المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب التفليس والحجر - فقه الإسلام = شرح بلوغ المرام - جـ ٥

[عبد القادر شيبة الحمد]

الفصل: ‌باب التفليس والحجر

انعقد إجماع المسلمين على صحة قاعدة: كل قرض جر نفعا فهو ربا. وقد أشرت فى الحديث السابق إلى أن الزيادة فى وفاء الدين تبرعا وإحسانا لا يعتبر من باب القرض الذى جر نفعا ما دامت لم تقصد فى العقد. والعلم عند اللَّه عز وجل.

‌باب التفليس والحجر

ص: 179

1 -

عن أبى بكر بن عبد الرحمن عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره" متفق عليه، ورواه أبو داود ومالك من رواية أبى بكر بن عبد الرحمن مرسلا بلفظ "أيما رجل باع متاعا فأفلس الذى ابتاعه، ولم يقبض الذى باعه من ثمنه شيئا فوجد متاعه بعينه فهو أحق به فإن مات المشترى فصاحب المتاع أسوة الغرماء" ووصله البيهقى وضعفه تبعا لأبى داود. ورواه أبو داود وابن ماجه من رواية عمر بن خلدة قال: أتينا أبا هريرة فى صاحب لنا قد أفلس، فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به" وصححه الحاكم وضعفه أبو داود وضعف أيضا هذه الزيادة فى ذكر الموت.

[المفردات]

" التفليس" هو مصدر فلس قال فى القاموس: وفلسه القاضى تفليسا حكم بإفلاسه أهـ وقال الحافظ فى الفتح: والمفلس شرعا من تزيد ديونه على موجوده، سمى مفلسا لأنه صار

ص: 179

ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير إشارة إلى أنه صار لا يملك إلا أدنى الأموال وهى الفلوس. أو سمى بذلك لأنه يمنع التصرف إلا فى الشئ التافه كالفلوس لأنهم ما كانوا يتعاملون بها إلا فى الأشياء الحقيرة. أو لأنه صار إلى حالة لا يملك فيها فلسا، فعلى هذا فالهمزة فى أفلس للسلب اهـ والمفلس المعدم. وقال الصحابة رضى اللَّه عنهم للنبى صلى الله عليه وسلم: "المفلس من لا درهم له ولا متاع.

"والحجر" هو فى اللغة المنع وشرعا أن يمنع الحاكم المديون أو السفيه من التصرف فى ماله.

"أبى بكر بن عبد الرحمن" هو قاضى المدينة المنورة وأحد الفقهاء السبعة أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم القرشى. قيل اسمه محمد وقيل اسمه أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن وقيل اسمه المغيرة والصحيح أن اسمه وكنيته واحد. روى عن أبيه وأبى هريرة وعمار بن ياسر وعائشة وأم سلمة وأم معقل الأسدية وغيرهم وروى عنه أولاده عبد الملك وعمر وعبد اللَّه وسلمة وابن أخيه القاسم بن محمد بن عبد الرحمن والزهرى وعمر بن عبد العزيز وغيرهم قال ابن سعد: ولد فى خلافة عمر. وقد كان رحمه الله ثقة فقيها عالما شيخا كثير الحديث وكان يقال له: راهب قريش وكان أحد أئمة المسلمين وكان من سادات قريش. وقد توفى سنة ثلاث وتسعين أو

ص: 180

أربع وتسعين أو خمس وتسعين. رحمه الله.

"أدرك" أى وجد.

"بعينه" أى لم يتغير بزيادة أو نقص أو غيرهما ولم يتصرف فيه الذى هو بيده أو يفرقه.

"قد أفلس" أى صار مفلسا وهو من زادت ديونه على موجوده كما تقدم سبب تسميته مفلسا.

"فهو" أى صاحب المال الموجود عند المفلس.

"أحق به من غيره" أى أولى به من سائر الغرماء.

"مرسلا" أى لم يذكر فيه أبو بكر بن عبد الرحمن أبا هريرة وأضافه هو إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

"متاعا" أى سلعة.

"الذى ابتاعه" أى الذى اشتراه.

"فإن مات المشترى" أى قبل أن يدرك البائع متاعه بعينه وإنما أدركه بعد موت المشترى.

"فصاحب المتاع" أى البائع الذى لم يقبض من ثمن متاعه شيئا.

"أسوة الغرماء" أى حظه من هذا المتاع كحظ سائر الدائنين لا مزية له فيه عليهم.

"وضعفه البيهقى تبعا لأبى داود" أى ضعف البيهقى الموصول وقد تبع فى تضعيفه أبا داود فإنه قال بعد أن أخرجه من طريق الزبيدى: حديث مالك أصح يعنى المرسل.

"عمر بن خلدة" هو قاضى المدينة المنورة عمر بن خلدة -ويقال

ص: 181

عمر بن عبد الرحمن بن خلدة- الزرقى الأنصارى أبو حفص، روى عن أبى هريرة وروى عنه ربيعة بن أبى عبد الرحمن، كان ثقة قليل الحديث وكان مهيبا ورعا صارما عفيفا. قال ابن سعد: ولى قضاء المدينة فى زمن عبد الملك بن مروان.

