الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة هود عليه السلام
وهي مائة وثلاث وعشرون آية، وهي مكيّة في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ومجاهد وابن زيد، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية وهي قوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار) وقال مقاتل: أو إلا (فلعلك تارك) الآية (وأولئك يؤمنون به) الآية.
والحاصل أن المدني عند ابن عباس آية واحدة وعند مقاتل آيتان.
وعن كعب قال: قال رسول الله صلى لله عليه وآله وسلم: " اقرؤا هود يوم الجمعة "(1). أخرجه الدارمي وأبو داود والبيهقي وغيرهم، وعن أبي بكر الصديق قال: قلت يا رسول الله لقد أسرع إليك الشيب فقال: " شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت "(2) أخرجه الطبراني والترمذي وحسنه. وعن أنس مرفوعاً وهل أتاك حديث الغاشية رواه البزار، وقد روي بطرق عن جمع من الصحابة.
قال بعض العلماء: سبب شيبه من هذه السور ما فيها من ذكر القيامة والبعث والحساب والجنة والنار والله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
(1) ضعيف الجامع الصغير 1168.
(2)
الترمذي تفسير سورة 56/ 6.
بسم الله الرحمن الرحيم
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
(الر) إن كان مسروداً على سبيل التعديد كما في سائر فواتح السور فلا محل له، وإن كان اسماً للسورة فهو في محل الرفع على أنه مبتدأ وما بعده خبره أو خبر مبتدأ محذوف وهو الأظهر، أو في محل النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ.
وقوله (كتاب) خبر لمبتدأ محذوف أي هذا كتاب، ويدل على ذلك قوله في آية أخرى (ذلك الكتاب) والإشارة إما إلى بعض القرآن أو إلى مجموعه.
ومعنى (أحكمت آياته) صارت محكمة متقنة لا نقص فيها ولا نقض لها كالبناء المحكم المرصف، وقيل معناه أنها لم تنسخ بخلاف التوراة والإنجيل، وعلى هذا فيكون هذا الوصف للكتاب باعتبار الغالب وهو المحكم الذي لم ينسخ، وقيل معناه أحكمت آياته بالأمر والنهي، والآيات المراد بها حقيقتها وهي الجمل من السور المنفصل بعضها عن بعض أي نظمت نظماً متقناً لا يعتريه خلل بوجه من الوجوه، وقيل معنى أحكامها إن لا فساد فيها أخذاً من قولهم أحكمت الدابة إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح.
(ثم فصلت) بالوعد والوعيد والثواب والعقاب، وقيل أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بالحلال والحرام، وقيل أحكمت جملته ثم فصلت آياته، وقيل جُمعت في اللوح المحفوظ ثم فُصلت بالوحي، وقيل أيدت بالحجج القاطعة الدالّة على كونها من عند الله، والتراخي المستفاد من ثم إما زماني إن فسر التفصيل بالتنجيم على حسب المصالح، وإما رتبي إن فسر بغيره مما تقدم، وإليه ذهب الزمخشري، وقال: هي محكمة أحسن الأحكام ثم مفصلة أحسن
التفصيل كما يقال فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل.
(من لدن حكيم خبير) فيه طباق حسن، لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها خبير عالم بواقع الأمور، وقيل صفة ثانية لكتاب خبر ثان وإليه نحا الزمخشري وقيل غير ذلك
(أن لا تعبدوا إلا الله) قال الكسائي والفراء: التقدير أحكمت بأن، وقال الزجاج: أحكمت ثم فصلت لئلا تعبدوا، وقيل تعليل للفعلين قبله أي لأجل إن تتركوا عبادة غير الله وتعبدوا الله فأخذ الترك من لا النافية والإثبات من الاستثناء.
وقيل تقديره هي أن لا تعبدوا، وقيل أن مفسرة لما في التفصيل من معنى القول أي قال لا تعبدوا أو أمركم أن لا تعبدوا، وهذا أظهر الأقوال لأنه لا يحوج إلى إضمار، ولما ذكر شؤون الكتاب ذكر أن من جاء به مرسل من عند الله لتبليغ احكامه فقال (إنني لكم منه نذير وبشير) أي ينذرهم ويخوفهم من عذابه لمن عصاه ويبشرهم بالجنة والرضوان لمن أطاعه، والضمير في منه راجع إلى الله سبحانه أي كائن من جهة الله.
