المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٦

[صديق حسن خان]

الفصل: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ

فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ‌

(83)

(فما آمن لموسى إلا ذرية) اسم يقع على القليل من القوم، وقيل المراد به التصغير وقلة العدد (من قومه) أي من قوم موسى، وهم طائفة من ذراري بني إسرائيل، وقيل المراد طائفة من ذراري فرعون فيكون الضمير عائداً على فرعون. قيل ومنهم مؤمن آل فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه. وقيل هم قوم آباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل.

روي هذا عن الفراء، كما يقال لأولاد فارس الذين نقلوا إلى اليمن الأبناء لأن أمهاتهم من غير جنس الآباء.

(على) أي مع (خوف من فرعون وملئهم) الضمير لفرعون وجمع لأنه لما كان جباراً جمعوا ضميره تعظيماً له.

وقيل أن قوم فرعون سموا فرعون مثل ثمود فرجع الضمير إليهم بهذا الاعتبار، وقيل أنه عائد على مضاف محذوف أي على خوف من آل فرعون روي هذا عن الفراء ومنعه الخليل وسيبويه، وروي عن الأخفش أن الضمير يعود على الذرية وقواه النحاس.

(أن يفتنهم) أي يصرفهم عن دينهم بالعذاب الذي كان ينزله بهم وهو بدل اشتمال أو مفعول للمصدر أو مفعول له بعد حذف اللام والضمير عائد لفرعون وأفرد، ولم يقل أن يفتنوهم أي فرعون والملأ للدلالة على أن الخوف من الملأ كان بسبب فرعون وتجبره من حيث استعانتهم به.

(وإن فرعون لعال في الأرض) أي عات متكبر متغلب على أرض مصر اعتراض تذييلي مؤكد لمضمون ما سبق (وإنه لمن المسرفين) المجاوزين للحد في الكفر وما يفعله من القتل والصلب وتنويع العقوبات أو لأنه كان عبداً فادعى الربوبية.

ص: 108

وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)

ص: 109

(وقال موسى يا قوم) تطميناً لقلوبهم وإزالة للخوف عنهم، وسماهم قومه من حيث إيمانهم به وإلا فهم من قوم فرعون أو المراد به بنو إسرائيل أو مطلق من آمن به ولو من القبط (إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) قيل أن هذا من باب التكرير للشرط فشرط في التوكل على الله الإيمان به والإسلام أي الاستسلام لقضائه وقدره، وبه قال الكرخي.

وقيل أن هذا ليس من تعليق الحكم بشرطين بل المعلق بالإيمان هو وجوب التوكل والمشروط بالإسلام حصوله ووجوده فإنه لا يوجد مع التخليط، والمعنى أن يسلموا أنفسهم لله أي يجعلوها له سالمة خالصة لا حظ للشيطان فيها لأن التوكل لا يكون مع التخليط، قال الكازروني: المعنى إن كنتم آمنتم وجب عليكم التوكل وإن كنتم مسلمين توكلتم عليه.

ص: 109

(فقالوا) أي قوم موسى مجيبين له (على الله توكلنا) أي اعتمدنا لا على غيره ثم دعوا الله مخلصين فقالوا (ربنا لا تجعلنا فتنة) أي موضع فتنة (للقوم الظالمين) والمعنى لا تسلطهم علينا فيعذبونا حتى يفتنونا عن ديننا، قاله مجاهد أو لا تجعلنا فتنة لهم يفتنون بنا غيرنا فيقولون لهم لو كان هؤلاء على حق لما سلطنا عليهم وعذبناهم، قاله مجاهد أيضاً وعلى المعنى الأول تكون الفتنة بمعنى المفتون.

ولما قدموا التضرع إلى الله سبحانه أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه بسؤال عصمة أنفسهم فقالوا:

ص: 109

(ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) أي من أيديهم، وفي هذا دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم.

ص: 109

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)

ص: 110

(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبَوءا لقومكما بمصر بيوتاً) قيل هي الإسكندرية، وقيل هي مصر المعروفة لا الإسكندرية، وأن هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى القول أي اتخذوا لقومكما يقال بوأت زيداً مكاناً وبوأت لزيد مكاناً، والمبوأ المنزل الملزوم، ومنه بَوَّأَهُ الله منزلاً أي ألزمه إياه وأسكنه فيه، ومنه حديث " من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار "(1) والتبوء النزول والرجوع؛ واللام زائدة أي بوآ قومكما، وقيل غير زائدة.

(واجعلوا بيوتكم قبلة) أي متوجهة إلى جهة القبلة، قال قتادة: ذلك حين منعهم فرعون الصلاة فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم وأن يوجهوها نحو القبلة، وعن مجاهد قال: كانوا لا يصلون إلا في البيع حتى خافوا من آل فرعون فأمروا أن يصلوا في بيوتهم، وعن ابن عباس نحوه، وقيل المراد بالبيوت هنا المساجد، وإليه ذهب جماعة من السلف، وقيل التي يسكنون فيها أمروا بأن يجعلوها مقابلة بعضها بعضاً.

والمراد بالقبلة على القول الأول هي جهة بيت المقدس وهو قبلة اليهود إلى اليوم، وقيل جهة الكعبة وأنها كانت قبلة موسى ومن معه، قال أبو سنان: إن آدم فمن بعده كانوا يصلون قبل الكعبة، وظاهر القرآن لا يدل على

(1) مسلم 3 - البخاري 94.

ص: 110

تعيينها، وقيل أنهم يجعلون بيوتهم مستقبلة للقبلة ليصلوا فيها سراً لئلا يصيبهم من الكفار معرة بسبب الصلاة.

