المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: مظهر العناية بجمع وجوه الإعجاز - عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم - حسن عبد الفتاح أحمد

[حسن عبد الفتاح أحمد]

الفصل: ‌المبحث الثالث: مظهر العناية بجمع وجوه الإعجاز

‌المبحث الثالث: مظهر العناية بجمع وجوه الإعجاز

لما كان البحث متعلقا بعناية المسلمين بوجوه الإعجاز كان إيراد ما عدَّ منها ضَرُورِيَّ الذكر وإن لم يلزم قبولها كلها، ومهما يكن من شيء فإن كثيرا من العلماء أثروا الدراسات القرآنية برؤاهم الفاحصة في وجوه الإعجاز، يتفرسون في كل وجه ما تستنطق منه أمارات الفوارق الواضحة بين كلام الله وكلام البشر، أو يوجهون نحو النصوص ما يلائم احتمالها وجها يقال إنه وجهُ إعجاز.

وجدير بالذكر أن ما يتعلق بالإعجاز من هذه الوجوه لا يباينُ بَيْنَ قدرةِ الله وقدرةِ الخَلْق وبين علمه تعالى وعلمهم، وبين إرادته وإرادتهم، ولكن تساق هذه الوجوه لتسجيل التباين التام بين كلام الله تعالى وبين كلام البشر، بغض النظر عما يحمله الكلام من موضوع. فالقرآن معجز من حيث إنه كلام.

ومع هذا. فهؤلاء بعض الذين أماطوا اللثام عن رؤية وجوه الإعجاز حسب ما عنَّ لهم منها، وإن كان البعض قد قَصَرَهَا على النظم اعتقاداً فقد زاد عليه سردا وإيرادا.

ومن جملة من عُنُوا بجمع وجوه الإعجاز وبيانها الشيخ السيوطي في "معتركه" حيث حوى مؤَلَّفه خمسةً وثلاثين وجها، هي بحق أكثر ما أحصى كتاب مما شاء الله اطِّلَاعِي عليه من مؤلفات في هذا الشأن، ولهذا آثرت الابتداء به، لاستغراقه جُلَّ ما ورد في غيره من الوجوه.

ومعترك الأقران يَضُم هذه الوجوه متناولا إياها بالتحليل والتمثيل والبيان، وما يتعلق بكل منها من سائر ما عرض له المتقدمون، وهذه الوجوه هي:

ص: 57

1-

احتواء القرآن على علوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب، ولا أحاط بعلمها أحد في كلمات قليلة وأحرف معدودة {

مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ......} (الأنعام 38){وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) .

2-

كونه محفوظا عن الزيادة، والنقصان، ومحروسا عن التبديل والتغيير على تطاول الأزمان بخلاف سائر الكتب " قال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) فلم يقدر أحد بحمد الله على التجاسر عليه.

3-

حسن تأليفه، والتئام كلمه وفصاحتها، ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب، وأسلوبه الغريب مخالفا لأساليب العرب، ولم يوجد قبله ولا بعده نظيره.

4-

مناسبة آياته وسوره، وارتباط بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقَةَ المعاني منتظمة المباني.

وقد ألف العلامة أبو جعفر بن الزبير شيخُ أبي حيان في أسرار التناسب كتابا سماه "البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن" وألف برهان الدين البقاعي "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور".

وأول من سبق إلى هذا العلم الشيخ أبو بكر النيسابوري.

5-

افتتاح السور وخواتمها، وهو من أحسن الوجوه وأكملها كالتحميدات وحروف النداء والهجاء وغير ذلك. وخواتم السور مثل الفواتح في هذا الحسن، فلهذا جاءت متضمنة للمعاني البديعة مع إيذان السامع بانتهاء الكلام.

6-

مشتبهات آياته، بأن ترد القصة في سور شتى وفواصِلَ مختلفة.

7-

ورود مشكله حتى يوهم التعارض بين الآيات.

8-

وقوع ناسخه ومنسوخه.

9-

انقسامه إلى محكم ومتشابه.

ص: 58

10-

اختلاف ألفاظه في الحروف وكيفيتها.

11-

تقديم بعض ألفاظه وتأخرها في الموضع.