وهذا على ظاهره ليس بجيد لأن الصفة لا تتقدم على الموصوف فكيف تجعل صفة لنذير وكأنه يريد أنه صفة في الأصل لو تأخر، ولكن لما تقدم صار حالاً، صرح به أبو البقاء فصوابه كائناً من جهته، وقيل يعود على الكتاب أي نذير لكم من مخالفته وبشير منه لمن آمن وعمل صالحاً، وقدم الإنذار لأن التخويف أهم إذ يحصل به الانزجار، وقيل هو من كلام الله سبحانه كقوله (ويحذركم الله نفسه)
(وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) قدم الإرشاد إلى الاستغفار على التوبة لكونه وسيلة إليها وقيل أن التوبة عن متممات الاستغفار وقيل معنى استغفروا توبوا، ومعنى توبوا أخلصوا التوبة واستقيموا عليها، وقيل استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا من لاحقها.
وقيل استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة؛ قال الفراء: ثم هاهنا بمعنى الواو أي وتوبوا إليه لأن الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار فذكرهما للتأكيد، وقيل إنما قدم ذكر الاستغفار لأن المغفرة هي الغرض المطلوب والتوبة هي السبب إليها، وما كان آخراً في الحصول كان أولاً في الطلب، وقيل استغفروا في الصغائر وتوبوا إليه في الكبائر.
ثم رتب على ما تقدم أمرين: الأول (يمتعكم متاعاً حسناً) أصل الامتاع الإطالة ومنه امتع الله بك، فمعنى الآية يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية موسعة للرزق ورغد العيش، وقيل هو الرضاء بالميسور والصبر على المقدور (إلى أجل مسمى) إلى وقت مقدر عند الله وهو الموت، وقيل القيامة، وقيل دخول الجنة والأول أولى.
والأمر الثاني قوله (ويؤت كل ذي فضل) في الطاعة والعمل (فضله) أي جزاء فضله إما في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما جميعاً، والضمير راجع إلى كل ذي فضل، وقيل راجع إلى الله سبحانه على معنى إن الله يعطي كل من فضلت حسناته الذي يتفضل به على عباده.
عن ابن مسعود قال: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم يقول هلك من غلب آحاده إعشاره، وقال أبو العالية من كثرت طاعاته في الدنيا زادت حسناته ودرجاته في الجنة.
ثم توعدهم على مخالفة الأمر فقال (وإن تولوا) أي تعرضوا عن الإخلاص في العبادة والاستغفار والتوبة (فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) هو يوم القيامة، ووصفه بالكبر لما فيه من الأهوال، وقيل اليوم الكبير يوم بدر، وقيل صفة لعذاب فهو منصوب وإنما خفض على الجوار.
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
ثم بينَّ سبحانه عذاب اليوم الكبير بقوله
(إلى الله مرجعكم) أي رجوعكم إليه بالموت ثم البعث ثم الجزاء لا إلى غيره.
(وهو على كل شيء قدير) ومن ذلك عذابكم على عدم الامتثال، وهذه الجملة مقررة لما قبلها.
ثم أخبر الله سبحانه بأن هذا الإنذار والتحذير والتوعد لم ينجع فيهم، ولا لانت له قلوبهم، بل هم مصرون على العناد مصممون على الكفر، فقال مصدراً لهذا الإخبار بكلمة التنبيه الدالة على التعجيب من حالهم، وأنه أمر ينبغي أن يتنبه له العقلاء ويفهموه
(ألا إنهم يثنون صدورهم) يقال ثنى صدره عن الشيء إذا ازور وانحرف عنه، فيكون في الكلام كناية عن الإعراض لأن من عارض عن الشيء ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه.
وقيل معناه يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يكون ذلك مخفياً مستوراً فيها كما تعطف الثياب على ما فيها من الأشياء المستورة، فيكون في الكلام كناية عن الإخفاء لما يعتقدونه من الكف كما كان دأب المنافقين، والوجه الثاني أولى، ويؤيده قوله (ليستخفوا منه) أي من الله فلا يطلع عليه رسوله والمؤمنين أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم كرر كلمة التنبيه مبيناً للوقت الذي يثنون فيه صدورهم فقال (ألا حين يستغشون ثيابهم) أي يستخفون في وقت استغشاء الثياب وهو التغطي
بها، وقد كانوا يقولون: إذا أغلقنا أبوابنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم فمن يعلم بنا.
