المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٦

[صديق حسن خان]

الفصل: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا

فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‌

(23)

(فلما أنجاهم) الله من هذه المحنة التي وقعوا فيها وأجاب دعاءهم لم يفوا بما وعدوا من أنفسهم، بل فعلوا فعل الجاحدين لا فعل الشاكرين وجعلوا البغي في الأرض بغير الحق مكان الشكر (إذا هم يبغون) أي فأجاؤا البغي والفساد وسارعوا إليه، والبغي هو الفساد من قولهم بغى الجرح إذا ترامى في الفساد، وقيل هو الشرك، وزيادة (في الأرض) للدلالة على أن فسادهم هذا شامل لأقطار الأرض، والبغي وإن كان ينافي أن يكون بحق بل لا يكون إلا بالباطل لكن زيادة.

(بغير الحق) إشارة إلى أنهم فعلوا ذلك بغير شبهة عندهم بل تمرداً وعناداً لأنهم قد يفعلون ذلك لشبهة يعتقدونها مع كونها باطلة.

وقيل البغي: مجاوزة الحد وهو محمود إن كان من العدل إلى الإحسان ومن الفرض إلى التطوع، ومذموم إن كان من الحق إلى الباطل أو إلى الشبهة، وقال الزمخشري: البغي قد يكون بحق وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، وهذا فائدة تقييده بغير الحق.

(يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا) لما ذكر

سبحانه أن هؤلاء المتقدم ذكرهم يبغون في الأرض بغير الحق، ذكر عاقبة البغي وسوء مغبته، قرئ بنصب متاع على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر بطريق الاستئناف، أي بغيكم وبال على أنفسكم تتمتعون متاع الحياة الدنيا؛ وقيل على أنه ظرف زمان نحو مقدم الحاج أي زمن متاع الحياة الدنيا، وقيل على أنه

ص: 41

مفعول له، أي لأجل متاع الحياة الدنيا.

وقيل منصوب على نزع الخافض كمتاع، وقيل على الحال على أنه مصدر بمعنى المفعول أي ممتعين، وقيل على أنه مفعول لفعل دل عليه المصدر، أي تبغون متاع الحياة الدنيا.

وقد نوقش غالب هذه الأقوال في توجيه النصب، والحق الذي تقتضيه جزالة التنزيل إنما هو الوجه الأول، أما من قرأ برفع متاع فيجعله خبراً لمبتدأ، أي بغيكم متاع الحياة الدنيا ويكون على أنفسكم متعلقاً بالمصدر، والتقدير إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم متاع الحياة الدنيا ومنفعتها التي لا بقاء لها، فيكون المراد بأنفسكم على هذا الوجه أبناء جنسهم، وعبر عنهم بالأنفس استعارة لما يدركه الجنس على جنسه من الشفقة.

وقيل ارتفاع متاع على أنه خبر ثان وقيل على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو متاع كما في قوله تعالى: (إلا ساعة من نهار بلاغ) أي هذا بلاغ.

وقد نوقش أيضاً بعض هذه الوجوه في توجيه الرفع بما يطول به البحث في غير طائل، والحاصل أنه إذا جعل خبر المبتدأ على أنفسكم فالمعنى أن ما يقع من البغي على الغير هو بغي على نفس الباغي باعتبار ما يؤول إليه الأمر من الانتقام منه مجازاة على بغيه، وأن جعل الخبر متاعاً فالمراد أن بغي هذا الجنس الإنساني على بعضه بعضاً هو سريع الزوال قريب الاضمحلال كسائر أمتعة الحياة الدنيا فإنها ذاهبة عن قريب متلاشية بسرعة ليس لذلك كثير فائدة ولا عظيم جدوى.

وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم والخطيب في تاريخه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث هن رواجع على أهلها: المكر والنكث والبغي، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما بغيكم على

ص: 42

أنفسكم ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه.

وعن مكحول: ثلاث من كن فيه كن عليه: المكر والبغي والنكث.

أقول أنا: وينبغي أن يلحق بهذه الثلاث التي دل القرآن على أنها تعود على فاعلها " الخدع " فإن الله يقول: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم) وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم: " لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي منهما "(1).

ثم ذكر سبحانه ما يكون على ذلك البغي من المجازاة يوم القيامة مع وعيد شديد فقال: (ثم إلينا مرجعكم) تقديم الخبر للدلالة على الثبات والقصر، والمعنى أنكم بعد هذه الحياة الدنيا ومتاعها ترجعون إلى الله سبحانه فيجازي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه.

