المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: وجه أو وجوه الإعجاز - عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم - حسن عبد الفتاح أحمد

[حسن عبد الفتاح أحمد]

الفصل: ‌المبحث الثاني: وجه أو وجوه الإعجاز

‌المبحث الثاني: وجه أو وجوه الإعجاز

؟

لكي نتمكن من تمام المطابقة بين مفهوم الإعجاز ووجوه تحسب من الإعجاز، لابد من استصحاب شرائط المعجزة مع تعريفها المُتَصَوَّر في الذهن، إذ قد مرت بنا كثرة من توزيعات الرؤية حول أمر قد يكون واحدا، والحال أن كل شيء في الدنيا تكثر صوره بكثرة الرائين، فلكل واحد زاوية خاصة ينظر من خلالها، حتى يبدو للجميع توحد وتوافق فيما لم يقم برهان واحد على التماثل التام بين وجهين من الوجوه.

واختلاف وجهات الرؤية أوحت باستقصاء الآراء في وجوه الإعجاز حتى قيل: إن بعضهم أنهى وجوه إعجاز القرآن الكريم إلى ثمانين وجها (1) ولا مناص من تبين حقيقتين للمتكلم في إعجاز القرآن، وأن يفصل بينهما فصلا ظاهرا لا يلتبس، وأن يميز أوضح التمييز بين الوجوه المشتركة التي تكون بينهما، وهاتان الحقيقتان العظيمتان هما:

أولهما: أن "إعجاز القرآن" كما يدل عليه لفظه وتاريخه، وهو دليل النبي صلى الله عليه وسلم على صدق نبوته، وعلى أنه رسول من الله يوحى إليه هذا القرآن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف "إعجاز القرآن" من الوجه الذي عرفه منه سائر من آمن به من قومه العرب، وأن التحدي الذي تضمنته آيات التحدي إنما هو تحد بلفظ القرآن ونظمه وبيانه لا بشيء خارج عن ذلك.

ثانيهما: أن إثبات دليل النبوة، وتصديق دليل الوحي، وأن القرآن تنزيل من عند الله كما نزلت التوراة والإنجيل والزبور وغيرهما من كتب الله سبحانه لا يكون منها شيء يدل على أن القرآن معجز.

(1) معترك الأقران للسيوطي صـ5 جـ1.

ص: 49

والخلط بين هاتين الحقيقتين، وإهمال الفصل بينهما في التطبيق والنظر، وفي دراسة "إعجاز القرآن" قد أفضى إلى تخليط شديد في الدراسة قديما وحديثا (1) .

والقرآن كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجما، وكان الذي نزل عليه أول أمر الوحي قليلا، فكان هذا القليل من التنزيل هو برهانه على نبوته، وهذا القليل دليلا على أن تاليه عليهم، وهو بشر مثلهم، نبي من عند الله مرسل.

فإذا صح هذا، وهو صحيح لا ريب فيه، ثبت أن الآيات القليلة من القرآن ثم الآيات الكثيرة، ثم القرآن كله، أي ذلك كان في تلاوته على سامعه من العرب، الدليل الذي يطالبه بأن يقطع بأن هذا الكلام مفارق لجنس كلام البشر وذلك من وجه واحد، هو وجه البيان والنظم (2) وإذا كان الأمر على هذا النحو فإن سائر ما يورده المتقدمون والمتأخرون من وجوه الإعجاز لا ينسحب عليه في الحقيقة اعتباره وجها من وجوه الإعجاز، إذ التمحيص والبحث والإنعام في التوافق بين الإعجاز في معناه المجرد وبين الوجه المسوق لهذا الإعجاز يستجلى انفصام العلاقة بينهما على نحو ما.

وبعض هذه الوجوه تكمن في حيازته وتضمنه الكثيرُ من الآيات التي تحمل أسرارا يعجز عن سبر أغوارها عصر أو عصور متتالية، وفرق بين العجز عن إدارك محتواه وبين الإتيان بمثله ولو كان المأتى به مفترى.