"وصححه الحاكم" أى وصحح الحاكم طريق عمر بن خلدة عن أبى هريرة.

[البحث]

قال البخارى فى صحيحه: باب إذا وجد ماله عند مفلس فى البيع والقرض والوديعة فهو أحق به ثم ساق من طريق أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنه سمع أبا هريرة رضى اللَّه عنه يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره. ورواه مسلم بنفسى سند البخارى وبلفظ قريب من لفظه حيث قال: من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره" وفى لفظ لمسلم: "أيما امرئ فلس" يعنى أعلن القاضى إفلاسه وحكم عليه به وقد ساق مسلم كذلك من حديث أبى بكر بن عبد الرحمن عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الرجل الذى يعدم إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه أنه لصاحبه الذى باعه" كما أخرج مسلم من طريق بشير بن نهيك عن أقوله هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفلس الرجل فوجد الرجل متاعه بعينه فهو أحق به" وفى لفظ: "فهو أحق به من الغرماء" كما روى مسلم من طريق خثيم بن عراك عن أبيه عن

ص: 182

أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفلس الرجل فوجد الرجل عنده سلعته بعينها فهو أحق بها" ولا شك هنا أن الرجل المعرف أولا هو غير الرجل المعرف ثانيا إذ الأول هو المفلس والثانى هو الدائن. وهو يدل على أن المعرفة إذا أعيدت قد تدل القرينة على التغاير بينهما كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} وإن كان الأصل أن المعرفة إذا أعيدت كانت الثانية عين الأولى، بخلاف النكرة فإنها إذا أعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى وأن النكرة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى كقوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} وقد ساق مالك فى الموطأ عن ابن شهاب عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل باع متاعا فأفلس الذى ابتاعه منه، ولم يقبض الذى باعه من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذى ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء" ثم روى مالك عن يحيى ابن سعيد عن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبى هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل أفلس فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره" وأخرجه أبو داود من هذا الطريق بهذا اللفظ ثم قال: حدثنا عبد اللَّه بن سلمة عن مالك عن ابن شهاب عن أبى بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل باع متاعا فأفلس الذى ابتاعه ولم يقبض الذى باعه من ثمنه شيئا

ص: 183

فوجد متاعه بعينه فهو أحق به. وإن مات المشترى فصاحب المتاع أسوة الغرماء" حدثنا سليمان بن داود ثنا عبد اللَّه يعنى بن وهب أخبرنى يونس عن ابن شهاب قال: أخبرنى أبو بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكر معنى حديث مالك زاد: وإن كان قد قضى من ثمنها شيئا فهو أسوة الغرماء فيها. حدثنا محمد بن عوف ثنا عبد اللَّه بن عبد الجبار يعنى الخبايرى ثنا إسماعيل يعنى ابن عياش عن الزبيدى عن الزهرى عن أبى بكر بن عبد الرحمن عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم نحوه قال: فإن كان قضاه من ثمنها شيئا فما بقى فهو أسوة الغرماء، وأيما امرئ هلك وعنده متاع امرئ بعينه اقتضى منه شيئا أو لم يقتضه فهو أسوة الغرماء قال أبو داود حديث مالك أصح حدثنا محمد بن بشار ثنا أبو داود ثنا ابن أبى ذئب عن أبى المعتمر عن عمر بن خلدة قال: أتينا أبا هريرة فى صاحب لنا أفلس فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به" اهـ وقال ابن ماجه: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامى وعبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقى قال: ثنا ابن أبى فديك عن ابن أبى ذئب عن أبى المعتمر بن عمرو بن رافع عن ابن خلدة الزرقى وكان قاضيا بالمدينة، قال: جئنا أبا هريرة فى صاحب لنا قد أفلس فقال: هذا الذى قضى فيه النبى صلى الله عليه وسلم: أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه" حدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصى ثنا اليمان بن عدى حدثنى الزبيدى محمد بن عبد الرحمن عن الزهرى عن أبى سلمة عن

ص: 184

أبى هريرة قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أيما امرئ مات وعنده مال امرئ بعينه، اقتضى منه شيئا أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء". اهـ وقول المصنف فى حديث عمر بن خلدة: وضعفه أبو داود غير ظاهر لأنى قد سقت لك لفظ أبى داود فى سياقه لحديث عمر بن خلدة وليس فيه تضعيف له، إلا أن يكون قد ضعفه فى غير هذا المقام وقد قال الشيخ محمد زكريا الكاندهلوى فى كتابه أوجز المسالك إلى موطأ مالك نقلا عن الزرقانى بعد أن ساق حديث عمر بن خلدة عند أبى داود قال: وقد قال أبو داود عقب روايته: من يأخذ بهذا؟ أبو المعتمر من هو؟ يعنى أنه لا يعرفه اهـ فلعل بعض نسخ أبى داود فيها هذا التضعيف الذى أشار إليه المصنف رحمه الله وقد قال الصنعانى فى سبل السلام: وقد راجعت سنن أبى داود فلم أجد فيها تضعيفا لرواية عمر بن خلدة اهـ وقد وهم الصنعانى رحمه الله فى قوله على قول المصنف: "ووصله البيهقى وضعفه تبعا لأبى داود" راجعنا سنن أبى داود فلم نجد فيها تضعيفا للرواية هذه بل قال فى هذه الرواية بعد إخراجه لها من طريق مالك: وحديث مالك أصح اهـ فإن أبا داود رحمه الله لم يخرج هذه الرواية الموصولة من طريق مالك بل من طريق إسماعيل بن عياش عن الزبيدى عن الزهرى عن أبى بكر بن عبد الرحمن عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم كما أشرت إلى ذلك فى مفردات هذا الحديث. هذا وفى سند حديث الزبيدى عند أبى داود محمد ابن عوف ابن سفيان الطائى أبو جعفر الحمصى قال فى التقريب: ثقة حافظ. وعبد اللَّه بن عبد الجبار الخبايرى أبو القاسم الحمصى قال فى التقريب: صدوق. وإسماعيل بن عياش بن سليم العنسى أبو عتبة الحمصى قال فى التقريب: صدوق فى أهل بلده مختلط فى غيرهم. وفى سند ابن

