المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٦

[صديق حسن خان]

الفصل: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ

دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‌

(10)

(دعواهم فيها سبحانك اللهم) أي دعاؤهم ونداؤهم وطلبهم لما يشتهونه في الجنة هذا اللفظ وهو من باب الإسناد اللفظي، وقيل هذا من باب الإسناد المعنوي فلا يلزم أن يقولوا هذا اللفظ فقط، بل يقولونه أو ما يؤدي معناه من جميع صفات التنزيه والتقديس.

قيل الدعاء العبادة كقوله (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) وقيل معنى دعواهم هنا الادعاء الكائن بين المتخاصمين، والمعنى أن أهل الجنة يدعون في الدنيا والآخرة تنزيه الله سبحانه من المعائب والإقرار له بالإلهية، وقيل قولهم وكلامهم.

قال القفال: أصله من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما، وقيل معناه طريقتهم وسيرتهم وذلك إن المدعي للشيء مواظب عليه فيمكن أن يجعل الدعوى كناية عن الملازمة وإن لم يكن في قوله سبحانك اللهم دعوى ولا دعاء وقيل معناه تمنيهم كقوله (ولهم ما يدعون) وكان تمنيهم في الجنة ليس إلا تسبيح الله وتقديسه.

وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قالوا سبحانك اللهم أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين.

فهذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في إحضار الطعام، فإذا أرادوه قالوا سبحانك اللهم فيأتوهم به في الوقت على حسب ما يشتهون واضعين له على

ص: 22

الموائد في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضه بعضاً فإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله على ما أعطاهم كما يأتي فترفع الموائد عند ذلك ..

قال الزجاج: أعلم الله إن أهل الجنة يبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه ويختمون بشكر الله والثناء عليه وقيل أنهم يلهمون ذلك كما ذكر في الحديث والمعنى نسبحك يا الله تسبيحاً.

(وتحيتهم فيها سلام) أي تحية بعضهم للبعض فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل أو تحية الله أو الملائكة لهم فيكون من إضافة المصدر إلى المفعول، والتحية التكرمة بالحالة الجليلة أصلها أحياك الله حياة طيبة، والسلام السلامة من كل مكروه وقد مضى تفسير هذا في سورة النساء.

(وآخر دعواهم) أي وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح في كل مجلس (أن) يقولوا (الحمد لله رب العالمين) وليس معناه انقطاع الحمد فإن أقوال أهل الجنة وأحوالها لا آخر لها والدعوى مشهورة في الادعاء لكنها وردت بمعنى الدعاء أيضاً وهو المراد هنا بقرينة ما بعده لأنه من جنس الدعاء، وتكون أيضاً بمعنى العبادة، وقد جوز إرادته هنا وإن كانت الجنة ليست دار تكليف أي لا عبادة لهم غير هذا القول، والأول أظهر، والثاني أدق أو المراد أنه عبادة لهم تلذذاً لا تكليفاً ذكره الخفاجي؛ قال أبو السعود ولا يساعده تعيين الخاتمة اهـ.

قال النحاس: مذهب الخليل أن (أنْ) هذه مخففة من الثقيلة والمعنى أنه الحمد لله، وقال المبرد يجوز إن تعملها خفيفة عملها ثقيلة والرفع أقيس، ولم يحك أبو عبيد إلا التخفيف، قال أبو الهذيل: الحمد أول الكلام وآخر الكلام ثم تلا هذه الآية.

ص: 23

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)

ولما ذكر الله سبحانه الوعيد على عدم الإيمان بالمعاد، ذكر أن هذا العذاب من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيا فقال

ص: 24

(ولو يعجل الله للناس الشر) أي إجابة دعائهم بالشر مما لهم فيه مضرة ومكروه في نفس أو مال، والتعجيل تقديم الشيء قبل وقته، وقال القفال: لما وصفهم بالغفلة أكد ذلك بأن من غاية غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب، فبين الله سبحانه أنه لا مصلحة في إيصال الشر إليهم فلعلهم يتوبون أو يخرج من أصلابهم من يؤمن.

