المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌باب حد الزانى

فقه الإسلام

شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام للحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله

تأليف

عبد القادر شيبة الحمد

عضو هيئة التدريس بقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة والمدرس بالمسجد النبوي الشريف

[الجزء الثامن]

ص: 284

‌كتاب الحدود

‌باب حد الزانى

ص: 252

1 -

عن أبى هريرة وزيد بن خالد الجهنى رضى اللَّه عنهما أن رجلا من الأعراب أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه أنشدك اللَّه إلا قضيت لى بكتاب اللَّه، فقال الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب اللَّه وأْذَنْ لى، فقال:"قل" قال: إن ابنى كان عَسِيفًا على هذا فزنى بامرأته، وإنى أُخْبِرْتُ أن على ابنى الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم، فأخبرونى أن ما على ابنى جَلْدُ مائة وتغريبُ عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: والذى نفسى بيده لأقْضِيَنَّ بينكما بكتاب اللَّه: الوليدةُ والغنم رَدٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أُنَيْسُ إلى امرأة هذا فإن اعترفت فَارْجُمْهَا" متفق عليه. وهذا اللفظ لمسلم.

[المفردات]

الحدود: هى جمع حد: قال الحافظ فى الفتح: وأصل الحد ما يحجر بين شيئين فيمنع اختلاطهما، وحد الدار ما يميزها، وحد الشئ وصفه المحيط به المميز له عن غيره اهـ ويطلق الحد على العقوبة المقدرة شرعا، والجرائم التى حددت الشريعة العقوبة فيها

ص: 252

وقدرتها هى الزنا، والقذف به، والسرقة، وشرب الخمر، والردة، والحرابة ما لم يتب قبل القدرة. وسميت العقوبة على هذه الجرائم حدا إما لأنها مقدرة لا تجوز الزيادة عليها أو النقص منها، وإما لأن الأصل فيها أن تمنع المعاودة. قال الحافظ فى الفتح: قال الراغب: وتطلق الحدود ويراد بها نفس المعاصى كقوله تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} وعلى فعل فيه شئ مقدر ومنه {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وكأنها لما فصلت بين الحلال والحرام سميت حدودا. فمنها ما زجر عن فعله ومنها ما زجر من الزيادة عليه والنقصان منه. وأما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فهو من الممانعة، ويحتمل أن يراد استعمال الحديد إشارة إلى المقاتلة اهـ.

الزانى: هو المسافح وهو الذى يواقع امرأة من غير نكاح ولا ملك ولا شبهة.

من الأعراب: أى من سكان البادبة.

أنشدك اللَّه: أى أسألك باللَّه. قال الحافظ فى الفتح: وضمن أنشدك معنى أذكرك فحذف الباء أى أذكرك رافعا نشيدتى أى صوتى، هذا أصله، ثم استعمل فى

ص: 253

كل مطلوب مؤكد، ولو لم يكن هناك رفع صوت اهـ.

إلا قضيت لى بكتاب اللَّه: أى لا أسألك إلا القضاء بكتاب اللَّه وحكم اللَّه ولا أترك السؤال إلا إذا فصلت بيننا. قال الحافظ فى الفتح: قيل: فيه استعمال الفعل بعد الاستثناء بتأويل المصدر وان لم يكن فيه حرف مصدرى لضرورة افتقار المعنى إليه، وهو من المواضع التى يقع فيها الفعل موقع الاسم ويراد به النفى الحصور فيه المفعول، والمعنى هنا: لا أسألك إلا القضاء بكتاب اللَّه، ويحتمل أن يكون "إلا" جواب القسم لما فيه من معنى الحصر، وتقديره: أسألك باللَّه لا تفعل شيئا إلا القضاء، فالتأكيد إنما وقع لعدم التشاغل بغيره لا لأن لقوله بكتاب اللَّه مفهوما اهـ.

فقال الآخر: أى فقال رجل آخر جاء معه ليتخاصما إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وهو أفقه منه: أى وهو أكثر فهما من الأعرابى الذى جاء معه وتكلم أولا. قيل إنما حكم الراوى عليه بأنه أفقه من المتكلم أولا لمعرفته بهما قبل ذلك، وقيل: لعل الراوى فهم ذلك استدلالا بحسن أدبه فى السؤال

ص: 254

وطلبه الاستئذان قبل الكلام، وعدم رفع صوته عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وَأْذَنْ لِى: أى واسمح لى بالكلام.

قل: أى تكلم.

إن ابنى كان عسيفا على هذا: أى إن ولدى كان أجيرا عند هذا المتكلم أولا، والعسيف كالأجير وزنا ومعنى والتعبير بقوله "على" إما لثبوت أجرته عليه أو لعل الزوجة كانت أجبرت زوجها على استئجار هذا العسيف لخدمتها. أو ضَمَّنَ "على" معنى "عند".

فزنى بامرأته: أى ارتكب معها جريمة الزنا.

وإنى أخبرتُ أن على ابنى الرجم: أى وإنه قد أخبرنى بعض الناس من غير أهل العلم أن ولدى يستحق الرجم بسبب زناه بامرأة هذا الرجل.

فافتديت منه بمائة شاة ووليدة: أى أنقذت ابنى من الرجم بأن دفعت لزوج المرأة مائة من الغنم وجارية على زعم أن الرجم حق لزوج المزنى بها وهو ظن باطل وزعم فاسد ممن أفتاه بذلك.

فسألت أهل العلم: أى كنت غير مطمئن لفتوى هؤلاء المفتين أولا حتى عرفت أهل العلم والمعرفة بشريعة اللَّه فقصصت عليهم القصة واستفتيتهم فى ذلك،

ص: 255

قال الحافظ فى الفتح: لم أقف على أسمائهم، ولا على عددهم، ولا على اسم الخصمين ولا الابن ولا المرأة اهـ.

فأخبرونى أن ما على ابنى جلد مائة وتغريب عام: أى أفتونى بأن ولدى يستحق أن يجلد مائة جلدة وأن ينفى سنة لأنه بكر.

وأن على امرأة هذا الرجم: أى وأن امرأة هذا الرجل تستحق الموت رجما بالحجارة يعنى إن أقرت بالزنا لأنها ثيب، والزانى الثيب حده الرجم.

والذى نفسى بيده: أى واللَّه الذى روحى بقبضته.

لأقضين بينكما بكتاب اللَّه: أى لأحكمنَّ بينكما بما كتب اللَّه من الشرع فى حق الزانى البكر والثيب.

الوليدة والغنم رد عليك: أى الجارية والغنم التى دفعتها لزوج المرأة مردودة عليك لا يستحقها فاستردها منه إن كنت دفعتها له.

وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام: أى وحد ابنك أن يجلد مائة جلدة وأن ينفى سنة.

واغد يا أنيس إلى امرأة هذا: أى واذهب وتوجه يا أنيس إلى زوجة هذا الرجل وهى التى ذكر أن العسيف زنى بها، وأنيس قال الحافظ فى الفتح: وقال ابن عبد البر: هو ابن الضحاك الأسلمى وقيل: ابن مرثد اهـ وقد زعم بعض الناس أنه أنس بن مالك وقد صغر لأن الذى

ص: 256

أمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالغدو على المرأة أسلمى فقد جاء فى بعض ألفاظ الحديث الصحيح: وأما أنت يا أنيس -لرجل من أسلم- فاغد وفى لفظ: وأمر أنيسا الأسلمى يأتى امرأة الآخر. وفى لفظ: ثم قال لرجل من أسلم يقال له أنيس: قم يا أنيس فسل امرأة هذا.

فإن اعترفت فارجمها: أى فإن أقرت بزنا العسيف بها فأقم عليها الحد برجمها بالحجارة حتى تموت.

[البحث]

أورد البخارى هذا الحديث بلفظ عن أبى هريرة وزيد بن خالد قالا: كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشُدُكَ اللَّهَ إلا قضيت بيننا بكتاب اللَّه، فقام خصمه وكان أفقه منه فقال: اقض سننا بكتاب اللَّه وأذن لى. قال: "قل" قال: إن ابنى كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فافتديت منهِ بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالا من أهل العلم فأخبرونى أن على ابنى جلد مائة وتغريب عام وعلى امرآته الرجم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:"والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب اللَّه جل ذكره، المائة شاة والخادم رَدٌّ، وعلى ابنك جلدُ مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" فغدا عليها فاعترفت فرجمها. وفى بعض نسخ البخارى فى هذا الحديث: إن ابنى هذا كان عسيفا على هذا. وفى لفظ

ص: 257

للبخارى: إذ قام رجل من الأعراب. وفى لفظ للبخارى من طريق عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود عن أبى هريرة وزيد بن خالد أنهما أخبراه أن رجلين اختصما إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب اللَّه وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول اللَّه فاقض بيننا بكتاب اللَّه وأذن لى أن أتكلم، فقال:"تكلم" الحديث أما مسلم فقد أورده بقريب من اللفظ الذى ساقه المصنف، إذ عند مسلم:"فقال الخصم الآخر"؛ أن لفظ مسلم: "الوليدة والغنم رد" ولم يذكر كلمة "عليك" التى ساقها المصنف. وتمام الحديث عند مسلم كذلك: قال: فغدا علها فاعترفت فأمر بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

استحباب استئذان الحاكم أو المفتى فى الكلام قبل عرض الدعوى أو السؤال.