12-

إفادة حصره واختصاصه.

13-

احتواؤه على جميع لغات العرب وبلغة غيرهم من الفرس.

14-

ورود بعض آياته مجملة وبعضها مبينة.

15-

عموم بعض آياته وخصوص بعضها

16-

الاستدلال بمنطوقه ومفهومه.

17-

وجوه مخاطبته.

18-

ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات.

19-

إخباره بأحوال القرون السالفة.

20-

روعته وهيبته.

21-

أن سامعه لا يمجه.

22-

تيسير الله حفظَه وتقريبَه على متحفظيه.

23-

وقوع الحقائق والمجاز فيه.

24-

تشبيهه واستعاراته.

25-

وقوع الكناية والتعريض.

26-

إيجازه وإطنابه.

27-

وقوع البدائع البليغة فيه.

28-

احتواؤه على الخبر والإنشاء.

29-

إقسام الله تعالى في مواضع لإقامة الحجة وتأكيدها.

30-

اشتماله على أنواع البراهين والأدلة.

31-

ضرب الأمثال فيه.

32-

ما فيه من الآيات الجامعة للخوف والرجاء.

33-

ورود آيات مبهمة يحِيرُ العقل فيها.

ص: 59

34-

احتواؤه على أسماءِ الأشياء والملائكة والكُنَى والألقاب وأسماء القبائل والبلاد والجبال والكواكب.

35-

ألفاظه المشتركة.

ومعلوم أن بعض هذه الوجوه قد يشترك فيها كل كلام ولكن القرآن قد نال منها الدرجة العليا التي تعزب عن طاقة البشر، وما عد السيوطي الصرفة وجها في كتابه الموسوم بمعترك الأقران في إعجاز القرآن وإن كان قد ساق من الحديث طرفا عنها في الإتقان.

وبناء على ما تقدم من بيان ما يعتبر وجه إعجاز وما لا يعتبر، فإن هذه الوجوه التي أوردها السيوطي لا تدخل جميعُهاَ في مفهوم الإعجاز وإن اعتبرت من خصائص القرآن.

ولتقف على ما قرره الإمام أبو يعقوب يوسف بن أبى بكر محمد على السكاكي في "مفتاح العلوم " من أن الإجماع منعقد على أن القرآن الكريم معجز، ولكن اختلف قارعو باب الاستدلال في وجه الإعجاز على النحو التالي:(1)

1-

منهم من يقول: إن الله صرف بمشيئته المتَحَدَّيْنَ مع قدرتهم فيما بينهم في نفس الأمر. ويرد السكاكي هذا القول بأن التعجب على هذا القول - يلزم أن يكون من تعذر المعارضة لا من نظم القرآن.

2-

ومنهم من يقول: وجه الإعجاز ورود القرآن على أسلوب مبتدأ مباين لأساليب كلام العرب في خطبهم وأشعارهم، لا سيما في مطالع السور ومقاطع الآي.

(1) مفتاح العلوم صـ512، 513.

ص: 60

ويرد السكاكي بأنه لو كان ابتداء أسلوب يستلزم تعذر الإتيان بالمثل لاستلزم ابتداء الخطبة والشعر كونه معجزا، إذا لا شبهة في أنها مُبْتَدَءَ اتٌُ تعذر الإتيان بمثلها، ولكن شيئا من ذلك لم يكن معجزا فاللازم مُنْتَفٍ.

3-

ومنهم من يقول: وجه إعجاز القرآن سلامته من التناقض.

ويرد بأن هذا يستلزم كون كل كلام إذا سلم من التناقض وبلغ مقدار سورة من السور أن يُعَدَّ معارضة. واللازم منتف بالإجماع.

4-

ومنهم من يقول: وجه الإعجاز الاشتمالُ على الغيوب.

ويرد بأن هذا القول يستلزم قصر التحدي على السور المشتملة على الغيوب دون ما سواها واللازم بالإجماع أيضا منتف.

فهذه أقوال أربعة: يخمسها ما يجده أصحاب الذوق من أن وجه الإعجاز وهو أمر من جنس البلاغة والفصاحة.