وقيل معناه يأوون إلى فراشهم ويتدثرون بثيابهم، وقيل أنه حقيقة، وذلك أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال البخاري عن ابن عباس: يغطون رؤوسهم، وروى عنه أيضاً قال: يعني به الشك في الله وعمل السيئات، وكذا روي عن مجاهد والحسن وغيرهما، أي إنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئاً أو عملوه فيظنون إنهم سيخفون من الله بذلك، فأعلمهم سبحانه أنه حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل يعلم سرهم وعلانيتهم.
وعن عبد الله بن شداد قال: كان المنافقون إذا مر أحدهم بالنبي (صلى الله عليه وسلم) ثنى صدره وتغشى ثوبه لكيلا يراه فنزلت، وعن الحسن قال: في ظلمة الليل في أجواف بيوتهم، وعن قتادة قال: كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله.
وجملة (يعلم ما يسرون وما يعلنون) مستأنفة لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء لأن الله سبحانه يعلم ما يسرونه في أنفسهم أو في ذات بينهم وما يظهرونه فالظاهر والباطن عنده سواء والسر والجهر سيان (إنه عليم بذات الصدور) تعليل لما قبله وتقرير له، وذات الصدور هي الضمائر التي تشتمل عليها الصدور وقيل هي القلوب.
والمعنى أنه عليم بجميع الضمائر أو عليم بالقلوب وأحوالها في الأسرار والإظهار فلا يخفى عليه شيء من ذلك.
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
ثم أكد كونه عالماً بكل المعلومات بما فيه غاية الامتنان ونهاية الإحسان فقال
(وما من دابة) هي كل حيوان يدب على وجه الأرض، وتطلق على كل ذي أربع من الحيوان على سبيل العرف، والمراد منه الإطلاق فيدخل فيه الآدمي وغيره من جميع الحيوان، وفي المصباح دب منه الصغير يدب من باب ضرب إذا مشى ودب الجيش دبيباً أيضاً سار، ومن زائدة للتأكيد أي ما من حيوان وغيره.
(في الأرض إلا على الله رزقها) أي الرزق الذي يحتاج إليه من الغذاء اللائق بالحيوان على اختلاف أنواعه تفضلاً منه وإحساناً، وإنما جيء به على طريق الوجوب كما تشعر به كلمة (على) اعتباراً بسبق الوعد به منه، وقيل أن (على) على بابها وأنه عليه من باب الفضل لا الوجوب لأنه لا يجب عليه شيء.
والحاصل أن المراد بالوجوب وجوب اختيار لا وجوب إلزام، فهو موكول إلى مشيئته، إن شاء رزقها وإن شاء لم يرزقها. وقيل أن على بمعنى " من " أي من الله رزقها، أي ما يقوم به رمقها وتعيش به، قال مجاهد: ما جاءها من رزق فمن الله، وربما لم يرزقها فتموت جوعاً.
ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله إن الله سبحانه لما كان لا يغفل عن كل حيوان باعتبار ما قسمه له من الرزق، فكيف يغفل عن أحواله وأقواله وأفعاله (ويعلم مستقرها) أي محل استقرارها في الأرض أو محل قرارها في
الأصلاب (ومستودعها) موضعها في الأرحام وما يجري مجراها كالبيضة ونحوها، وقال الفراء: مستقرها حيث تأوى إليه ليلاً أو نهاراً، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه، وقد مر تمام الأقوال في سورة الأنعام.
ووجه تقديم المستقر على المستودع على قول الفراء ظاهر، وأما على القول الأول فلعل وجه ذلك أن المستقر أنسب باعتبار ما هي عليه حال كونها دابة، والمعنى وما من دابة إلا يرزقها الله حيث كانت من إماكنها بعد كونها دابة، وقبل كونها دابة، وذلك حين تكون في الرحم ونحوه.
وفي البيضاوي أماكنها في الحياة وفي الممات أو الأصلاب والأرحام أو مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة. اهـ
والمراد كالمني والعلقة، والمقار كالصلب والرحم، وعن ابن مسعود قال: مستقرها في الأرحام ومستودعها حيث تموت، ويؤيد هذا التفسير ما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إذا كان أجل أحدكم بأرض أتيحت له إليها حاجة حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض، فتقول الأرض يوم القيامة: هذا ما استودعتني (1)
ثم ختم الآية بقوله (كل في كتاب مبين) أي كل مما تقدم ذكره من الدواب ومستقرها ومستودعها ورزقها في اللوح المحفوظ أي مثبت فيه قبل خلقها.