قيل ومعناه لو عجل الله للناس العقوبة (استعجالهم بالخير) أي كما

يستعجلون بالثواب والخير أي استعجالاً مثل استعجالهم قال مكي: وهذا مذهب سيبويه أو تعجيلاً مثل استعجالهم، وهذا تقدير أبي البقاء وهو الطاهر، وقال الزمخشري: أصله تعجيله لهم بالخير وهو ضعيف جداً، وقيل منصوب على إسقاط كاف التشبيه أي كاستعجالهم، والاستعجال طلب العجلة.

(لقضي إليهم أجلهم) أي لأهلكهم، وقيل معناه لأميتوا، قال ابن قتيبة: إن الناس عند الغضب والضجر قد يدعون على أنفسهم وأهلهم وأولادهم بالموت وتعجيل البلاء كما يدعون بالرزق والرحمة وإعطاء المسؤول،

ص: 24

يقول لو أجابهم الله إذا دعوه بالشر الذي يستعجلون به استعجالهم بالخير لفرغ من إهلاكهم، ولكن الله عز وجل بفضله وكرمه يستجيب للداعي في الخير ولا يستجب له في الشر، وقال مجاهد: في الآية هو قول الإنسان لولده وأهله عند الغضب لعنكم الله لا بارك الله فيكم، وقال سعيد بن جبير: هو قول الرجل للرجل اللهم العنه اللهم اخزه وهو يحب أن يستجاب له، وقال قتادة: هو دعاء الرجل على نفسه وأهله وماله بما يكره أن يستجاب له فيه.

وقيل الآية خاصة بالكفار الذين أنكروا البعث وما يترتب عليه، وقيل نزلت في النضر بن الحرث حين قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الأية.

وقرئ لقضي على البناء للفاعل وهي قراءة حسنة لمناسبة ذلك لقوله (ولو يعجل الله) وصورة القياس هكذا لو يعجل الله الشر للناس لأهلكهم لكنه لم يهلكهم بل أمهلهم فلم يعجل لهم الشر، ويدل على هذا القول قوله (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) أي لا يتوقعونه فالفاء للعطف على مقدر، يدل عليه الكلام فكأنه قيل لكن لا يعجل لهم الشر، ولا يقضي إليهم أجلهم فيذرهم أي فيتركهم ويمهلهم (في طغيانهم) أي الذي هو عدم رجاء اللقاء وإنكار البعث والجزاء وما يتفرع على أعمالهم السيئة ومقالاتهم الشنيعة، والطغيان التطاول وهو العلو والارتفاع (يعمهون) يعني يتركهم يتحيرون في تطاولهم وتكبرهم وعدم قبولهم للحق استدراجاً لهم منه سبحانه وخذلاناً.

ثم بين سبحانه أنهم كاذبون في استعجال الشر ولو أصابهم ما طلبوه لأظهروا العجز والجزع فقال

ص: 25

(وإذا مس الإنسان الضر) أي هذا الجنس الصادق على كل ما يحصل التضرر به كالمرض والفقر (دعانا لجنبه) اللام للوقت أو بمعنى على أي دعانا مضطجعاً (أو قاعداً أو قائماً) كأنه قال دعانا في جميع الأحوال المذكورة وغيرها، وخص المذكورة بالذكر لأنها الغالب على

ص: 25

الإنسان ولا يخلو عنها عادة وما عداها نادر كالركوع والسجود.

ويجوز أن يراد أنه يدعو الله حال كونه مضطجعاً غير قادر على القعود، وقاعداً غير قادر على القيام وقائماً غير قادر على المشي والأول أولى، قال الزجاج: أن تعديد أحوال الدعاء أبلغ من تعديد أحوال المضرة لأنه إذا كان داعياً على الدوام ثم نسي في وقت الرخاء كان أعجب.

وعن أبي الدرداء قال: ادع الله يوم سرائك يستجاب لك يوم ضرائك.

وأقول أنا أكثر من شكر الله على السراء ليدفع عني الضراء فإن وعده للشاكرين بزيادة النعم مؤذن بدفعه عنهم النقم لذهاب حلاوة النعمة عند وجود مرارة النقمة، اللهم اجمع لنا بين جلب النعم وسلب النقم فإنا نشكرك عدد ما شكرك الشاكرون ونحمدك عدد ما حمدك الحامدون بكل لسان في كل زمان ومكان.

(فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) أي مضى على طريقته التي كان عليها قبل أن يمسه الضر. ونسي حالة الجهد والبلاء والضيق والفقر، وأهمل جانب الله أو مضى عن موقف الدعاء والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به كأنه لم يدعنا عند أن مسه الضر إلى كشف ذلك الضر الذي مسه.