2 -

تفاوت الناس فى الفقه والفهم.

3 -

جواز استئجار الحر.

4 -

وجوب الاحتياط عند العمل الذى قد يؤدى إلى الاختلاط.

5 -

أن بعض الناس قد يفتى بغير علم حتى فى القرون المفضلة.

6 -

نقض الفتوى إذا خالفت قواعد الشرع وأحكامه.

7 -

لا ينبنى على الصلح الفاسد أحكام بل يبطل الصلح وما ترتب عليه.

ص: 258

8 -

لا يجوز الصلح لإسقاط الحدود.

9 -

حد الزانى الحر البكر جلد مائة وتغريب عام.

10 -

حد الثيب الزانى الرجم.

11 -

أن الرجم حق فى شرع اللَّه وكتابه.

12 -

يجوز للامام أن يأمر غيره بإقامة الحد.

13 -

أن الإقرار حجة قاصرة على المقر.

14 -

أن من اعترف بالزنا أقيم عليه الحد.

15 -

وجوب الرجوع إلى كتاب اللَّه نصا أو استنباطا.

16 -

جواز الحلف على الشئ لتأكيده.

17 -

جؤاز الحلف من غير استحلاف.

18 -

ينبغى للحاكم أن يتغاضى عما قد يبدر من أحد الخصمين كرفع الصوت ونحوه.

19 -

جواز أن يأذن الحاكم لمن يشاء من الخصمين فى الكلام.

20 -

أن المرأة المخدرة التى لا تعتاد البروز لا تكلف الحضور لمجلس الحكم بل ينيب الحاكم من يسمع كلامها وإن كانت منسوبة إلى فعل فاحشة.

ص: 259

2 -

وعن عبادة بن الصامت رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خذوا عنى، خذوا عنى، فقد جعل اللَّه لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة، والثيب بالثيب جلد مائة

ص: 259

والرجم" رواه مسلم.

[المفردات]

خذوا عنى خذوا عنى: أى تَلَقَّوْا هذا الحكم منى واحفظوه، فقد جعل اللَّه لهن سبيلا: أى فقد بيَّن اللَّه تبارك وتعالى السبيل الذى أجمله فى قوله عز وجل: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} ونسخ به ما كان شرعه فى حق اللائى يأتين الفاحشة من النساء بقوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} .

البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة: أى حد زنا البكر بالبكر أن يضرب كل واحد مهما مائة جلدة وأن يُغرَّب عاما والمراد بالبكر هنا هو من لم يجامع فى نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل.

والثيب بالثيب جلد مائة والرجم: أى وحد زنا الثيب أن يضرب مائة جلدة وأن يرجم بالحجارة حتى يموت. والمراد بالثيب هنا هو الحر البالغ العاقل المجامع فى نكاح صحيح.

[البحث]

قوله "البكر بالبكر" إنما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له فلو زنى بكر

ص: 260

بثيب أو ثيب ببكر فإن حد الثيب غير حد البكر فلكل واحد منهما حده الذى بينه الحديث الأول من أحاديث هذا الباب وكذلك قوله: "الثيب بالثيب". وإنما جاء التعبر بهذا الأسلوب لأن الغالب أن يكون زنى البكر بالبكر وزنى الثيب بالثيب. وأما قوله فى الثيب "جلد مائة والرجم" فالظاهر أنه قد نسخ جلد الثيب قبل رحمه، بدليل الحديث الأول من أحاديث هذا الباب فإنه لم يأمر بجلد التى زنى بها العسيف وإنما جعل حدها الرجم فقط كما أنه رجم ماعزا والغامدية والجهنية واليهودى واليهودية ولم يثبت بخبر صحيح أنه جلدهم قبل الرجم.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن حد الزانى البكر هو جلد مائة وتغريب عام.

2 -

وجوب الرجم للزانى الثيب حتى يموت.

3 -

أن هذا هو السبيل الذى وعد اللَّه تبارك وتعالى بجعله للاتى يأتين الفاحشة من النساء ونسخ حبسهن فى البيوت حتى الموت.

ص: 261

3 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: أتى رجل من المسلمين رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو فى المسجد فناداه فقال: يا رسول اللَّه إنى زنيت، فأعرض عنه حتى تلقاء وجهه فقال: يا رسول اللَّه إنى زنيت، فأعرض عنه حتى ثَنَى ذلك عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"أبك جنون؟ " قال: لا. قال: " فهل أحصنت؟ " قال: نعم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:"اذهبوا به فارجموه" متفق عليه.

ص: 261

[المفردات]

أتَى رجلٌ من المسلمين: أى جاء رجل من أهل الإسلام وهو ماعز بن مالك الأسلمى رضى اللَّه عنه. قيل: اسمه عريب ولقبه ماعز.

وهو فى المسجد: أى ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمسجد النبوى.

إنى زنيت: أى ارتكبت جريمة الزنا.

فأعرض عنه: أى فنحىَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجهه عن جهة الرجل الذى اعترف بالزنا إلى جهة أخرى.

فتنحىَّ تلقاء وجهه: أى فتحول الرجل من الجانب الذى أعرض عنه النبى صلى الله عليه وسلم إلى الجانب الذى أقبل عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

حتى ثَنَى ذلك عليه أربع مرات: أى حتى ردَّدَ كرر الاعتراف عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أربع مرات. "وثنى" بفتح الثاء والنون المخففة من الثنى بمعنى التكرير والترديد والترجيع.

فلما شهد على نفسه أربع شهادات: أى فلما أقر على نفسه بالزنا أربع مرات.

دعاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أى ناداه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليقبل عليه.

فقال: "أبك جنون؟ ": أى فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هل أنت مصاب بمرض عقلى؟ .

قال: لا: أى قال الرجل للنبى صلى الله عليه وسلم: لست مجنونا.

قال: فهل أحصنت: أى قال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هل تزوجت وواقعت

ص: 262

زوجتك؟ .

قال: نعم: أى قال الرجل: نعم تزوجت وصرت محصنا.

اذهبوا به فارجموه: أى خذوه وارموه بالحجارة حتى يموت.

[البحث]

أخرج البخارى من حديث جابر بن عبد اللَّه الأنصارى أن رجلا من أسلم أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فحدثه أنه قد زنى، فشهد على نفسه أربع شهادات فأمر به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرُجِمَ وكان قد أُحْصِنَ. وقد روى البخارى ومسلم عن ابن شهاب عن أبى سلمة بن عبد الرحمن ابن عوف وسعيد بن المسيب عن أبى هريرة نحو حديث الباب الذى ساقه المصنف وفيه بعد قوله صلى الله عليه وسلم:"اذهبوا فارجموه" قال ابن شهاب: فأخبرنى من سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: فكنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى فلما أذلقته الحجارة هرب فأدركناه بالحرة فرجمناه. وفى لفظ للبخارى من حديث جابر: أن رجلا من أسلم جاء النبى صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا فأعرض عنه النبى صلى الله عليه وسلم حتى شهد على نفسه أربع مرات. قال له النبى صلى الله عليه وسلم: "أبك جنون؟ " قال: لا. قال: "أحصنت؟ " قال: نعم، فأمر به فرجم بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة فَرَّ، فَأُدْرِكَ، فرُجِمَ حتى مات، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم خيرا، وصلى عليه. وفى لفظ لمسلم من حديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لماعز بن مالك:"أحق ما بلغنى عنك؟ " قال: وما بلغك عنى؟ قال:

