المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٦

[صديق حسن خان]

الفصل: وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ

وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ‌

(93)

(ويا قوم اعملوا على مكانتكم) لما رأى إصرارهم على الكفر وتصميمهم على دين آبائهم وعدم تأثير الموعظة فيهم توعدهم بأن يعملوا على غاية تمكنهم ونهاية استطاعتهم يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ تمكن.

(إني عامل) على حسب ما يمكنني ويقدره الله لي ثم بالغ في التهديد والوعيد بقوله (سوف تعلمون) أينا الجاني على نفسه المخطئ في فعله وتعلمون عاقبة ما أنتم عليه من عبادة غير الله والإضرار بعباده، وقد تقدم مثله في الأنعام.

قال الزمخشري: وصل سوف تارة بالفاء وتارة بالاستئناف كما هو عادة البلغاء من العرب، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف لأنه أكمل في باب الفصاحة والتهويل اهـ. يعني حذف الفاء هنا لأنه جواب سائل هو المسمى في علم البيان بالاستئناف البياني كأن كان قائلاً قال: فماذا يكون بعد ذلك فهو أبلغ في التهويل.

(من يأتيه عذاب يخزيه) أي سوف تعلمون من هو الذي يأتيه العذاب المخزي الذي يتأثر عنه الذل والفضيحة والعار (ومن هو كاذب) في زعمكم ومن هو المعذب، وفيه تعريض بكذبهم في قولهم لولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز.

وقيل التقدير من هو كاذب فسيعلم كذبه ويذوق وبال أمره (وارتقبوا إني معكم رقيب) أي انتظروا إني معكم منتظر لما يقضي به الله بيننا.

ص: 237

وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)

ص: 238

(ولما جاء أمرنا) بعذابهم أو عذابنا (نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا) لهم بسبب إيمانهم أو بهدايتهم للإيمان (وأخذت الذين ظلموا) غيرهم بما أخذوا من أموالهم بغير وجه وظلموا أنفسهم بالتصميم على الكفر (الصيحة) التي صاح بها جبريل حتى خرجت أرواحهم من أجسادهم، وفي الأعراف (فأخذتهم الرجفة) وكذا في العنكبوت وقد قدمنا أن الرجفة الزلزلة وأنها تكون تابعة للصيحة لتموج الهواء المفضى إليها، وهذا في أهل قريته وأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بعذاب الظلة وهو نار نزلت من السماء أحرقتهم.

(فأصبحوا في ديارهم جاثمين) ميتين باركين على الركب وقد تقدم تفسيره وتفسير

ص: 238

(كأن لم يغنوا فيها) قريباً وكذا تفسير (ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود)

قال المهدوي: من ضم العين من بعدت فهي لغة تستعمل في الخير والشر، وبعدت بالكسر على قراءة الجمهور تستعمل في الشر خاصة وهي هنا بمعنى اللعنة وقيل بكسر العين بمعنى الهلاك وبضمها ضد القرب والمصدر البعد بفتح العين، والمعنى هلاكاً لهم كما هلكت ثمود والتشبيه من حيث إن هلاك كل بالصيحة.

قال ابن الأنباري: من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب قيل لم يعذب أمتان قط بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح، فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأما قوم شعيب فأخذتهم الصيحة من فوقهم.

ص: 238

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)

ص: 239

(ولقد أرسلنا موسى) هذه سابعة قصص ذكرت في هذه السورة فتقدم قصة نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط ومدين على هذا الترتيب وهذه قصة موسى (بآياتنا) أي بالتوراة حال كونه متلبساً بها (وسلطان مبين) أي المعجزات الباهرات.

وقيل المراد بالآيات هي التسع المذكورة في غير هذا الموضع منها ثمانية في الأعراف، والتاسعة في يونس.

وليس من الآيات المرادة هنا التوراة لأنها أنزلت بعد إغراق فرعون وقومه والسلطان العصا وهي وإن كانت من التسع لكنها لما كانت أعظم الآيات وأبهرها للعقول وأشدها خرقاً للعادة أفردت بالذكر.