ص: 185

ماجه عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصى قال فى التقريب: صدوق. واليمان بن عدى الحضرمى أبو عدى الحمصى قال فى التقريب لين الحديث أما الزبيدى فهو محمد بن الوليد بن عامر الزبيدى (بضم الزاى مصغرا) أبو الهذيل الحمصى القاضى من رجال البخارى ومسلم قال فى التقريب: ثقة ثبت من كبار أصحاب الزهرى.

وذكر فى تهذيب التهذيب عن ابن معين: الزبيدى أثبت من ابن عيينة يعنى فى الزهرى وقال: وقال الوليد بن مسلم سمعت الأوزاعى يفضل محمد بن الوليد على جميع من سمع من الزهرى. والعجيب ما رأيت فى ابن ماجه من تسمية الزبيدى محمد بن عبد الرحمن كما سماه الشوكانى فى نيل الأوطار: الحارث الزبيدى وتبعه على ذلك أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادى فى التعليق المغنى على الدارقطنى، وهو وهم ظاهر. أما حديث عمر بن خلدة ففيه أبو المعتمر بن عمرو بن رافع المدنى قال فى التقريب: مجهول الحال وقال فى تهذيب التهذيب: ذكره ابن حبان فى الثقات. قلت: وقال ابن عبد البر: ليس بمعروف بحمل العلم اهـ وقال الطحاوى وابن المنذر: هو مجهول. وعلى هذا فحديث الزبيدى أولى من حديث أبى المعتمر واللَّه أعلم.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن من وجد سلعته بعينها عند المدين له المفلس فهو أحق بها من سائر الغرماء.

2 -

أنه إن وجدها بعد ما تغيرت فهو فيها أسوة الغرماء.

3 -

أنه إن كان قيض من ثمنها شيئا فهو أسوة الغرماء.

4 -

أنه إن وجدها بعد موت المدين المفلس فهو أسوة الغرماء ولو كانت بعينها.

ص: 186

2 -

وعن عمرو بن الشريد عن أبيه رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَىُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته" رواه أبو داود والنسائى وعلقه البخارى وصححه ابن حبان.

[المفردات]

" عمرو بن الشريد" بفتح الشين بوزن الطويل وهو عمرو بن الشريد بن سُوَيد الثقفى أبو الوليد الطائفى، لوالده الشريد صحبة وقيل إن الشريد من حضرموت وعداده فى ثقيف. وقد روى عمرو عن أبيه وأبى رافع وسعد بن أبى وقاص وابن عباس والمسور بن مخرمة وغيرهم وروى عنه إبراهيم بن ميسرة وعبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يعلى ويعلى بن عطاء ومحمد بن ميمون بن مسيكة الطائفيون، وبكير بن الأشج وعمرو بن شعيب وغيرهم. قال فى تهذيب التهذيب: قال العجلى حجازى تابعى ثقة وذكره ابن حبان فى الثقات.

"لَىُّ الواجد" أى مطل الغنى القادر على قضاء دينه. ولَىُّ بفتح اللام وتشديد الياء أى مطل يقال: لواه بدينه يلويه ليا أى مطله والواجد: الغنى الموسر.

"يحل عرضه" أى يبيح لدائنه وصفه بكونه ظالما وأنه مماطل وأنه لا يحب نقاء ذمته وبراءة نفسه، وأصل العرض بكسر العين هو موضع المدح والذم من الإنسان وما يصونه من نفسه وحسبه أن ينتقص ويثلب.

ص: 187

"وعقوبته" أى وحبسه أو تأديبه إن طلب الدائن ذلك من الحاكم.