(فننبئكم بما كنتم تعملون) في الدنيا من خير وشر، والمراد بذلك المجازاة كما تقول لمن أساء سأخبرك بما صنعت وفيه أشد وعيد وأفظع تهديد.

ثم لما ذكر سبحانه ما تقدم من متاع الدنيا جاء بكلام مستأنف يتضمن بيان حالها وسرعة تقتضيها وقصر مدة التمتع بها وقرب زمان الرجوع الموعود به، بعد أن تملأ الأعين برونقها وتخلب النفوس ببهجتها، وتحمل أهلها على أن يسفكوا دماء بعضهم بعضاً ويهتكوا حرمهم، حباً لها وعشقاً لجمالها الظاهري، وتكالباً على التمتع بها وتهافتاً على نيل ما تشتهي الأنفس منها بضرب من التشبيه المركب العجيب البديع المثال المنتظم في سلك الأمثال فقال.

(1) ضعيف الجامع الصغير 4813.

ص: 43

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)

ص: 44

(إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) أي إن مثلها في سرعة الذهاب والاتصاف بوصف يضاد ما كانت عليه ويباينه، مثل ما على الأرض من أنواع النبات في زوال رونقه وذهاب بهجته وسرعة تقضيه، بعد أن كان غضاً مخضراً طرياً قد تعانقت أغصانه المتمايلة، وزهت أوراقه المتصافحة، وتلألأت أنواع نوره وحاكت الزهر أنواع زهره، وإنما ليست للحصر لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالاً غير هذا، وليس المشبه به هو ما دخله الكاف في قوله كماء بل ما يفهم من الكلام.

(فاختلط به) أي بسببه (نبات الأرض) بأن اشتبك بعضه ببعض لكثرته حتى بلغ إلى حد الكمال، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أول بروزه ومبدأ حدوثه غير مهتز، ولا مترعرع فإذا نزل الماء عليه اهتز، وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض (مما يأكل الناس والأنعام) أي كائناً من الحبوب والثمار والكلأ والتبن والعشب.

(حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) قال في الصحاح: الزخرف الذهب ثم يشبه به كل مموه مزور. اهـ.

وفي القاموس الزخرف بالضم الذهب وكمال حسن الشيء، ومن القول

ص: 44

حسنه، ومن الأرض ألوان نباتها، والمعنى أن الأرض استوفت واستكملت لونها الحسن المشابه بعضه للون الذهب وبعضه للون الفضة وبعضه للون الياقوت وبعضه للون الزمرد وحتى غاية لمحذوف، أي ما زال ينمو ويزهر حتى أخذت حسنها ونضارتها وبهجتها، وأظهرت ألوان زهرها من أبيض وأخضر وأحمر وأصفر وغير ذلك.

(وازينت) أي تزينت به، وقرئ أزينت على وزن أفعلت أي ازينت بالزينة التي عليها، شبهها بالعروس التي تلبس الثياب الجيدة المتلونة ألواناً كثيرة ففي الكلام استعارة مكنية.

(وظن أهلها) أي أهل تلك الأرض الآخذة زخرفها (إنهم قادرون عليها) أي غلب على ظنونهم أو تيقنوا أنهم قادرون على حصادها والانتفاع بها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها متمكنون على جدادها وقطافها، والضمير في عليها للأرض والمراد النبات الذي هو عليها.

(أتاها) أي جاءها (أمرنا) بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات (ليلاً أو نهاراً) أو للتنويع أي تارة يأتي قضاؤنا وعذابنا ليلاً، وتارة يأتي نهارا (فجعلناها حصيداً) أي جعلنا زرعها شبيهاً بالمحصود في قطعه من أصوله، قال أبو عبيدة: الحصيد المستأصل وقيل المقطوع بالمناجل.

(كأن لم تغن بالأمس) أي كأن لم يكن زرعها موجوداً فيها بالأمس مخضراً طرداً، من غني بالمكان بالكسر يغني بالفتح إذا أقام، قال البيضاوي: أي لم تلبث أي لم تقم ولم تمكث.

وقيل لم تكن ولم توجد، وفي القاموس ما يقتضي أن غني يأتي بمعنى كان ووحد كقوله غنيت دارنا بتهامة أي كانت بها.

ص: 45

والمراد بالأمس الوقت القريب والزمن الماضي لا خصوص اليوم الذي قبل يومك، قاله الكرخي، والمغاني في اللغة المنازل، وقال قتادة: كأن لم ينعم، وقرأ " لم يَغْنَ " بالتحتية بإرجاع الضمير إلى الزخرف، قرأ من عده " تغن " بالفوقية بإرجاع الضمير إلى الأرض.