وقيل معنى مر، استمر على كفره مشبهاً بمن لم يدعنا ولم يشكر ولم يتعظ، وهذه الحالة التي ذكرها الله سبحانه للداعي لا تختص بأهل الكفر بل تتفق لكثير من المسلمين تلين ألسنتهم بالدعاء وقلوبهم بالخشوع والتذلل عند نزول ما يكرهون بهم، فاذا كشفه الله عنهم غفلوا عن التضرع والدعاء وذهلوا عما يجب عليهم من شكر النعمة التي أنعم الله بها عليهم من إجابة دعائهم ورفع ما نزل بهم من الضر ودفع ما أصابهم من المكروه.

ص: 26

وهذا مما يدل على أن الآية تعم المسلم والكافر كما يشعر به لفظ الناس ولفظ الإنسان. اللهم أوزعنا شكر نعمك وأذكرنا الأحوال التي مننت علينا فيها بإجابة الدعاء حتى نستكثر من الشكر الذي لا نطيق سواه ولا نقدر على غيره، وما أغناك عنه وأحوجنا إليه ولئن شكرتم لأزيدنكم.

(كذلك) أي مثل ذلك التزيين العجيب أي كما زين له الدعاء عند الضرر والإعراض عند الرخاء (زين للمسرفين ما كانوا يعملون) أي عملهم، والمسرف في اللغة هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس، والتزيين هو إما من جهة الله تعالى على طريق التخلية وعدم اللطف بهم أو من طريق الشيطان بالوسوسة أو من طريق النفس الأمارة بالسوء، والمعنى إنه زين لهم الإعراض عن الدعاء والغفلة عن الشكر والاشتغال بالشهوات.

ثم ذكر سبحانه ما يجري مجرى الردع والزجر عما صنعه هؤلاء فقال

ص: 27

(ولقد أهلكنا القرون) يعني الأمم الماضية (من قبلكم) أي قبل هؤلاء الكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم يعني أهلكناهم من قبل زمانكم، وقيل الخطاب لأهل مكة على طريق الالتفات للمبالغة في الزجر.

(لما ظلموا) أي أهلكناهم حين فعلوا الظلم بالتكذيب والتجارؤ على الرسل والتطاول في المعاصي من غير تأخير لإهلاكهم كما أخرنا إهلاككم. وقيل الظلم هنا الشرك أي لما أشركوا.

(وجاءتهم رسلهم) الذين أرسلناهم إليهم (بالبينات) أي بالآيات الواضحات الدالة على صدق الرسل (وما كانوا ليؤمنوا) الجملة اعتراضية واللام لتأكيد النفي، أي وما صح لهذه الأمم وما استقام أن يؤمنوا برسلهم لعدم استعدادهم لذلك وسلب الإلطاف عنهم.

(كذلك نجزي القوم المجرمين) أي مثل ذلك الجزاء وهو الاستئصال الكلي لكل مجرم، وهذا وعيد شديد لمن كان في عصره من الكفار أو لكفار مكة على الخصوص.

ص: 27

ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)

ثم خاطب سبحانه الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال

ص: 28

(ثم جعلناكم خلائف) أي استخلفناكم (في الأرض) بعد تلك القرون التي تسمعون أخبارها وتنظرون آثارها، والخلائف جمع خليفة، وقد تقدم الكلام عليه في آخر سورة الأنعام.

(لننظر كيف تعملون) اللام لام كي أي لكي ننظر أي عمل تعملونه من أعمال الخير والشر، أو على أي حالة تعملون الأعمال اللائقة بالاستخلاف وقيل النظر هنا بمعنى العلم أي لنختبر أعمالكم كقوله تعالى (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) ذكره الواحدي والرازي، وقيل لنعامل معاملة من ينظر فهي استعارة تمثيلية والأول أولى.

عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الدنيا حلوة خضرة وأن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واحذروا فتنة النساء (1) ". أخرجه مسلم. ثم حكى الله سبحانه نوعاً ثالثاً من تعنتهم وتلاعبهم بآياته فقال

(1) مسلم 2742.