(1) الظاهرة القرآنية مالك بن بني فصل في إعجاز القرآن كتقديم للكتاب بقلم الأستاذ محمود محمد شاكر صـ17،18.

(2)

الظاهرة القرآنية صـ21.

ص: 50

والمعجزة خرق العادة، ولم يخرق القرآن عادة عربية في غير نظمه وبيانه ولم يقل أحد إن كشفَ خفاءِ دقائقِ العادة خرقُُ لها، إذ بُدُو الموجود وبروزه إلى العيان لا يعنى خرقا لعادة.

والأنبياء لهم من خرق العادات ما يؤيد صدق دعواهم للنبوة والرسالة، وليس ما يبدو من آثار لقدرة الله في الكون معجزةً قرآنية، إذ لو كانت لامتد منها برهان عند اللحظات الأولى لنزول الوحي لتقوم في وجه الكافرين برهانا على أن القرآن من عند الله. أما وأنه قد تأخرت رؤية التطابق بين آي الكون وآي القرآن فلا يمكن القول بأن مثل هذا كان وجها باديا للعرب عند تحديهم.

والآيات البارزة في الكون دليل على أن للكون إلهاً، وذلك هو المقصود الأوحد والأول من الدعوة إلى النظر في السموات والأرض.

ويقول الزملكاني برجوع وجه الإعجاز إلى التأليف الخاص بالقرآن لا مطلق التأليف، بأن اعتدلت مفرداته تركيبا وزنة، وعلت مركباته معنى، بأن يوقع كل فن في مرتبته العليا في اللفظ والمعنى (1) .

ويؤكد الخطابي (2) تعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن، ولكنه يقول (3) :"قلت في إعجاز القرآن وجها آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس".

وبهذا يتبين أنه قد يلوح للبعض ما أثر في نفسه واستقر من جملة عطاء القرآن ما يحسبه وجها للإعجاز، ولابد من التمييز بين الوجه والتوجيه في دراسة الإعجاز لدرك الصواب.

(1) البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن طـ1394هـ، 1984م صـ54.

(2)

بيان إعجاز القرآن صـ21.

(3)

بيان إعجاز القرآن صـ70.

ص: 51

والدكتور البوطي يقول في كتابه من روائع القرآن (1) : "إذا رأيت من إذا تلا القرآن تأثر به قائلا: إن هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن بشر فاعلم أنه متفاعل مع هذا الوجه الأخير - يريد به مظهر جلال الربوبية - ولا يتجلى الإعجاز إلا لقلب لم تخنقه أغشية الكبر والعناد".

ولا يمكن حمل العادة التي يتخلف معهودها على كونها من الناظر، بل هي في المنظور، فمن استظهر أمرا لا يكون هو محل المعجزة، نعم قد يكون منه غير ما اعتيد، لكن الشيء الذي استبان فيه الوجه الجديد لم يتحول عما كان عليه قبل ظهور ما خفي منه من قبل، اللهم إلا إذا انفرد هذا الناظر بهذا البيان وحده دون غيره، فإنه يكون قد أتى بما يعجز عنه غيره، وحينئذ تتعلق المعجزة بشخصه مباشرة.

والخصائص التي يهتدي من خلالها إلى أن القرآن كلام الله تعالى كما أوردها وحيد الدين خان في كتابه "الإسلام يتحدى" تمكننا من الزحزحة ولو قليلا نحو اعتبارات تؤكد عدم قصر وجوه الإعجاز في النظم والبيان، شريطة أن يكون المنطلق في كل وجه يحتسب للإعجاز منطلقا قرآنيا بحتا، بحيث لا نضفي من خارج النص ما يسمح بالربط بين ما هو خارج النص من ظواهر كونية وكشوف علمية حديثة وبين إشارات وتلميحات قرآنية، فمثل هذا لا يعدو أن يكون توجيها لا وجها للإعجاز.