ثم أكد دلائل قدرته بالتعرض لذكر خلق السماوات والأرض وكيف كان الحال قبل خلقها فقال
(1) المستدرك كتاب الإيمان 1/ 41.
(وهو الذي خلق السماوات والأرض) وما بينهما (في ستة أيام) الكلام على التوزيع، فكان خلق السماوات في يومين والأرضين في يومين، وما عليها من أنواع الحيوان والنبات والأقوات والجمادات في يومين،
والمراد بالأيام هنا الأوقات، أي في ستة أوقات، كما في قوله (ومن يولهم يومئذ دبره) وقيل مقدار ستة أيام.
وقيل المراد هنا الأيام المعروفة وهي المقابلة لليالي أولها الأحد وآخرها الجمعة ولا يستقيم ذلك لأنه لم تكن حينئذ أرض ولا سماء، وليس اليوم إلا عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأرض؛ وفي الجمل وهذا مشكل جداً إذ لا يتعين الأحد ولا غيره من الأيام إلا عند وجودها بالفعل، وفي تلك الحال لم يكن زمان قط فضلاً عن تفضيله أياماً فضلاً عن تخصيص كل يوم باسم.
والجواب عن هذا الإشكال بأن المراد مقدار ستة أيام لا يدفع هذا الإشكال إنما يدفع الإشكال الآخر وهو أنه لم يكن ثم زمان اهـ.
(وكان عرشه) قبل خلقهما (على الماء) ليس تحته شيء غيره، سواء كان بينهما فرجة أو كان موضوعاً على متنه فلا دلالة فيه على إمكان الخلاء، كيف لا ولو دل لدل على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماء أول ما حدث في العالم بعد العرش، وإنما يدل على أن خلقهما أقدم من خلق السماوات والأرض من غير تعرض للنسبة بينهما.
قلت: وكونه قبل خلقهما مأخوذ من كان لأن المعنى المستفاد منها بالنسبة للحكم لا للتكلم وهو خلق السماوات والأرض، وهذا ظاهر سواء كانت الجملة معطوفة أو حالية بتقدير قد. ونقل عن السلف أنه كان على الماء وهو الآن على ما كان عليه وعبارة سليمان الجمل: بل هو في مكانه الذي هو فيه الآن وهو ما فوق السماوات السبع والماء في المكان الذي هو فيه الآن وهو ما تحت الأرضين السبع. انتهى
عن ابن عباس أنه سئل على أي شيء كان الماء؟ قال على متن الريح، وعن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء وخلق عرشه على الماء (1)
(1) الترمذي تفسير سورة 11/ 1.
أخرجه الترمذي. قال أحمد: يريد. بالعماء أنه ليس معه شيء. قال البيهقي: العماء إن كان ممدوداً فمعناه سحاب رقيق والمعنى فوق سحاب مدبراً له وعالياً عليه، وإن كان مقصوراً فمعناه لا شيء ثابت لأنه مما عمي عن الخلق لكونه غير شيء، ونحوه قال جمع من أهل العلم.
قال الأزهري: فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته، وقد وردت أحاديث كثيرة في صفة العرش، وفي كيفية خلق السماوات والأرض ليس هذا موضع ذكرها. (ليبلوكم) أي خلق هذه المخلوقات ليبتلي عباده بالاعتبار والتفكر والاستدلال على كمال قدرته على البعث والجزاء (أيكم أحسن عملاً) فيما أمر به ونهى عنه من غيره، ويدخل في العمل الاعتقاد لأنه من أعمال القلب، وقيل المراد بالأحسن عملاً الأتم عقلاً، وقيل الأزهد في الدنيا وقيل الأكثر شكراً، وقيل الأتقى لله، وجاز تعليق فعل البلوى لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إليه فهو ملابس له.
(ولئن قلت) اللام موطئة للقسم فقد اجتمع في الكلام شرط وقسم، والقاعدة أن يحذف جواب المتأخر ويذكر جواب المتقدم، فقوله ليقولن جواب القسم وجواب الشرط محذوف، وكذا في قوله (ولئن أخرنا) وقوله (ولئن أذقنا الإنسان) وقوله (ولئن أذقناه) فالمواضع أربعة.