وقيل المراد بالآيات ما يفيد الظن، والسلطان ما يفيد القطع مما جاء به موسى وقيل هما جميعاً عبارة عن شيء واحد أي أرسلناه بما يجمع وصف كونه آية وكونه سلطاناً بيناً، وقيل أن السلطان المبين ما أورده موسى على فرعون في المحاورة بينهما.

ص: 239

(إلى فرعون وملئه) أي أرسلناه بذلك إلى هؤلاء، وقد تقدم أن الملأ أشراف القوم وإنما خصهم بالذكر دون سائر القوم لأنهم أتباع لهم في الإصدار والإيراد وخص هؤلاء الملأ دون فرعون بقوله (فاتبعوا أمر فرعون) أي أمره لهم بالكفر لأن حال فرعون في الكفر أمر واضح إذ كفر قومه من الأشراف وغيرهم إنما هو مستند إلى كفره.

ص: 239

ويحوز أن يراد بأمر فرعون شأنه وطريقه فيعم الكفر وغيره (وما أمر فرعون برشيد) أي ليس فيه رشد قط، بل هو غي وضلال، والرشيد بمعنى المرشد والإسناد مجازي، أو بمعنى ذي رشد، وفيه تعريض بأن الرشد في أمر موسى.

ص: 240

(يقدم قومه) تعليل للنفي قبله من قدمه بمعنى تقدمه أي يصير متقدماً لهم (يوم القيامة) وسابقاً لهم إلى عذاب النار كما كان يتقدمهم في الدنيا (فأوردهم النار) أي أنه لا يزال متقدماً لهم وهم يتبعونه حتى يوردهم النار في الآخرة. والورود الدخول وأورد ماض لفظاً مستقبل معنى لأنه عطف على ما هو نص في الاستقبال.

وعبر بالماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه والهمزة في أورد للتعدية لأنه قبلها يتعدى لواحد، قال تعالى (ولما ورد ماء مدين).

وقيل بل هو ماض على حقيقته وهذا قد وقع وانفصل، وذلك أنه أوردهم في الدنيا النار، قال تعالى (النار يعرضون عليها)

وقيل أوردهم موجباتها وأسبابها، وفيه بعد لأجل العطف بالفاء قال قتادة: يمضي فرعون بين أيدي قومه حتى يهجم بهم على النار. قال الخفاجي: وأنزل لهم النار منزلة الماء فسمى إتيانها وروداً فالنار استعارة مكنية تهكمية للضد وهو الماء وإثبات الورود لها تخييل.

ثم ذم الورد الذي أوردهم إليه فقال (وبئس الورد المورود) أي المدخل المدخول فيه الذي وردوه لأن الوارد إلى الماء الذي يقال له الورد إنما يرده ليطفئ حر العطش ويذهب ظمأه، والنار على ضد ذلك، والورد يكون مصدراً بمعنى الورود فلابد من حذف مضاف تقديره وبئس مكان الورد المورود وهو النار، وإنما احتيج إلى هذا التقدير، لأن تصادق فاعل نعم وبئس ومخصوصهما شرط، فلا يقال نعم الرجل الفرس.

ص: 240

وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)

ثم ذمهم بعد ذم المكان الذي يردونه فقال

ص: 241

(وأتبعوا) أي أتبع قوم فرعون مطلقاً أو الملأ خاصة أو هم وفرعون (في هذه) الدنيا (لعنة) عظيمة أي طرداً وإبعاداً من الأمم بعدهم (و) أتبعوا لعنة (يوم القيامة) يلعنهم أهل المحشر جميعاً، ثم أنه جعل اللعنة رفداً لهم على طريقة التهكم فقال (بئس الرفد المرفود) أي العون المعان أو العطاء المعطى.

قال الكسائي وأبو عبيدة: رفدته أرفده رفداً أعنته وأعطيته، واسم العطية الرفد أي بئس العطاء والإعانة ما أعطوهم إياه وأعانوهم به والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم وهو اللعنة التي اتبعوها في الدنيا والآخرة كأنها لعنة بعد لعنة تمد الأخرى وتؤيدها.

وسميت اللعنة عوناً لأنها إذا تبعتهم في الدنيا أبعدتهم عن رحمة الله وأعانتهم على ما هم فيه من الضلال، وسميت رفداً أي عوداً لهذا المعنى على التهكم، وإلا فاللعنة إذلال لهم وإنزال بهم إلى الحضيض الأسفل، وسميت معاناً لأنها أرفدت في الآخرة بلعنة أخرى لتكونا هاديتين إلى طريق الجحيم.