وهذه الخصائص - وقد سبق ذكرها - وهي: إعجاز القرآن، ونبوءاته، والقرآن والكشوف الحديثة - أي العلاقة بين القرآن والكشوف الحديثة - براهين ثابتة الدلالة على أن محمداً رسول من عند الله، ولكن بعضها لا يمكن اعتباره وجها للإعجاز.

(1) من روائع القرآن الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي صـ160.

ص: 52

فالنبوءات لا يلزم صدورها عن نبي أو كتاب منزل عليه من ربه، والشواهد على ذلك كثيرة، والكشوف الحديثة أولَ ما تبرزُ معالِمُها لا تكون في القرآن بل يكون بدء العلم بها من خارج القرآن، ثم يعالَجُ التوافق بتغيير المفهوم القرآني ليتفق مع ما تجلى من كشفيات علمية حديثة.

والنبي محمد صلى الله عليه وسلم خالف في قدره السامي عند ربه جماعة الأنبياء، فكانت له المعجزة الحسية بخرق العوائد ثم عودتها إلى ما عهد منها من قبل وكانت منه نبوءات تحقق منها ما وعد به أو توعد. وكل هذا كان بعيدا عن القرآن ليسجل على الناس جميعا أن هذا النبي يحمل دلائل نبوته على نحو ما كان عليه الأنبياء من قبل وله فضل زيادة بقاء المعجزة الخالدة في القرآن الكريم.

وحين يوقفنا القرآن الكريم على مشاهد آثار القدرة الإلهية في الكون يؤكد ضرورة ابتعاث رسل خاصة من نفوسنا تشاهد إعجاز القدرة الإلهية في كون الله ليتجدد الإقرار بأن "لا إله إلا الله" قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " وهو تعجيز لقدرة البشر لا لكلامهم. ولا يتصور أن يخلو كتاب سماوي من إخبار بغيوب سواء منها ما كان ماضيا، أو مستقبلا، أو حاضراً مكانيا، ومع هذا لم ينل حظَّ الإعجاز كتابُُ غير القرآن الكريم.

ولابد من الإبقاء على الوجه الأول الذي وُوجِه بِه العربُ عند تحديهم، فما كان لهم في أول الأمر من علم بما صارت عليه بوارق المعاني المستوحاة من خارج النص القرآني كنص عربي.

لكل هذا كان الكلام بما يحمل من خصائص اللغة العربية هو مبعث رؤية الإعجاز عند العرب جميعا.

ص: 53

ومن العجيب أن لكل عصر لغة تَسِمُهُ بخَواصِّ التعبير عن مكنونات النفوس، ولذلك يبدو جَلِياًّ كثير من وجوه افتراق الكلام على امتداد الزمن، وإن كان هذا الاختلاف في لغة واحدة.

وإذا نَظَرْتَ في كتب مختلفةٍ أزمانُ تصنيفها تَفَتَّقَ لك وضوحُ فوارِق عدة، تميز عصرا عن عصر، وكَلَامَاً عن كلام، والقرآن وحده لم تغيره السنون، واختلاف الفنون، لكن الإدراك أو الذوق هو الذي يختلف في كل حين عن سابقه.

ولابد من معرفة أمور تُحَدَّدُ على أساسها صحة كون الوجه إعجازاً قرآنيا وهذه الأمور. (1)

الأول: أن قليل القرآن وكثيرة في شأن الإعجاز سواء.

الثاني: أن الإعجاز، كائن في وصف القرآن وبيانه ونظمه، ومباينة خصائصه للمعهود من خصائص كل نظم وبيان في لغة العرب. ثم في سائر لغات البشر، ثم في بيان الثَّقَلَيْنِ جميعا، إنسهم وجنهم متظاهرين، والله عز وجل لم يقصر التعجيز عن الإتيان بمثل القرآن على الإنس والجن لأن الملائكة تقدر على الإتيان بمثله، ولكن لأن الرسالة كانت إلى الإنس والجن، فوقع التحدي للفريقين، حتى إذا عجزُوا كان عجزُهم دلالةً على أن النبي صلى الله عليه وسلم عاجز مثلهم فيظهر بذلك أنه لم يأت بالقرآن من عند نفسه، وإنما أتى به من عند الله

"فأما الملائكة فلم يتحدوا عن ذلك لأن الرسالة إذا لم تكن إليهم لم يكن القرآن حجة عليهم، فنبئوا أكانوا قادرين على مثله أو عاجزين؟ وهم

(1) الظاهرة القرآنية صـ24، 25.

