علم وآداب عربية، فمع اعتزاله لم يقف من الحق موقف المتخاذل فآثر حرمة الحق على حرمة الشيخ، فكان أول من دفع القول بالصرفة بالإعجاز الذاتي للقرآن الكريم.
لم يوافق التلميذُ أستاذَه، وإذا كان النظام قد اشتهر بالبيان وسرعة الجواب ولسن القول فقد اشتهر الجاحظ "ت 255 هـ" بأنه ذواق الكلام وَصَيْرَ فِيُّ البيان. فإن خَالَفَ من يتسرع في الخبر ويبني عليه، فهي مخالفة الخبير العارف بتصريف القول وأفانين التعبير والتفكير.
(1) موسوعة الملل والنحل للشهرستاني صـ24، 25 بالطبعة الأولى سنة 1981م الناشر مؤسسة ناصر للثقافة - تاريخ آداب العرب للرافعي جـ2 صـ144.
ولم يكن رد الجاحظ على شيخه ردَّ المجادل، ولكنه كان بالعمل، فقد كان أول من كتب في إعجاز القرآن من الناحية البيانية ليكون الردُّ على الصرفة ببيان الإعجاز الذاتي (1) .
وفى كتاب "المعتزلة" يقول مؤلفه زهدي حسن جاد الله "وقد رد الخياط على هذا القول الذي كان ابن الراوندي أول من نسبه إلى النظام وقال إن النظامَ كان يقر بإعجاز القرآن نظما وإخبارا (2) .
ومن كل ما سبق يمكن القول إن الصرفة لم تكن مذهبا يعتقده أحد من المسلمين مع شهرة وذيوع نسبتها إلى النظام الذي شهد له صاحب الانتصار بأنه كان يقر بإعجاز القرآن نظما وإخباراً، وما كان القول بالصرفة ونسبتها إلى أحد المسلمين ليكون لولا ضغائنُ الكائدين وأحقادهم للإسلام ولكتابه.
وهَبْنَا نجد في بطون الكتب ردودا على مثل هذا القول إلا أن هذه الردود وحدها لا تُثْبِت صحةَ نسبةِ الصرفة إلى قائلها، لأن دافعا كالغيرة على القرآن لا يترك مستجمعا لأدلة الاستيثاق من صحة صدور هذا القول عن صاحبه قبل المواجهة دون أن تبعثه على الرد بأقصى ما يمكن من السرعة على ما يمس الإسلام في أصل تشريعه وهو القرآن.
ولم يَخْلُ زمننا هذا مَعَ تباعُدِ ما بينه وبين عصر بزوغ فكرة الصرفة من أن ينبري مَنِ اطلع عليها بالرفض، والنقض لها، والرد عليها، ونقدها مما يسمح
(1) المعجزة الكبرى لأبي زهرة صـ78.
(2)
المعتزلة لزهدي حق جاد الله صـ29 - نقلاً عن الانتصار صـ27، 28 - منشورات النادي العربي في يافاط القاهرة 1366 - 1947م مطبعة مصر شركة مساهمة مصرية.
بالقول: إنه قد يكون اتهام النظام مبنيا في أصله على ما أشيع عنه بالقول بها، وقد يكون منها براء.
ولا خلاف في أن إثم القول بالصرفة - على اعتبارها طعنا في ذاتية الإعجاز القرآني - يقع على أول قائل بها سواء كان هو النظام أو من نسبها إلى النظام، بل على البادئ وزر من قال بها بعده، إذا كان قوله مؤسَّساً على مشايَعَةِ أول قائل بها، والارتضاءِ بها وجها للإعجاز.
ولكن متى اتخذ الكلام في الإعجاز الصورة العلمية المنظمة؟
في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث بدأ الكلام في الإعجاز بصورة علمية منظمة ففي هذا العصر ظهرت أكثرُ النظريات الرئيسية في الإعجاز، صادرة عن المتفلسفين والمعتزلة والمتكلمين، وكثر الكلام في الدين والنبوة وبُحِثَ الإعجاز على أنه فرع لهما.
وشاهَدَتْ هذه الحِقْبَةُ ظهورَ منكرِي الإعجاز كابن الراوندي أبي الحسين أحمد بن يحيي "ت 293 وقيل: 301 وقيل: 350"(1) الذي بسط لسانه في مناقضة الشريعة وإنكاره إعجاز القرآن في كتابه "الفريد" وقيل: إنه عارض القرآن في كتاب سماه "التاج"(2) ومن كتبه "الزمردة" و "قضيب الذهب"، و"المرجان"، و"البصيرة".
(1) الحاشية بهامش تاريخ آداب العرب جـ2 صـ180.
(2)
تاريخ آداب العرب المرجع السابق صـ182.
وانبرى كثيرون للرد عليه (1) في لاحق الزمن، ومع أن المعرى أبا العلاء (449هـ) قد تولى الرد عليه، إلا أنه لم يسلم هو من الاتهام بمعارضة القرآن في كتابه المسمى "الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات" على أن المعريَّ قد أثبت الإعجاز للقرآن فيما أنكر من رسالته على ابن الراوندي (2) بل الناظر في الفصول لا يجد فيه شيئا من هذا.
