المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٦

[صديق حسن خان]

الفصل: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ

وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‌

(113)

(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) قرئ بفتح الكاف وضمها وهي لغة تميم وقيس والأول لغة أهل الحجاز، قال أبو عمرو: ولغة تميم بكسر التاء وفتح الكاف، وهم يكسرون حرف المضارعة في كل ما كان من باب علم يعلم، قال الأزهري: وليست بالفصيحة وركن يركن بفتحتين وليست بالأصل، بل من تداخل اللغتين.

وقال الراغب: والصحيح إنه يقال بالفتح فيهما وبالكسر في الماضي والفتح في المضارع؛ وبالفتح في الماضي والضم في المضارع، وقرئ على البناء للمفعول من أركنه، وقال في الصحاح: ركن إليه يركن بالضم، وحكى أبو زيد: ركن إليه بالكسر يركن ركوناً فيهما، أي مال إليه وسكن، قال الله تعالى (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) وأما بالفتح فيهما فإنما هو على الجمع بين اللغتين. اهـ.

وقال في شمس العلوم: الركون السكون، وقال في القاموس: ركن إليه كنصر وعلم ومنع ركوناً مال وسكن. اهـ، فهؤلاء الأئمة من رواة اللغة فسروا الركون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد بما فيده به صاحب الكشاف حيث قال: فإن الركون هو الميل اليسير.

وهكذا فسره المفسرون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد إلا من كان من المتقيدين بما ينقله صاحب الكشاف، ومن المفسرين من ذكر في تفسير الركون قيوداً لم يذكرها أئمة اللغة.

قال القرطبي في تفسيره: الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، ومن أئمة التابعين من فسر الركون بما هو أخص من معناه

ص: 262

اللغوي، فروي عن قتادة وعكرمة أن معناها لا تودوهم ولا تطيعوهم.

وقال عبد الرحمن بن زيد: الركون هنا الادهان، وذلك أن لا ينكر عليهم كفرهم، وقال أبو العالية: معناه لا ترضوا أعمالهم، وقال ابن عباس: الركون إلى الشرك ولا تركنوا لا تميلوا ولا تدهنوا. وعن عكرمة: لا تصطنعوهم.

وقد اختلف أيضا الأئمة من المفسرين في هذه الآية هل هي خاصة بالمشركين أو عامة، فقيل خاصة وإن معنى الآية النهي عن الركون إلى المشركين وإنهم المرادون بالذين ظلموا. وقد روي ذلك عن ابن عباس، وقيل إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم، وهذا هو الظاهر من الآية، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون لكان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

فإن قلت وقد وردت الأدلة الصحيحة البالغة عدد التواتر الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا يخفى على من له أدنى تمسك بالسنة المطهرة بوجوب طاعة الأئمة والسلاطين والأمراء حتى ورد في بعض ألفاظ الصحيح أطيعوا السلطان وإن كان عبداً حبشياً رأسه كالزبيبة، وورد وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة وما لم يظهر منهم الكفر البواح وما لم يأمروا بمعصية الله.

وظاهر ذلك أنهم وإن بلغوا في الظلم إلى أعلى مراتبه وفعلوا أعظم أنواعه مما لم يخرجوا به إلى الكفر البواح فإن طاعتهم واجبة حيث لم يكن ما أمروا به من معصية الله، ومن جملة ما يأمرون به تولي الأعمال لهم والدخول في المناصب الدينية التي ليس الدخول فيها من معصية الله، ومن جملة ما يأمرون به الجهاد وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا، وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم وإقامة الحدود على من وجبت عليه.

ص: 263

وبالجملة فطاعتهم واجبة على كل من صار تحت أمرهم ونهيهم في كل ما يأمرون به مما لم يكن من معصية الله، ولا بد في مثل ذلك من المخالطة لهم والدخول عليهم ونحو ذلك مما لا بد منه ولا محيص عن هذا الذي ذكرنا من وجوب طاعتهم بالقيود المذكورة لتواتر الأدلة الواردة به، بل قد ورد به الكتاب العزيز أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.

بل ورد أنهم يعطون الذي لهم من الطاعة وإن منعوا ما هو عليهم للرعايا، كما في بعض الأحاديث الصحيحة:" أعطوهم الذي لهم واسألوا الله الذي لكم " بل ورد الأمر بطاعة السلطان وبالغ في ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى قال: " وإن أخذ مالك وضرب ظهرك "(1).