ولا طريق لك إلى هذا الخامس إلا طول خدمة عِلْمَي المعاني والبيان بعد فضل إلهي من هبة يهبها بحكمته من يشاء، وهى النفس المستعدة لذلك، فكل مُيَسَّر لما خلق.

ثم يشير السكاكي إلى أنه لا استبعاد في إنكار هذا الوجه ممن ليس معه ما يطلع عليه. ثم يقر بما كان هو عليه مِنْ مِثْلِ ذلك الإنكارِ بقوله "فَلَكَمْ سحبنا الذيل في إنكاره، ثم ضممنا الذيل ما إِنْ ننكِرُه، فله الشكر الجزيل على ما أولى وله الحمد في الآخرة والأولى"(1) .

ومن قبل يوُصِى السكاكي مخاطَبَه قائلا "وأن لا تتجاذَبْك أيدي الاحتمالات فِي وجه الإعجاز"(2) .

(1) مفتاح العلوم صـ513.

(2)

مفتاح العلوم صـ511.

ص: 61

وابن القيم إمام الجوزية في الفوائد المشوق إلى علم القرآن وعلم البيان (1) له سبيل يماثل به ما انتهجه السكاكي في ذكره وجوه الإعجاز والرد على ما لم يرتض منها إذ يقول: " قد تكلم العلماء في ذلك:

1-

فقال قوم إعجازه من جهة إيجازه واحتواء لفظِهِ القلِيل على المعاني الكثيرة "ولكم في القصاص حياة" واعترض بأنه في السُّنَّة وكلام العرب، ما هو كذلك.

2-

وقال قوم إعجازه من جهة حسن تركيبه وبديع ترتيب ألفاظه وعذوبة مساقها وجزالتها وفخامتها وفصل خطابها.

3-

وقال قوم من غرابة أسلوبه العجيب، واتساقه الغريب، الذي خرج عن أعاريض النظم، وقوانين النثر، وأساجيع الخطب، وأنماط الأراجيز، وضروب السجع. وقد اعترض على هذا القول من وجوه:

أ- لو كان الابتداء بالأسلوب معجزا لكان الابتداء بأسلوب الشعر معجزا.

ب- الابتداء بأسلوب لا يمنع الغير من الإتيان بمثله.

ت- أن ما تعاطاه مسيلمة من الحماقة في معارضة "إنا أعطيناك الكوثر - والطاحنات طحنا" هو أسلوب في غاية الفظاعة والركاكة وكان مبتدئا به ولم يُعَدَّ ذلك معجزاً بل عُدَّ سخفا وحمقا.

ث- لَمَّا فاضَلْناَ بين قوله تعالى: " {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} "وقولهم "القتل أنفى للقتل" لم تكن المفاضلة بسبب الوزن، وإنما تعلق الإعجاز بما ظهرت به الفضيلة.

ج- إن وصف القرآن بأن له لحلاوة وأن عليه لطلاوة لا يليق بالأسلوب.

(1) الفوائد المشوق صـ246-255 بتصرف.

ص: 62

4-

وقال قوم إعجازه بمجموع هذه الوجوه الثلاثة.

ويقول ابن القيم: إن هذا كلام يحتاج إلى نظر لأن مجموع هذه إنما تكون معجزة في حق العرب خاصة، لأن الفصاحة والبلاغة جِبِلَّةٌ فيهم ولا يُمَارِيهم في التفرد بها مُمَارٍ ذُو عِنَاد، وأذعنت الأمم إليهم فيها، فجاءهم القرآن بقاصمة الظهر ودُعُوا إلى المعارضة فلم يُقْدِمُوا، وأما الأعاجم فلا تقوم عليهم بذلك حجة، ولا تصح فيهم به معجزة لأنهم معترفون أن الفصاحة ليست من شأنهم، والله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق كافة، ولا يثبت إعجازه على الكافة إلا بما يعزب على الكافة الإتيان بمثله مع اعترافهم بأن في مقدورهم من جنسه".

أقول: وإذا كان العرب قد اختصوا بوجه الإعجاز من حيث كون القرآن كلاما فإن غير العرب يمكن أن يكون لهم وجه الإعجاز من حيث ما يحمله ذلك الكلام من جملة ما ذكر من وجوه الإعجاز العلمي حين تعتبر على النحو الذي سنتحدث عنه لاحقا إن شاء الله.