وذكر الماوردي حكاية عن الأصمعي أن الرفد بالفتح القدح وبالكسر ما فيه من الشراب فكأنه ذم ما يستقونه في النار وهذا أنسب بالمقام، وقيل أن الرفد الزيادة، أي بئسما يرفدونه به بعد الغرق وهو الزيادة، قاله الكلبي: وأصل الرفد العون والعطاء والصلة، والإرفاد أيضاً الإعطاء والإعانة. قال أبو السعود: وقد فسر الرفد بالعطاء ولا يلائمه المقام، وأصله ما يضاف إلى غيره ليعمده.

ص: 241

(ذلك) أي ما قصه الله سبحانه في هذه السورة من القصص السبعة (من أنباء القرى) أي من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية وما فعلوه بأنبيائهم (نقصه عليك) أي هو مقصوص عليك لتخبر به قومك لعلهم يعتبروا، وقد تقدم تحقيق معنى القصص (منها) أي من القرى التي أهلكنا أهلها (قائم وحصيد) القائم ما كان قائماً على عروشه والحصيد ما لا أثر له.

وقيل القائم العامر والحصيد الخراب، وقيل القائم القرى الخاوية على عروشها والحصيد المستأصل بمعنى محصود، شبه ما بقي من آثار القرى بالزرع القائم على ساقه وشبه المقطوع والمعفو منها بالحصيد.

قال ابن عباس: يعني قرى عامرة وقرى خامدة، وقال قتادة: قائم يرى مكانه وحصيد لا يرى له أثر، وقال ابن جريج: قائم خاو على عروشه وحصيد ملصق بالأرض، والمعنى بعضها باق وبعضها عاف، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنه لما ذكر أنباء القرى اتجه لسائل أن يقول ما حال هذه القرى أباقية آثارها أم لا؟

ص: 242

(وما ظلمناهم) بما فعلنا بهم من العذاب والإهلاك (ولكن ظلموا أنفسهم) بأن جعلوها عرضة للهلاك باقتراف ما يوجبه من الكفر والمعاصي.

(فما أغنت عنهم آلهتهم) أي فما دفعت عنهم أصنامهم أو ما نفعت، قاله أبو عاصم (التي يدعون) يعبدونها (من دون الله) أي غيره (من شيء) أي شيئاً من العذاب، وبأس الله، ومن زائدة (لما جاء) أي حين جاء (أمر ربك) أي عذابه (وما زادوهم غير تتبيب) أي هلاك وخسران. قال ابن عمر: أي هلكة وقال ابن زيد: أي تخسير، وقيل تدمير، والتتبيب اسم من تببه بالتشديد، وتبت يده تتب بالكسر خسرت كناية عن الهلاك وتباً له أي هلاكاً واستتب الأمر تهيأ ويستعمل لازماً ومتعدياً، يقال تببه غيره وتب هو بنفسه، والمعنى ما زادتهم أصنامهم التي يعبدونها إلا هلاكاً وخسراناً، وقد كانوا يعتقدون أنها تعينهم على تحصيل المنافع ودفع المضار.

ص: 242

وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)

ص: 243

(وكذلك) أي مثل ذلك الأخذ (أخذ ربك) قرئ على أنه فعل وعلى أنه مصدر (إذا أخذ القرى وهي ظالمة) أي أهلها وهم ظالمون بالذنوب فلا يغني عنهم من أخذه شيء (إن أخذه) عقوبته للكافرين (أليم شديد) أي موجع غليظ على المأخوذ وهو مبالغة في التهديد والتحذير.

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله سبحانه وتعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته "، ثم قرأ (وكذلك أخذ ربك) الآية (1) ولا تظنن أن الآية حكمها مختص بظالمي الأمم الماضية بل هو عام في كل ظالم ويعضده الحديث.

(1) مسلم 2583 - البخاري 2013.