فإن اعتبرنا مطلق الميل والسكون فمجرد هذه الطاعة المأمور بها مع ما تستلزمه من المخالطة هي ميل وسكون، وإن اعتبرنا الميل والسكون ظاهراً وباطناً فلا يتناول النهي في هذه الآية من مال إليهم في الظاهر لأمر يقتضى ذلك شرعاً كالطاعة أو للتقية ومخافة الضرر منهم، أو لجلب مصلحة عامة أو خاصة أو دفع مفسدة عامة أو خاصة إذا لم يكن له ميل إليهم في الباطن ولا محبة ولا رضى بأفعالهم.

قلت: أما الطاعة على عمومها بجميع أقسامها حيث لم تكن في معصية الله فهي على فرض صدق مسمى الركون عليها مخصصة لعموم النهي عنه بأدلتها التي قدمنا الإشارة إليها ولا شك في هذا ولا ريب، فكل من أمروه ابتداء أن يدخل في شيء من الأعمال التي أمرها إليهم مما لم يكن من معصية الله كالمناصب الدينية ونحوها إذا وثق من نفسه بالقيام بما وكل إليه فذلك واجب عليه، فضلاً عن أن يقال جائز له.

وأما ما ورد من النهي عن الدخول في الإمارة فذلك مقيد بعدم وقوع الأمر ممن تجب طاعته من الأئمة والسلاطين والأمراء جمعاً بين الأدلة أو مع

(1) مسلم 1847 بلفظ: " تسمع وتطيع للأمير. وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع واطع ".

ص: 264

ضعف المأمور عن القيام بما أمر به، كما ورد تعليل النهي عن الدخول في الإمارة بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة.

وأما مخالطتهم والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة أو دفع مفسدة عامة أو خاصة مع كراهة ما هم عليه من الظلم وعدم ميل النفس إليهم ومحبتها لهم وكراهة المواصلة لهم لولا جلب تلك المصلحة أو دفع تلك المفسدة، فعلى فرض صدق مسمى الركون على هذا فهو مخصص بالأدلة الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد، والأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، ولا تخفى على الله خافية.

وبالجملة فمن ابتلى بمخالطة من فيه ظلم فعليه أن يزن أقواله وأفعاله وما يأتي وما يذر بميزان الشرع، فإن زاغ عن ذلك فعلى نفسها براقش تجني، ومن قدر على الفرار منهم قبل أن يؤمر من جهتهم بأمر يجب عليه طاعته فهو الأولى له والأليق به. يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اجعلنا من عبادك الصالحين الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر الذين لا يخافون فيك لومة لائم وقونا على ذلك ويسره لنا وأعنا عليه.

قال القرطبي في تفسيره: وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار انتهى. وقال النيسابوري في تفسيره: قال المحققون: الركون المنهي، عنه هو الرضا بما عليه الظلمة أو تحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب، فأما مداخلتهم لدفع شيء من الضرر واجتلاب منفعة عاجلة فغير داخلة في الركون.

قال: وأقول هذا من طريق المعاش والرخصة ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية، أليس الله بكاف عبده. اهـ.

(فتمسكم النار) بحرها بسبب الركون إليهم، وفيه إشارة إلى أن

ص: 265

الظلمة أهل النار أو كالنار، ومصاحبة النار توجب لا محالة مس النار، قيل هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم. والجملة حالية أو مستأنفة. قال أبو السعود: وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مساس النار هكذا، فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم والعدوان ميلاً عظيماً ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم ويلقي شراشره على مؤانستهم ومعاشرتهم ويبتهج بالتزيي بزيهم؛ ويمد عينيه إلى زهرتهم الفانية، ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية، وهو في الحقيقة من الحبة طفيف، ومن جناح البعوض خفيف، بمعزل عن أن تميل إليه القلوب، ضعف الطالب والمطلوب.

والآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه، وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين تثبيت على الاستقامة التي هي العدل، فإن الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط ظلم على نفسه أو غيره انتهى.