ص: 263

"بلغنى أنك وقعت بجارية آل فلان" قال: نعم، قال: فشهد أربع شهادات ثم أمر به فرجم. كما أخرج مسلم من حديث جابر بن سمرة قال: رأيت ماعز بن مالك حين جئ به إلى النبى صلى الله عليه وسلم رجل قصير أعضلُ ليس عليه رداء فشهد على نفسه أربع مرات أنه زنى فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فلعلك؟ " قال: لا واللَّه إنه قد زنى الأخِر قال: فرجمه، ثم خطب فقال:"ألا كلما نفرنا غازين فى سبيل اللَّه خَلَفَ أحدُهم له نَبِيبٌ كنبيب التيس يمنح أحدهم الكثبة أما واللَّه إن يُمْكِنِّى من أحدهم لَأنَكِّلنَّهُ عنه" ومعنى قوله فى حديث جابر بن سمرة "الأخر" أى الأبعد قال ابن الأثير: الأخر بوزن الكبد هو الأبعد المتأخر عن الخير اهـ وقوله: له نبيب أى توقان وشدة شهوة وأصل النبيب صوت التيس عند السِّفاد ومعنى: يمنح أحدهم الكثبة أى يخدع المغيبة بقليل من مائه. ويمنح أى يعطى والكثبة هى القليل فن اللبن وغيره. كما روى مسلم من حديث أبى سعيد رضى اللَّه عنه أن رجلا من أسلم يقال له ماعز بن مالك أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إنى أصبت فاحشة فأقمه علىَّ، فرده النبى صلى الله عليه وسلم مرارا، قال: ثم سأل قومه فقالوا: ما نعلم به بأسا، إلا أنه أصاب شيئا يرى أنه لا يخرجه منه إلا أن يقام فيه الحد. قال: فرجع إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نرجمه، قال: فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد قال: فما أوثقناه ولا حفرنا له، قال: فرميناه بالعظم، والمدر، والخزف، قال: فاشتد واشتددنا خلفه، حتى أتى عُرض الحرة

ص: 264

فانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة (يعنى الحجارة) حتى سكت. قال: ثم قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطيبا من العشىِّ فقال: "أوَكلما انطلقنا غُزَاة فى سبيل اللَّه تحلف رجل فى عيالنا له نبيب كنبيب التيس؟ علىَّ أن لا أوتى برجل فعل ذلك إلا نكلت به. قال: فما استغفر له ولا سبه. وأخرج مسلم من طريق سليمان بن بريدة عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه طهرنى فقال: ويحك ارجع فاستغفر اللَّه وتب إليه، قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول اللَّه طهرنى فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ويحك ارجع فاستغفر اللَّه وتب إليه" قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول اللَّه طهرنى فقال النبى صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فيم أطهرك؟ قال: من الزنى، فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أبه جنون؟ " فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: "أشرب خمرا؟ " فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر. قال فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أزنيت؟ " فقال: نعم. فأمر به فرجم الحديث.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن الزنا وهو من أكبر الكبائر لا يخرج الزانى من الإِسلام.

2 -

أن الإِقرار بالزنا أربع مرات.

3 -

لا عبرة بإقرار المجنون والسكران.

ص: 265

4 -

ينبغى درء الحد بقدر الاستطاعة.

5 -

وجوب رجم الزانى المحصن.

6 -

أنه لا جلد مع الرجم للزانى المحصن.

7 -

صيانة الأعراض والدماء.

ص: 266

4 -

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: لما أتى ماعز بن مالك إلى النبى صلى الله عليه وسلم قال له: "لعلك قَبَّلتَ أو غَمَزْتَ أو نظرتَ؟ " قال: لا يا رسول اللَّه. رواه البخارى.

[المفردات]

لما أتى ماعز بن مالك إلى النبى صلى الله عليه وسلم: أى لما جاء ماعز بن مالك إلى النبى صلى الله عليه وسلم ليقر أمامه بالزنا حتى يقام عليه الحد.

قال له: أى قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لماعز رضى اللَّه عنه.

لعلك قبَّلْتَ أو غمزت أو نظرت؟ : أى لعلك لم يقع منك الزنا الحقيقى وهو المسافحة وإنما أطلقتَ الزنا على القبلة أو الغمز أو النظر إذ أن زنا الفم التقبيل وزنا العين النظر، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه والحد إنما يجب بالوقاع والفجور والمسافحة. والغمز هو الإشارة كالرمز بالعين والحاجب، ويطلق على الجس واللمس

ص: 266

باليد أيضا.

[البحث]

روى البخارى فى صحيحه من طريق ابن عباس عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم: إن اللَّه كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تَمَنَّى وتشتهى، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه. وقد أخرجه مسلم أيضا من طريق ابن عباس عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم بلفظ البخارى إلا أنه قال:"فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق" وقال: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" كما أخرجه مسلم من طريق أبى صالح عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: كُتِبَ على ابن آدم نَصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يَهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه اهـ ولما أُطْلِقَ لفظُ الزنا على هذه الأعمال، وأقر ماعز على نفسه بالزنا سأله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقوله "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ " احتياطا لصيانة دمه، وتأكيدا لصحة إقراره، وسلامته، وليدرأ الحد ما استطاع، فصلوات اللَّه عليه وسلامه ورحمته وبركاته.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن النظر إلى امرأة لا تحل قد يسمى زنا ولكنه لا حد فيه وكذلك الغمز والتقبيل.

ص: 267

2 -

أنه يجب على الحاكم أن لا يعاجل المقر بالزنا بإقامة الحد عليه حتى يتأكد من صحة إقراره.

3 -

حرص الشريعة الإسلامية على صيانة الدماء والأعراض.

ص: 268

5 -

وعن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه أنه خطب فقال: "إن اللَّه بعث محمدا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل اللَّه عليه آية الرجم، قرأناها، ووعيناها، وعقلناها، فرجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمانٌ أن يقول قائل: ما نجد الرجم فى كتاب اللَّه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللَّه، وإن الرجم حق فى كتاب اللَّه على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف" متفق عليه.

[المفردات]

خطب: أى تحدث إلى الناس يوم الجمعة من فوق منبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى أول خطبة جمعة خطبها بعد أن قدم من الحج سنة ثلاث وعشرين، وقبل استشهاده رضى اللَّه عنه بزمن قليل.

بعث محمدا بالحق: أى أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بالدين الثابت القيم.

الكتاب: أى القرآن وبيانه.

ص: 268

آية الرجم: أى آية فيها حكم رجم المحصن من الرجال والنساء سواء كانوا شبابا أو شيوخا، ولم ينقل لنا بالتواتر لفظ الآية التى أشار إليها عمر رضى اللَّه عنه ولا شك أنه لا تثبت القرآنية إلا بالنقل المتواتر أما ما نقل آحادا فلا تثبت به القرآنية.

ولا شك أنه قد نسخ اللفظ الذى أثبت حكم الرجم وبقى الحكم ثابتا بإجماع أهل السنة والجماعة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضى اللَّه عنهم.

قرأناها: أى تلونا آية الرجم عند نزولها وقبل نسخ لفظها.

ووعيناها: أى وحفظنا المراد منها.

وعقلناها: أى وضبطاها ضبطا، وفهمناها فهما.

فرجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أى ونفذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حكم الرجم فى الزانى المحصن والزانية المحصنة إذ رجم ماعزا والغامدية والجهنية والتى زنى بها العسيف واليهودى واليهودية.

ورجمنا بعده: أى ونفذنا نحن حكم الرجم بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم ينكره أحد من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

فأخشى إن طال بالناس زمان: أى فأخاف إن تقادم العهد وتطاول الزمان على الناس بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

أن يقول قائل: ما نجد الرجم فى كتاب اللَّه: أى أن يدعى

ص: 269

إنسان أن الرجم غير مشروع لأنه ليس بموجود فى القرآن نصا. وقد وقع ما توقعه الخليفة الراشد الملهم المحدث عمر رضى اللَّه عنه فقد أنكر الرجم بعض أهل الأهواء وزعموا أنه ليس بموجود فى القرآن.

فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللَّه: أى فينخرفوا عن الصراط المستقيم بإنكار حد من حدود اللَّه تعالى التى شرعها وأنزل حكمها.

وإن الرجم حق فى كتاب اللَّه: أى وإن الرجم ثابت قد جاء فى القرآن فى قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} فهو السبيل الذى ذكره اللَّه عز وجل مجملا وبينه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأنه جلد البكر ورجم الثيب.

إذا أحصن من الرجال والنساء: أى كان رجلا بالغا عاقلا حرا قد تزوج تزويجا صحيحا وجامع زوجته أو كانت امرأة حرة بالغة عاقلة قد تزوجت تزويجا صحيحا وجامعها زوجها.

إذا قامتَ البينة: أى إذا ثبت الزنا بشهادة أربعة من الشهداء الذين يثبت بشهادتهم حد الزنا.

أو كان الحبل: أى أو كانت المرأة وجدت حبلى من غير زوج ولم تدع أنها استكرهت أو كانت نائمة أو نحو ذلك

ص: 270

ولم تدع أية شبهة تدرأ عنها الحد.