ومما يؤيد هذا قوله (وأقيموا الصلاة) أي التي أمركم الله بإقامتها فإنه يفيد أن القبله هي قبلة الصلاة إما في الساجد أو في البيوت لا جعل البيوت متقابلة وقيل أمر الله موسى وهارون وقومهما باتخاذ الساجد على رغم الأعداء وتكفل بأن يصونهم عن شر الأعداء، ذكره الخطيب، وإنما جعل الخطاب في أول الكلام مع موسى وهارون ثم جعله لهما ولقومهما في قوله (واجعلوا) و (أقيموا) ثم أفرد موسى بالخطاب بعد ذلك فقال (وبشر المؤمنين) أي بالنصر والجنة لأن اختيار المكان مفوض إلى الأنبياء، ثم جعل عاماً في استقبال القبلة وإقامة الصلاة لأن ذلك واجب على الجميع لا يختص بالأنبياء ثم جعل خاصاً بموسى لأنه الأصل في الرسالة وهارون تابع له فكان ذلك تعظيماً للبشارة وللمبشر بها.

وقيل أن الخطاب في (وبشر المؤمنين) لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم على طريقة الالتفات والاعتراض والأول أولى.

ص: 111

(و) لما بالغ موسى عليه السلام في إظهار المعجزات وإقامة الحجج البينات ولم يكن لذلك تأثير فيمن أرسل إليهم، دعا عليهم بعد أن بين سبب إصرارهم على الكفر وتمسكهم بالجحود والعناد (قال موسى) مبيناً للسبب أولاً (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا) قد تقدم أن الملأ هم الأشراف، والزينة اسم لكل ما يتزين به من ملبوس ومركوب وحلية وفراش وسلاح وغير ذلك، والمال ما زاد على هذه الأشياء من الصامت ونحوه.

ثم كرر النداء للتأكيد فقال (ربنا ليضلوا عن سبيلك) قال الخليل

ص: 111

وسيبويه: أنها لام العاقبة والصيرورة، والمعنى أنه لما كان عاقبة أمرهم الضلال صار كأنه سبحانه أعطاهم ما أعطاهم من النعم ليضلوا، وقيل أنها لام كي؛ قاله الفراء: أي أعطيتهم لكي يضلوا، وقال قوم أن المعنى أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا فحذفت لا، كما قال سبحانه (يبين الله لكم أن تضلوا).

قال النحاس: ظاهر هذا الجواب حسن إلا أن العرب لا تحذف لا إلا مع أن فموَّه صاحب هذا التأويل بالاستدلال بقوله تعالى المتقدم، وقيل اللام للدعاء عليهم، والمعنى إِبتلهِمْ بالهلاك عن سبيلك، قاله ابن الأنباري واستدل بقوله سبحانه بعد هذا (اطمس) و (اشدد) وإليه ذهب الحسن البصري، وقيل أنها لام العلة والمعنى إنك آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج فكان الإيتاء لهذه العلة.

وقد أطال صاحب الكشاف في تقرير هذا بما لا طائل تحته، والقول الأول هو الأولى، وقرئ ليضلوا بضم الياء أي يوقعوا الإضلال على غيرهم، وقرأ الباقون بالفتح أي يضلون في أنفسهم.

(ربنا اطمس على أموالهم) أي امسخها وأزل صورها، قال الزجاج: طمس الشيء إذهابه عن صورته وإزالة أثر الشيء بالمحو. قال مجاهد: أهلكها، وقال أكثر المفسرين أمسخها وغيرها عن هيئاتها، والمعنى الدعاء عليهم بأن يمحق الله أموالهم ويهلكها.

وقرئ بضم الميم من (اطمُس) وقد روي عن قتادة أن أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم ودراهمهم ودنانيرهم تحولت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً وأنصافاً وأثلاثاً. قيل أن عمر بن عبد العزيز دعا بخريطة فيها شيء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة منقوشة والجوزة مشقوقة وهي حجارة.

ص: 112

قال السدي: مسخ الله أموالهم حجارة والنخل والثمار والدقيق والأطعمة، وقال القرظي: صارت صورهم حجارة، وفيه ضعف لأن موسى دعا على أموالهم ولم يدع على أنفسهم بالمسخ، وهذا الطمس هو أحد الآيات التسع التي أوتيها موسى عليه السلام.

(واشدد على قلوبهم) أي اربط عليها واجعلها قاسية مطبوعة حتى لا تقبل الحق ولا تنشرح للإيمان ولا تلين، قال الواحدي: وهذا دليل على أن الله تعالى يفعل ذلك لمن يشاء، ولولا ذلك لما جسر موسى على هذا السؤال.

(فلا يؤمنوا) أي آتيتهم النعم ليضلوا ولا يؤمنوا، قاله المبرد والزجاج، وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة: هو دعاء بلفظ النهي والتقدير، اللهم فلا يؤمنوا. وقال الأخفش: أنه جواب الأمر أي اطمس واشدد فلا يؤمنوا (حتى يروا العذاب الأليم) أي فلا يحصل منهم الإيمان إلا مع المعاينة لما يعذبهم الله به وعند ذلك لا ينفع إيمانهم، قال ابن عباس العذاب هو الغرق.

وقد استشكل بعض أهل العلم ما في هذه الآية من الدعاء على هؤلاء وقال: إن الرسل إنما تطلب هداية قومهم وإيمانهم، وأجيب بأنه لا يجوز لنبي أن يدعو على قومه إلا بإذن الله سبحانه، وإنما يأذن الله بذلك لعلمه بأنه ليس فيهم من يؤمن، ولهذا لما أعلم الله نوحاً عليه السلام بأنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن قال:(رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً).

ص: 113

قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)

ص: 114

(قال) الله تعالى (قد أجيبت دعوتكما) جعل الدعوة هاهنا مضافة إلى موسى وهارون، وفيما تقدم أضافها إلى موسى وحده، فقيل إن هارون كان يؤمِّن على دعاء موسى فسمى هاهنا داعياً وإن كان الداعي موسى وحده، ففي أول الكلام أضاف الدعاء إلى موسى لكونه الداعي، وهاهنا أضافه إليهما تنزيلاً للمؤمن منزلة الداعي.