ص: 243

(إن في ذلك) أي أخذ الله سبحانه لأهل القرى أو في القصص السبعة التي قصها الله على رسوله (لآية) لعبرة وموعظة لأن القصص المذكورة فيها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وقد حصل الأول فيعلم العاقل أن القادر على إنزال الأول قادر على إنزال الثاني (لمن خاف عذاب الآخرة) لأنهم الذين يعتبرون بالعبر ويتعظون بالمواعظ. قال ابن زيد: يقول إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة كما وفينا للأنبياء إنا لننصرهم.

(ذلك) أي يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة (يوم مجموع له) صفة ليوم جرت على غير من هي له فلذلك رفعت الظاهر وهو (الناس) من الأولين والآخرين للمحاسبة والمجازاة (وذلك) أي يوم القيامة (يوم مشهود) يشهده أهل المحشر، أو مشهود فيها الخلائق، أو يشهده أهل السماء والأرض فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول.

ص: 243

وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)

ص: 244

(وما نؤخره) أي ذلك اليوم (إلا لأجل) اللام للتعليل أي لانتهاء أجل أي وقت (معدود) معلوم بالعدد لا يعلمه إلا الله وهو مدة الدنيا وقد عين سبحانه وقوع الجزاء بعده، وعبارة أبي السعود: إلا لانقضاء مدة قليلة مضروبة حسبما تقتضيه الحكمة.

ص: 244

(يوم) حين (يأت) يوم القيامة وقيل الضمير لله تعالى كقوله إلا أن يأتيهم الله أو يأتي ربك (لا تكلم) أي لا تتكلم فيه (نفس) بما ينفع وينجى من جواب (إلا بإذنه) أي بما أذن لها من الكلام، وقيل لا تكلم بحجة ولا شفاعة إلا بإذنه سبحانه لها في التكلم بذلك كقوله لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن، وقوله تعالى (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه).

وقد جمع بين هذا وبين قوله (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) وقوله إخباراً عن محاجة الكفار (ربنا ما كنا مشركين) وقوله (هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون) باختلاف أحوالهم باختلاف مواقف القيامة وقد تكرر مثل هذا الجمع في مواضع.

وقد اشتملت هذه الآية على ثلاثة أنواع من البديع. الجمع في قوله لا تكلم نفس والتفريق في قوله فمنهم شقي وسعيد والتقسيم في قوله فأما الذين شقوا.

(فمنهم) أي من الأنفس أو من أهل الموقف وإن لم يذكروا قال الزمخشري: لأن ذلك معلوم ولأن قوله لا تكلم نفس يدل عليه وكذا قال ابن عطية (شقي) هو من كتبت عليه الشقاوة (وسعيد) أي من كتبت له السعادة وتقديم الشقي على السعيد لأن المقام مقام تحذير.

أخرج الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم

ص: 244

وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت فمنهم شقي وسعيد قلت يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه قال: بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له (1)

وقد استدل بهذه الآية على أن أهل الموقف قسمان لا ثالث لهما وظاهر الآية والحديث يدل على ذلك لكن بقي قسم آخر مسكوت عنه وهو من استوت حسناته وسيآته أو لا حسنات لهم ولا سيآت كالمجانين والأطفال فهم تحت مشيئته يحكم فيهم بما شاء وتخصيص القسمين لا ينفي القسم الثالث.

(1) الترمذي كتاب القدر الباب الثالث.

ص: 245

(فأما الذين شقوا) أي الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه تعالى وهم الذين يموتون على الكفر وأن تقدم منهم إيمان (ففي النار) أي فمستقرون فيها (لهم فيها زفير وشهيق) قال الزجاج: الزفير من شدة الأنين وهو المرتفع جداً.

قال: وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير والشهيق بمنزلة آخره، وقيل الزفير للحمار والشهيق للبغل، وقيل الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف، وقيل الزفير إخراج النفس والشهيق ردها، وقيل الزفير من الصدر والشهيق من الحلق.

وقيل الزفير ترديد النفس في الصدر من شدة الخوف حتى تنتفخ منه الأضلاع والشهيق النفس الطويل الممتد أو رد النفس إلى الصدر والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحصر فيه روحه

وقال الليث: الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ويخرجه والشهيق أن يخرج ذلك النفس وهو قريب من قولهم تنفس الصعداء، والجملة إما مستأنفة أو حالية.

ص: 245