ص: 28

(وإذا تتلى عليهم) فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عنهم (آياتنا) التي في الكتاب العزيز، أي وإذا تلا التالي عليهم

ص: 28

آياتنا الدالة على إثبات التوحيد وإبطال الشرك حال كونها (بينات) أي واضحات الدلالة على المطلوب (قال الذين لا يرجون لقاءنا) أي لا يخافون البعث وهم المنكرون للمعاد. وقال قتادة: هم مشركو مكة، وقد تقدم تفسيره قريباً، أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(ائت بقرآن غير هذا أو بدّله) طلبوا منه صلى الله عليه وسلم لما سمعوا ما غاظهم فيما تلاه عليهم من القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد الشديد لمن عبدها أحد أمرين: إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن مع بقاء هذا القرآن على حاله؛ وإما تبديل هذا القرآن بنسخ بعض آياته أو كلها ووضع أخرى مكانها مما يطابق إرادتهم ويلائم غرضهم.

قال الرازي: إقدامهم على هذا الالتماس إما على سبيل السخرية والاستهزاء أو على سبيل التجربة والامتحان، حتى أنه لو فعل ذلك علموا أنه كاذب في قوله إن هذا القرآن ينزل عليه من عند الله تعالى.

فأمره الله أن يقول في جوابه (قل ما يكون) أي ما ينبغي ولا يحل (لي أن أبدله من تلقاء نفسي) فنفى عن نفسه أحد القسمين وهو التبديل لأنه الذي يمكنه لو كان ذلك جائزاً بخلاف القسم الآخر وهو الإتيان بقرآن آخر، فإن ذلك ليس بوسعه ولا يقدر عليه.

وقيل أنه صلى الله عليه وسلم نفى عن نفسه أسهل القسمين ليكون دليلاً على نفي أصعبهما بالطريق الأولى، وهذا منه صلى الله عليه وسلم من باب مجازاة السفهاء. إذ لا يصدر مثل هذا الاقتراح عن العقلاء بعد أن أمره الله سبحانه بذلك وهو أعلم بمصالح عباده وبما يدفع الكفار عن هذه الطلبات الساقطة والسؤالات الباردة.

قال الزجاج: سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور، وقيل سألوه

ص: 29

أن يسقط ما فيه من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، وقيل سألوه أن يحول الوعد وعيداً والحرام حلالاً والحلال حراماً.

ثم أمره أن يؤكد ما أجاب به عليهم من أنه ما صح له ولا استقام أن يبدله من تلقاء نفسه بقوله (إن أتبع إلا ما يوحى إليّ) من عند الله سبحانه من غير تبديل ولا تحويل ولا تحريف ولا تصحيف، فقصر حاله صلى الله عليه وسلم على اتباع ما يوحى إليه، وربما كان مقصد الكفار بهذا السؤال التعريض للنبي (صلى الله عليه وسلم) بأن القرآن كلامه، وأنه يقدر على الإتيان بغيره والتبديل له.

ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم تكميلاً للجواب عليهم (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) فإن هذه الجملة كالتعليل لما قدمه من الجواب قبلها واليوم العظيم هو يوم القيامة، أي إني أخاف إن عصيت ربي بفعل ما تطلبون على تقدير إمكانه عذاب يوم القيامة.

ثم أكد سبحانه كون هذا القرآن من عند الله وإنه صلى الله عليه وسلم إنما يبلغ إليهم منه ما أمره الله بتبليغه لا يقدر على غير ذلك فقال

ص: 30

(قل لو شاء الله) أي أن هذا القرآن المتلو عليكم هو بمشيئة الله وإرادته ولو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ولا أبلغكم إياه (ما تلوته عليكم) فالأمر كله منوط بمشيئة الله ليس لي في ذلك شيء (ولا أدراكم به) أي ولو شاء الله ما أدراكم بالقرآن أي ما أعلمكم به على لساني، يقال دريت الشيء وأدراني الله به، هكذا قرأ الجمهور بالألف من أدراه يدريه، أعلمه يعلمه، وقرأ ابن كثير: ولأدراكم به بغير ألف بين اللام والهمزة والمعنى لأعلمكم به على لسان غيري من غير أن أتلوه عليكم، فيكون اللام لام تأكيد دخلت على ألف أفعل.

وقد قرئ أدرأكم بالهمزة فقيل هي منقلبة عن الألف لكونهما من واد واحد، ويحتمل أن يكون من درأته إذا دفعته وأدرأته إذا جعلته دارياً، والمعنى لا أجعلكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال وتكذبونني، وقرأ ابن عباس

ص: 30

والحسن ولا أدرأتكم به قال أبو حاتم: أصله ولا أدريتكم به فأبدل من الياء ألفا، قال النحاس: وهذا غلط، والرواية عن الحسن ولا أدرأتكم به بالهمزة.

(فقد لبثت فيكم عمراً من قبله) تعليل لكون ذلك بمشيئة الله ولم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم إلا التبليغ، أي أقمت فيما بينكم زماناً طويلاً من قبل القرآن وهو أربعون سنة تعرفونني بالصدق والأمانة لست ممن يقرأ ولا ممن يكتب (أفلا تعقلون) الهمزة للتقريع والتوبيخ أي أفلا تجرون على ما يقتضيه العقل من عدم تكذيبي لما عرفتم من العادة المستمرة لي المدة الطويلة بالصدق والأمانة وعدم قراءتي للكتب المنزلة على الرسل وتعلمي لما عند أهلها من العلم ولا طلبي لشيء من هذا الشأن ولا حرصي عليه.

ثم جئتكم بهذا الكتاب الذي عجزتم عن الإتيان بسورة منه وقصرتم عن معارضته وأنتم العرب المشهود لهم بكمال الفصاحة، المعترف لهم بأنهم البالغون فيها إلى مبلغ لا يتعلق به غيركم.

أخرج ابن أبي شيبة والبخاري والترمذي عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة فمكث بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة (1) وعن السدي نحوه.

قال النووي: ورد في عمره صلى الله عليه وسلم ثلاث روايات: إحداها أنه توفي وهو ابن ستين سنة والثانية خمس وستون سنة والثالثة ثلاث وستون سنة وهي أصحها وأشهرها، رواه مسلم من حديث أنس وعائشة وابن عباس، واتفق العلماء عليها؛ وتأولوا الباقي عليه، فرواية ستين سنة اقتصر فيها على العقود وترك الكسر، ورواية الخمس متأولة أيضا بأنها حصل فيها اشتباه.

(1) البخاري كتاب مناقب الأنصار باب 45.

ص: 31

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)

ص: 32

(فمن أظلم) استفهام فيه معنى الجحد أي لا أحد أظلم (ممن افترى على الله كذباً) زيادة كذباً مع أن الافتراء لا يكون إلا كذباً لبيان أن هذا مع كونه افتراء على الله هو كذب في نفسه فربما يكون الافتراء كذباً في الإسناد فقط كما إذا أسند ذنب زيد إلى عمرو، وذكر معنى هذا أبو السعود في تفسيره.

قيل وهذا من جملة رده صلى الله عليه وسلم على المشركين لما طلبوا منه أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن أو يبدله، فبين لهم أنه لو فعل ذلك لكان من الافتراء على الله ولا ظلم يماثل ذلك، وقيل المفتري على الله الكذب هم المشركون.

(أو كذب بآياته) وهم أهل الكتاب (إنه) أي أن الشأن (لا يفلح المجرمون) تعليل لما قبله، أي لا يظفرون بمطلوب ولا يفوزون بخير، قال عكرمة: قال النضر: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى، فأنزل الله هذه الآية.

ثم نعى الله سبحانه عليهم عبادة الأصنام وبين أنها لا تنفع من عبدها ولا تضر من لم يعبدها فقال

ص: 32

(ويعبدون من دون الله) أي متجاوزين الله سبحانه إلى عبادة غيره لا بمعنى ترك عبادته بالكلية بل بمعنى عدم الاكتفاء بها وضم عبادة الغير إليها للتقرب والشفاعة.

ص: 32

(ما لا يضرهم ولا ينفعهم) أي ما ليس من شأنه الضرر ولا النفع، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً لمن أطاعه، معاقباً لمن عصاه، ونفي الضر والنفع هنا عن الأصنام باعتبار الذات وإثباتهما لها في الحج في قوله (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) باعتبار السبب فلا منافاة بينهما.

(ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) أي زعموا أنهم يشفعون في الآخرة فلا يعذبهم الله بذنوبهم؛ قاله ابن جريج، وهذا غاية الجهالة منهم حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال، وقيل أرادوا بهذه الشفاعة إصلاح أحوال دنياهم، قاله الحسن، أي لإنكارهم البعث وما يترتب عليه. ثم أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم فقال (قل) لهم تبكيتاً (اتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض) والمعنى أتخبرون الله أن له شركاء في ملكه يعبدون كما يعبد، أو أتخبرونه أن لكم شفعاء بغير إذنه والله سبحانه لا يعلم لنفسه شريكاً ولا شفيعاً بغير إذنه من جميع مخلوقاته الذين هم في سماواته وفي أرضه، وهذا الكلام حاصله عدم وجود من هو كذلك أصلاً وفي هذا من التهكم بالكفار ما لا يخفى.

(سبحانه وتعالى عما يشركون) بالياء والتاء سبعيتان، نزه الله سبحانه نفسه عن إشراكهم، وهو يحتمل أن يكون ابتداء كلام غير داخل في الكلام الذي أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب به عليهم ويحتمل أن يكون من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم جواباً عليهم.

ص: 33

وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)

ص: 34

(وما كان الناس) قد تقدم تفسيره في البقرة والمعنى أن الناس جميعاً ما كانوا (إلا أمة واحدة) موحدة لله سبحانه مؤمنة به من لدن آدم إلى نوح، وقيل من عهد إبراهيم إلى عمرو بن لحي لأن التوحيد والإسلام ملة قديمة اجتمعت عليه الناس قاطبة فطرة وتشريعاً، وأن الشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة.

(فاختلفوا) أي فصار البعض كافراً، وبقي البعض الآخر مؤمناً فخالف بعضهم بعضاً، وقال الزجاج: هم العرب كانوا على الشرك وقال: كل مولود يولد على الفطرة فاختلفوا عند البلوغ والأول أظهر؛ وليس المراد أن كل طائفة أحدثت ملة من ملل الكفر مخالفة للأخرى بل المراد كفر البعض وبقي البعض على التوحيد كما قدمنا، وقال ابن مسعود: كانوا على هدى، وروي أنه قرأ هكذا.

وعن مجاهد قال: آدم وحده فاختلفوا حين قتل أحد ابني آدم أخاه، وعن السدي قال: أهل دين واحد على دين آدم فكفروا وقيل ليس في الآية ما يدل على أي دين كانوا من إيمان أو كفر فهو موقوف على دليل من خارج، وقيل كانوا في الكفر وهو منقول عن جماعة من المفسرين والأول أولى.

(ولولا كلمة سبقت من ربك) وهي أنه سبحانه لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه إلا يوم القيامة (لقضي بينهم) في الدنيا بنزول العذاب وتعجيل

ص: 34

العقوبة للمكذبين وكان ذلك فصلاً بينهم (فيما فيه يختلفون) لكنه قد امتنع ذلك بالكلمة التي لا تتخلف، وقيل المعنى لقضى بينهم بإقامة الساعة عليهم، وقيل لفرغ من هلاكهم، وقيل: الكلمة أن الله أمهل هذه الأمة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا قاله الكلبي.

وقيل الكلمة أنه لا يأخذ أحداً إلا بحجة وهي إرسال الرسل كما قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) وقيل الكلمة قوله سبقت رحمتي غضبي وعبر بالمضارع عن الماضي حكاية للحال الماضية.

ص: 35

(ويقولون) ذكر سبحانه هاهنا نوعاً رابعاً من مخازيهم وجاء بالمضارع لاستحضار صورة ما قالوه، قيل والقائلون هم أهل مكة كأنهم لم يعتدوا بما قد نزل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة التي لو لم يكن منها إلا القرآن لكفى به دليلاً بيناً ومصدقاً قاطعاً.

(لولا) أي هلا (أنزل عليه آية) من الآيات التي نقترحها عليه ونطلبها منه كإحياء الأموات وجعل الجبال ذهباً ونحو ذلك (من ربه) كما كان للأنبياء من الناقة والعصا واليد؛ ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال: (فقل إنما الغيب لله) أي أن نزول الآية غيب والله هو المحيط بعلمه المستأثر به لا علم لي ولا لكم ولا لسائر مخلوقاته وإنما علي التبليغ.

(فانتظروا) نزول ما اقترحتموه من الآيات (إني معكم من المنتظرين) لنزولها وقيل المعنى انتظروا قضاء الله بيني وبينكم بإظهار الحق على الباطل، وقال الربيع: خوفهم عذابه وعقوبته إن لم يؤمنوا.

ص: 35

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)

ص: 36

(وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا) لما بين سبحانه في الآية المتقدمة أنهم طلبوا آية عناداً ومكراً ولجاجاً أكد ذلك بما ذكره هنا من أنه سبحانه إذا أذاقهم رحمة منه من بعد أن مستهم الضراء فعلوا مقابل هذه النعمة العظيمة المكر منهم في آيات الله.

والمراد بإذاقتهم رحمته سبحانه أنه وسع عليهم في الأرزاق وأدرَّ عليهم النعم بالمطر والخصب وصلاح الثمار بعد أن مسهم الضر بالجدب وضيق المعايش، فما شكروا نعمته ولا قدروها حق قدرها. بل أضافوها إلى أصنامهم التي لا تنفع ولا تضر وطعنوا في آيات الله واحتالوا في دفعها بكل حيلة وهو معنى المكر فيها وإذا الأولى شرطية وجوابها إذا لهم مكر، وهي فجائية ذكر معنى ذلك الخليل وسيبويه، ويستفاد منه السرعة لأن المعنى أنهم فاجؤوا المكر أي أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة، وقال مجاهد: في الآية استهزاء وتكذيب. وهذا تفسير مراد، وإلا فأصل المكر إخفاء الحيل والمكايد، وقال مقاتل: لا يقولون هذا رزق الله إنما يقولون سقينا بنوء كذا وكذا.

ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عنهم فقال: (قل الله أسرع مكراً) أي أعجل عقوبة وأشد أخذاً وأقدر على الجزاء من سرعة مكرهم، وقد دل أفعل التفضيل على أن مكرهم كان سريعاً ولكن مكر الله أسرع منه، وتسمية

ص: 36

عقوبة الله سبحانه مكراً من باب المشاكلة كما قرر في مواطن من عبارات الكتاب العزيز.

(إن رسلنا) أي الملائكة (يكتبون ما تمكرون) قرئ بالتاء والياء، والأولى سبعية والثانية عشرية أي لا يخفى ذلك على الملائكة الذين هم الحفظة فكيف يخفى على العليم الخبير؛ وفي هذا وعيد لهم شديد وتحقيق للانتقام منهم.

وهذه الجملة تعليل للتي قبلها فإن مكرهم إذا كان ظاهراً لا يخفى فعقوبة الله كائنة لا محالة ومعنى هذه الآية قريب من معنى الآية المتقدمة وهي إذا مس الإنسان الضر، وفي هذه الآية زيادة وهي أنهم لا يقتصرون على مجرد الإعراض بل يطلبون الغوائل لآيات الله بما يدبرونه من المكر.

ص: 37

(هو الذي يسيركم في البر والبحر) ضرب سبحانه لهؤلاء مثلاً حتى ينكشف المراد انكشافاً تاماً، وهو كلام مستأنف ومعنى تسييرهم في البر أنهم يمشون على أقدامهم التي خلقها لينتفعوا بها ويركبون على ما خلقه الله لركوبهم من الدواب ومعنى تسييرهم في البحر أنه ألهمهم لعمل السفائن التي يركبون فيها في لجج البحر، ويسر ذلك لهم ودفع عنهم أسباب الهلاك.

وقد قرأ ابن عامر وهو الذي ينشركم في البر والبحر بالنون من النشر كما في قوله تعالى: (فانتشروا في الأرض) أي ينشرهم سبحانه في البحر فينجي من يشاء ويغرق من يشاء.

(حتى) غاية للسير في البحر والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها (إذا كنتم في الفلك) يقع على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث والحركات فيه بينها تغاير اعتباري (وجرين) أي السفن (بهم) أي بالراكبين عليها والفائدة

ص: 37

في صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة المبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتقبيح، قاله الزمخشري.

وقيل أن مخاطبة الله لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة الخبر عن الغائب وكل من أقام الغائب مقام المخاطب حسن منه أن يرده إلى الغائب، وقيل هذا الالتفات فيه امتنان وإظهار نعمة المخاطبين، والمسيرون في البحر مؤمنون وكفار والخطاب شامل فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح الشكر، ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة.

ولما كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا نجوا بغوا في الأرض عدل عن خطابهم بذلك إلى الغيبة لئلا يخاطب المؤمنين بما لا يليق صدوره منهم وهو البغي بغير الحق، قاله السمين، وقيل إن الالتفات في الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس من فصيح كلام العرب.