ولما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك بذكره، والمعنى لئن قلت لهم يا محمد على ما توجبه قضية الابتلاء (إنكم مبعوثون من بعد الموت) فيجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، قيل أنكم بمعنى لعلكم على أن الرجاء باعتبار حال المخاطبين، أي توقعوا ذلك ولا تبثوا القول بإنكاره (ليقولن الذين كفروا) من الناس (إن هذا) الذي تقوله يا محمد (إلا سحر مبين) أي كالسحر أو باطل كبطلان السحر وخدع كخدعه فالكلام من باب التشبيه البليغ.
ويجوز أن تكون الإشارة بهذا إلى القرآن لأنه المشتمل على الأخبار بالبعث وقرئ ساحر يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
(ولئن أخرنا عنهم العذاب) أي الذي يستعجلونه استهزاء، وهو ما تقدم ذكره في قوله (عذاب يوم كبير) وقيل عذاب يوم القيامة وما بعده، وقيل عذاب يوم بدر (إلى أمة معدودة) أي إلى طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل والأمة اشتقاقها من الأم وهو القصد وأراد بها الوقت المقصود لإيقاع العذاب، وقيل هي في الأصل الجماعة من الناس، وقد يسمى الحين باسم ما يحصل فيه، كقولك كنت عند فلان صلاة العصر، أي في ذلك الحين، فالمراد على هذا إلى حين تنقضي أمة معدودة من الناس (ليقولن ما يحبسه) أي أيُّ شيء يمنعه من النزول استعجالاً له على جهة الاستهزاء والتكذيب والسخرية.
فأجابهم الله بقوله (ألا) أداة استفتاح داخلة على ليس في المعنى (يوم يأتيهم) أي العذاب (ليس مصروفاً) أي محبوساً (عنهم) بل واقع بهم لا محالة، ويوم منصوب بخبر (ليس) مقدماً عليه وهو دليل البصريين على جواز تقديم خبرها عليها إذ المعمول تابع للعامل فلا يقع إلا حيث يقع متبوعه وإلا يلزم تقديم الفرع على أصله.
ورد بأن الظرف يجوز فيه ما لا يجوز في غيره توسعاً، ويبنى الأمر فيه على التسامح فيه، وبأنه قد يقدم المعمول حيث لا مجال لتقدم العامل كما في قوله تعالى (فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر) فإن اليتيم والسائل مع كونهما منصوبين بالفعلين المجزومين قد تقدما على لا الناهية مع امتناع تقدم الفعلين عليها.
قال أبو حيان: وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر (ليس) عليها ولا بتقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية، وقول الشاعر:
فيأبى فما يزاد إلا لجاجة
…
وكنت أبياً في الخنا لست أقدم
قلت وهذا الخلاف بينهم في تقديم الخبر على (ليس) لا على اسمها فإنه جائز بلا خلاف والكلام فيه وفي أدلته مفصل في كتب النحو.
(وحاق) أي أحاط (بهم ما كانوا به يستهزءون) أي العذاب الذي كانوا يستعجلونه استهزاء منهم، ووضع هذا مكان يستعجلون لأن استعجالهم كان استهزاء منهم، وعبر بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه فكأنه قد حاق بهم
(ولئن أذقنا الإنسان) أي الجنس فيشمل المؤمن والكافر، ويدل على ذلك الاستثناء الآتي، قيل المراد به جنس الكفار، ويؤيده أن اليأس والكفران والفرح والفخر هي أوصاف أهل الكفر لا أهل الإسلام في الغالب، وقيل المراد بالإنسان الوليد بن المغيرة، وقيل عبد الله بن أمية المخزومي (منا رحمة) أي نعمة من توفير الرزق والصحة والسلامة من المحن وسعة العيش والرخاء.
(ثم نزعناها منه) أي سلبناه إياها وأخذناها قهراً عليه، وإيراد النزع للإشعار بشدة تعلقه بها وحرصه عليها (إنه ليؤوس) أي آيس من الرحمة شديد القنوط من عودها وأمثالها لقلة صبره وعدم ثقته بالله (كفور) عظيم الكفران وهو الجحود لها. قاله ابن الأعرابي
وفي إيراد صيغتي المبالغة ما يدل على أن الإنسان كثير اليأس وكثير الجحد عند أن يسلبه الله بعض نعمه فلا يرجو عودها ولا يشكر ما قد سلف له منها. وفي التعبير بالذوق ما يدل على أنه يكون منه ذلك عند سلب أدنى نعمة ينعم الله بها عليه لأن الإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم.