[البحث]

قال أبو داود فى (باب فى الحبس فى الدين وغيره) حدثنا عبد اللَّه ابن محمد النفيلى ثنا عبد اللَّه بن المبارك عن وبْر بن أبى دُليلة عن محمد ابن ميمون عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لَىُّ الواجد يحل عرضه عقوبته" قال ابن المبارك يحل عرضه يغلظ له وعقوبته يحبس له اهـ وقال النسائى: أخبرنى محمد بن آدم قال حدثنا ابن المبارك عن وبر بن أبى دليلة عن محمد بن ميمون عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "لى الواجد يحل عرضه وعقوبته" أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا وكيع قال حدثنا وبر ابن أبى دليلة الطائفى عن محمد بن ميمون بن مسيكة -وأثنى عليه خيرا- عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: لى الواجد يحل عرضه وعقوبته. وقال البخارى فى صحيحه: باب لصاحب الحق مقال ويذكر عن النبى صلى الله عليه وسلم "لى الواجد يحل عرضه وعقوبته. قال سفيان: عرضه يقول: مطلتنى، وعقوبته الحبس. ووبر بفتح الواو وسكون الباء بعدها راء وهو كذلك فى أبى داود والنسائى والتقريب لكنه فى تهذيب التهذيب "وبرة" قال فى التقريب: وبر بفتح أوله وسكون الموحدة بعدها راء، ابن أبى دليلة بالتصغير واسمه مسلم الطائفى وقال فى تهذيب التهذيب: "وبرة" بن أبى دليلة واسمه مسلم الطائفى روى عن محمد بن عبد اللَّه بن ميمون بن مسيكة وعلى ابن عبد اللَّه البارقى وسليم المكى. وعنه الثورى وابن المبارك ووكيع

ص: 188

وسعد بن الصلت وأبو مالك النخعى وأبو عاصم. قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. قلت: وذكره ابن حبان فى الثقات وذكر الطبرانى أن النعمان بن عبد السلام روى حديثه عن الثورى. بفتح دال دليلة والصواب ضمها اهـ أما محمد بن ميمون فهو محمد بن عبد اللَّه بن ميمون بن مسيكة الطائفى وقد ينسب إلى جده قال فى تهذيب التهذيب: روى عن عمرو بن الشريد ويعقوب بن عاصم الثقفيين وروى عنه وبرة بن أبى دليلة الطائفى وأثنى عليه خيرا وقال أبو حاتم: روى عنه الطائفيون وذكره ابن حبان فى الثقات، له عندهم حديث فى لى الواجد. قلت: وقع ذكره فى سند حديث علقه البخارى فى كتاب القرض، وقال الذهبى: ما روى عنه غير وبرة وقال ابن المدينى: مجهول لم يرو عنه غير وبرة اهـ وقال الحافظ فى الفتح: والحديث المذكور وصله أحمد وإسحاق فى مسنديهما وأبو داود والنسائى من حديث عمرو بن الشريد بن أوس الثقفى عن أبيه بلفظه وإسناده حسن. وذكر الطبرانى أنه لا يروى إلا بهذا الإِسناد اهـ وقال فى تلخيص الحبير: حديث: لى الواجد ظلم، وعقوبته حبسه" أحمد وأبو داود والنسائى وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقى، من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه وعلقه البخارى. ولكن لفظه عندهم: "لى الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته" وقال الطبرانى لا يروى عن الشريد إلا بهذا الإِسناد، تفرد به ابن أبى دليلة اهـ قلت: وقد سقت فى هذا البحث لفظ أبى داود والنسائى وليس فيه كلمة "ظلم" وسيأتى فى الحديث الأولى من أحاديث باب الحوالة والضمان ما رواه البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 189

"مطل الغنى ظلم".

[ما يفيده الحديث]

1 -

تحريم المماطلة فى وفاء الدين إذا كان المماطل غنيا قادرا على الوفاء.

3 -

أن المماطل الغنى لا يأثم دائنه إن وصفه بالمماطلة والتسويف وعدم أداء الحقوق.

3 -

أن العاجز عن الوفاء لا يحل لدائنه أن ينال من عرضه بل عليه نظرة إلى ميسرة.

ص: 190

3 -

وعن أبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنه قال: "أصيب رجل فى عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا عليه" فتصدق الناس عليه ولم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لغرمائه: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" رواه مسلم.

[المفردات]

" أصيب رجل" أى ابتلى رجل.

"ابتاعها" أى اشتراها.

"ولم يبلغ ذلك" اللفظ الذى فى مسلم: فلم يبلغ ذلك. أى ما جمع له من الصدقة.

"لغرمائه" أى لدائنيه.

"خذوا ما وجدتم" يعنى مما تصدق به عليه، وما بقى من المار إن كان بقى منها شئ.

"وليس لكم إلا ذلك" أى وليس لكم تعزيره أو عقوبته أو النيل من عرضه.