وكما لم يسلم المعري لم يسلم من قَبْلِهِ الجاحظُ فهو وإن كان رأيهُ في الإعجاز كرأي أهل العربية (3) فقد سرد في كتابه "الحيوان" طائفة من أنواع العجز إلا أنه لم يسلم من القول بالصرفة فرد أنواع العجز في العلة إلى أن الله صرف أوهام الناس عنها ورفع ذلك القصد من صدورهم، ثم عد منها: "ما رَفَعَ من أوهام العرب وصرف نفوسهم عن المعارضة لقرآنه بعد أن تحداهم الرسول صلى الله عليه وسلم بنظمه (4) .
وظهر أول كتاب في الكلام لمؤلفه علي بن ربن الطبري في خلافة المتوكل (232 - 247 هـ) فظهرت مسألة الأسلوب مبكرة في إعجاز القرآن ظهوراً واضحا في كتابه " الدين والدولة " الذي يرى فيه أن الوجه المعجز في القرآن هو هدفه الإصلاحي، وتحقيقه هذا الهدف، وأوامره ونواهيه، وإخباره عن الجنة والنار، وأسلوبه الطلي الرائع برغم أمية النبي محمد صلى الله عليه وسلم (5) .
(1) تاريخ آداب العرب المرجع السابق صـ183.
(2)
تاريخ آداب العرب المرجع السابق صـ136.
(3)
الإتقان في علوم القرآن للسيوطي جـ2 صـ1004.
(4)
تاريخ آداب العرب للرافعي صـ147 بتصرف.
(5)
فكرة إعجاز القرآن للأستاذ نعيم الحمصي صـ57 طـ2 مؤسسة الرسالة وذكر المؤلف في صـ7 لهذا الطبري كتاب "الأسلوب والبلاغة" وأن هذا الكتاب لم ترد فيه مادة عجز.
بيد أن أول كتاب وضع لشرح الإعجاز وبسط القول فيه على طريقتهم في التأليف إنما هو كتاب "إعجاز القرآن" لأبى عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المتوفى سنة 306 وهو كتاب شرحه عبد القادر الجرجاني شرحا كبيرا سماه المعتضد وشرحا آخر أصغر منه (1) .
ويرجح الرافعي كون الواسطي بنى على ما ابتدأه الجاحظ كما بنى عبد القادر في (دلائل الإعجاز) على الواسطي.
ثم وضع المعتزلي أبو الحسن على بن عيسى الرماني (2) . المتوفى سنة 386 كتابه " النكت في إعجاز القرآن " فرفع بذلك درجة ثالثة.
وجاء القاضي أبو بكر الباقلاني المتوفى سنة 403 هـ فوضع كتابه "إعجاز القرآن" الذي أجمع المتأخرون من بعده على أنه باب في الإعجاز على حدة (3) والغريب أنه لم يذكر فيه كتاب الواسطي ولا كتاب الرماني، ولا كتاب الخطابي الذي كان يعاصره، وأو ما إلى كتاب الجاحظ بكلمتين لا خير فيهما (4) .
والخطابي الأديب اللغوي المحدث أبو سيلمان حمد بن محمد بن إبراهيم البستى، ولد في رجب 319 هـ وتوفي في 388هـ ألف كتابه بيان "إعجاز القرآن" فأفاد فيه وأجاد. وكما لم يذكره الباقلاني لم يذكر هو كذلك من سبقه ولا من عاصره (5) .
(1) تاريخ آداب العرب جـ2 صـ152 الرافعي.
(2)
ثلاث رسائل في إعجاز القرآن صـ10.
(3)
من يطالع الكتاب يجده خير شاهد على صحة هذا الإجماع على ما أجمع.
(4)
تاريخ آداب العرب جـ2 صـ152.
(5)
ثلاث رسائل في إعجاز القرآن صـ8،9.
ومن هذا الذي سبق نجد أن العقول قد يخصبها التضاد، فلولا ما نجم من فكر أعور جرى على ألسنة أصحابه قول بعضهم بالصرفة، وقولُ البعض الآخر بنفي الإعجاز عن القرآن، لما هَمَتْ على أرض القلوب المؤمنةِ بواعثُ التوجه نحو الإعجاز وبيانِهِ، وحجاج النافين له.
لذلك أسفرت هذه المعركة عن أمرين هما مظهران للعناية بوجوه إعجاز القرآن الكريم:
أولهما - أن هذه الكتب التي ألفت لم تدع الإعجاز الذاتي ولا قسيمه دون أن تأخذ من كلٍ بطرف. فحين يعرض بعضها للصرفة كوجه يراه البعض، نرى وابلا من الحُجَج الدامغة ينصب فوق الفكرة والقائلين بها ممن لم يعتبرها وجه إعجاز.
ثانيهما - أن هذه الكتب كانت فاتحةً لعلوم البلاغة، ليتسنى لمن لم يكن في عصر القرائح العربية الأصيلة أن ينظر من خلال معارفه البلاغية إلى وجه الإعجاز الذاتي للقرآن الكريم، وهو ما أظل الحِقَبَ المتعاقبةَ على الأمة.