ويجوز أن يكونا جميعاً داعيين، ولكن أضاف الدعاء إلى موسى في أول الكلام لإصالته في الرسالة. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان يقول: الدليل على أن الدعاء لهما قول موسى ربنا ولم يقل رب، وقرئ دعاؤكما ودعواكما. قال ابن عباس: فاستجاب له وحال بين فرعون وبين الإيمان، ويزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة لحكمة يعلمها هو، وعن ابن جريج ومجاهد نحوه (فاستقيما) أي امضيا لأمري ودوما على الاستقامة، قاله ابن عباس، والاستقامة الثبات على ما هما عليه من الدعاء إلى الله.

قال الفراء وغيره: أمرا بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه وعلى دعاء فرعون وقومه إلى الإيمان إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة أربعين سنة ثم أهلكوا، وقيل معنى الاستقامة ترك الاستعجال ولزوم السكينة والرضاء والتسليم لما يقضي الله به سبحانه.

(ولا تتبعان) قرئ بتشديد النون للتأكيد وبتخفيفها على النفي لا على

ص: 114

النهي أو أنه نفي في معنى النهي أي لا تسلكا (سبيل الذين لا يعلمون) حكمة تأخير المطلوب، نهاهما عن سلوك طريقة من لا يعلم بعبادة الله سبحانه في إجراء الأمور على ما تقتضيه المصالح تعجيلاً وتأجيلاً، وقيل أنه خبر محض مستأنف لا تعلق له بما قبله، والمعنى أنهما أخبرا بأنهما لا يتبعان، وأما تشديد التاء وتخفيفها فلغتان من أتبع يتبع، وتبع يتبع وهما بمعنى واحد، يقال تبعه أي مشى خلفه واتبعه كذلك إلا أنه حاذاه في المشي واتبعه لحقه.

قال الرازي: وهذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى وهارون كما أن قوله (لئن أشركت ليحبطن عملك) لا يدل على صدور الشرك منه.

ص: 115

(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) هو من جاوز المكان إذا خلفه وتخطاه، والباء للتعدية أي جعلناهم مجاوزين البحر حتى بلغوا الشط، لأن الله سبحانه جعل البحر يبساً فمروا فيه حتى خرجوا منه إلى البر، والمراد بحر القلزم وهو بحر السويس وكانوا ستمائة ألف، قاله الخطيب.

وفي الخازن قال أهل التفسير: اجتمع يعقوب وبنوه إلى يوسف وهم اثنان وتسعون وخرج بنوه مع موسى من مصر في الوقت المعلوم وهم ستمائة ألف، وقد تقدم تفسير هذا في سورة البقرة في قوله سبحانه (وإذ فرقنا بكم البحر) وقرأ الحسن وجوزنا وهما لغتان والآية دليل على خلق الأفعال.

(فأتبعهم فرعون وجنوده) يقال تبع وأتبع بمعنى واحد إذا لحقه. قال الأصمعي: يقال تبعه بقطع الألف إذا لحقه وأدركه، واتبعه بوصل الألف إذا اتبع أثره أدركه أو لم يدركه، وكذا قال أبو زيد، وقال أبو عمرو: اتبعه بالوصل اقتدى به، وفي المختار تبعه من باب طرب إذا مشى خلفه أو مر به فمضى معه، وكذا اتبعه وهو افتعل، واتبعه على افعل إذا كان قد سبقه فلحقه؛ وقال الأخفش: تبعه وأتبعه بمعنى مثل ردفه وأردفه.

(بغياً) ظلماً (وعدوا) اعتداء، أي لأجلهما أو باغين معتدين، وقرأ

ص: 115

الحسن عدواً بضم العين والدال وتشديد الواو، وقيل أن البغي الاستعلاء في القول بغير حق، والعدو في الفعل، قال عكرمة: العدو والعتو والعلو في كتاب الله التجبر.

(حتى إذا أدركه الغرق) أي ناله ووصله وألجمه غاية لاتباعه، وذلك أن موسى خرج ببني إسرائيل على حين غفلة من فرعون، فلما سمع فرعون بذلك لحقهم بجنوده ففرق الله البحر لموسى وبني إسرائيل فمشوا فيه حتى خرجوا من الجانب الآخر، وتبعهم فرعون والبحر باق على الحالة التي كان عليها عند مضي موسى ومن معه، فلما تكامل دخول جنود فرعون وكادوا أن يخرجوا من الجانب الآخر انطبق عليهم فغرقوا كما حكى الله سبحانه ذلك.

(قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) أي صدقت، ولم ينفعه هذا الإيمان لأنه وقع منه بعد إدراك الغرق له كما تقدم في النساء، ولم يقل اللعين آمنت بالله أو برب العالمين، بل قال ما تقدم لأنه بقي فيه عرق من دعوى الإلهية (وأنا من المسلمين) أي المستسلمين لأمر الله المنقادين له الذين يوحدونه وينفون ما سواه.

فإن قيل إنه آمن ثلاث مرات كما في هذه الآية فما السبب في عدم القبول؟.

قيل إنه آمن عند نزول العذاب، والإيمان والتوبة عنده غير مقبول، ويدل عليه قوله تعالى:(فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) وأن الإيمان إنما يتم بالإقرار بالتوحيد والنبوة، وفرعون لم يقر بالنبوة فلم يصح إيمانه، وقيل غير ذلك، ذكره الخطيب.

أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم

ص: 116

والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أغرق الله فرعون فقال: آمنت. الآية. قال جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة "(1) والمعنى دس جبريل في فيه بأمر الله فلا اعتراض عليه.