وأردف ابن القيم وجها يمكن كذلك اعتباره لغير العرب ولم يقدم غَيْرَهُ عليه وليس لأحد معرفة قَصْدِه من ترك الفصل بين الثلاثة وجوه السابقة، وبين ما أتى بعدها، وعلى كل حال فقد أورد خامس الأقوال على هذا النحو:

5-

وقال قوم: إنما وقع إعجازه بما فيه من المعاني الخفية والجلية وفنون العلوم النقلية والعقلية، وأصحاب هذا القول لهم في ذلك خمسة مذاهب:

أ- منهم من قال: إعجازه فيما جاء فيه من أخبار القرون السالفة في الأماكن القاصية والدانية وقد نزل على أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يكن بأرضه

ص: 63

من يعلم الأخبار سوى أهل الكتاب الذين صرح بسبهم وثلبهم، وضلل عقولهم، ولو علَّمه أحد منهم لصرح بالرد عليه وحيث لم ينقل ذلك، عُلِمَ أنه لم يعلمه بشر وإنما علمه الحكيم الخبير.

ولم يَدَع ابنُ القيم هذا الوجهَ حتى أورد ما اعتَرَض به عليه بأن بعض سور القرآن ليس فيها أخبارُ الماضين، وتلك السور معجزةُُ تحداهم الله بالإتيان بمثلها فعجزوا.

ب- ومنهم من قال إعجازه بما فيه من الإخبار بما يكون وما كان مما وقع على حكم ما أخبر به مثل قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} .

واعترض عليه بما رد به سابقه.

ج- ومنهم من قال إعجازه بما احتوى عليه من العلوم التي لم يسبق إليها أحد من البشر قبل نزوله ولا اهتدت إليها فطن العرب ولا غيرهم من الأمم.

وقد اعترض بأنه وجد في السنة وكلام العرب مثل هذا ولم يعد معجزة.

د- ومنهم من قال إعجازه إنما حصل فيه من نشاطِ القلوبِ الواعية وغيرِ الواعيةِ إليه، وإقبالها بوجه المودة عليه، واستجلاءِ طعم عذوبةِ ألفاظه ومعانيه، وهشاشتها بما يتردد عليها من مبشراته المبهجة ومحذراته المزعجة وآياته المقلقة وأخباره المونقة مع كثرة قرعه للأسماع وصدعه بما يخالف الطباع، ومع ذلك فالقلوب مقبلة على أذكاره، راغبة في تكراره،. يجد ذلك منهم البر والفاجر والمؤمن والكافر {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً} . (الزمر: 23) وقد اعترض على هذا القول بأنه في السنة وكلام فصحاء العرب ما يحسن موقعه ولا تمله على تكراره.

ص: 64

هـ - ومنهم من قال إعجازه بما يقع في النفوس منه عند تلاوته من الروعة وما يملأ القلوب من الهيبة، وما يلحقها من الخشية، فاهمة أو غير فاهمة، عالمة أو غير عالمة، مؤمنة أو كافرة.

وقد اعترض بأن جماعة من أرباب القلوب وذوى الاستغراق في بديع أوصاف المحبوب حصل له من سماع بعض الأشعار ما أخرجه عن طوره وربما مات من فوره.

قلت: ولا وجه لمثل هذا الاعتراض إذ المحب به من الهوى ما يربط به بين ما في قلبه وما يسمع. فهناك توافق بين ما في القلب وما يسمع، ولكن القرآن يُوجِد في النفوس ما لم يكن فيها من قبل - وذلك فرق.

6-

وسادس الأقوال قول جماعة إن إعجازه حفظ آياته من التبديل وصون كلماته من النقل والتحويل، وذلك من آياته الكبرى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

7-

وقال قوم إعجازه في خروج الإتيان بمثله عن مقدور البشر.

8-

وقال قوم إعجازه صَرْفُ اللهِ خَلْقَه عن القدرة على الإتيان بمثله، ولولا ذلك لدخل تحت مقدورهم.

واعترض على الصرفة بأمور ثلاثة:

أولا: أن تعجب العرب كان من فصاحته لا من تعذر إتيانهم بمثله.