أو الاعتراف: أى أو إقرار من زنى على نفسه إقرارا صحيحا خاليا من الشبهات.

[البحث]

أخرج البخارى رحمه الله هذا الحديث مطولا فى "باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت" من طريق ابن شهاب عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال: كنت أُقْرِئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا فى منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب فى آخر حجة حجها إذ رجع إلىَّ عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك فى فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا؟ فواللَّه ما كانت بيعة أبى بكر إلا فَلتة فتمت، فغضب عمر، ثم قال: إنى إن شاء اللَّه لقائم العشية فى الناس فَمُحَذِّرُهُمْ هؤلاء الذين يريدون أن يغْصِبُوهُم أمورهم، قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإن الموسم يجمع رَعَاعَ الناس وَغَوغَاءَهُم، فإنهم هم الذين يغلبُون على قربك حين تقوم فى الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يُطرهَا عنك كلُّ مُطَيِّر، وأن لا يعوهَا، وأن لا يَضَعُوهَا على مواضعها، فأمهل حتى تقْدَمَ المدينة، فإنها دار الهجرة والسُّنَّة، فَتَخْلُصَ بأهْل الفِقه وأشراف الناس، فتقول ما قلتَ مُتَمَكِّنًا، فَيعى أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها، فقال عمر: أما واللَّه إن شاء اللَّه لأقومن بذلك أوَّل مَقَالح أقومُهُ بالمدينة. قال ابن عباس

ص: 271

فقدمنا المدينة فى عقِبِ ذى الحجة، فلما كان يومُ الجمعة عَجَّلْنَا الرَّواحَ حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل جالسا إلى ركن المنبر، فجلست حوله تَمَسُّ رُكْبَتى رُكْبَتَهُ، فلم أنشَبْ أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: لَيَقُولَنَّ العَشِيَّةَ مَقَالَةً لم يَقُلْهَا مُنذُ استُخْلِفَ. فأنكر عَلَىَّ وقال: ما عَسَيتَ أن يقول ما لم يقل قبله؟ فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على اللَّه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فإنى قائل لكم مقالة قد قُدِّرَ لى أن أقولها، لا أدرى لعلها بين يدى أجلى، فمن عقلها ووعاها فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حيث انتهت به راحلته ومن خَشِىَ أن لا يَعْقِلَهَا فلا أحِلُّ لأحد أن يكذب علىَّ. إنْ اللَّه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل اللَّه آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها رجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللَّه ما نجد آية الرجم فى كتاب اللَّه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللَّه، والرجم فى كتاب اللَّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحَبَلُ، أو الاعتراف ثم إنا كنا نقرأ من كتاب اللَّه: أن لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن أبائكم أو إن كفرًا بكم أن ترغبوا عن آبائكم، ألا ثُمَّ إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: لا تُطرونى كما أطْرِىَ عيسى بن مريم، وقولوا: عبد اللَّه ورسوله" ثم إنه بلغنى أن قائلا منكم يقول: واللَّه

ص: 272

لو مات عمر بايعتُ فلانا، فلا يَغْتَرَّنَّ امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبى بكر فلتة وتمت، أَلَا وإنها قد كانت كذلك، ولكنَّ اللَّه وَقَى شَرَّهَا، وليس منكم مَنْ تُقْطعُ الأعْنَاقُ إليه مثل أبى بكر، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايَعُ هو ولا الذى بَايعَهُ تَغِرَّةَ أن يقتلا، وإنه قد كان من خبرنا حين توفى اللَّه نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم إلا أن الأنصار خَالَفُونَا، واجتمعوا بِأسْرِهم فى سقيفة بنى ساعدة، وخالف عنا علىٌ والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبى بكر، فقلت لأبى بكر: يا أبا بكر انطَلِقْ بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلما دَنَوْنَا منهم لَقِيَنَا منهم رجلان صالحان فذكرا ما تَمَالَى عليه القوم فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقْرَبُوهُمْ، اقْضُوا أمْرَكُمْ، فقلت: واللَّه لَنَاتِيَنَّهُمْ، فانطلقنا حتى أتيناهم فى سقيفة بنى ساعدة، فإذا رجل مُزَمَّلٌ بين ظَهْرَانَيْهِمْ، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد ابن عُبادة، فقلت: ماله؟ قالوا: يُوعَكُ، فلما جَلَسْنَا قليلا تَشَهَّدَ خَطيبُهُمْ، فأثنى على اللَّه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فَنَحنُ أنصار اللَّه وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفَّتْ دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يَحْضنُنُونا من الأمر فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زَوَّرْتُ مَقَاَلَة أعجبتنى أريد أن أُقَدِّمَهَا بين يدى أبى بكر، كنت أدارى منه بعض الحدِّ، فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رِسْلِكِ، فكرهت أن اُغْضبَهُ، فتكلم أبو بكر فكان هو أحْلَمَ منى وأوقَرَ، واللَّه ما ترك من

ص: 273

كلمة أعجبتنى فى تزويرى، إلا قال فى بَدِيهَتِهِ مِثْلَهَا أو افْضَلَ منها حتى سَكَتَ فقال: "ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعْرَفَ هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش، هم أوسط العرب نَسَبًا ودارًا، وقد رَضِيت. لكم أحد هذين الرجلين، فَبَايِعُوا أيَّهُمَا شئتم، فأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا فلم أكْرَهْ مما قال غيرها. كان واللَّه أن أقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِى لا يُقَرِّبُنى ذلك من إثم أحبَّ إلىَّ من أن أتَأمَّرَ على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تُسَوِّلَ إلىَّ نفسى عند الموت شيئا لا أجدُه الآن، فقال قائلُ الأنصار: أنا جُذَيْلُهَا المُحَكَّكُ، وعُذَيْقُهَا المُرَجَّبُ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فَكَثُرَ اللَّغَطُ، وارتفعت الأصوات، حتى فَرِقْتُ من الاختلاف فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فَبَايَعْتُهُ وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار، ونَزَونَا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قَتَلَ اللَّه سعدَ بن عبادة، قال عمر: وإنا واللَّه ما وجدنا فيما حَضَرْنَا من أمر أقوى من مبايعة أبى بكر، خشينا إن فَارَقْنَا القومَ ولم تكن بيعةٌ أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما نرضى وإما نخالفهم فيكون فسادا، فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يُتَابَعُ هو ولا الذى بَايَعَة تَغِرَّةَ أن يُقْتَلَا. اهـ هذا وقد روى البخارى من طريق سلمة بن كهيل قال: سمعت الشعبى يحدث عن على رضى اللَّه عنه حين رجم المرأة يوم الجمعة وقال: قد رجمتها بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وقد وهم المجد

ص: 274

ابن تيمية فى المنتقى فنسب إلى البخارى أنه أخرج حديث الشعبى عن على بلفظ: أن عليا رضى اللَّه عنه حين رجم المرأة ضربها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال: جلدتها بكتاب اللَّه ورجمتها بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اهـ وليس فى البخارى الجمع بين الرجم والجلد فى حديث الشعبى عن على اللَّه أعلم.

[ما يفيده الحديث]

1 -

ثبوت الرجم على الزانى المحصن وأنه حق من عند اللَّه تعالى.

2 -

أن الرجم قد جاء فى آية نسخت وبقى حكمها الذى أثبته بعد نسخها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

3 -

أنه لا يطعن على ثبوت حكم الرجم أحد من أهل السنة والجماعة.

4 -

أن إجماع أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ثبوت حكم الرجم.

5 -

أن ذهاب بعض أهل الأهواء من الجاهلين إلى إنكار الرجم هو ما توقعه الخليفة الراشد المُلْهَمُ المحدَّثُ أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضى اللَّه عنه.

6 -

لا يجوز أن يثبت فى المصحف شئ منسوخ التلاوة.

7 -

حرص أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على تثبيت أصول الشريعة وحدودها وأحكامها.

8 -

أن من وجدت حبلى بلا زوج ولم تدع شبهة فى أسباب حملها يثبت عليها الحد.

9 -

أنه إذا قامت البينة على محصن بأنه زنى فإنه يرجم.

10 -

أنه إذا اعترف المحصن على نفسه بالزنا رجم.

ص: 275

6 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا زنت أَمَةُ أحدكم فتبين زناها فَلْيَجْلِدْهَا الحدَّ، ولا يُثَرِّب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحدّ ولا يُثَرِّبْ عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فَلْيَبِعْهَا ولو بحَبْل من شَعَر" متفق عليه وهذا لفظ مسلم.

[المفردات]

إذا زنت أمة أحدكم: أى إذا ارتكبت مملوكة أحدكم جريمة الزنا.