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
(ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته) والنعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه؛ والضراء ظهور أثر الإضرار على من أصيب به، والمعنى أنه إن أذاق الله سبحانه العبد نعماءه من الصحة والسلامة والغنى بعد أن كان في ضر من فقر أو مرض أو خوف، لم يقابل ذلك بما يليق به من الشكر لله سبحانه، وفي اختلاف الفعلين نكتة لا تخفى.
(ليقولن) أي بل يقول (ذهب السيئات عني) أي المصائب التي ساءته من الضر والفقر والخوف والمرض عنه وزال أثرها غير شاكر لله ولا مثن عليه بنعمه (إنه لفرح فخور) أي كثير الفرح بطراً أو أشراً كثير الفخر على الناس بتعديد المناقب والتطاول عليهم بما يتفضل الله به عليه من النعم، والفرح لذة تحصل في القلب بنيل المراد والمشتهى.
وفي التعبير عن ملابسة الضر له بالمس مناسبة للتعبير في جانب النعماء بالإذاقة فإن كليهما لأدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة كما تقدم.
(إلا الذين صبروا) فإن عادتهم الصبر عند نزول المحن، والشكر عند حصول المنن، قال الأخفش: هو استثناء منقطع، يعني ولكن الذين صبروا فإنهم ليسوا كذلك، وقيل متصل إذ المراد بالإنسان الجنس لا واحد بعينه قاله الفراء (وعملوا الصالحات) في حالة النعمة والنقمة.
(أولئك) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بالصبر وعمل الصالحات (لهم مغفرة) لذنوبهم وإن جمت (وأجر) يؤجرون به على أعمالهم الحسنة (كبير) متناه في الكبر، وهو الجنة، ووصف الأجر به لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ودفع التكاليف والأمن من عذاب الله والنظر إلى وجهه الكريم، واختياره على العظيم لعله لرعاية الفواصل.
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
ثم سلى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم فقال
(فلعلك) لعظم ما تراه منهم من الكفر والتكذيب واقتراح الآيات التي يقترحونها عليك على حسب هواهم وتعنتهم (تارك بعض ما يوحى إليك) مما أنزله الله عليك وأمرك بتبليغه مما يشق عليهم سماعه أو يستشقون العمل به كسب آلهتم، وأمرهم بالإيمان بالله وحده. وقيل هذا الكلام خارج مخرج الاستفهام أي هل أنت تارك، وقيل هو في معنى النفي مع الاستبعاد أي لا يكون منك ذلك بل تبلغهم جميع ما أنزل الله عليك أحبوا ذلك أم كرهوا، شاءوا أم أبوا.
(وضائق به صدرك) الضمير راجع إلى " ما " أو إلى بعض وعبر بضائق دون ضيق لأن اسم الفاعل فيه معنى الحدوث والعروض والصفة المشبهة فيها معنى اللزوم (أن يقولوا) أي كراهة أو مخافة، أو لأجل أن أو بأن لا. وقال أبو البقاء: لأن يقولوا (لولا) أي هلا (أنزل عليه كنز) أي مال مكنوز مخزون ينتفع به ويستغني به (أو جاء معه ملك) يصدقه ويبين لنا صحة رسالته.
ثم بيَّن سبحانه أن حاله صلى الله عليه وسلم مقصور على النذارة فقال (إنما أنت نذير) أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى إليك، وليس عليك حصول مطلوبهم وإيجاد مقترحاتهم (والله على كل شيء وكيل) يحفظ ما يقولون وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل.
(أم يقولون افتراه) أم هي المنقطعة بمعنى بل والهمزة، أضرب عما تقدم من تهاونهم بالوحي وعدم قنوعهم بما جاء به من المعجزات الظاهرة، وشرع في ذكر ارتكابهم لما هو أشد من ذلك وهو افتراؤهم عليه بأنه افتراء، والاستفهام للتقريع والتوبيخ والضمير المستتر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والبارز لما يوحى.
ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بما يقطعهم ويبيَّن كذبهم ويظهر به عجزهم فقال (قل فأتوا بعشر سور مثله) أي مماثلة له في البلاغة وحسن النظم، وجزالة اللفظ، وفخامة المعنى، ووصف السور بما يوصف به المفرد فقال مثله ولم يقل أمثاله لأن المراد مماثله كل واحدة من السور أو لقصد الإيماء إلى أن وجه الشبه ومداره المماثلة في شيء واحد وهو البلاغة البالغة إلى حد الإعجاز.
وهذا إنما هو على القول بأن المطابقة في الجمع والتثنية والإفراد شرط، وقيل لفظة مثل وإن كانت بلفظ الإفراد فإنها يوصف بها المثنى والمجموع والمؤنث كقوله تعالى (أنؤمن لبشرين مثلنا) وتجوز المطابقة قال تعالى (وحور عين كأمثال اللؤلؤ) وقال تعالى:(ثم لا يكونوا أمثالكم) والهاء في مثله تعود لما يوحى.
ثم وصف السور بصفة أخرى فقال (مفتريات) جمع مفتراة كمصطفيات في مصطفاة فانقلبت الألف ياء كالتثنية، قاله السمين أي مختلفات حيث قالوا له افتريت هذا القرآن من عند نفسك وليس من عند الله، فتحداهم وأرخى لهم العنان وفاوضهم على مثل دعواهم وقال مفتريات في مقابلة قولهم افتراه.
ولما تحداهم بهذا الكلام أمره بأن يقول لهم (وادعوا) للاستظهار على المعارضة بالعشر السور (من استطعتم) دعاءه وقدرتم على الاستعانة به من هذا النوع الإنساني و (من دون الله) أي ممن تعبدونه وتجعلونه شريكاً لله سبحانه أي ادعوا من استطعتم متجاوزين الله سبحانه (إن كنتم صادقين) فيما تزعمون من افترائي له.
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
(فإلَّم) تكتب بغير نون كما في خط المصحف وهذا في خصوص هذا الموضع (يستجيبوا لكم) أي فإن لم يفعلوا ما طلبته منهم وتحديتهم به من الإتيان بعشر سور مثله، ولا استجابوا إلى المعارضة المطلوبة منهم، ويكون الضمير في لكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أو للنبي (صلى الله عليه وسلم) وحده وجمع تعظيماً وتفخيماً.
(فاعلموا) أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أو للرسول وحده على التأويل الذي سلف قريباً ومعنى أمرهم بالعلم أمرهم بالثبات عليه لأنهم عالمون بذلك من قبل عجز الكفار عن الإتيان بعشر سور مثله أو المراد بالأمر بالعلم الأمر بالازدياد منه إلى حد لا يشوبه شك، ولا تخالطه شبهة، وهو علم اليقين، والأول أولى.
(إنما أنزل) متلبساً (بعلم الله) المختص به الذي لا تطلع على كنهه العقول ولا تستوضح معناه الأفهام لما اشتمل عليه من الإعجاز الخارج عن طوق البشر، وليس مفترى على الله، وإنما أداة حصر ويجوز في ما أن تكون موصولة اسمية أو حرفية تقديره فاعلموا أن تنزيله أو أن الذي أنزله متلبس بعلم الله (وأن لا إله إلا هو) أي واعلموا أن الله هو المتفرد بالألوهية لا شريك له ولا يقدر غيره على ما يقدر عليه، ثم ختم الآية بقوله (فهل أنتم مسلمون) أي ثابتون على الإسلام راسخون فيه مخلصون له إذا تحقق عندكم إعجازه.
عن مجاهد قال: الخطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي هل أنتم مزدادون من الطاعات لأنه قد حصل لكم بعجز الكفار عن الإتيان بمثل عشر سور من هذا الكتاب طمأنينة فوق ما كنتم وبصيرة زائدة وإن كنتم مسلمين من قبل هذا فإن الثبوت عليه وزيادة البصيرة فيه والطمأنينة به مطلوب منكم.
وقيل المعنى فإن لم يستجب لكم من دعوتموهم للمعاضدة والمناصرة على الإتيان بعشر سور من سائر الكفار ومن تعبدونهم وتزعمون أنهم يضرون وينفعون فاعلموا أن هذا القرآن الذي أنزله الله على هذا الرسول خارج عن قدرة غيره سبحانه وتعالى لما اشتمل عليه من الإعجاز الذي يتقاصر دونه قوة المخلوقين وأنه أنزل الله الذي لا تحيط به العقول ولا تبلغه الأفهام.