وقال الرازي: الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذا المقام دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في قوله إياك نعبد دليل الرضا والتقريب.

بريح طيبة أي ساكنة لينة الهبوب إلى جهة المقصد، والباء للسببية أو للحال (وفرحوا بها) أي ريح السفينة فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة أولها الكون في الفلك والثاني جريها بهم بالريح الطيبة التي ليست بعاصفة وثالثها فرحهم والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة.

الأول (جاءتها) أي جاءت الفلك وعارضته وقابلته أو جاءت الريح

الطيبة أي تلقتها (ريح عاصف) أي ذات عصف وهو من باب النسب كلابن وتامر وهو مما يستوى فيه المذكر والمؤنث كما صرحوا به والعصوف شدة هبوب

ص: 38

الريح وهي الهواء بين السماء والأرض، والجمع أرواح ورياح، وقيل أرياح على لفظ الواحد، وغلطه أبو حاتم وهي مؤنثة على الأكثر، وقد تذكر على معنى الهواء نقله أبو زيد، وقال ابن الأنباري: الريح مؤنثة لا علامة فيها وكذلك سائر أسمائها إلا الإعصار فإنه مذكر، وراح اليوم يروح روحاً من باب قال، وفي لغة من باب خاف إذا اشتدت ريحه فهو رائح.

والثاني (وجاءهم) أي ركبان السفينة (الموج من كل مكان) أي من جميع الجوانب للفلك، والموج ما ارتفع من غوارب الماء وعلا فوق البحر، وقيل هو شدة حركة الماء واختلاطه.

(و) الثالث (ظنوا أنهم أحيط بهم) أي غلب على ظنونهم الهلاك، وأصله من إحاطة العدو بقوم أو ببلد، فجعل هذه الإحاطة مثلاً في الهلاك وإن كان بغير العدو، كما هنا وهو استعارة تبعية، وقيل الظن هنا اليقين أي أيقنوا أنه الهلاك، وقيل بل المراد المقاربة من الهلاك والدنو منه والإشراف عليه.

وقوله (دعوا الله) بدل من ظنوا لكون هذا الدعاء الواقع منهم إنما كان عند ظن الهلاك وهو الباعث عليه فكان بدلاً منه بدل اشتمال لاشتماله عليه، وممكن أن يكون جملة مستأنفة كأنه قيل ماذا صنعوا فقيل دعوا الله.

(مخلصين له الدين) أي لم يشوبوا دعاءهم بشيء من الشوائب كما جرت عادتهم في غير هذا الموطن أنهم يشركون أصنامهم في الدعاء، وليس هذا لأجل الإيمان بالله وحده بل لأجل أن ينجيهم مما شارفوه من الهلاك لعلمهم أنه لا ينجيهم إلا الله سبحانه.

وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد وإن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافراً، وفي هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة وما شابهها.

ص: 39

فيا عجباً لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا الدعاء لله كما فعله المشركون كما تواتر ذلك إلينا تواتراً يحصل به القطع.

فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية وأين وصل بها أهلها وإلى أين رمى بهم الشيطان، وكيف اقتادهم وتسلط عليهم حتى انقادوا له انقياداً ما كان يطمع في مثله ولا في بعضه من عباد الأصنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

واللام في (لئن أنجيتنا) هي الموطئة للقسم المحذوف على إرادة القول أي دعوا قائلين ذلك، ويجوز أن يجري دعوا الله مجرى قالوا لأن الدعاء بمعنى القول إذ هو نوع من أنواعه فتحكى به الجملة، وهو مذهب كوفي والأول هو الأولى لاستدعاء الثاني لاقتصار دعائهم على ذلك فقط.

(من هذه) أي ما وقعوا فيه من مشارفة الهلاك في البحر من الريح العاصفة والأمواج الشديدة (لنكونن) في كل حال (من الشاكرين) أي ممن يشكر نعمك التي أنعمت بها علينا منها هذه المحنة التي نحن بصدد سؤالك أن تفرجها عنا وتنجينا منها، وهذا جواب القسم وفيه من المبالغة في الدلالة على كونهم ثابتين في الشكر مثابرين عليه منتظمين في سلك المنعوتين بالشكر الراسخين فيه ما ليس في أن يقال لنشكرن.

ص: 40