ص: 54

عندنا عاجزون (1) وليس الإتيان بمثل القرآن من قلب المدائن، والإتيان بالتابوت في شىء، لأن قلب المدينة وحمل التابوت العظيم كالذي يوصف من تابوت بنى إسرائيل لقصور قواهم عنه - قوى بنى إسرائيل - فإذا زادت قوة الملك على قوة الآدمي أضعافاً مضاعفة زاد علمه أيضا لذلك.

وأما نظم القرآن فإنه ليس من جنس نظم كلام الناس، ولكنه مباين لهذا فلا يُهْتَدى إليه فَيُحْتَذَى ويُمَثَّل، فهو كتركيبِ الجواهرِ غيرِ الأجسامِ لتصيرَ أجساما، ولا على قلب الأعيان ولا يقدرون عليه من ذلك، والملائكة لا يقدرون عليه كذلك. وفي ذلك ما أبان أن نظم القرآن ليس من عند جبريل لكنه من عند اللطيف الخبير".

وأضيفُ أنه ما كان التحدي إلا مواجهة لإنكار كون القرآن من عند الله ولا يتصور أن يكون من الملائكة مثل ذلك الإنكار، وبالتالي لا يتصور مجابهتهم بالتحدي {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (البقرة: 32) .

الثالث: أن الذين تحداهم بهذا القرآن قد أوتوا القدْرةَ على الفصل بين الذي هو مِنْ كلام البشر، والذي هو ليس من كلامهم.

الرابع: أن الذين تحداهم به كانوا يدركون أن ما طولبوا به من الإتيان بمثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، هو هذا الضرب من البيان الذي يجدون في أنفسهم أنه خارج من جنس بيان البشر.

(1) كتاب المنهاج في شعب الإيمان للحليمي جـ1 صـ319.

ص: 55

الخامس: أن هذا التحدي لم يُقْصَدْ به الإتيان بمثله مطابقا لمعانيه، بل أن يأتوا بما يستطيعون افتراءه واختلاقه، من كل معنى أو غرضٍ مما يعتلج في نفوس البشر.

السادس: أن هذا التحدي للثقلين جميعا إنسهم وجنهم متظاهرين تحد مستمر قائم إلى يوم الدين.

السابع: أن ما في القرآن من مكنون الغيب ومن دقائق التشريع ومن عجائب آيات الله في خلقه، كل ذلك بمعزل عن هذا التحدي المفضي إلى الإعجاز، وإن كان ما فيه من ذلك كله ما يعد دليلا على أنه من عند الله، ولكنه لا يدل على أن نظمه وبيانه مباين لنظم كلام البشر وبيانهم، وأنه بهذه المباينة كلامُ رب العالمين لا كلام بشر مثلهم.

أرأيت كلاما يحمل مكنون الغيب ودقائق التشريع وعجائب الآيات في الخلق يكون لأجل ما يحمل معجزا؟

نعم. إن القرآن حين يقرر الحقائق لا ينزع إلى تحويرها أحدٌ أبدا، وما كان ذلك ليكون لولا أن قائله هو العزيز الحكيم، فكل ما يصدر عن الله تعالى يلازمه دوام التصديق من الكون شاهدا على قدرة الخالق جل وعلا.

لذا كان لزاما أن تطْرَحَ كل الوجوه ما عدا ما تعلق منها بذاتية القرآن كلاماً عربياً، والوجه الذاتي بلا شكٍ لا يفارق الذات أصلا، فالكلام من حيث هو كلام منبعٌ لإعجاز القرآن.

ص: 56