ص: 190

[البحث]

تقدم فى بحث الحديث السادس من أحاديث باب الرخصة فى العرايا وبيع الأصول والثمار الإِشارة إلى أن حديث أبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنه هذا ليس من باب وضع الجوائح، وأن إصابة الرجل فى الثمار التى ابتاعها قد تكون بسبب كثرة ما اشتراه ثم هبوط الأسعار قبل أن يبيعها. ومثل هذا المصاب ينبغى الرفق به والإحسان إليه وعدم عقوبته لأنه لم يرتكب ما يعاقب عليه. والأمر بالإِحسان للمعسرين والرفق بهم جاء فى القرآن الكريم وفى سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإن اللَّه تعالى يقول:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وذكر رسول اللَّه بها أن من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله اللَّه فى ظله كما روى ذلك مسلم من حديث أبى اليسر رضى اللَّه عنه. كما روى مسلم من طريق عبد اللَّه بن أبى قتادة أن أبا قتادة طلب غريما له فتوارى عنه ثم وجده فقال إلى معسر فقال: آللَّهِ قال اللَّه. قال: فإنى سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من سره أن ينجيه اللَّه من كُرَب يوم القيامة فَلْيُنَفِّس عن معسر أو يَضَع عنه. كما روى البخارى ومسلم فى صحيحيهما من حديث عائشة رضى اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سمع صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه فى شئ وهو يقول: واللَّه لا أفعل. فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "أين المتألى على اللَّه لا يفعل المعروف؟ " قال: أنا يا رسول اللَّه فله أى ذلك أحب. وفى لفظ لمسلم من طريق عبد اللَّه بن كعب بن مالك عن أبيه أنه تقاضى ابن أبى حدرد دينا كان له عليه فى عهد

ص: 191

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو فى بيته فخرج إليهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى كشف سِجْف حجرته ونادى كعبَ بن مالك فقال: "يا كعب" فقال: لبيك يا رسول اللَّه! فأشار إليه بيده أن ضع الشَّطْرَ من دَيْنِكَ قال كعب: قد فعلتُ يا رسول اللَّه. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قم فاقضه" وفى رواية للبخارى ومسلم واللفظ لمسلم عن كعب بن مالك أنه كان له مال على عبد اللَّه بن أبى حدرد الأسلمى فلقيه فلزمه فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما فمر بهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "يا كعب فأشار بيده كأنه يقول: النصْفَ فأخذ نصفا مما عليه وترك نصفا".

[ما يفيده الحديث]

1 -

استحباب التصدق على المدين المعسر.

2 -

أنه يستحب للدائن أن يترك بعض حقه للمدين المعسر.

3 -

أنه ليس للغرماء طلب سجن المدين المفلس.

4 -

أنه لا يحق للغرماء أن ينالوا من عِرْض المدين المفلس.

6 -

أنه يجب على المدين المفلس إذا كان عنده بعض الحق الذى عليه أن يسلمه للغرماء فورا.

ص: 192

4 -

وعن ابن كعب بن مالك عن أبيه رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حَجَرَ على مُعَاذٍ مَالَه وباعه فى دين كان عليه" رواه الدارقطنى وصححه الحاكم وأخرجه أبو داود مرسلا ورجح إرساله.

[المفردات]

" ابن كعب بن مالك" قيل هو عبد الرحمن بن كعب بن مالك.

ص: 192

وكان لكعب بن مالك عبد اللَّه وعبيد اللَّه ومحمد ومعبد وعبد الرحمن وكل واحد منهم قد روى عن أبيه كعب رضى اللَّه عنه وقد سَمَّى أبو داود ابن كعب فى حديث الباب بأنه عبد الرحمن. كما سماه سعيد فى سننه كذلك.

حَجَر على معاذ مَالَه: أى منعن من التصرف فى ماله رضى اللَّه عنه.

وباعه: أى وباع الموجود من ماله.

فى دين كان عليه: أى فى قضاء دين لزمه رضى اللَّه عنه.

[البحث]

قال الدارقطنى فى سننه: نا عمر بن أحمد بن على المروزى نا عبد اللَّه ابن أبى جبير المروزى نا أبو إسحاق إبراهيم بن معاوية بن الفرات الخزاعى نا هشام بن يوسف قاضى اليمن عن معمر عن ابن شهاب عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حَجَرَ على معاذ مَالَه وباعه فى دَيْن كان عليه" قال الحافظ فى تلخيص الحبير: حديث كعب بن مالك: أنه صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع عليه ماله. الدارقطنى والحاكم والبيهقى من طريق هشام بن يوسف عن معمر عن الزهرى عن ابن كعب بن مالك عن أبيه بلفظ: حجر عن معاذ ماله وباعه فى دين كان عليه" وخالفه عبد الرزاق وعبد اللَّه بن المبارك عن معمر فأرسلاه ورواه أبو داود فى المراسيل من حديث عبد الرزاق مرسلا مطولا وسمى ابن كعب عبد الرحمن. قال عبد الحق: المرسل أصح من المتصل وقال ابن الطلاع فى الأحكام: هو حديث ثابت. وكان ذلك فى سنة تسع وحصل لغرمائه خمسة أسباع حقوقهم فقالوا:

ص: 193

يا رسول اللَّه بعه لنا قال: ليس لكم إليه سبيل اهـ.