(وما لكم من دون الله من أولياء) إن ركنتم إليهم، والمعنى أنها تمسكم النار حال عدم وجود من ينصركم وينقذكم منها، ونفى الأولياء ليس بطريق نفي أن يكون لكل واحد منهم أولياء حتى يصدق أن يكون له ولي بل لمكان لكم بطريق انقسام الآحاد على الأحاد لكن لا على معنى نفي استقلال كل منهم بنصير بل على معنى نفي أن يكون لواحد منهم نصير بقرينة المقام.

(ثم لا تنصرون) من جهة الله سبحانه إذ قد سبق في علمه أنه يعذبكم بسبب ركونكم الذي نهيتم عنه فلم تنتهوا عناداً وتمرداً والجملة حالية أو مستأنفة معترضة وأتى بثم هنا تنبيهاً على تراخي رتبة كونهم غير منصورين من جهة الله بعدما أوعدهم بالعذاب وأوجبه عليهم، ويجوز أن يكون منزلاً منزلة الفاء بمعنى الاستبعاد فإنه لما بين أن الله تعالى معذبهم وأن غيره لا ينقذهم أنتج أنهم لا ينصرون أصلاً.

ص: 266

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)

ص: 267

(وأقم الصلاة طرفي النهار) لما ذكر الله سبحانه الاستقامة خص من أنواعها إقامة الصلاة لكونها رأس الإيمان، والمراد صلاة الغداة والعشي وهما الفجر والعصر، قاله الحسن، وقيل الظهر موضع العصر، وقيل الطرفان الصبح والمغرب، قاله ابن عباس. وقيل هما الظهر والعصر، وقال مجاهد: صلاة الفجر وصلاتي العشي يعني الظهر والعصر، ورجح ابن جرير أنهما الصبح والمغرب.

قال: والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح، فدل على أن الطرف الآخر المغرب.

قال الرازي: كثرت المذاهب في تفسير طرفي النهار والأشهر أنهما الفجر والعصر لأن أحد طرفي النهار هو طلوع الشمس والثاني هو غروبها، فالطرف الأول هو صلاة الفجر، والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب لأنها داخلة تحت قوله وزلفاً من الليل فوجب حمل الطرف الثاني على صلاة العصر. (وزلفاً) أي في زلف (من الليل) والزلف الساعات القريبة بعضها من بعض ومنه سميت المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة، وقرئ زلفاً بضم اللام جمع زليف، ويجوز أن يكون واحده زلفة، وقرئ بإسكان اللام، وقرأ مجاهد: زلفى على وزن فعلى، وقرأ الباقون: زلفا بفتح اللام كغرفة وغرف، قال ابن الأعرابي: الزلف الساعات واحدتها زلفة.

ص: 267

وقال قوم: الزلفة أول ساعة من الليل بعد مغيب الشمس، وفي القاموس الزلفة الطائفة من الليل والجمع زلف وزلفات والزلف ساعات الليل الآخذة من النهار وساعات النهار الأخذة من الليل. قال الأخفش: معنى زلفاً من الليل صلاة الليل، قال ابن عباس: صلاة العتمة، وقال الحسن: هما زلفتان صلاة المغرب وصلاة العشاء، وعن مجاهد والحسن نحوه، وقال أيضاً: ساعة بعد ساعة يعني صلاة العشاء الآخرة.

(إن الحسنات) أي الواجبة والمندوبة وغيرها على العموم ومن جملتها بل عمادها الصلوات. عن ابن مسعود قال: هي الصلوات الخمس. وزاد ابن عباس والباقيات الصالحات (يذهبن السيئات) على العموم، وقيل المراد بها الصغائر ومعنى يذهبن يكفرنها حتى كأنها لم تكن.

أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له كأنه يسأل عن كفارتها، فأنزلت عليه (وأقم الصلاة طرفي النهار) الآية، فقال الرجل يا رسول الله ألي هذه؟ قال: هي لمن عمل بها من أمتي.

وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم عن أبي أمامة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله أقم في حد الله، مرة أو مرتين، فأعرض عنه؛ ثم أقيمت الصلاة فلما فرغ قال أين الرجل؟ قال أنا ذا، قال أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا؟ قال نعم، قال فإنك من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد وأنزل الله حينئذ على رسوله (وأقم الصلاة طرفي النهار) وفي الباب أحاديث كثيرة بألفاظ مختلفة.