وقد روى هذا الحديث الترمذي من غير وجه وقال صحيح حسن غريب، وصححه أيضا الحاكم عن ابن عباس من طرق أخرى وإسناده على شرط البخاري، وليس في رواتهما متهم وإن كان فيهم من هو سيء الحفظ فقد تابعه عليه غيره. وقد أطال الخازن في جواب ما اعترض به الرازي وأشكله في هذا الحديث بما يطول ذكره.

وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال لي جبريل: ما كان على الأرض -يعني أبغض إليّ- من فرعون فلما آمن جعلت أحشو فاه حمأة وأنا أعطه خشية أن تدركه الرحمة.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعاً نحوه، وأبو الشيخ عن أبي أمامة نحوه أيضاً، وفي إسناد حديث أبي هريرة رجل مجهول وباقي رجاله ثقات. والعجب كل العجب ممن لا علم له بفن الرواية من المفسرين، ولا يكاد يميز بين أصح الصحيح من الحديث وأكذب الكذب منه، كيف يتجارى على الكلام في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والحكم ببطلان ما صح منها؛ ويرسل لسانه وقلمه بالجهل البحت، والقصور الفاضح الذي يضحك منه كل من له أدنى ممارسة بفن الحديث. فيا مسكين ما لك ولهذا الشأن الذي لست فيه في شيء، ألا تستر نفسك وتربع على ضلعك وتعرف بأنك بهذا العلم من أجهل الجاهلين، وتشتغل بما هو علمك الذي لا تجاوزه وحاصلك الذي ليس لك غيره، وهو علم اللغة وتوابعه من العلوم الآلية.

(1) الإمام أحمد 1/ 245.

ص: 117

ولقد صار صاحب الكشاف عفا الله عنه بسبب ما يتعرض له في تفسيره من علم الحديث الذي ليس هو منه في ورد ولا صدر سخرة للساخرين، وعبرة للمعتبرين، فتارة يروي في كتابه الموضوعات وهو لا يدري أنه منها، وتارة يتعرض لرد ما صح ويجزم بأنه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والبهت عليه، وقد يكون في الصحيحين وغيرهما مما يلتحق بهما من رواية جماعة من الصحابة بأسانيد كلها أئمة ثقات حجج إثبات.

وأدنى نصيب من عقل يحجر صاحبه عن التكلم في علم لا يعلمه ولا يدري به أقل دراية، وإن كان ذلك العلم من علوم الاصطلاح التي يتواضع عليها طائفة من الناس، ويصطلحون على أمور فيما بينهم، فما بالك بعلم السنة الذي هو قسم كتاب الله، وقائله رسول الله صلى الله عليه وسلم وراويه عنه خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وكل حرف من حروفه وكلمة من كلماته يثبت بها شرع عام لجميع أهل الإسلام.

ص: 118

(آلآن) أي فقيل له أتؤمن من الآن، وقد اختلف من القائل لفرعون بهذه المقالة، فقيل هي من قول الله سبحانه، وقيل من قول جبريل، وقيل من قول ميكائيل وقيل من قول فرعون قال ذلك في نفسه لنفسه، والمعنى إنكار الإيمان منه عند أن ألجمه الغرق، والمقصود التقريع والتوبيخ له، قال ابن عباس: لم يقبل الله إيمانه عند نزول العذاب به وقد كان في مهل، والإيمان والتوبة عند اليأس لا يقبل (وقد عصيت قبل) تأكيد لهذا المقصود، والجملة حالية أي وقد أيست من نفسك ولم يبق لك اختيار، والإيمان في هذه الحالة لا يفيد، يعني آلآن تتوب وقد ضيعت التوبة في وقتها وآثرت دنياك الفانية على الآحمرة الباقية (وكنت من المفسدين) في الأرض بضلالك عن الحق وإضلالك لغيرك.

ص: 118

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)

ص: 119

(فاليوم ننجيك) أي نخرجك من البحر ونلقيك على الشط، وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق وقالوا هو أعظم شأناً من ذلك فألقاه الله على نجوة من الأرض أي مكان مرتفع حتى شاهدوه أحمر قصيراً كأنه ثور، ثم أعاده إلى البحر ثانياً، فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتاً أبداً، قاله الخازن، وقيل المعنى نخرجك مما وقع فيه قومك من الرسوب في قعر البحر ونجعلك طافياً ليشاهدوك ميتاً بالغرق، وقرئ بالحاء المهملة من التنحية، أي نطرحك على ناحية من الأرض.

وقد اختلف المفسرون في معنى (ببدنك) فقيل معناه بجسدك بعد سلب الروح منه لا كما هو مطلوبك فهو تخييب له وحسم لطمعه، والباء للمصاحبة، وقيل معناه بدرعك والدرع تسمى بدناً، والأبدان الدروع، قاله أبو عبيدة، ورجح الأخفش الأول. وقرأ أبو حنيفة رحمه الله بأبدانك وهو مثل قولهم هو بأجرامه أي ببدنك كله وافياً بأجزائه، وقيل عرياناً لا شيء عليه، وقيل الباء سببية لأن بدنه سبب في تنجيته.

(لتكون لمن خلفك آية) هذا تعليل لتنجيته ببدنه، وفي ذلك دليل على أنه لم يظهر جسده دون قومه إلا لهذه العلّة لا سوى، والمراد بالآية العلامة، أي لتكون علامة يعرفون بها هلاكك وإنك لست كما تدعي ويندفع عنهم الشك في كونك قد صرت ميتاً بالغرق.

وقيل المراد ليكون طرحك على الساحل وحدك دون المغرقين من قومك

ص: 119

آية من آيات الله يعتبر بها الناس أو يعتبر بها من سيأتي من الأمم إذا سمعوا ذلك حتى يحذروا من التكبر والتجبّر والتمرد على الله سبحانه فإن هذا الذي بلغ إلى ما بلغ إليه من دعوى الإلهية واستمر على ذلك دهراً طويلاً كانت له هذه العاقبة القبيحة.

وقرئ لمن خلفك على صيغة الماضي، أي لمن يأتي بعدك من القرون أو من خلفك في الرياسة أو في السكون في المسكن الذي كنت تسكنه، وهذا آخر مقول جبريل عليه السلام.

(وإن كثيراً من الناس عن آياتنا) التي توجب الاعتبار والتفكر وتوقظ من سنة الغفلة (لغافلون) عما توجبه تلك الآيات، وهذه الجملة تذييلية جيء بها عقب الحكاية تقرير الكلام المحكى.

ص: 120

(ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) هذا من جملة ما عدده الله سبحانه من النعم التي أنعمها عليهم، ومعنى بوأنا أسكنا يقال بوأت زيداً منزلاً أسكنته فيه، والمبوأ اسم مكان أو مصدر، وإضافته إلى الصدق على ما جرت عليه قاعدة العرب فإنهم كانوا إذا مدحوا شيئاً أضافوه إلى الصدق، والمراد به هنا المنزل المحمود الصالح المختار المرضي، قيل هو أرض مصر، قاله الضحاك، وقيل جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه من ناطق وصامت وزرع وغيره، وقيل الأردن وفلسطين، وقيل الشام قاله قتادة، وقيل بيت المقدس لأنها بلاد الخصب والخير والبركة.

(ورزقناهم من الطيبات) أي المستلذات من الرزق (فما اختلفوا) في أمر دينهم وتشعبوا فيه شعباً بعدما كانوا على طريقة واحدة غير مختلفة (حتى جاءهم العلم) أي لم يقم منهم هذا الاختلاف في الدين إلا بعد ما جاءهم

ص: 120

العلم بقراءتهم التوراة وعلمهم بأحكامها وما اشتملت عليه من الأخبار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقيل العلم هو القرآن المنزل على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فاختلفوا فيه وفي صفته وآمن به من آمن منهم، وكفر به من كفر، قال ابن زيد: يعني كتاب الله الذي أنزله وأمره الذي أمرهم به، وإنما سمي القرآن علماً لأنه سبب العلم، فيكون المراد بالمختلفين على القول الأول هم اليهود بعد أن أنزلت عليهم التوراة وعلموا بها، وعلى القول الثاني هم اليهود المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد روي في الحديث أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة (1) وهو في السنن والمسانيد، والكلام فيه يطول.

(إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) من أمر الدين بإنجاء المؤمنين وتعذيب الكافرين فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، والحق بعمله بالحق، والمبطل بعمله بالباطل.

(1) الإمام أحمد، 2/ 332 نحوه. وقد ألف العلماء الكثير من الكتب حول ماهية هذه الفرق وبعضهم كتب وعَدَّ الفرق الضالة، انظر مثلاً كتاب (الفَرْقُ بين الفِرقْ) للبغدادي.

ص: 121

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)

ص: 122

(فإن كنت) يا محمد (في شك) هو في أصل اللغة ضم الشيء بعضه إلى بعض، ومنه شك الجوهر في العقد والشاك كأنه يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه فيتردد ويتحير، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد غيره كما ورد في القرآن في غير موضع.

وعن ابن عباس قال: لم يشك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسأل ونحوه عن سعيد بن جبير والحسن البصري وعن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أشك ولا أسأل وهو مرسل.

(مما) أي في شك ناشئ مما (أنزلنا اليك) بأن تشك فيه، ومن للابتداء أو أنها بمعنى في من أول الأمر، قال القاضي عياض في الشفاء: احذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره بعض المفسرين من إثبات شك النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما أوحى إليه فمثل هذا لا يجوز عليه اهـ.

وقال ثعلب والمبرد: أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك (فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك) يعني مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله وقد كان عبدة الأوثان يعترفون لليهود بالعلم ويقرون بأنهم اعلم منهم، فأمر الله سبحانه نبيه أن يرشد الشاكين فيما أنزله الله إليه من القرآن أن يسألوا أهل الكتاب الذين قد أسلموا فإنهم سيخبرونهم بأنه كتاب الله حقا، وأن هذا رسوله وأن التوراة شاهدة بذلك ناطقة به فإن ذلك محقق عندهم ثابت في كتبهم، والمراد إظهار نبوته عليه السلام بشهادة الأخبار، وفي هذا الوجه مع حسنه مخالفة للظاهر.

ص: 122

قال الزجاج: إن الله خاطب الرسول وهو شامل للخلق، وهذا وجه حسن أيضاً لكن فيه بعد لأن الرسول متى كان داخلاً في هذا الخطاب كان الإيراد موجوداً، والاعتراض وارداً.

ْوقيل أن في قوله (فإن) للنفى أي ما أنت في شك حتى تسأل وهذا أبعد.

وقال القتيبي: المراد بهذه الآية من كان من الكفار غير قاطع بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ولا بتصديقه بل كان في شك، وقيل المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا غيره والمعنى لو كنت ممن يلحقه الشك فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك، وقيل الشك هو ضيق الصدر أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل يخبرونك بصبر من قبلك من الأنبياء على أذى قومهم.

وقيل معنى الآية الفرض والتقدير كأنه قال له فإن وقع لك شك مثلاً وخيل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً، فاسأل فإنهم سخبرونك عن نبوءتك وما نزل عليك، ويعترفون بذلك لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم، وقد زال فيمن أسلم منهم ما كان مقتضياً للكتم عندهم.

(لقد) أي اقسم لقد (جاءك الحق من ربك) وفي هذا بيان ما يقلع الشك من أصله ويذهب به بجملته، وهو شهادة الله سبحانه بأن هذا الذي وقع الشك فيه على اختلاف التفاسير في الشاك هو الحق الذي لا يخالطه باطل ولا تشوبه شبهة.