هذا وقد روى سعيد بن منصور فى سننه عن عبد الرحمن بن كعب قال: كان معاذ بن جبل شابا سَخِيًّا وكان لا يمسك شيئا، فلم يزل يدَّانُ حتى اغْرِق مالُه كلُّه فى الدَّين، فأتى النبىَّ صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه، فلو تركوا لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فباع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لهم مالَه حتى قام معاذ بغير شئ" وقد عنون البخارى فى صحيحه فقال: باب من باع مال المفلس أو المُعْدِم فَقَسَمَه بين الغرماء أو أعطاه حتى ينفق على نفسه ثم ساق بسنده إلى جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه عنهما قال: أَعْتَقَ رجل غُلاما له عن دُبُر فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "من يشتريه منى؟ " فاشتراه نُعَيْمُ بنُ عبد اللَّه فأخذ ثمنه فدفعه إليه وفى لفظ للبخارى عن جابر رضى اللَّه عنه: أن رجلا أعتق عبدا له ليس له مال غيره فردَّه النبى صلى الله عليه وسلم فابتاعه منه نعيم بن النحام.

ص: 194

5 -

وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: عُرِضْتُ على النبى صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجِزْنى، وعُرِضْتُ عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنةً فأجازنى" متفق عليه. وفى رواية للبيهقى: فلم يُجِزنى ولم يرَنى بَلَغْتُ" وصححه ابن خزيمة.

[المفردات]

عرضت: "قوله قُدِّمتُ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أى لينظر إلىَّ ويعرف حالى وقدرتى هل أتمكن من القتال.

يوم أحد: أى فى غزوة أحد وكانت فى السنة الثالثة من الهجرة النبوية

ص: 194

وسميت غزوة أحد لأنها كانت بجوار جبل أحد.

فلم يجزنى: أى لم يأذن فى بالخروج للقتال فى أحد يعنى استصغر صلى الله عليه وسلم سنه رضى اللَّه عنه.

يوم الخندق: أى فى غزوة الخندق وكانت فى السنة الرابعة كما قال موسى بن عقبة وسميت غزوة الخندق لأن سلمان الفارسى رضى اللَّه عنه أشار على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فحفر الخندق بينه وبين المشركين.

فأجازنى: أى فأذن لى بالخروج للقتال.

للبيهقى وابن حبان: أى من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما.

صححه: أى صحح هذا الحديث يعنى رواية البيهقى المشتملة على الزيادة المذكورة.

[البحث]

إيراد هذا الحديث هنا لإفادة أن من شروط صحة العقد أن يكون العاقد جائز التصرف بكونه بالغا عاقلا غير سفيه، وإن كان الصبى المميز يجوز تدريبه بإذن وليه على المبايعات الصغيرة وقد أورد البخارى حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما هذا فى باب غزوة الخندق بلفظ: أن النبى صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يُجِزْه وعرضه. يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه" أما مسلم فرواه بلفظ: عرضنى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أحد فى القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزنى وعرضنى يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة ستة فأجازنى قال نافع

ص: 195

فقدمت على عمر بن عبد العزيز وهو يومئذ خليفة فحدثته هذا الحديث فقال: إن هذا لَحَد بين الصغير والكبير فكتب إلى عماله أن يَفْرِضُوا لمن كان ابن خمس عشرة سنة. ومن كان دون ذلك فاجعلوه فى العيال. وفى لفظ لمسلم: وأنا ابن أربع عشرة سنة فاستصغرنى. ومعنى قوله فى لفظ مسلم الأول: فكتب إلى عماله أن يفرضوا الخ أى أن يقدروا لهم رزقا فى ديوان الجند وكانوا يقرقون بين المقاتلة وغيرهم فى العطاء. وحديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما ظاهر الدلالة على أن من بلغ خمس عشرة سنة من عمره فى نُمُوِّ معتاد فإنه يعتبر مكلفا بالغا. كما أن من نبتت عانته أو احتلم وأنزل أو كان رجلا ونبت شاربه أو لحيته أو امرأة وحاضت أو برز ثديها فإن ذلك كله من أمارات البلوغ الذى يجعل صاحبه جائز التصرف ما لم يكن سفيها. وسيجئ مزيد بحث لهذا فى الحديث الذى يلى هذا الحديث.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن من بلغ خمس عشرة سنة كان جائز التصرف يعنى ما لم يكن سفيها.

2 -

أن من بلغ أربع عشرة سنة يُعَدُّ صغيرا.

ص: 196

6 -

وعن عطية القُرَظىِّ رضى اللَّه عنه قال عُرِضْنا على النبى صلى الله عليه وسلم يوم قُرَيْظَةَ فكان من أنبتَ قُتِلَ، ومن لم يُنْبِتْ خُلِّيَ سبيلُه، فكنت ممن لم ينبتْ فَخُلِّيَ سبيلى" رواه الخمسة وصححه ابن حبان والحاكم وقال على شرط الشيخين.

ص: 196

[المفردات]

عطية القرظى: قال ابن عبد البر: لا أقف على اسم أبيه اهـ وقد سكن عطية رضى اللَّه عنه الكوفة وقد روى عنه عبد الملك بن عمير ومجاهد بن جبر وكثير بن السائب. والقرظى بضم القاف وفتح الراء بعدها ظاء نسبة إلى قريظة وهم بطن من اليهود كانوا يسكنون فى المدينة المنورة بالحرة الشرقية الجنوبية. وكانوا قدموا إلى المدينة المنورة يلتمسون النبى الخاتم صلى الله عليه وسلم بما عرفوه من صفاته فى كتبهم فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللَّه على الكافرين.