ثانياً: أنه لو كان كلامهُم قريباً من فصاحته قبل التحدي لعارضوه بذلك، ولَاحْتَجُّوا عليه بأنهم ممنوعون، وما كلامهم قبل التحدي مختلفا عنه بعد التحدي.

ص: 65

ثالثا: نسيانهم الصيغ المعلومة في مدة يسيرة يدل على زوال عقولهم، وهم مازالت عقولهم عند التحدي سليمة، فمازالت قرائحهم بعد التحدي على ما كانت عليه، فكيف صرفوا ولم تتغير لهم قريحة؟.

ويفضي ابن القيم بخالصة اعتقاده قائلا:

"والذي يتعين اعتقاده أن القرآن بجملة ألفاظه ومعانيه وبعضه وكله معجز - إما لسلب قدرتهم عن الإتيان بمثله وإما لصرفهم عنه"

ثم قال "هذا الذي وقع عليه تصريح الكتاب وصريح الخطاب ولا مرية في ذلك ولا خلاف".

ولعل ابنَ القيم ناقل عن غيره ما قال وإلا كان كمن نقض غزله بعد نَصَبٍ فيه، فإنه بعد معارضة القول بالصرفة جعلها من تصريح الكتاب وصريح الخطاب، بل نفى المرية والخلاف، فماذا أراد بالكتاب؟

إن كان القرآنَ فإنه من ابن القيم لقول شطط، وإن كان غيرَه فإنه لم يعرض لبيان ما جاء فيه من غلط، فاستقبال أمرٍ بِوْجهٍ، واستبدال هذا الوجْهِ بنقيضه في ذات الأمر في غاية تعقيد التصور. اللهم إلا ما كان الذى أورده ابن القيم محضَ نقل، وأحسبه كذلك لقوله (1) :

"والأقرب من هذه الأقاويل إلى الصواب قول من قال إن إعجازه بحراسته من التبديل والتغيير والتصحيف والتحريف والزيادة والنقصان فإنه ليس عليه إيراد ولا مطعن"

(1) الفوائد المشوق صـ255.

ص: 66

9-

وقال بعض العلماء إن إعجازه إنما وقع بكون المتكلم به عالِماً بمُرَاده من كل كلمة وما يليق بها، وما ينبغي أن يلائمها من الكلام، وما يناسبها في المعنى، لا يختفي عنه ما دق من ذلك وما جَلَّ، ولا مَصْرِف كل كلمة ولا مآلها، وغير الله تعالى لا يقدر على ذلك، لأنه أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا.

وهذا القول من الأقوال التي لا مطعن عليها.

وَيُنَوِّهُ ابن القيم إلى لزوم اعتبار عجائب القرآن نوعين، نوعا هو للإعجاز وآخر للخصائص إذ يقول:

"وقد عدد العلماء وجوها من إعجازه غير ما ذكرناه، الأولى أن تعد من خصائصه" ولا يفهم من كلامه أن كل ما ذكره إنما هي وجوه للإعجاز، فكيف اعترض عليها أو لم يرد على الاعتراضات إن كان ناقلا لها.

10 -

وفي النهاية يُحَسِّنُ ابنُ القيم قولَ القائل بأن الإعجاز من جهة التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة قائمة بالذات وأن العرب إذا تحدوا بالتماس معارضتهم له والإتيان بمثله أو بمثل بعضه كُلِّفوُا ما لا يطاق ومن هذه الجهة وقع عجزهم.

وأَنَّى لابن القيم أن يَتَصَوَّرَ التحدي بما يجهله المتحَدَّى، وهل يقع التحدي إلا لمن حاز قصب السبق فيما يُتَحَدَّى فيه؟ فكيف بمن يجهل الكلام القديم الذي هو صفة الله تعالى القائمة بذاته؟

وهذه أمثلة سقتها ليقع عليها تطبيق الدراسة على نحو يؤكد ضرورة التريث في اعتبار الوجه للإعجاز أو من خصائص هذا الكتاب الكريم، فما

ص: 67

كان منتشرا في كل سور القرآن كان هو وجْهَ الإعجاز ولا أظنه غير النظم والبيان.