ثم عقبه بالنهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن الامتراء فقال (فلا تكونن من الممترين) فيما أنزل الله عليه بل تستمر على ما أنت عليه من اليقين وانتفاء الشك، ويمكن أن يكون هذا النهي له تعريضاً لغيره كما في مواطن من الكتاب العزيز، وهكذا القول في نهيه صلى الله عليه وسلم عن التكذيب في قوله تعالى

ص: 123

(ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله) فإن الظاهر فيه التعريض

ص: 123

إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)

ولا سيما بعد تعقيبه بقوله (فتكون من الخاسرين) وفي هذا التعريض من الزجر للممترين والمكذبين ما هو أبلغ وأوقع من النهي لهم أنفسهم، لأنه إذا كان ينهى عنه من لا يتصور صدوره عنه فكيف بمن يمكن منه ذلك.

ص: 124

(إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) قد تقدم مثله في هذه الصورة والمعنى أنه حق عليهم قضاء الله وقدره بأنهم يصرون على الكفر ويموتون عليه، لا يقع منهم الإيمان بحال من الأحوال وإن وقع منهم ما صورته صورة الإيمان كمن يؤمن منهم عند معاينة العذاب فهو في حكم العدم، قال مجاهد: حق عليهم سخط الله بما عصوه، وقيل لعنة الله، وقيل الكلمة هي قوله " خلقت هؤلاء للنار ولا أبالي "

ص: 124

(ولو جاءتهم كل آية) من الآيات التكوينية والتنزيلية فإن ذلك لا ينفعهم لأن الله سبحانه قد طبع على قلوبهم وحق منه القول عليهم (حتى يروا العذاب الأليم) فيقع منهم ما صورته صورة الإيمان وليس بإيمان، ولا يترتب عليه شيء من أحكامه.

ص: 124

(فلولا كانت قرية آمنت) لولا هذه هي التحضيضية التي بمعنى هلا، كما قال الأخفش والكسائي وغيرهما، ويدل على ذلك ما في مصحف أبَيّ وابن

ص: 124

مسعود (فهلا قرية) وفي هذا التحضيض معنى التوبيخ والنفي فوبخ الله أهل القرى المهلكة قبل يونس على عدم إيمانهم قبل نزول العذاب بهم، والمعنى فهلا قرية واحدة من هذه القرى التي أهلكناها آمنت إيماناً معتداً به نافعاً وذلك بأن يكون خالصاً لله قبل معاينة عذابه ولم تؤخره كما أخره فرعون.

(فنفعها إيمانها) في حال اليأس (إلا قوم يونس) استثناء منقطع من القرى لأن المراد أهلها، والمعنى لكن قوم يونس، وقد قال بأن هذا الاستثناء منقطع جماعة من الأئمة منهم الكسائي والأخفش والفراء، وقيل متصل، والجملة في معنى النفي، كأنه قيل ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس، قال ابن جرير: خص قوم يونس من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب، وحكى ذلك عن جماعة من المفسرين.

وقال الزجاج: أنه لم يقع العذاب وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان، وهذا أولى من قول ابن جرير.

(لما آمنوا) إيماناً معتداً به قبل معاينة العذاب حين رؤية أَماراته أو عند أول المعاينة قبل حلوله بهم (كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا) هو العذاب الذي كان قد وعدهم يونس أنه سينزل عليهم ولم يروه أو الذي قد رأوا علاماته دون عينه (ومتعناهم إلى حين) أي بعد كشف العذاب عنهم متعهم الله في الدنيا إلى حين معلوم قدره لهم أي إلى وقت انقضاء آجالهم.

قال قتادة: لم يكن هذا في الأمم قبل قوم يونس لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين عاينت العذاب إلا قوم يونس، وذكر لنا أن قومه كانوا بنينوى من أرض الموصل فلما فقدوا نبيهم قذف الله في قلوبهم التوبة، وبحث في ذلك الزجاج فقال: أنه لم يقع بهم العذاب وإنما رأوا علامته ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان.

ص: 125

قال القرطبي: وهو كلام حسن فإن المعاينة التي لا ينفع معها الإيمان هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون.

وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن يونس دعا قومه فلما أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب فقال: إنه يأتيكم يوم كذا وكذا ثم خرج عنهم، وكانت الأنبياء إذا وعدت قومها العذاب خرجت، فلما أظلهم العذاب خرجوا ففرقوا بين المرأة وولدها والسخلة وولدها، وخرجوا يعجون إلى الله، وعلم الله منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر فمر به رجل فقال: ما فعل قوم يونس؟ فحلله بما صنعوا فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم، وانطلق مغاضباً، يعني مراغماً. وعن سعيد بن جبير قال: غشي قوم يونس العذاب كما يغشى القبر، بالثوب إذا دخل فيه صاحبه ومطرت السماء دماً.

وعن ابن عباس: إن العذاب كان هبط على قوم يونس لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل فلما دعوا كشفه الله عنهم، وقال قتادة: قدر ميل.

وقال وهب: غامت السماء غيماً أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً، فهبط حتى غشى مدينتهم واسودت أسطحتهم فتابوا وأخلصوا النية فرحمهم ربهم وكشف ما نزل بهم من العذاب بعدما أظلهم، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء، وكان يوم الجمعة، قيل أنهم قالوا: يا حي حين لا حي، ويا حي يحيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت. وقيل قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلَّت وأنت أعظم وأجل، فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله، قاله الفضيل بن عياض، والله أعلم ما قالوه.

ثم بيّن سبحانه إن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره فقال

ص: 126

(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم) بحيث لا يخرج عنهم أحد (جميعاً)

ص: 126

مجتمعين على الإيمان لا يتفرقون فيه ويختلفون، ولكنه لم يشأ ذلك لكونه مخالفاً للمصلحة التي أرادها الله سبحانه.