عرضنا على النبى صلى الله عليه وسلم: أى ليقتلوا إن كانوا أنبتوا أو يخلوا إن كانوا لم ينبتوا.

يوم قريظة: أى غزوة قريظة وكانت بعد الانتهاء من غزوة الأحزاب يوم الخندق مباشرة بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم.

من أنبت قتل: قال ابن الأثير: أراد نبات شعر العانة فجعله علامة للبلوغ.

فَخلِّيَ سبيلى: أى لم يقتلونى.

[البحث]

روى البخارى فى صحيحه من حديث عائشة رضى اللَّه عنها قالت: لما رجع النبى صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السِّلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه السلام فقال: قد وضعتَ السِّلاح، واللَّه ما وضعناه

ص: 197

فاخرج إليهم، قال: فإلى أين؟ قال: ههنا وأشار إلى بنى قريظة فخرج النبى صلى الله عليه وسلم إليهم. اهـ وبعد أن حاصرهم صلى الله عليه وسلم نزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم فردَّه إلى سعد بن معاذ رضى اللَّه عنه فقبلوا ذلك. وقد روى البخارى من حديث أبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنه قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ فأرسل النبى صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتى على حمار فلما دنا من المسجد قال للأنصار: قوموا إلى سيدكم أو خيركم. فقال: "هؤلاء نزلوا على حكمك" فقال: تَقْتُلُ مَقَاتِلَتَهم وتَسْبى ذَرَارِئهم قال: "قضيت بحكم اللَّه وَرُبَّما قال: بكم الملِك. وفى لفظ للبخارى من حديث عائشة رضى اللَّه عنها قالت: أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له حِبَّان بن العَرِقَة، رماه فى الأكحل، فضرب النبى صلى الله عليه وسلم خيمة فى المسجد ليعوده من قريب فلما رجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل فأتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغُبار فقال: قد وضعتَ السلاح، واللَّه ما وَضعتُه، اخرج إليهم قال النبى صلى الله عليه وسلم: "فأين؟ " فأشار إلى بنى قريظة، فأتاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكمه فرد الحكم إلى سعد قال: فإنى أحْكم فيهم أن تُقْتَلَ المقاتِلَةُ. وأن تُسْبَى النساء والذرية. وأن تُقْسَمَ أموالهم" هذا وقد قال الحافظ فى تلخيص الحبير: حديث عطية القرظى: عرضنا على النبى صلى الله عليه وسلم يوم قريظة وكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلى سبيله فكنت ممن لم ينبت فخلى سبيلى" أصحاب السنن من حديث عبد الملك بن عمير عنه بلفظ: ومن لم

ص: 198

ينبت لم يقتل. وفى رواية: جعل فى السبى. وللترمذى: خلى سبيله. وله طرق أخرى عن عطية، وصححه الترمذى وابن حبان والحاكم وقال: على شرط الصحيح وهو كما قال: إلا أنهما لم يخرجا لعطية. وماله إلا هذا الحديث الواحد اهـ.

وقال الشوكانى فى نيل الأوطار: وقد أخرج نحو حديث عطية الشيخان من حديث أبى سعيد بلفظ: فكان يكشف عن مؤتزر المراهقين فمن أنبت منهم قتل، ومن لم ينبت جعل فى الذرارى" اهـ. وقد قال الحافظ فى تلخيص الحبير: حديث أن سعد بن معاذ حكم فى بنى قريظة فقتل مقاتليهم وسبى ذراريهم، فكان يكشف عن مؤتزر المراهقين، فمن أنبت منهم قتل ومن لم ينبت جعل فى الذرارى" متفق عليه دون قصة الإنبات من حديث أبى سعيد اهـ واللَّه أعلم. هذا وأهل العلم يكادون يجمعون على أن من نبتت عانته فقد بلغ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن من نبتت عانته تجرى عليه أحكام المكلفين.

2 -

جواز الاطلاع على العورة للضرورة.

ص: 199

7 -

وعن عمرو بن شعيب عن أبى عن جده رضى اللَّه عنهم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجوز لامرأة عَطِيَّةٌ إلا بإذن زوجها" وفى لفظ: "لا يجوز للمرأة أمرٌ فى مالها إذا مَلَكَ زوجُها عصمتها" رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذى وصححه الحاكم.

ص: 199

[المفردات]

عطية: أى هبة أو صدقة أو نحوهما.

أمر: أى تصرف.

عصمتها: أصل العصمة بكسر العين المنع والقلادة ويقال: ملك فلان عصمة فلانة إذا تَزَوَّجها فهى فى عصمته.