فتبين زناها: أى فتحقق منها الزنا وثبت بالبينة أو الاعتراف.

فليجلدها الحد: أى فليعمل على إقامة حد الزنا عليها الثابت بقوله تعالى فى حق الإِماء. {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} والمراد بالفاحشة فى الآية الزنا والمراد بالمحصنات فيها الحرائر والذى يمكن تنصيفه من الحد هو الجلد فتجلد الأمة خمسين جلدة إذا زنت.

ولا يُثَرِّبْ عليها: أى ولا يُعَنِّفْهَا ولا يُعَيِّرْهَا بعد إقامة الحد عليها. فالتثريب اللوم والتعنيف والتعيير والتوبيخ.

ثم إن زنت فليجلدها الحد: أى ثم إن وقع منها الزنا مرة ثانية فليعمل على إقامة الحد عليها.

فليبعها ولو بِحَبْل من شَعَر: أى فليبعها ولو بثمن بخس، إذ أن

ص: 276

مثلها لا يحرص عليه، ولعلها إذا بيعت بسبب تكرير الزنا منها ترتدع وتبتعد عن معاودة ارتكاب هذه الجريمة.

[البحث]

ليس المراد من بيع الأمة إذا تكرر زناها هو التخلص منها ولو ببلوى غيره بها إذ أن المعلوم من قواعد الشريعة أنه لا يحل للمسلم أن يبيع شيئا معيبا دون أن يبين للمشترى ما فيه من العيب، والمفهوم من قوله عليه السلام:"ولو بحبل من شعر" أن البائع يبين عيبها للمشترى ولذلك يكون ثمنها زهيدا إذ أن بعض الناس قد يكون أقدر على صيانة أمته من الوقوع فى الجريمة أكثر من غيره وأن يكون أقدر على إعفافها من البائع. وذكر الحبل من الشعر إنما هو للمبالغة فى الحرص على عدم معاشرة من عرفت بالفسق من الإِماء مع عجزه عن صيانتها، إذ أن حبل الشعر لا يكون ثمنا لأمة وإنما هو على حد قوله صلى الله عليه وسلم:"من بنى للَّه مسجدا ولو كمفحص قطاة" لأن قدر المفحص لا يتمكن أحد من اتخاذه مسجدا. وقد أورد البخارى رحمه الله هذا الحديث فى باب "إذا زنت الأمة" من طريق مالك عن ابن شهاب عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه عن أبى هريرة وزيد بن خالد رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: إذا زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير" ثم قال البخارى "باب لا يُثَرِّبُ على الأمة إذا زنت ولا تُنْفَى" ثم ساق من طريق الليث عن سعيد المقبرى

ص: 277

عن أبى هريرة أنه سمعه يقول: قال النبى صلى الله عليه وسلم "إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يُثَرِّبْ ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر" وأخرجه مسلم من طريق الليث عن سعيد بن أبى سعيد عن أبيه عن أبى هريرة أنه سمعه يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا زنت أمة أحدكم". الحديث باللفظ الذى ساقه المصنف. ثم أخرج مسلم من طريق مالك عن ابن شهاب عن عبيد اللَّه ببن عبد اللَّه عن أبى هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: "إن زنت فاجلدوها" الحديث باللفظ الذى سقته عن البخارى من رواية أبى هريرة وزيد بن خالد رضى اللَّه عنهما، هذا وليس قوله فى حديث مالك عند البخارى ومسلم:"ولم تحصن" دليلا على أن الأمة إذا زنت بعد الزواج يتغير هذا الحكم فى حقها لأن قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} صريح فى أن حدها بعد الإحصان هو نصف كذاب الحرائر، والذى يتنصف من عذاب الحرائر هو الجلد لا الرجم كما أشرت فى مفردات حديث الباب. فتكون الآية أثبتت حد الأمة الزانية بعد الإحصان ويكون حديث مالك قد أثبت حد الأمة الزانية قبل الأحصان وهو عين حد الأمة المحصنة واللَّه أعلم.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن من ارتكب ذنبا وأقيم عليه الحد ثم ارتكبه مرة أخرى أقيم

ص: 278

عليه الحد كذلك.

2 -

أنه لا يليق بمسلم أن يخالط من عرف بالفسق.

3 -

أن مفارقة غير العفيف قد تردعه وتتسبب فى صلاح حاله.

4 -

أن الأمة إذا زنت فحدها الجلد سواء كانت بكرا أم ثيبا.

5 -

أنه لا يحل لمسلم أن يبيع شيئا معيبا دون أن يبين للمشترى ما فيه من العيب.

ص: 279

7 -

وعن على رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" رواه أبو داود وهو فى مسلم موقوف.

[المفردات]

أقيموا الحدود: أى نفذوا العقوبات المقدرة شرعا.

على ما ملكت أيمانكم: أى على أرِقَّائِكُم.

[البحث]

قال فى تلخيص الحبير: حديث روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" أبو داود والنسائى والبيهقى من حديث على، وأصله فى مسلم موقوف من لفظ على فى حديث. وغفل الحاكم فاستدركه اهـ أما حديث مسلم الموقوف على عَلِيِّ رضى اللَّه عنه الذى أشار إليه المصنف فقد قال مسلم: حدثنا

ص: 279

محمد بن أبى بكر الْمُقَدَّمِىُّ حدثنا سليمان أبو داود حدثنا زائدة عن السُّدِّى عن سعد بن عُبَيْدَةَ عن أبى عبد الرحمن قال: خطب علىٌّ فقال: يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحدَّ، من أحْصَنَ منهم ومن لم يُحْصِنْ، فإن أَمَةً لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زنت فأمرنى أن أجلدها فإذا هى حديث عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال:"أحسنت" وحدثناه إسحاق بن إبراهيم أخبرنا يحيى بن آدم حدثنا إسرائيل عن السُّدِّى بهذا الإِسناد ولم يذكر "من أحصن منهم ومن لم يحصن" وزاد فى الحديث: "اتْرُكْهَا حتى تماثل" اهـ وقوله: تماثل أصله تتماثل أى تقارب البرء.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن الأمة إذا زنت وجب إقامة الحد عليها سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة.

2 -

أن حد المماليك هو الجلد مطلقا.

3 -

أنه يجب على السيد أن يحرص على إقامة الحد على رقيقه إذا زنى.

4 -

أن الذى يأمر بإقامة الحد هو الإمام أو نائبه.

ص: 280

8 -

وعن عمران بن حصين رضى اللَّه عنهما أن امرأة من جهينة أتت النبى صلى الله عليه وسلم وهى حُبْلَى من الزنا، فقالت: يا نبى اللَّه أصبت حَدًّا، فأقمه علىَّ، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولِيَّهَا، فقال:"أحْسِنْ إليها، فإذا وَضَعَتْ فَأتِينِي بها" ففعل، فأَمَرَ بها فَشُكَّتْ

ص: 280

عليها ثِيَابُهَا، ثم أَمرَ بِهَا فرُجِمَتْ، ثم صلى عَلَيْهَا، فقال عمر: أتصلى عليها يا نبى اللَّه وقد زنت؟ فقال: "لقد تابت توبة لو قُسِمَتْ بين سبعين من أهل المدينة لَوَسِعَتْهُمْ وهل وَجَدْتَ أَفضَلَ من أن جادَت بنفسها للَّه" رواه مسلم.

[المفردات]

جهينة: هى قبيلة مشهورة وجهينة هو ابن زيد بن ليث بن سور بن أسلم بن الحاف بن مالك بن قضاعة، والنسابون مختلفون فى نسب قضاعة فقيل قضاعة هو ابن عدنان وقيل هو قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ وقيل: قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وبلادهم ينبع والعيص ورضوى. وكانت لهم منازل بالمدينة المنورة. وقد وهم الصنعانى فى سبل السلام فقال فى الجهنية: وهى المعروفة بالغامدية اهـ ومن قبله وهم النووى فقال فى الغامدية: غامد هى بغين معجمة ودال مهملة وهى بطن من جهينة اهـ وتبعه الشوكانى فى نيل الأوطار فقال: "غامد" بغين معجمة ودال مهملة: لقب رجل هو أبو قبيلة وهم بطن من جهينة اهـ والواقع أن الجهنية غير الغامدية، وأن جهينة ليست من

ص: 281

بطون غامد، كما أن غامدا ليست من بطون جهينة، وغامد هو ابن عبد اللَّه بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد اللَّه بن مالك ابن نصر بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقد استقصى ابن حزم فى جمهرة أنساب العرب بطون غامد وليس فيها جهينة، وإنما فى بطون الأزد جفنة لا جهينة. وقصة حديث الغامدية تختلف عن قصة حديث الجهنية كما يتضح ذلك إن شاء اللَّه تعالى فى بحث هذا الحديث. وقد أشار الحافظ فى الفتح إلى أن الغامدية غير الجهنية وسنسوق نص كلامه عند بحث هذا الحديث إن شاء اللَّه تعالى.

أصبت حدا: أى ارتكبت جريمة توجب إقامة الحد علىَّ ورجمى بالحجارة فإنى حبلى من الزنا وأنا محصنة.

فأقمه علىَّ: أى فأمر برجمى بالحجارة حتى أموت.

فقال: أحسن إليها: أى فطلب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ولى أمر هذه المرأة الجهنية أن يعاملها بالحسنى وأن يتلطف بها وأن لا يسئ إليها.

فإذا وضعت فأتنى بها: أى فإذا ولدت فأحضرها إلىَّ.

ص: 282

ففعل: أى فنفذ وليها أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأحسن إليها حتى ولدت ثم أحضرها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

فَشُكَّتْ عليها ثيابها: أى فَشُدَّتْ عليها ملابسها لئلا تنكشف عورتها فى تقلبها وتكرار اضطرابها عند رجمها بالحجارة.

فرجمت: أى فنفذ فيها الحد بالرجم.

ثم صلى عليها: أى ثم صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليها صلاة الجنازة.

تابت توبة لو قسمت الخ: أى تابت توبة عظيمة خالصة للَّه عز وجل وأن توبتها هذه لو وزعت على سبعين من العصاة من أهل المدينة النبوية لشملتهم وخص أهل المدينة بذلك لأن المعصية فى المدينة أكبر من المعصية فى غيرها.

جادت بنفسها: أى قَدَّمَتْ نفسها لِتُرْجَمَ ابتغاء مرضاة اللَّه ورجاء رحمته دون أن يُجْبِرَهَا أحد على ذلك.

[البحث]

قد سقت فى آخر بحث الحديث الثالث من أحاديث هذا الباب ما أخرجه مسلم من طريق سليمان بن بريدة عن أبيه من قصة ماعز رضى اللَّه عنه وأشرت هناك إلى أن للحديث بقية، وتمام حديث سليمان بريدة عن أبيه: فكان الناس فيه فرقتين: قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز أنه جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فوضع يده فى يده ثم قال:

ص: 283

اقتلنى بالحجارة، قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس، فقال:"استغفروا لماعز بن مالك" قال: فقالوا: غفر اللَّه لماعز بن مالك. قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "لقد تاب توبة لو قُسِمَتْ بين أمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ" قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت: يا رسول اللَّه طَهِّرْنِى. فقال: "وَيحَكِ ارْجِعِى فاستغفرى اللَّه وتوبى إليه" فقالت: أراك تريد أن تُرَدِّدنِى كما رَدَّدْتَ ماعز بن مالك. قال: "وما ذاكِ؟ " قالت: إنها حبلى من الزنى. فقال: "آنت؟ " قالت: نعم فقال لها: "حتى تضعى ما فى بطنك" قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت. قال: فأتى النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغامدية. فقال: "إذًا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه" فقام رجل من الأنصار فقال: إلىَّ رضاعه يا نبىَّ اللَّه قال فرجمها. ثم ساق مسلم من طريق عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه أن ماعز ابن مالك الأسلمى أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه إنى قد ظلمت نفسى وزنيت وإنى أريد أن تطهرنى، فردَّه، فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول اللَّه إنى قد زنيت، فرَدَّهُ الثانية، فأرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: "أتعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وَفِىَّ العقل من صالحينا فيما نُرى. فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمَرَ بِهِ فَرُجِمَ. قال: فجاءت

ص: 284

الغامدية فقالت: يا رسول اللَّه إنى قد زنيت فطهرنى وإنه ردَّها، فلما كان الغد قالت: يا رسول اللَّه. لم تَرُدُّنِى؟ لعلك أن تَرُدَّنِى كما رَدَدْتَ ماعزا؟ فَوَاللَّه إنى لَحُبْلَى. قال: "إمالا فاذهبى حتى تلدى" فلما ولدت أتته بالصبى فى خرقة قالت: هذا قد ولدته قال "اذهبى فأرضعيه حتى تفطميه" فلما فطمته أتته بالصبى فى يده كِسْرَةُ خُبْزٍ فقالت: هذا يا نبى اللَّه قد فطمته. وقد أكل الطعام. فدفع الصبى إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فَحُفِرَ لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها. فَيُقْبِلُ خالد بن الوليد بحجر فَرَمَى رأسها فَتَنَضَّحَ الدمُ على وجه خالد فَسَبَّهَا، فسمع نبىُّ اللَّه صلى الله عليه وسلم سبَّهُ إياها، فقال:"مهلًا يا خالد فوالذى نفسى بيده لقد تابت توبة لو تَابَهَا صاحب مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ" ثم أمَرَ بِهَا فَصَلَّى عليها ودُفِنَتْ.

ثم ساق مسلم من حديث عمران بن حصين أن امرأة من جهينة أتت نبى اللَّه صلى الله عليه وسلم، الحديث بقريب من اللفظ الذى ساقه المصنف وظاهر سياق حديث الغامدية وحديث الجهنية يشهد أن الغامدية غير الجهنية، فالغامدية رَدَّدَهَا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخلاف الجهنية، وقد ذكرت الغامدية ماعزا ولم تذكره الجهنية ولذلك قيل إن الغامدية هى مزنية ماعز، كما أن الغامدية ليس لها ولىٌّ فى المدينة فتكفل رجل من المسلمين من الأنصار بشأنها بخلاف الجهنية فإن لها بالمدينة وليًّا وفى حديث الغامدية لم يرجمها إلا بعد فطام ولدها بخلاف الجهنية

ص: 285

فقد رجمها بعد ولادتها ولم ينتظر بها فطام ولدها لوجود وليها الذى يتولى شأن طفلها، وفى الغامدية قصة خالد رضى اللَّه عنه وفى الجهنية قصة عمر رضى اللَّه عنه، قال الحافظ فى فتح البارى: وجمع بين حديثى عمران وبريدة أن الجهنية كان لولدها من يرضعه بخلاف الغامدية اهـ واللَّه أعلم. قال الحافظ فى الفتح: وقد استقر الإجماع على أنها "يعنى الحامل" لا ترجم حتى تضع. قال النووى: وكذا لو كان حدها الجلد لا تجلد حتى تضع، وكذا من وجب عليها قصاص وهى حامل لا يقتص منها حتى تضع، بالإجماع فى كل ذلك اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

وجوب رجم الزانى المحصن.

2 -

أنه لا يجمع للزانى المحصن بين الجلد والرجم وأن حده الرجم فقط.

3 -

أنه لا يجوز إقامة الحد على الحامل سواء كان الحد رجما أم جلدا.

ص: 286

9 -

وعن جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه عنهما قال: رجم النبىُّ صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم ورجلا من اليهود وامرأة" رواه مسلم، وقصة رجم اليهوديين فى الصحيحين من حديث ابن عمر.

[المفردات]

رجلا من أسلم: هو ماعز بن مالك الأسلمى رضى اللَّه عنه.

ص: 286

ورجلا من اليهود: هو من يهود خيبر وقد كانت وقت ذلك حربا.

وامرأة: هى اليهودية التى زنى بها اليهودى الذى رجمه النبى صلى الله عليه وسلم واسمها بسرة وهى من خيبر أيضا.

اليهوديين: يعنى اليهودى واليهودية المشار إليهما هنا.

[البحث]

أخرج مسلم هذا الحديث من طريق حجاج بن محمد قال: قال ابن جريح: أخبرنى أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: رجم النبى صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم ورجلا من اليهود وامرأته. ثم ساقه من طريق روح بن عبادة حدثنا ابن جريج بهذا الإسناد مثله غير أنه قال: وامرأة اهـ وقوله فى الرواية الأولى: وامرأته أى صاحبته التى زنى بها لا زوجته. أما قصة رجم اليهوديين التى أشار المصنف إلى أنها فى الصحيحين فقد أخرجها البخارى فى باب الرجم فى البلاط من طريق عبد اللَّه ابن دينار عن عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما قال: أُتِىَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بيهودى ويهودية قد أحدثا جميعا فقال لهم: "ما تجدون فى كتابكم؟ " قالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتَّجْبِيه، قال عبد اللَّه بن سلام: ادْعُهُمْ يا رسول اللَّه بالتوراة، فأتِىَ بها، فَوَضَعَ أحَدهُمْ يده على آية الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له ابن سلام: ارفع يدك، فإذا آية الرجم تحت يده، فأمر بهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرُجما، قال ابن عمر: فرُجما عند البلاط فرأيت اليهودى أجْنَأَ عليها. كما ساقه البخارى فى باب أحكام أهل الذمة وإحصانهم

ص: 287

زَنَوا وَرُفِعُوا إلى الإمام" من طريق نافع عن عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما أنه قال: إن اليهود جاؤا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا. فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون فى التوراة فى شأن الرجم؟ ! فقالوا: نَفْضَحُهُمْ ويُجْلَدُون. قال عبد اللَّه بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم، فَأتَوا بالتوراة، فَنَشَرُوها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد اللَّه بن سلام: ارفع يدك فَرَفع يده فإذا فيها آية الرجم، قالوا: صَدَقَ يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرجِمَا فرأيت الرجل يَحْنى على المرأة يقيها الحجارة اهـ وقوله فى الحديث "أحدثوا" أى ابتكروا ومعنى تحميم الوجه هو أن يصب عليه ماء حار مخلوط بالرماد، والتجبيه بفتح التاء وسكون الجيم كسر الباء بعدها ياء ثم هاء من قولهم جبهت الرجل إذا قابلته بما يكره وأغلظت له فى القول أو الفعل. وقيل: هو أن يركب على حمار منكوسا. وقوله: "أجنأ عليه" أى أحنى عليها ليتلقى الحجارة عنها. وقد أخرجه مسلم رحمه الله من طريق نافع أن عبد اللَّه بن عمر أخبره أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتى بيهودى ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال:"ما تجدون فى التوراة على من زنى؟ " قالوا: نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا وَنُحَمِّلُهُمَا، ونخالف بين وجوههما، ويُطَافُ بهما، قال: "فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين، فجاؤا بها فقرأوها حتى إذا مَرُّوا بآية الرجم وضع الفتى الذى يقرأ يده على آية الرجم

ص: 288

وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد اللَّه بن سلام وهو مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: مُرْهُ فليرفع يده، فرفعها فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرجما، قال عبد اللَّه بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن رجم الزانى المحصن حق ثابت فى الشريعة قد نفذه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

2 -

أن أهل الذمة والعهد إذا زنوا وهم متزوجون ورفعوا إلينا حكمنا عليهم بأحكام الشريعة الإِسلامية ورجمنا من ثبت عليه الزنا وإن لم يكن مسلما.

3 -

نسخ جلد الزانى المحصن والاكتفاء فيه بالرجم.

4 -

ثبوت تحريف اليهود لبعض أحكام التوراة.

5 -

ثبوت أن بعض نصوص التوراة سلمت من تحريف اليهود.

6 -

أن شرع من قبلنا شرع لنا ما دام لم يرد دليل بنسخه.

ص: 289

10 -

وعن سعيد بن سعد بن عُبادة رضى اللَّه عنهما قال: كان بين أبياتنا رُوَيجلٌ ضعيف، فَخَبُثَ بأمة من إمائهم فذكر ذلك سعيد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"اضربوه حَدَّهُ" فقالوا: يا رسول اللَّه إنه أضْعَفُ من ذلك، قال:"خذوا عِثْكَالًا فيه مائة شِمْرَاخٍ ثم اضربوه ضربة واحدةً" ففعلوا. رواه أحمد والنسائى وابن ماجه

ص: 289

وإسناده حسن، لكن اختلف فى وصله وإرساله.

[المفردات]

سعيد بن سعد بن عبادة: هو سعيد بن سعد بن عبادة الأنصارى الخزرجى، مختلف فى صحبته، قال فى تهذيب التهذيب، روى عن النبى صلى الله عليه وسلم وعن أبيه سعد وعنه ابنه شرحبيل وأبو أمامة بن سهل بن حنيف. ذكره ابن حبان فى ثقات التابعين وقال ابن عبد البر: صحبته صحيحة اهـ وكان واليا لعلى رضى اللَّه عنه على اليمن. ووثقه ابن سعد وغيره.

رُوَيجِلٌ: هو تصغير رجل وكان مخدجا.

ضعيف: أى مريض.

فَخَبُثَ: أى زنى وفجر.

بأمة من إمائهم: أى بمملوكة لهم.

اضربوه حده: أى أقيموا عليه ما يستحقه من الحد. والظاهر أنه كان بكرا، وحدُّه الجلد.

إنه أضعف من ذلك: أى لا يتحمل جسمه مائة جلدة فقد تقتله.

خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ: العثكال بوزن القرطاس هو العذق والشمراخ جمعه شماريخ وهى فرع العثكال، وللعثكال غصون دقيقة وفروع هى التى تنتظم فيها ثمرة النخلة.

ص: 290

[البحث]

قال الحافظ فى تلخيص الحبير: حديث أبى أمامة بن سهل بن حنيف: أن رجلا مقعدا زنا بامرأة، فأمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يجلد بإثكال النخل. يروى أنه أمر أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة. الشافعى عن سفيان عن يحيى بن سعيد وأبى الزناد كلاهما عن أبى أمامة، ورواه البيهقى وقال: هذا هو المحفوظ عن أبى أمامة مرسلا، ورواه أحمد وابن ماجه من حديث أبى الزناد عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: كان بين أبياتنا رجل مخدج ضعيف فلم ورع إلا وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها، فرفع شأنه سعد بن عبادة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"اجلدوه مائة سوط" فقال: يا نبى اللَّه هو أضعف من ذاك، لو ضربناه مائة سوط لمات، قال:"فخذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ، فاضربوه واحدة، وخلوا سبيله" ورواه الدارقطنى من حديث فليح عن أبى حازم عن سهل بن سعد وقال: وهم فيه فليح والصواب عن أبى حازم عن أبى أمامة بن سهل، ورواه أبو داود من حديث الزهرى عن أبى أمامة عن رجل من الأنصار، ورواه النسائى من حديث أبى أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه، ورواه الطبرانى من حديث أبى أمامة بن سهل عن أبى سعيد الخدرى فإن كانت الطرق كلها محفوظة فيكون أبو أمامة قد حمله عن جماعة من الصحابة وأرسله مرة اهـ هذا وقد تقدم فى بحث الحديث السابع من أحاديث

ص: 291

هذا الباب ما أخرجه مسلم من حديث على رضى اللَّه عنه أنه لما وجد الأمة الزانية حديثة عهد بنفاس قال: فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها. فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنت" وهو يشعر بأن المريض لا يقام عليه حد الجلد حتى يتماثل للشفاء. على أن اللَّه تعالى قد ذكر فى قصة أيوب حيث قال: "وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث" ما يشعر بجواز جمع الضربات فى ضربة واحدة، لكن قياس جلد الحد عليه قياس مع الفارق واللَّه أعلم.

ص: 292

11 -

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به، ومن وجدتموه وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة" رواه أحمد والأربعة ورجاله موثقون إلا أن فيه اختلافا.

[المفردات]

يعمل عمل قوم لوط: أى يواقع ذكرا من الناس، ولوط نبى اللَّه صلى الله عليه وسلم كان قومه يأتون الذكران من العالمين.

فاقتلوا الفاعل والمفعول به: أى فاقتلوا الرجلين جميعا الذى فعل الفاحشة هذه والذى فُعِلَتْ به هذه الفاحشة.

وقع على بهيمة: أى فعل الفاحشة بحيوان.

فاقتلوه واقتلوه البهيمة: أى فاسفكوا دم هذا الرجل واقتلوا الحيوان كذلك.

ص: 292

إلا أن فيه اختلافا: أى إلا أن فى ثبوت حديث ابن عباس اختلافا عند أهل العلم فبعضهم لا يثبته.

[البحث]

قال الحافظ فى تلخيص الحبير: حديث من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به. أحمد وأبو داود واللفظ له، والترمذى وابن ماجه، والحاكم والبيهقى من حديث عكرمة عن ابن عباس واستنكره النسائى، ورواه ابن ماجه والحاكم من حديث أبى هريرة وإسناده أضعف من الأول بكثير، وقال ابن الطلاع فى أحكامه: لم يثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه رجم فى اللواط، ولا أنه حكم فيه، يثبت عنه أنه قال: اقتلوا الفاعل والمفعول به، رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة، وفى حديث أبى هريرة: أحصنا أم لم يحصنا. كذا قال وحديث أبى هريرة لا يصح. وقد أخرجه البزار من طريق عاصم بن عمر العمرى عن سهيل عن أبيه عنه وعاصم متروك، وقد رواه ابن ماجه من طريقه بلفظ: فارجموا الأعلى والأسفل. وحديث ابن عباس مختلف فى ثبوته كما تقدم اهـ وأشار فى التلخيص إلى ضعف حديث من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوه البهيمة. قيل لابن عباس فما شأن البهيمة؟ قال: ما أراه قال ذلك. قال: وفى إسناد هذا الحديث كلام اهـ.