وممن أسهم في العناية ببيان وجه الإعجاز القاضي الباقلاني (1)"338هـ – 403هـ" وهو متكلم أشعري - أجمل وجوه الإعجاز في ثلاثة (2) :-

1-

أنه يتضمن الإخبار عن الغيوب وذلك يعجز عنه البشر.

2-

أنه كان معلوما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يكتب ولا يُحْسِن أن يقرأ، ثم أتى بجملة ما وقع وحدث من عظيمات الأمور ومهمات السِّيَرِ مِنْ خَلْق آدم إلى حينِ بعثه.

3-

أنه بديع النظم عجيب التأليف متناه في البلاغة إلى الحد الذي يُعْلَمُ عَجْزُ الخلق عنه.

وبديع نظمه المعجزِ يتضمن وجوها:

أ- ما يرجع إلى الجملة، فنظمه على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود وليس بالسجع ولا بالشعر.

ب- أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة والتصرف البديع والمعاني اللطيفة وغير ذلك على هذا الطُّولِ والقدر.

ثم ذكر الرجل طرفا من وجوه اختلاف البشر عن كلام الله تعالى مُتَنَاوِلاً الكلمةَ القرآنية وموقعَها في تضاعيف الكلام البشرى كأنها درة في سلك من خرز أو ياقوتة في واسطة عقد، ثم تعرض للحديث عن أوائل السور من حروف الهجاء باسطا فيها قوله بما يناسب مَقَامَ العرض لها.

(1) هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم الباقلانى البصرى.

(2)

إعجاز القرآن للباقلاني صـ50 وما بعدها.

ص: 68

ثم ذكر أن بعض أصحابه يرون أن علل الأحكام مُوَافِقَةً لمقتضى العقل يُعَدُّ وجه إعجاز، وقرر أن مثل ذلك الاستحسان الذي يولع به أهلُ خراسانَ لا يستقيم عند الأصل الذي يبنون عليه مثل هذا.

وأخيرا يقول:"ولا نقول إن وجه الإعجاز في نظم القرآن أنه حكاية عن الكلام القديم".

ويقول الرماني (1)"وجوه الإعجاز تظهر من جهات ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة، والتحدي للكافة، والصرفة، والإخبار عن الأمور المستقبلة، ونقض العادة، وقياسه بكل معجزة".

وأراد بنقض العادة تفرد القرآن بطريقة خرجت عن عادة كلام العرب وتفوق كل طريقة.

وأراد بقياسه بكل معجزة أن سبيل فلق البحر وقلب العصا حية سبيل واحد في الإعجاز إذ خرج عن العادة فَصَدَّ الخلق عن المعارضة.

والقاضي عياض (2) في كتابه الشفا حين تعرض لإعجاز القرآن في فصله يرى أن القرآن مُنْطَوٍ على وجوه من الإعجاز كثيرة، وتحصيلهُا من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه:

الأول: حسن التأليف، والتئام كَلِمِهِ، وفصاحتُه، ووجوه إيجازه، وبلاغته الخارقة عادة العرب.

الثاني: صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب العرب.

(1) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن " ذخائر العرب16 " النكت في إعجاز القرآن للرماني صـ57.

(2)

الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض ط صبيح جـ1 صـ217: 237 بتصرف واختصار.

ص: 69

الثالث: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يكن ولم يقع، فَوُجِدَ كما وَرَدَ على الوجه الذي أخبر.

الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الدائرة. ثم زاد عليها الروعة التي تلحق القلوب والهيبة التي تعتري سامعيه، وكونه آية باقية تَكَفَّلَ الله بحفظه.

ولابن سنان الخفاجي (1) نوع إسهام في بيانه سِرَّ الفصاحة حيث قصد إلى تأليف كتابه لسببين ذَكَرَهُمَا كثمرةٍ وفائدة تحصل لمن وَعَى هذا الكتاب، وواحد هذين السببين وإحدى الثمرتين من جهة العلوم الشرعية، حيث المعجز الدالُّ على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن.