[البحث]

هذا الحديث كما رأيت من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفى الاحتجاج به خلاف مشهور تقدم ذكره أكثر من مرة قال الترمذى: ومن تكلم فى حديث عمرو بن شعيب إنما ضعفه لأنه يحدث عن صحيفة جده كأنهم رأوا أنه لم يسمع هذه الأحاديث من جده قال على بن عبد اللَّه: وذكر عن يحيى بن سعيد أنه قال: حديث عمرو بن شعيب عندنا واه اهـ. ولو صح سنده لكان معارضا بما هو أصح منه وأوثق فقد تواتر تصرف النساء فى أموالهن وهن متزوجات فى عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، بل أشار اللَّه تبارك وتعالى إلى أنه لا يحل للرجل من مال زوجته شئ إلا بطيب نفس منها وفى ذلك يقول عز وجل:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} بل أذنت الشريعة لها أن تتصدق من مال زوجها غير مفسدة له فقد روى البخارى ومسلم من حديث عائشة رضى اللَّه عنها قالت: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة فلها أجرها وللزوج بما اكتسب، وللخازن مثل ذلك" كما

ص: 200

روى البخارى ومسلم من حديث زينب امرأة عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنهما قالت: كنت فى المسجد فرأيت النبى صلى الله عليه وسلم فقال: تصدقن ولو من حليكن وكانت زينب تنفق على عبد اللَّه وأيتام فى حَجْرها فقالت لعبد اللَّه: سَلْ رسول صلى الله عليه وسلم أَيَجْزى عنى أن انفق عليك وعلى أيتامى فى حَجْرى من الصدقة؟ فقال: سلى انت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فانطلقت إلى النبى صلى الله عليه وسلم فوجدت امرأة من الأنصار على الباب، حاجتها مثل حاجتى فَمَرَّ علينا بلال، فقلنا: سل النبى صلى الله عليه وسلم أَيَجْزى عنى أن أنفق على زوجى وأيتام فى حجرى؟ وقلنا: لا تُخبِر بنا فدخل فسأله فقال: من هما؟ قال: زينب. قال: "أى الزيانب؟ " قال امراة عبد اللَّه قال: "نعم، لها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة" وحديث شراء عائشة رضى اللَّه عنه بريرة رضى اللَّه عنها وإعتاقها ثابت فى الصحيحن، وهذا كله يثبت عدم صحة حديث عمرو بن شعيب هذا على أن عبارة "إذا ملك زوجها عصمتها" فى تركيبها بحث فليس من فصيح اللغة أن يقال: ملك زوجها عصمتها. وإنما يقال: ملك الرجل عصمة المرأة إذا تزوجها إذ أن الرجل يملك عصمة المرأة بمجرد العقد. كما يقال: هى فى عصمته. وإذا فارقها قيل: خرجت من عصمته. هذا وقد أخرجه ابن ماجه من طريق الليث بن سعد عن عبد اللَّه بن يحيى (رجل من ولد كعب بن مالك) عن أبيه عن جده أن جدَّته خَيْرَةَ امراة كعب بن مالك أتت رسول اللَّه

ص: 201

صلى اللَّه عليه وسلم بِحُلِىٍّ لها فقالت: إنى تصدقت بهذا فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا يجوز للمرأة فى مالها إلا بإذن زوجها فهل استأذنت كعبا؟ قالت: نعم، فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى كعب بن مالك زوجها فقال: هل أذنت لخيرة أن تتصدق بحليها؟ فقال: نعم. فقبله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منها.

وقد ضعف فى الزوائد إسناده حيث قال: فى إسناده يحيى وهو غير معروف فى أولاد كعب.

وقد أشرت إلى الحديث الثابت فى حض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم النساء على الصدقة، وقال البخارى: وقال النبى صلى الله عليه وسلم: تصدقن ولو من حليكن. فلم يستثن صدقة الفرض من غيرها. فجعلت المرأة تلقى خُرصَها وسخابها.

هذا ولا شك أن الإسلام قد رفع عن المرأة أوضار أهل الجاهلية وقال: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} وقال عز وجل: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} واللَّه أعلم.

ص: 202

8 -

وعن قَبِيصَةَ بن مُخارِق الهلالى رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجلٍ تَحَمَّل حَمالَةً فحلت له المسألةُ حتى يصيبها ثم يُمسِك. ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألةُ حتى يصيب قِواما من

ص: 202

من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثةٌ من ذوى الحِجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقةٌ فحلت له المسألة" رواه مسلم.

[البحث]

قد تقدم هذا الحديث برقم فى "باب قسم الصدقات" وزاد فى آخره هناك: فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا" وقال: رواه مسلم وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان. ولعل المصنف أورد هذا الحديث هنا فى باب التفليس والحجر للإشعار بأنه لا بد فى ثبوت إفلاس المفلس من شهادة ثلاثة من ذوى الحجا من قومه أن فلانا أصابته فاقة، وليكون ذلك مبيحًا له سؤال الناس. وقد أشار البخارى رحمه الله إلى أن مجرد دعوى الإفلاس لا تكفى فى إجراء أحكام المفلسين على المدعى بل لا بد من تبين الإفلاس وثبوته فقد قال البخارى فى صحيحه فى باب إذا وجد ماله عند مفلس فى البيع والقرض والوديعة فهو أحق به قال: وقال الحسن: إذا أفلس وتبين لم يَجُزْ عتقه ولا بيعه ولا شراؤه" قال الحافظ فى الفتح: قوله" وقال الحسن: "إذا أفلس وتبين لم يجز عتقه ولا بيعه ولا شراؤه" أما قوله: وتبين فإشارة إلى أنه لا يمنع التصرف قبل حكم الحاكم اهـ واللَّه أعلم.

ص: 203