ووردت أحاديث صحيحة أيضاً أن الصلوات الخمس كفارات لما بينهن. وقال مجاهد: الحسنات قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، والأول أولى، وبه قال ابن المسيب والقرطبي والضحاك وجمهور المفسرين: أي الصلوات الخمس وله تدل الأحاديث.

ص: 268

(ذلك) إشارة إلى قوله فاستقم وما بعده، وقيل إلى القرآن (ذكرى للذاكرين) أي موعظة للمتعظين. عن الحسن قال: هم الذين يذكرون الله في السراء والضراء والشدة والرخاء والعافية والبلاء. وعن ابن جريج قال: لما نزع الذي قبَّل المرأة تذكر فذلك قوله ذلك ذكرى للذاكرين.

ص: 269

(واصبر) على ما أمرت به من الاستقامة وعدم الطغيان والركون إلى الذين ظلموا، وقيل أن المراد الصبر على ما أمر به دون ما نهى عنه لأنه لا مشقة في اجتنابه وفيه نظر فإن المشقة في اجتناب المنهى عنه كائنة وعلى فرض كونها دون مشقة امتثال الأمر فذلك لا يخرجها عن مطلق المشقة (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) أي يوفيهم أجورهم ولا يضيع منها شيئاً فلا يهمله ولا يبخسه بنقص قيل المحسنون المصلون.

ص: 269

(فلولا كان) هذا عود إلى أحوال الأمم الخالية لبيان أن سبب حلول عذاب الاستئصال بهم أنه ما كان فيهم من ينهي عن الفساد ويأمر بالرشاد فقال (فلولا) أي فهلا كان (من القرون) الماضية المهلكة بالعذاب الكائنة (من قبلكم أولوا بقية) من الرأي والعقل والدين، والبقية في الأصل اسم لما يستبقيه الرجل مما يخرجه وهو لا يستبقي إلا أجوده وأفضله فصار لفظ البقية مثلاً في الجودة يقال فلان ذو بقية إذا كان فيه خير، والمراد بها حينئذ جيد الشيء وخياره، من قولهم فلان بقية الناس وبقية الكرام وإنها صفة على فعيلة للمبالغة بمعنى فاعلة ولذلك دخلت التاء فيها.

وقيل معناه أولو بقية من خير يقال فلان على بقية من الخير إذا كان على خصلة محمودة ومنه قولهم في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا؛ وقيل أنها مصدر بمعنى البقوى، كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذووا بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه، وقرئ بتخفيف الياء وهي اسم فاعل من بقي، والتقدير أولو طائفة بقية أي باقية.

ص: 269

وقرئ بضم الباء وسكون القاف، أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولو بقية وأحلام.

(ينهون) قومهم (عن الفساد في الأرض) ويمنعونهم من ذلك لكونهم ممن جمع الله له بين جودة العقل وقوة الدين، وفي هذا من التوبيخ للكفار ما لا يخفى والاستثناء في قوله (إلا قليلاً) منقطع أي لكن قليلاً (ممن أنجبنا منهم) أي من الأمم الماضية وهم أتباع الأنبياء نهوا عن الفساد في الأرض وسائرهم تركوا النهي، وقيل هو متصل لأن في حرف التحضيض معنى النفي فكأنه قال ما كان في القرون أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم إلا أنه يؤدي إلى النصب في غير الموجب وإن كان غير النصب أولى.

قال الزمخشري: إن جعلته متصلاً كان المعنى فاسداً لأن الكلام يؤول إلى أن الناجين لا يحضون على النهي ومن في ممن بيانية لأنه لم ينج إلا الناهون قيل هؤلاء القليل هم قوم يونس لقوله فيما مر إلا قوم يونس، وقيل هم أتباع الأنبياء أهل الحق من الأمم على العموم.

(واتبع الذين ظلموا) أنفسهم بسبب مباشرتهم للفساد وتركهم للنهي عنه (ما أترفوا فيه) أي أنعموا من الشهوات فاهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك والمترف الذي أبطرته النعمة يقال صبي مترف منعم البدن.