قال الأخفش: جاء بقوله جميعاً بعد كلهم للتأكيد كقوله (لا تتخذوا إلهين اثنين) وقيل أتى به مع إن كُلاًّ منهما يفيد الإحاطة والشمول للدلالة على أن وجود الإيمان منهم بصفة الاجتماع الذي لا يدل عليه كلهم، ذكره الكرخي.

ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيمان جميع الناس أخبره الله بأن ذلك لا يكون لأن مشيئته الجارية على الحكمة البالغة والمصالح الراجحة لا تقتضي ذلك فقال (أفأنت تكره الناس) استفهام تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم أي أتكرههم بما لم يشأه الله منهم.

(حتى يكونوا مؤمنين) فإن ذلك ليس في وسعك يا محمد ولا داخل تحت قدرتك، وفي هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم ودفع لما يضيق به صدره من طلب صلاح الكل الذي لو كان لم يكن صلاحاً محققاً بل يكون إلى الفساد أقرب، ولله الحكمة البالغة وإيلاء الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشأن في المكره من هو وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه لأنه هو القادر على أن يخلق في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان وذلك غير مستطاع للبشر.

ص: 127

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)

ثم بيّن سبحانه ما تقدم بقوله

ص: 128

(وما كان) أي ما صحّ وما استقام (لنفس) من الأنفس (أن تؤمن إلا بإذن الله) أي بتسهيله وتيسيره ومشيئته لذلك فلا يقع غير ما يشاؤه كائناً ما كان (ويجعل الرجس) بكسر الراء وضمنها لغتان، أي العذاب أو السخط أو الكفر أو الخذلان الذي هو سبب العذاب، وهذا معطوف على محذوف، كأنه قيل فيأذن لبعضهم في الإيمان ويجعل الخ، والمضارع في المعطوف والمعطوف عليه بمعنى الماضي.

والمراد بقوله (على الذين لا يعقلون) هم الكفار الذين لا يتعقلون حجج الله ولا يتفكرون في آياته ولا يتدبرون فيما نصبه لهم من الأدلة.

ص: 128

(قل انظروا) بضم اللام وكسرها سبعيتان (ماذا في السماوات والأرض) لما بين سبحانه أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية، والمراد بالنظر التفكر والاعتبار، أي قل يا محمد للكفار تفكروا واعتبروا بما فيهما من المصنوعات الدالة على الصانع ووحدته وكمال قدرته.

ثم ذكر سبحانه أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حق من استحكمت شقاوته فقال (وما تغني) أي ما تنفع على أن (ما) نافية وهذا هو الظاهر ويجوز أن تكون استفهامية أي أيُّ غنى تغني (الآيات) هي التي عبَّر عنها بقوله ماذا في السماوات والأرض، ففي الكلام إظهار في مقام الإضمار،

ص: 128

والجملة إما حالية أو اعتراضية بنوع إيضاح (والنذر) جمع نذير وهم الرسل أو جمع إنذار وهو المصدر (عن قوم لا يؤمنون) في علم الله سبحانه، والمعنى أن من كان هكذا لا يجدى فيه شيء ولا يدفعه عن الكفر دافع.

ص: 129

(فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) أي فهل ينتظر هؤلاء الكفار المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم بتكذيبه إلا مثل وقائع الله سبحانه بالكفار الذين خلوا من قبل هؤلاء قوم نوح وعاد وثمود، فقد كان الأنبياء المتقدمون يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب، وهم يكذبونهم ويصممون على الكفر حتى ينزل الله عليهم عذابه ويحل بهم انتقامه، والعرب تسمي العذاب أياماً والنعم أياماً، كقوله تعالى (وذكرهم بأيام الله).

ثم قال: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار المعاصرين لك (فانتظروا) أي تربصوا لوعد ربكم (إني معكم من المنتظرين) لوعد ربي، وفي هذا تهديد شديد ووعيد بالغ بأنه سينزل بهؤلاء ما نزل بأولئك من الإهلاك.

ص: 129

(ثم ننجي) بالتشديد باتفاق العشرة وقرئ بالتخفيف وهما لغتان فصيحتان أنجى ينجي إنجاء، ونجى ينجي تنجية بمعنى واحد، وثم للعطف على مقدر يدل عليه ما قبله، كأنه قيل أهلكنا الأمم ثم نجينا (رسلنا) المرسلين إليهم (و) نجينا (الذين آمنوا) والتعبير بلفظ الفعل المستقبل لاستحضار صورة الحال الماضية تهويلاً لأمرها.

(كذلك) صفة لمصدر محذوف أي إنجاء مثل ذلك الإنجاء، وقوله (حقاً علينا) اعتراض، أي حق ذلك علينا حقاً أي وجب وتحتم بمقتضى الفضل والكرم (ننجي) بالتخفيف والتشديد قراءتان سبعيتان (المؤمنين) من عذابنا للكفار والمراد بالمؤمنين الجنس فيدخل في ذلك الرسل واتباعهم أو يكون خاصاً بالمؤمنين وهم أتباع الرسل لأن الرسل داخلون في ذلك بالأولى، وقال السيوطي: النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه حين تعذيب المشركين لهم.

ص: 129

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)

ص: 130

(قل يا أيها الناس) أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يظهر التباين بين طريقته وطريقة المشركين مخاطباً لجميع الناس أو للكفار منهم أو لأهل مكة على الخصوص بقوله (إن كنتم في شك من ديني) الذي أنا عليه وهو عبادة الله وحده لا شريك له ولم تعلموا بحقيقته ولا عرفتم صحته، وأنه الدين الحق الذي لا دين غيره فاعلموا أني بريء من أديانكم التي أنتم عليها.

(فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله) في حال من الأحوال (ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم) أي أخصه بالعبادة لا أعبد غيره من معبوداتكم من الأصنام وغيرها، وخص صفة التوفي من بين الصفات لما في ذلك من التهديد لهم، أي أعبد الله الذي يتوفاكم فيفعل بكم ما يفعل من العذاب الشديد، ولكونه يدل على الخلق أولاً وعلى الإعادة ثانياً، ولكونه أشد الأحوال مهابة في القلوب ولكونه قد تقدم ذكر الإهلاك والوقائع النازلة بالكفار من الأمم السابقة فكأنه قال أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم.

ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله بيَّن أنه مأمور بالإيمان فقال (وأمرت أن أكون من المؤمنين) أي بأن أكون من جنس من آمن بالله وأخلص له الدين

ص: 130

(وأن أقم وجهك للدين) المعنى أن الله سبحانه أمره بالاستقامة في الدين والثبات فيه وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال وخص الوجه لأنه أشرف الأعضاء، أو أمره باستقبال القبلة في الصلاة وعدم التحول عنها (حنيفاً) أي مائلاً عن كل دين من الأديان إلى دين الإسلام مستقيماً عليه غير معوج عنه إلى دين آخر، ثم أكد الأمر المتقدم بالنهي عن ضده فقال:(ولا تكونن من المشركين) عطف على أقم داخل تحت الأمر، وهو من باب التعريض لغيره صلى الله عليه وسلم.

ص: 130

وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)

ص: 131

(ولا تدع من دون الله) على حال من الأحوال (ما لا ينفعك ولا يضرك) بشيء من النفع والضر إن دعوته، ودعاء من كان هكذا لا يجلب نفعاً ولا يقدر على ضر، ضائع لا يفعله عاقل على تقدير أنه لا يوجد من يقدر على النفع والضر غيره فكيف إذا كان موجوداً فإن العدول عن دعاء القادر إلى دعاء غير القادر أقبح وأقبح.

(فإن فعلت) أي فإن دعوت ولكنه كنى عن القول بالفعل (فإنك إذاً من الظالمين) هذا جزاء الشرط، أي فإنك في عداد الظالمين لأنفسهم، والمقصود من هذا الخطاب التعريض لغيره صلى الله عليه وسلم.

ص: 131

(و) جملة (إن يَمْسَسْك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) مقررة لمضمون ما قبلها، والمعنى أن الله سبحانه هو الضار النافع، فإن أنزل بعبده ضراً لم يستطع أحد أن يكشفه كائناً من كان بل هو المختص بكشفه كما هو اختص بإنزاله.

(وإن يردك بخير) أيَّ خير كان لم يستطع أحد أن يدفعه عنك ويحول بينك وبينه كائناً من كان، هو من القلب وأصله أن يرد بك الخير، ولكن لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز أن يكون كل واحد منهما مكان الآخر.

قال النيسابوري: وفي تخصيص الإرادة بجانب الخير والمس بجانب الشر دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات والشر بالعرض.

ص: 131

قلت: وفي هذا نظر فإن المس هو أمر وراء الإرادة فهو مستلزم لها، وقيل أن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول والمعنى متقارب.

(فلا راد لفضله) أي لا دافع لما أرادك به من الخير ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا استحقاق لهم عليه، ولم يستثن لأن مراد الله تعالى لا يمكن رده وإرادة الله قديمة لا تتغير بخلاف مس الضر فإنه صفة فعل.

(يصيب به) أي بفضله أو بكل واحد من الخير والضر (من يشاء من عباده) وجملة (وهو الغفور الرحيم) تذييلية.

عن عامر بن قيس قال: ثلاث آيات في كتاب الله اكتفيت بهن عن جميع الخلائق أولهن (إن يَمْسَسْك الله) الآية، والثانية (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له) والثالثة (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) أخرجه البيهقي في الشعب، وأخرج أبو الشيخ عن الحسن نحوه.

ص: 132

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)

ثم ختم هذه السورة بما يستدل به على قضائه وقدره فقال

ص: 133

(قل يا أيها الناس) لأجل أن تنقطع معذرتهم فهذا نهاية الأمر (قد جاءكم الحق من ربكم) أي القرآن أو الإسلام أو محمد صلى الله عليه وسلم (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) أي منفعة اهتدائه مختصة به (ومن ضل فإنما يضل عليها) أي ضرر كفره مقصور عليه لا يتعداه، وليس لله حاجة في شيء من ذلك ولا غرض يعود إليه ومن في الموضعين يجوز أن تكون شرطية والفاء واجبة الدخول وأن تكون موصولة والفاء جائزته (وما أنا عليكم بوكيل) أي بحفيظ يحفظ أموركم وتوكل إليه، إنما أنا بشير ونذير.

ثم أمره الله سبحانه أن يتبع ما أوحاه من الأوامر والنواهي التي شرعها الله له ولأمته فقال

ص: 133

(واتبع ما يوحى إليك) ثم أمره بالصبر على أذى الكفار وما يلاقيه من مشاق التبليغ وما يعانيه من تلون أخلاق المشركين وتعجرفهم فقال (واصبر) وجعل ذلك الصبر ممتداً إلى غاية هي قوله (حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) أي يحكم الله بينه وبينهم في الدنيا بالنصر له عليهم وفي الآخرة بعذابهم بالنار وهم يشاهدونه صلى الله عليه وسلم هو وأمته المتبعون له المؤمنون به العاملون بما يأمرهم به المنتهون عما ينهاهم عنه، ينقلبون في نعيم الجنة الذي لا ينفد ولا يمكن وصفه ولا يوقف على أدنى مزاياه.

وقال مجاهد: هذا منسوخ بأمره بجهادهم والغلظة عليهم وبه قال ابن عباس، قال السيوطي: وقد صبر حتى حكم على المشركين بالقتال وأهل الكتاب بالجزية اهـ؛ وأشار بهذا إلى قول مجاهد، قاله الكرخي.

ص: 133