والخلاف الظاهر فيما كان به معجزا على قولين:

أولهما: أنه خَرَقَ العادةَ بفصاحته، ومن ذهب إلى هذا لابد له من بيان ما الفصاحة التي وقع التزايد فيها موقعا خرج عن مقدور البشر.

ثانيهما: أن وجه الإعجاز صرف العرب عن معارضته مع أن فصاحة القرآن كانت في مقدورهم لولا الصرف والقائل بهذا يحتاج كذلك إلى معرفة الفصاحة ليقطع على أنها كانت في مقدورهم.

والشيخ رحمت الله الهندي في كتابه إظهار الحق (2) أسهم في سبيل الدفاع عن القرآن بحظ لا ينكر، وذكر أن الأمور التي تدل على أن القرآن كلامُ الله كثيرةُُ اكتفي منها باثنى عشر أمراً، ثم بَيَّنَ الشيخ في الأمر الثالث

(1) سر الفصاحة لعبد الله محمد بن سعيد بن سنان – أبو أحمد الخفاجي الحلبي صـ13،14.

(2)

إظهار الحق لرحمت الله الهندي جـ2 صـ61 وما بعدها.

ص: 70

كَوْنَ القرآن منطويا على الإخبار على الحوادث الآتية فوجدت على الأيام اللاحقة على الوجه الذي أخبر، فساق اثنين وعشرين شاهدا قرآنيا على ذلك. من ذلك آية سورة الروم التي هي مطلع السورة، فأورد ما قاله أحد القسيسين مَنْ سماه الشيخ بصاحب "ميزان الحق" في الفصل الرابع من الباب الأول من هذا الميزان من أنه " لو فرضنا صدق ادعاء المفسرين أن هذه الآية نزلت قبل غلبة الروم الفرس فنقول إن محمداً صلى الله عليه وسلم قال بظنه أو بصائب فكره لتسكين قلوب أصحابه، وقد سُمِعَ مثلُ هذه الأقوال من أصحاب العقل والرأي في كل زمان " فرد الهندي قوله بوجهين:

الأول: أن تحديد الزمان ببضع سنين لا يتأتى من عاقل ادعاء قطعيا بوقوع أمر فيه.

الثاني: أن العادة جرت أنه ليس كل ما يقوله العقلاء يقع جميعه، بل يتخلف بعض ما ادَّعَوْا وقوعَه فيما يستقبل من الزمان، فمن كَذَبَ على الله تعالى وافترى حقيق على الله تعالى أن يباعد بَيْنَ ما يقول وصحة هذا القول.

وفي الإتقان للسيوطي (1) قال المراكشي في "شرح المصباح" الجهة المعجزة في القرآن تعرف بالتفكر في تأدية المعنى، وعن تعقيده، وتعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه لمقتضى الحال.

لأن جهة إعجازه ليست مفردات ألفاظه، وإلا لكانت قبل نزوله معجزة ولا مجرد تأليفها، ولا مجرد أسلوبه، وإلا لكان الابتداء بأسلوب الشعر معجزا - والأسلوب الطريق - ولكان هذيان مسيلمة معجزا، ولأن الإعجاز يوجد

(1) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي جـ2 صـ1008، 1009.

ص: 71

دونه - أي الأسلوب - في نحو {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً} (يوسف:80){فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر} (الحجر:94) ، ولا بالصرف عن معارضتهم، لأن تعجبهم كان من فصاحته ولأن مسليمة وابن المقفع والمعرى وغيرهم قد تعاطوها (1) فلم يأتوا إلا بما تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع ويضحك منه في أحوال تركيبه، وبها - أي بتلك الأحوال - أعجز البلغاء وأخرس الفصحاء.

فعلى إعجازه دليل إجمالي: وهو أن العرب عجزت عنه وهو بلسانها فغَيْرُهَا أحرى، ودليل تفصيلي: مقدمته التفكر في خواص تركيبه، ونتيجته العلم بأنه تنزيل المحيط بكل شيء علما".