(كذلك) أي مثل ذلك التفصيل البديع (نفصل الآيات) القرآنية التي من جملتها هذه الآية المنبهة على أحوال الدنيا، ويجوز أن يراد الآيات التكوينية (لقوم يتفكرون) فيما اشتملت عليه، عن أبي مجلز قال: كان مكتوباً في سورة يونس إلى جنب هذه الآية (ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى ثالثاً ولا يشبع نفس ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) فمحيت.

قال النسفي في الآية: هذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه، وذهابه حطاماً بعد ما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه، والتنبيه على حكمة التشبيه أن الحياة صفوها شبيبتها وكدرها شيبتها، كما أن صفو الماء في أعلى الإناء:

ألم تر أن العمر كأس سلافة

فأوله صفو وآخره كدر

وحقيقته تزيين جثة الطين بمصالح الدنيا والدين كاختلاط النبات على اختلاف التلوين، فالطينة الطيبة تنبت بساتين الأنس ورياحين الروح وزهرة الزهد وكروم الكرم، وحبوب الحب، وحدائق الحقيقة وشقائق الطريقة.

والخبيثة تخرج خلاف الخلف؛ وثمام الإثم وشوك الشرك، وشيح الشح وحطب العطب ولعاع اللعب.

ثم يدعوه معاده، كما يحين للحرث حصاده، فتزايله الحياة مغتراً كما يهيج

ص: 46

النبات مصفراً، فتغيب جثته في الرمس كأن لم تغن بالأمس، إلى أن يعود ربيع البعث وموعد العرض والبحث.

وكذلك حال الدنيا كالماء ينفع قليله، ويهلك كثيره ولا بد من ترك ما زاد، كما لا بد من أخذ الزاد، وأخذ المال لا يخلو من زلة، كما أن خائض الماء لا ينجو من بلة، وجمعه وإمساكه، تلف صاحبه وإهلاكه، فما دون النصاب كضحضاح ماء؛ يجاوز بلا احتماء، والنصاب كنهر حائل بين المجتاز والجواز إلى المفاز لا يمكن إلا بقنطرة وهي الزكاة وعمارتها بذل الصلاة، فمتى اختلت القنطرة غرقته أمواج القناطير المقنطرة. وكذا المال يساعد الأوغاد، دون الأمجاد، كما أن الماء يجتمع في الوهاد دون النجاد، وكذلك المال لا يجتمع إلا بكد البخيل، كما أن الماء لا يجتمع إلا بسد المسيل ثم يفنى ويتلف ولا يبقى كالماء في الكف انتهى.

ص: 47

(والله يدعو إلى دار السلام) لما نفر عباده عن الميل إلى الدنيا بما ضربه لهم من المثل السابق، رغبهم في الدار الآخرة بإخبارهم بهذه الدعوة منه عز وجل إلى دار السلام، قال الحسن وقتادة: السلام هو الله تعالى وداره الجنة، وقال الزجاج: والمعنى والله يدعو إلى دار السلامة، ومعنى السلام والسلامة واحد كالرضاع والرضاعة.

وقيل أراد دار السلام الذي هو التحية لأن أهلها ينالون من الله السلام بمعنى التحية كما في قوله: (تحيتهم فيها سلام) وقيل السلام اسم لأحد الجنان السبع (أحدها) دار السلام (والثانية) دار الجلال (والثالثة) جنة عدن (والرابعة) جنة المأوى (والخامسة) جنة الخلد (والسادسة) جنة الفردوس (والسابعة) جنة النعيم.

وقيل المراد دار السلام الواقع من المؤمنين بعضهم على بعض في الجنة،

ص: 47

وقد اتفقوا على أن دار السلام هي الجنة، وإنما اختلفوا في سبب التسمية بدار السلام.

(ويهدي من يشاء) هدايته، قال أبو العالية: يهديهم للمخرج من الشبهات والفتن والضلالات (إلى صراط مستقيم) دين الإسلام، جعل سبحانه الدعوة إلى دار السلام عامة والهداية خاصة بمن يشاء أن يهديه تكميلاً للحجة وإظهاراً للاستغناء عن خلقه.

أخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي جعفر محمد بن علي قال: حدثني جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقال: " إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلاً، فقال اسمع سمعت أذنك واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك مثل ملك اتخذ داراً ثم بنى فيها بيتاً ثم جعل فيها مأدبة، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من ترك فالله هو الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد رسول، فمن أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل منها (1) " وقد روي معنى هذا من طرق.

(1) المستدرك كتاب تجبير الرؤيا 4/ 393. وفي رواية: أكل منها مما فيها ثم تلا -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم (ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).

ص: 48