وفي القاموس الترفة بالضم النعمة والطعام والشيء الظريف تخص به صاحبك وترف كفرح تنعم وأترفته النعمة أطغته وأترف فلان أصر على المكر والمترف كمكرم المتروك يصنع ما يشاء ولا يمنع والمتنعم لا يمنع من تنعمه أي صاروا تابعين للنعم التي صاروا بها مترفين من خصب العيش ورفاهية الحال

ص: 270

وسعة الرزق، وآثروا ذلك على الاشتغال بأعمال الآخرة واستغرقوا بأعمارهم في الشهوات النفسانية.

وقبل المراد بالذين ظلموا، تاركوا النهي ورد بأنه يستلزم خروج مباشري الفساد عن الذين ظلموا وهم أشد ظلماً ممن لم يباشر وكان ذنبه ترك النهي وقرئ واتبع على البناء للمفعول ومعناه اتبعوا جزاء ما أترفوا فيه، قال مجاهد: واتبع الذين ظلموا أي في ملكهم وتجبرهم وتركهم للحق، وقال ابن عباس: أترفوا وأبطروا.

وجملة (وكانوا مجرمين) متضمنة لبيان سبب إهلاكهم أي وكان هؤلاء الذين اتبعوا ما أترفوا فيه مجرمين كافرين والإجرام الآثام والمعنى أنهم أهل إجرام بسبب اتباعهم للشهوات واشتغالهم بها عن الأمور التي يحق الاشتغال بها ويجوز أن تكون معطوفة على واتبع الذين أي اتبعوا شهواتهم وكانوا بسبب ذلك الاتباع مجرمين.

ص: 271

(وما كان ربك ليهلك القرى) أي ما صح ولا استقام بل استحال في الحكمة أن يهلك القرى التي أهلكها حسب ما بلغك انباؤها ويعلم من ذلك حال باقيها من القرى الظالمة واللام لتأكيد النفي (بظلم) أي متلبساً به قيل هو حال من الفاعل أي ظالماً لها والتنكير للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم والمراد تنزيه الله تعالى عن ذلك بالكلية بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى وإلا فلا ظلم فيما فعله الله تعالى بعباده كائناً ما كان لما تقرر من قاعدة أهل السنة.

قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى وما كان ربك ليهلك أحداً وهو يظلمه وإن كان على نهاية الصلاح لأن تصرفه في ملكه دليله قوله تعالى (إن الله لا يظلم الناس شيئاً) وقوله: وإن الله ليس بظلام للعبيد (وأهلها

ص: 271

مصلحون) حال من المفعول والعامل عامله ولكن لا باعتبار تقييده بما وقع حالاً من فاعله أعني بظلم لدلالته على تقييد نفي الإهلاك ظلماً بحال كون أهلها مصلحين ولا ريب في فساده بل مطلقاً عن ذلك.

وقيل المراد بالظلم الشرك والباء للسببية أي لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها أي بمجرد الشرك وحده حتى ينضم إليه الفساد في الأرض ومتابعة الهوى كما أهلك قوم شعيب بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم وأهلك قوم لوط بسبب ارتكابهم للفاحشة الشنعاء وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم لا يظلمون الناس شيئاً وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه تعالى.

ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد الفقراء على حقوق الله الغني الحميد وقيل الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم وأنت تدري أن مقام النهي عن المنكرات التي أقبحها الإشراك بالله لا يلائمه فإن الشرك داخل في الفساد في الأرض دخولاً أولياً ولذلك ينهى كل من الرسل الذين قصت أنباؤهم أمته أولاً عن الإشراك ثم عن سائر المعاصي التي كانوا يتعاطونها فالوجه حمل الظلم على مطلق الفساد الشامل للشرك وغيره من أصناف المعاصي وحمل الإصلاح على إصلاحه والإقلاع عنه يكون بعضهم متصدين للنهي عنه وبصنعهم متوجهين إلى الاتعاظ غير مصرين على ما هم عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد.

وقيل المعنى وما كان يهلكهم بذنوبهم وهم مخلصون في الإيمان فالظلم المعاصي على هذا، أخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية فقال: وأهلها ينصف بعضهم بعضاً، وروي موقوفاً على جرير، قيل والمراد بالهلاك عذاب الاستئصال في الدنيا وأما عذاب الآخرة فهو لازم لهم.

ص: 272