والإمام عبد القاهر الجرجانى (2) يرى أن النظم ليس شيئا غير توخى معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم وإلا كان من أعجب العجب أن يزعم زاعم أنه يطلب المزية في النظم ثم لا يطلبها في معاني النحو وأحكامه التي النظم عبارة عن توخيها فيما بين الكلم، وذلك يقتضي دخولَ الاستِعارة والكنايةِ والتمثيل وسائرِ ضروب المجاز وغير ذلك من مقتضيات النظم وعنها يحدث وبها يكون، إذ لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يُتَوَخَّ فيما بينها حكمٌ من أحكام النحو.

وطريق المزية المطلوبة في هذا الباب الفِكْرُ والنظر من غير شبهة، ومحال أن يكون لِلَّفْظِ صفة تستنبط بالفكر، ويستعان عليها بالروية، ولا يعد الإعراب من الوجوه التي تظهر بها المزية، لأن العلمَ به مشترك بين العرب كلهم، ولا يستنبط بالفكر ويعان عليه بالروية، فليس أحدهم بأعلم من الآخرين برفع الفاعل.

(1) الناظر في كتب هؤلاء الذين اتهموا بالمعارضة لا يجد ما يثبت ذلك عنهم.

(2)

دلائل الإعجاز للجرجاني صـ300.

ص: 72

وإنما تقع الحاجة إلى العلم بما يوجب الفاعلية للشيء إذا كان إيجابها من طريق المجاز كقوله تعالى {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} وأشباه ذلك مما يجعل الشيء فيه فاعلا على تأويل يدق، ومن طريق يلطف، وليس يكون هذا عِلْماً بالإعراب ولكن بالوصف الموجب للإعراب، والغرض من القول بأن الفصاحة في المعنى دون اللفظ: أن المزية التي من أجلها استَحَق اللفظُ الوصفَ بأنه فصيح، عائدة في الحقيقة إلى معناه، وهي تظهر في الكلم من بعد أن تدخل الكلمة النظم، وإذا أفردت لم تَرُمْ فيها نظما ولا مزية لها، فوجب العلم قطعا وضرورة أن تلك المزية في المعنى دون اللفظ

وفي الإشارة (1) إلى المجاز للعز بن عبد السلام وجوه ذكر منها: صرف العرب عن المعارضة مع قدرتهم عليها وحرصهم على إيطاله، أو صرفهم عن القدرة على معارضته.

وابن جزي الكلبي في كتاب التسهيل لعلوم التنزيل (2) ساق وجوها عشرة من وجوه الإعجاز من بينها ما فيه من التعريف بالباري جل جلاله، وذِكْرِ صفاتِه وأسمائه وما يجوز عليه وما يستحيل والدعوة إلى عبادته وإقامة البراهين، والرد على الكافرين.

ومن كل ما سبق نتبين أنه لم يسلم من الرد غير النظم وجهاً لإعجاز القرآن الكريم، ولا يتصور خلو الآيات الأولى من النظم حال نزولها على النبي صلى الله عليه وسلم أول بدء الوحي.

(1) كتاب الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز للعز بن عبد السلام صـ271.

(2)

كتاب التسهيل لعلوم التنزيل صـ14.

ص: 73

وهذه الآيات قد بدأ بها الوحي التحدي واطرد ذلك التحدي إلى آخر ما نزل من القرآن الكريم ولا يسلم لوجه واحد الدوران في جميع القرآن الكريم غير النظم.

ولو لم يكن التحدي بمحض النظم لم يكن للقرآن أن يتحدى بشيء مثلِهِ مفترًى والافتراء الكذب، والكذب لا يطابق الواقع نفيا أو إيجابا فليس المراد من معارضتهم حين التحدي أن تكون صادقة بل أن تكون كنظم القرآن وإن كان المعنى الذي تحمله كلماتُه مفترًى. فما بالهم قالوا افتراه وأعجزهم عن الإتيان بمثله مفترى؟

والمجال أعمق وأفسح من أن يسرد من خلال هذه الصفحات، ولكنها مجرد أمثلة من إسهامات المسلمين توضح مدى اهتمامهم على مد الزمن الإسلامي وإلى يومنا هذا، وهذا التناوب في تناول مثل هذه الأمور بالدراسة يؤكد كرم عطاء القرآن لكل عصر حسب ما يتفق له من فهوم سواء ما كان منها من خصائص القرآن أو من وجوه إعجازه حقا.

ص: 74