تنبيه: إطلاق لفظ: "اللوطى" على من يأتى الذكران إطلاق غير صحيح فلا يجوز أن تنسب هذه الجريمة إلى لوط عليه السلام فيقال

ص: 293

لمرتكبها "لوطى" كما لا يجوز أن يقال فى أبى جهل وأبى لهب إنهما محمديان لأنهما ضد محمد صلى الله عليه وسلم كما أن من يأتى هذه الجريمة هو ضد لوط عليه السلام وقد حكى اللَّه تعالى عن لوط عليه السلام أنه قال: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} واللَّه أعلم.

ص: 294

12 -

وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم ضرب وغرَّب، وأن أبا بكر ضرب وغرَّب وأن عمر ضرب وغرَّب. رواه الترمذى ورجاله ثقات إلا أنه اختلف فى وقفه ورفعه.

[المفردات]

ضرب: أى جلد فى حد الزنا للبكر.

وغرَّب: أى ونفى سنة مع الجلد.

[البحث]

قال الحافظ فى تلخيص الحبير: روى النسائى والترمذى والحاكم والدارقطنى من حديث ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم ضرب وغرَّب، وأن أبا بكر ضرب وغرَّب، وأن عمر ضرب وغرَّب، وصححه ابن القطان ورجح الدارقطنى وقفه اهـ قلت: ما تقدم من حديث أبى هريرة وزيد ابن خالد وكذلك حديث عبادة بن الصامت يثبت التغريب مع الجلد واللَّه أعلم.

ص: 294

13 -

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المُخَنَّثِينَ من الرجال والمُتَرَجِّلَاتِ من النساء وقال: "أخرجوهم من بيوتكم" رواه البخارى.

[ما يفيده الحديث]

لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال: أى دعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المخنثين من الرجال بالطرد والإبعاد والمخنث بفتح النون وبكسرها من يشبه خلقه النساء فى حركاته وكلامه وغير ذلك، ولا لوم عليه إن كان ذلك خلقة وهو مذموم إن كان يتكلف ذلك وهو المراد هنا. وأصل التخنث التكسر لى المشى وغيره.

والمترجلات من النساء: أى ودعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المترجلات من النساء، بالطرد والإبعاد. والمترجلة من النساء هى التى تتشبه بالرجال فى مشيتها ولبستها وغير ذلك.

[البحث]

أورد البخارى رحمه الله هذا الحديث فى "باب نفى أهل المعاصى والمخنثين" من طريق عكرمة عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما بهذا اللفظ الذى ساقه المصنف وزاد: وأخرج فلانا وأخرج عمر فلانا. وأورد البخارى فى "باب ما يُنْهَى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة" من طريق زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة أن النبى صلى الله عليه وسلم-

ص: 295

كان عندها، وفى البيت مُخَنَّثٌ فقال المُخَنَّثُ لأخى أم سلمة عبد اللَّه بن أبى أمية: إن فتح اللَّه لكم الطائفَ غدا أدلك على ابنة غيلان، فإنها تُقْبِلُ بأربع وتُدْبِرُ بثمان. فقال النبى صلى الله عليه وسلم "لا يَدْخُلَنَّ هذا عليكم" وأورده فى كتاب اللباس فى باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال من طريق عكرمة عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال. ثم قال: باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت. وساق من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: لعن النبى صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال: "أخرجوهم من بيوتكم" قال: فأخرج النبى صلى الله عليه وسلم فلانا "وأخرج عمر فلانة" اهـ.

[البحث]

1 -

أن تشبه الرجال بالنساء من الكبائر.

2 -

أن تشبه النساء بالرجال من الكبائر.

3 -

أنه يجب نفى أهل المعاصى والريب.

4 -

ثبوت النفى والتغريب عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

ص: 296

14 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مَدْفَعًا" أخرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف، وأخرجه الترمذى والحاكم من حديث عائشة

ص: 296

بلفظ "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم" وهو ضعيف أيضا. ورواه البيهقى عن على من قوله بلفظ: ادرءوا الحدود بالشبهات.

[المفردات]

ادفعوا الحدود: أى ادرءوها.

ما وجدتم لها مدفعا: أى متى وجدتم طريقا لدفعها بسبب من أسباب عدم ثبوتها.

ما استطعتم: أى بقدر إمكانكم فلا تحرصوا على ثبوتها مع الشبهة.

بالشبهات: أى بسبب أية شهة أو مظنة تلحق الريبة فى ثبوت الحد.

[البحث]

قد تقدم فى الحديث الثالث من أحاديث هذا الباب ترديد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسبم لماعز رضى اللَّه عنه وقوله له: "أبك جنون؟ " وكذلك قوله فى الحديث الرابع من أحاديث هذا الباب "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ " وكل ذلك يثبت وجوب التثبت فى إثبات الحد وأنه متى كانت هناك شبهة فى ثبوت الحد فإنه يدرأ. وقد تنقل حينئذ العقوبة من الحد إلى التعزير. واللَّه أعلم.

ص: 297

15 -

وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا هذه القاذورات التى نهى اللَّه عنها. فمن ألم بها فليستتر بسَتر اللَّه، وليتب إلى اللَّه فإنه من يُبْدِ لَنَا صفحته نُقِمْ عليه كتابَ اللَّه" رواه الحاكم وهو فى الموطأ من مراسيل زيد بن أسلم.

ص: 297

[المفردات]

اجتنبوا هذه القاذورات التى نهى اللَّه عنها: أى ابتعدوا عن هذه المحرمات التى حرمها اللَّه عز وجل. والقاذورات جمع قاذورة وهى الفعل القبيح والقول السئ.

فمن ألَمَّ بها: أى فمن أصاب شيئا من هذه المعاصى وارتكب شيئا من هذه المحرمات.

فليستتر بستر اللَّه: أى فلا يفضح نفسه ولا يجاهر بالمعصية.

ولْيَتُبْ إلى اللَّه: أى وليرجع إلى اللَّه عز وجل ولْيَسْتَغفِرْ لذنبه.

فإنه من يُبْدِ لنا صفحته نقم عليه كتاب اللَّه: أى فإنه من تظهر منه الجريمة وترفع إلى الإمام فإنه ينفذ عقوبة اللَّه التى جعلها لمرتكب هذا الجريمة.

زيد بن أسلم: هو أبو أسامة أو أبو عبد اللَّه زبد بن أسلم العدوى المدنى الفقيه مولى عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه روى عن جماعة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعنه أولاده الثلاثة أسامة وعبد اللَّه وعبد الرحمن ومالك وابن عجلان وابن جريج وغيرهم. وكان من الفقهاء الثقات وتوفى سنة ست وثلاثين ومائة رحمه الله.

[البحث]

ذكر الحافظ فى التلخيص أن هذا الحديث أخرجه مالك فى الموطأ عن زيد بن أسلم ثم قال: ورواه الشافعى عن مالك وقال: هو

ص: 298

منقطع. وقال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث أسند بوجه من الوجوه انتهى ومراده بذلك من حديث مالك، وإلا فقد روى الحاكم فى المستدرك عن الأصم عن الربيع عن أسد بن موسى عن أنس بك عياض عن يحيى بن سعيد وعبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال بعد رجه الأسلمى:"اجتنبوا هذه القاذورات" الحديث ورويناه فى جزء هلال الحفار عن الحسين بن يحيى القطان عن حفص بن عمرو الربالى عن عبد الوهاب الثقفى عن يحيى بن سعيد الأنصارى به إلى قوله: "فليستتر بستر اللَّه" وصححه ابن السكن، وذكره الدارقطنى فى العلل، وقال: روى عن عبد اللَّه بن دينار مسندا ومرسلا، والمرسل أشبه، (تنبيه) لما ذكر إمام الحرمين هذا الحديث فى النهاية قال: إنه صحيح متفق على صحته. وتعقبه ابن الصلاح فقال: هذا مما يتعجب منه العارف بالحديث، وله أشباه بذلك كثيرة أوقعه فيها اطراحه صناعة الحديث التى يفتقر إليها كل فقيه وعالم اهـ.

وقد تم بحمد اللَّه تعالى الجزء الثامن بعد مغرب الاثنين الخامس من ربيع الأول عام 1403 هـ بمنزلنا بالمدينة المنورة ويليه إن شاء اللَّه تعالى الجزء التاسع وأوله "باب حد القذف" وما توفيقى إلا باللَّه صلى اللَّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

عبد القادر شيبة الحمد

عضو هيئة التدريس بقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والمدرس بالمسجد النبوي الشريف

ص: 299