واعلموا أنه المتفرد بالألوهية لا شريك له فهل أنتم بعد هذا مسلمون أي داخلون في الإسلام متبعون لأحكامه مقتدون بشرائعه بعد قيام الحجة القاطعة.
وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر، وهذا الوجه أقوى من الوجه الأول من جهة، وأضعف منه من جهة.
فأما جهة قوته فلاتّساق الضمائر وتناسبها وعدم احتياج بعضها إلى تأويل، وأما ضعفه في ترتيب الأمر بالعلم على عدم الاستجابة ممن دعوهم واستعانوا بهم من الخفاء واحتياجه إلى تكلف، وهو أن يقال إن عدم استجابة من دعوهم واستعانوا بهم من الكفار والآلهة مع حرصهم، على نصرهم ومعاضدتهم ومبالغتهم في عدم إيمانهم واستمرارهم على الكفر، يفيد حصول العلم لهؤلاء
الكفار بأن هذا القرآن من عند الله وأن الله سبحانه هو الإله وحده لا شريك له وذلك يوجب دخولهم في الإسلام.
واعلم أنه قد اختلف التحدث للكفار بمعارضة القرآن فتارة وقع بمجموع القرآن كقوله: (لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) وبعشر سور كما في هذه الآية وذلك لأن العشرة أول عقد من العقود، وبسورة منه كما تقدم في البقرة ويونس، وذلك لأن السورة أقل طائفة منه.
ثم إن الله سبحانه توعد من كان مقصور الهمة على الدنيا لا يطلب غيرها ولا يريد سواها فقال:
(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) واختلف أهل التفسير في هذه الآية فقال الضحاك: نزلت في الكفار وأهل الشرك واختاره النحاس بدليل الآية التي بعدها (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار) وقال أنس: نزلت في اليهود والنصارى، وعن الحسن مثله، وقيل نزلت في المنافقين، وقيل الآية واردة في الناس على العموم كافرهم ومسلمهم والحمل على العموم أولى.
والمعنى أن من كان يريد بعمله حظ الدنيا يكافأ بذلك وليس المراد مجرد الإرادة والمراد بزينتها ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن والسعة في الرزق وارتفاع الحظ ونفاذ القول وكثرة الأولاد والرياسة ونحو ذلك، وإدخال كان في الآية يفيد أنهم مستمرون على إرادة الدنيا بأعمالهم لا يكادون يريدون الآخرة ولهذا قيل أنهم مع إعطائهم حظوظ الدنيا يعذبون في الآخرة لأنهم جردوا قصدهم إلى الدنيا ولم يعملوا للآخرة.
وظاهر قوله: (نوف إليهم أعمالهم فيها) أن من أراد بعمله الدنيا حصل له الجزاء الدنيوي لا محالة، ولكن الواقع في الخارج يخالف ذلك فليس كل متمن ينال من الدنيا أمنيته وإن عمل لها وأرادها فلا بدّ من تقييد ذلك
بمشيئة الله سبحانه، عن ابن عباس قال: يعني من عمل صالحاً التماس الدنيا صوماً أو صلاة أو تهجداً بالليل لا يعمله إلا لذلك.
قال القرطبي: ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة وكذلك الآية التي في الشورى (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها)(ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) كذلك (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها) وقيدتها وفسرتها التي في سبحان (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد).
(وهم فيها لا يبخسون) أي وهؤلاء المريدون بأعمالهم الدنيا هم في الدنيا لا ينقصون من جزائهم فيها بحسب أعمالهم لها وذلك في الغالب، وليس بمطرد بل إن قضت به مشيئته سبحانه ورجحته حكمته البالغة.
وقال القاضي: معنى الآية من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما ينالون من الصحة والكفاف وسائر اللذات والطيبات والمنافع، فخص الجزاء بمثل ما ذكره وهو حاصل لكل عامل للدنيا ولو كان قليلاً يسيراً. أهـ.
وإنما عبر عن عدم نقص أعمالهم بنفي البخس الذي هو نقص الحق مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم بمعزل عن كونها مستوجبة لذلك، بناء للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص، كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلاً.