الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الجهاد
1 -
عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يَغْزُ، ولم يُحَدِّثْ نَفْسَهُ به، مات على شُعْبَةٍ من نفاق" رواه مسلم.
[المفردات]
الجهاد: الجِهاد بكسر الجيم أصله فى اللغة المشقة وشرعا هو بذل الجهد فى قتال الكفار. قال الحافظ فى الفتح: ويطلق أيضا على مجاهدة النفس والشيطان والفُسَّاق، فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين ثم على العمل بها، ثم على تعليمها، وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتى به من الشبهات وما يزينه من الشهوات وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب، وأما مجاهدة الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب اهـ.
ولم يغز: أى ولم يخرج مجاهدا لقتال الكفار وإعلاء كلمة اللَّه، والغزو القصد إلى القتال.
ولم يُحَدِّثْ نفسه به: أى ولم يَنْوِ الجهاد فى سبيل اللَّه بأن يكلم نفسه فى الخروج للجهاد ويعزم على ذلك ويستعد له.
على شعبة من نفاق: أى على خصلة من خصال المنافقين فهم لا يحبون الجهاد ولا يفكرون فى الخروج له، كثيرا ما كانوا يتخلفون عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى أُطْلِقَ عليهم لَفْظُ "المُخَلَّفِين".
[البحث]
أخرج مسلم هذا الحديث من طريق شيخه محمد بن عبد الرحمن ابن سهم الأنطاكى عن عبد اللَّه بن المبارك بلفظ: ولم يحدث به نفسه، ثم قال مسلم: قال ابن سهم: قال عبد اللَّه بن المبارك فَنُرَى أن ذلك كان على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اهـ وقد روى البخارى ومسلم فى صحيحيهما واللفظ للبخارى من حديث زيد بن خالد الجهنى رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من جَهَّزَ غازيا فى سبيل اللَّه فقد غزا، ومن خَلَفَ غازيا فى سبيل اللَّه بخير فقد غزا" ولفظ مسلم: "من جَهَّزَ غازيا فى سبيل اللَّه فقد غزا، ومن خَلَفَهُ فى أهله بخير فقد غزا" وقوله "فقد غزا" أى كان له مثل أجر الغازى فى سبيل اللَّه، وإن لم يغز حقيقة.
[ما يفيده الحديث]
1 -
وجوب الجهاد فى سبيل اللَّه تعالى للقادر عليه.
2 -
أنه يجب على المسلم أن يحرص على الجهاد فى سبيل اللَّه.
3 -
أن ترك الجهاد وعدم الحرص عليه عند دواعيه من الكبائر.
2 -
وعن أنس رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" رواه أحمد والنسائى وصححه الحاكم.
[المفردات]
جاهدوا: أى قاتلوا.
المشركين: أى الوثنيين.
بأموالكم: أى ببذل أموالكم فى سبيل اللَّه.
وأنفسكم: أى والخروج بأنفسكم للقتال فى سبيل اللَّه.
وألسنتكم: أى بالتحريض على الجهاد والدعوة لكسر شوكة الكافرين ولإِقامة الحجة عليهم ودحض شبهتهم.
[البحث]
أخرج النسائى هذا الحديث من طريق عمرو بن على قال حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا بأيديكم وألسنتكم وأموالكم" وقال المجد ابن تيمية فى المنتقى: وعن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم" رواه أحمد وأبو داود والنسائى. قال الشوكانى فى نيل الأوطار: وحديث أنس سكت عنه أبو داود والمنذرى ورجال إسناده رجال الصحيح وصححه النسائى اهـ.
وقد حض اللَّه تبارك وتعالى فى مواضع كثيرة من كتابه الكريم على جهاد المشركين بالنفس والمال فقال عز وجل {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وقال عز وجل {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} وكما قال عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال عز وجل: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} .
[ما يفيده الحديث]
1 -
فضل المجاهدين فى سبيل اللَّه بأموالهم وأنفسهم.
2 -
أن اللسان قد يفعل فى الأعداء فعل السنان.
3 -
إتاحة الفرصة أمام جميع المؤمنين للمشاركة فى فضل الجهاد.
3 -
وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: قلت: يا رسول اللَّه على النساء جهاد؟ قال: "نعم جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة" رواه ابن ماجه وأصله فى البخارى.
[المفردات]
على النساء جهاد: أى هل يجب على النساء الخروج فى سبيل اللَّه.
نعم جهاد لا قتال فيه: أى عليهن خروج فى سبيل اللَّه وجهاد، لكنه خالٍ من مقاتلة الكفار.
الحج والعمرة: أى جهادهن الحج والعمرة.
[البحث]
قال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة ثنا محمد بن فُضيل عن حبيب بن أبى عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: قلت: يا رسول اللَّه على النساء جهاد؟ قال: "نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة" وأما أصله الذى فى البخارى فقد أخرجه البخارى فى باب فضل الحج المبرور من طريق حبيب بن أبى عمرة أيضا عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضى اللَّه تعالى عنها أنها قالت: يا رسول اللَّه نَرَى الجهاد أفضل العمل قال: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور" قال الحافظ فى الفتح: اختلف فى ضبط لكن فالأكثر بضم الكاف خطاب للنسوة قال القابسى: وهو الذى تميل إليه نفسى، وفى رواية الحموى لكن
بكسر الكاف وزيادة ألف قبلها بلفظ الاستدراك. والأول أكثر فائدة لأنه يشتمل على إثبات فضل الحج وعلى جواب سؤالها عن الجهاد، وسماه جهادا لما فيه من مجاهدة النفس اهـ وقد ساقه البخارى كذلك فى باب حج النساء من طريق حبيب بن أبى عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضى اللَّه تعالى عنها قالت: قلت: يا رسول اللَّه ألا نغزو أو نجاهد معكم؟ فقال: "لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج، حج مبرور" وأخرجه فى باب جهاد النساء من طريق معاوية بن إسحاق عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضى اللَّه تعالى عنها قالت: استأذنتُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم فى الجهاد فقال: "جهادكن الحج" ثم ساقه من طريق حبيب بن أبى عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين عن النبى صلى الله عليه وسلم: سأله نساؤه عن الجهاد فقال: "نعم الجهاد الحج".
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن الجهاد فى سبيل اللَّه ليس قاصرا على الخروج للقتال.
2 -
وأن أفضل جهاد النساء الحج والعمرة.
3 -
حرص نساء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على إعزاز كلمة اللَّه وإذلال أعداء اللَّه.
4 -
وعن عبد اللَّه بن عَمرو رضى اللَّه عنهما قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم يستأذنه فى الجهاد، فقال:
"أَحَىٌّ والداك؟ " قال: نعم، قال:"ففيهما فَجَاهِد" متفق عليه. ولأحمد وأبى داود من حديث أبى سعيد نحوه، وزاد:"ارْجِعْ فاسْتَأْذِنْهُمَا فإن أذِنَا لك وإلا فَبِرَّهُمَا".
[المفردات]
عبد اللَّه بن عمرو: هو عبد اللَّه بن عَمرو بن العاص رضى اللَّه تعالى عنهما وقد وقع فى بعض نسخ سبل السلام: عبد اللَّه بن عُمر وهو سبق قلم.
رجل: قال الحافظ فى الفتح: يحتمل أن يكون هو جاهمة ابن العباس بن مرداس.
يستأذنه فى الجهاد: أى يطلب منه الإِذن بالخروج لقتال المشركين.
أحىّ والداك: أى هل أبوك وأمك على قيد الحياة؟
نعم: أى والداى على قيد الحياة.
ففيهما فجاهد: أى خصهما بجهاد النفس فى رضاهما، وابذل جهدك فى الإِحسان إليهما وطاعتهما ما داما لم يأمراك بمعصية اللَّه.
نحوه: أى نحو حديث عبد اللَّه بن عمرو رضى اللَّه عنه.
وزاد: أى أبو سعيد يعنى الخدرى رضى اللَّه عنه.
فاستأذنهما: أى فاطلب من والديك الإِذن لك بالخروج لقتال المشركين.
فإن أذنا لك: أى فإن رَخَّصَا لك فى الخروج للجهاد فاخرج.
وإلا فبرهما: أى وإن لم يأذنا لك فى الخروج فالزمهما وأحسن صحبتهما، واجتهد فى برهما وطاعتهما ما لم يأمراك بمعصية اللَّه.
[البحث]
هذا الحديث أخرجه البخارى ومسلم من حديث عبد اللَّه بن عمرو ابن العاص رضى اللَّه تعالى عنهما باللفظ الذى شاقه المصنف وفى لفظ لمسلم من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضى اللَّه تعالى عنهما قال: أقبل رجل إلى نبى اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغى الأجر من اللَّه. قال: "فهل من والديك أحدٌ حَيٌّ؟ " قال: نعم بل كلاهما، قال:"فتبتغى الأجر من اللَّه؟ " قال نعم: قال: "فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما" أما حديث أبى سعيد الذى أشار إليه المصنف فلفظه عند أبى داود: أن رجلا هاجر إلى النبى صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال: هل لك أحد باليمن؟ فقال: أبواى، فقال:"أذنا لك" فقال: لا. قال: "ارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فَبِرَّهُمَا" وقد صححه ابن حبان.
[ما يفيده الحديث]
1 -
وجوب استئذان الوالدين فى الخروج للجهاد.
2 -
فضل بر الوالدين.
3 -
أن الجهاد قد يطلق على غير القتال فى سبيل اللَّه.
5 -
وعن جرير البَجَلِىِّ رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أنا برئ من كل مسلم يقيم بين المشركين" رواه الثلاثة وإسناده صحيح ورجح البخارى إرساله.
[المفردات]
جرير البَجَلى: هو أبو عمرو أو أبو عبد اللَّه جرير بن عبد اللَّه بن جابر (وهو السَّليل بفتح السين) بن مالك ابن نضر ابن ثعلبة بن جشم بن عويف البجلى القسرى، أسلم قبل حجة الوداع، وثبت فى الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له فى حجة الوداع:"استنصت الناس" وقد روى الشيخان عن جرير رضى اللَّه تعالى عنه قال: ما حجبنى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآنى إلا تبسم، وشكوت إليه أنى لا أثبت على الخيل فضرب بيده فى صدرى وقال:"اللهم اجعله هاديا مهديا" وقال عبد الملك بن عمير: رأيت جرير بن عبد اللَّه وكأن وجهه شقة قمر، وقال له عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه: نعم السيد كنت فى الجاهلية ونعم السيد أنت فى الإِسلام وقد بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فهدم ذا الخلصة وتوفى رضى اللَّه تعالى عنه سنة 51 هجرية وقيل غير ذلك واللَّه أعلم.
برئ: أى خالص من عهدته فقد انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بينى وبينه عُلقة.
يقيم: أى يعيش.
بين المشركين: يعنى فى أرض الشرك.
رواه الثلاثة: أى أبو داود والترمذى والنسائى.
[البحث]
ذكر المصنف هنا أن هذا الحديث رواه الثلاثة، وأسقط فى التلخيص النسائى وذكر مكانه ابن ماجه فقال: حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا برئ من كل مسلم مع مشرك" أبو داود والترمذى وابن ماجه من حديث جرير، وفيه قصة، صحيح البخارى وأبو حاتم وأبو داود والترمذى والدارقطنى إرساله إلى قيس بن أبى حازم، ورواه الطبرانى بلفظ المصنف موصولا اهـ وقال المجد ابن تيمية فى المنتقى: وعن جرير بن عبد اللَّه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس بالسجود فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل وقال: أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا يا رسول اللَّه ولم؟ قال: لا تتراءى ناراهما" رواه أبو داود والترمذى اهـ قال الشوكانى فى نيل الأوطار. وحديث جرير أخرجه ابن ماجه ورجال إسناده ثقات ولكن صحح البخارى وأبو حاتم وأبو داود والترمذى والدارقطنى إرساله إلى قيس بن أبى حازم اهـ وقد أخرجه أبو داود من طريق هناد بن السرى ثنا أبو معاوية عن
إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد اللَّه ثم قال أبو داود بعد أن ساقه باللفظ الذى ذكره صاحب المنتقى: قال أبو داود: رواه هشيم ومعمر وخالد الواسطى وجماعة لم يذكروا جريرا اهـ.
وقد أخرجه الترمذى بنفس سند أبى داود ولفظه ثم قال: حدثنا هناد ثنا عبدة عن إسماعيل بن أبى خالد عن قيس بن أبى حازم مثل حديث أبى معاوية ولم يذكر فيه (عن جرير) وهذا أصح ثم قال الترمذى: وأكثر أصحاب إسماعيل قالوا: عن إسماعيل عن قيس بن أبى حازم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث سرية، ولم يذكروا فيه عن جرير ثم قال وسمعت محمدا يقول: الصحيح حديث قيس عن النبى صلى الله عليه وسلم مرسل اهـ.
6 -
وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" متفق عليه.
[المفردات]
لا هجرة بعد الفتح: أى لا يهاجر المسلم من مكة إلى المدينة بعد الفتح أى فتح مكة، وكان فتح مكة فى رمضان من السنة الثامنة للهجرة. والهجرة من الهَجْر وهو الترك، والمراد هنا هو الانتقال من مكة إلى المدينة أما خروج المسلم من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا
كان عاجزا عن القيام بشعائر دينه فهى باقية إلى يوم القيامة.
ولكن جهاد ونية: أى ولكن مفارقة الوطن للجهاد فى سبيل اللَّه وكذلك بسبب نية صالحة كالخروج فى طلب العلم والفرار بالدين من الفتن فإنها لا تزال باقية.
[البحث]
تمام هذا الحديث عند الشيخين: "وإذا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا" ومعنى "وإذا استنفرتم فانفروا" أى وإذا أمركم الإِمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا وسارعوا. قال الحافظ فى الفتح: قال الخطابى وغيره: كانت الهجرة فرضا فى أول الإِسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح اللَّه مكة دخل الناس فى دين اللَّه أفواجا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقى فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو انتهى، وكانت الحكمة أيضا فى وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى ذويه من الكفار فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه وفيهم نزلت {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} الآية. وهذه الهجرة باقية الحكم فى حق من أسلم فى دار الكفر وقدر على الخروج منها، وقد روى النسائى من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده مرفوعا:"لا يقبل اللَّه من مشرك عملا بعد ما أسلم أو يفارق المشركين" وهذا محمول على من لم يأمن
على دينه اهـ وفى تأكيد وجوب الهجرة قبل الفتح نزل قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} هذا وسيأتى مزيد بحث فى تأكيد عدم انقطاع الهجرة من بلاد الشرك عند الكلام على الحديث الثامن من أحاديث هذا الباب. إن شاء اللَّه تعالى.
[ما يفيده الحديث]
1 -
نسخ وجوب الهجرة من مكة إلى المدينة بعد فتح مكة سنة ثمان من الهجرة.
2 -
أنه لا هجرة من مكة بعد الفتح.
3 -
أن الجهاد فى سبيل اللَّه والخروج لقصد الأعمال الصالحة لن ينقطع إلى يوم القيامة.
7 -
وعن أبى موسى الأشعرى رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة اللَّه هى العليا فهو فى سبيل اللَّه" متفق عليه.
[المفردات]
من قاتل: أى من جاهد ونصب نفسه لمقاتلة الكفار.
لتكون كلمة اللَّه هى العليا: أى وكان قصده من مقاتلة الكفار إعلاء كلمة اللَّه وإعزاز شرع اللَّه ورفعة دين اللَّه حتى يسيطر شرع اللَّه على أرض اللَّه.
فهو فى سبيل اللَّه: أى فهو المجاهد حقا، الموصوف بأنه يقاتل فى سبيل اللَّه، الموعود بثواب الغزاة المجاهدين.
[البحث]
هذا الحديث وقع جوابا لسؤال، وقد أورده البخارى بعدة ألفاظ منها ما أخرجه فى كتاب العلم عن أبى موسى رضى اللَّه تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه ما القتال فى سبيل اللَّه؟ فإن أحدنا يقاتل غَضَبًا، ويقاتل حَمِيَّةً، فرفع إليه رأسه، قال: وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائما فقال: "من قاتل لتكون كلمة اللَّه هى العليا فهو فى سبيل اللَّه عز وجل" وقد أخرجه فى فرض الخُمس عن أبى موسى رضى اللَّه تعالى عنه قال: قال أعرابى للنبى صلى الله عليه وسلم: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل لِيُذْكَرَ ويقاتل لِيُرَى مكانه، من فى سبيل اللَّه؟ فقال:"من قاتل لتكون كلمة اللَّه هى العليا فهو فى سبيل اللَّه" وفى لفظ فى الجهاد عن أبى موسى رضى اللَّه عنه قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن فى سبيل اللَّه؟ قال:"من قاتل لتكون كلمة اللَّه هى العليا فهو فى سبيل اللَّه" وأورده فى كتاب التوحيد عن أبى موسى رضى اللَّه عنه قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل رياء فأى ذلك فى سبيل اللَّه؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة اللَّه هى العليا فهو فى سبيل اللَّه"
وقد أورده مسلم بعدة ألفاظ كذلك على نحو قريب من الألفاظ التى أخرجها به البخارى إلا أن فى بعض الألفاظ من حديث أبى موسى قال: أتينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول اللَّه الرجل يقاتل منا شجاعة. الحديث. ومعنى قوله: الرجل يقاتل للمغنم، أى يخرج للقتال طلبا للغنيمة. ومعنى قوله: يقاتل للذكر أى يقاتل ليذكر بين الناس بالشجاعة ويشتهر بالجرأة حتى يقال شجاع وجرئ. وقوله: يقاتل ليرى مكانه أى يقاتل رياء ومعنى قوله: يقاتل حمية أى لأجل أهله أو عشيرته أو صاحبه. ومعنى قوله: يقاتل غضبا أى لأجل حظ نفسه وانتقاما من خصمه.
هذا وقد زعم بعض الناس أن القتال فى الإِسلام إنما هو للدفاع فقط، ويرد عليهم هذا الحديث، وأكثر مغازى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإنها لم تكن دفاعا، وإنما كانت هجوما لإِعلاء كلمة اللَّه.
[ما يفيده الحديث]
1 -
وجوب إخلاص النية عند الخروج للجهاد.
2 -
أن المجاهد الحق هو من خرج لإِعلاء كلمة اللَّه.
3 -
الرد على من زعم أن القتال فى الإِسلام للدفاع فقط.
8 -
وعن عبد اللَّه بن السعدى رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة ما قُوتِلَ العَدُوُّ" رواه النسائى وصححه ابن حبان.
[المفردات]
عبد اللَّه بن السعدى: هو أبو محمد عبد اللَّه بن السعدى، والسعدى قيل اسمه واقد وقيل عمرو وقيل قدامة وهو ابن وقدان بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤى العامرى، قيل لأبيه السعدى لأنه كان مسترضعا فى بنى سعد. وقال فيه بعضهم ابن الساعدى، وقد سكن عبد اللَّه الأردن قيل إنه توفى سنة سبع وخمسين وقيل غير ذلك واللَّه أعلم.
لا تنقطع الهجرة: أى لا تبطل مشروعية الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإِسلام.
ما قوتل العدو: أى ما دامت الحرب مستمرة بين أهل الإِسلام وأهل والشرك، وما دام الجهاد ماضيا.
[البحث]
قال النسائى: أخبرنا عيسى بن مُساوِر قال: حدثنا الوليد عن عبد اللَّه بن العلاء بن زَبْر عن بُسْر بن عبيد اللَّه عن أبى إدريس الخولانى عن عبد اللَّه بن واقد السعدى قال: وفدت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى وفد، كلنا يطلب حاجة، كنت آخرهم دخولا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول اللَّه إنى تركت من خلفى وهم يزعمون أن الهجرة قد انقطعت. قال: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار" أخبرنا
محمود بن خالد قال: حدثنا مروان بن محمد قال حدثنا عبد اللَّه بن العلاء بن زَبْر قال حدثنى بُسْر بن عبيد اللَّه عن أبى إِدريس الخولانى عن حسَّان بن عبد اللَّه الضمرى عن عبد اللَّه بن السَّعدى قال: وفدنا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فدخل أصحابى فقضى حاجتهم، كنت آخرهم دخولا، فقال:"حاجتك؟ " فقلت: يا رسول اللَّه متى تنقطع الهجرة؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار" اهـ أما أحمد رحمه الله فقد أخرجه من طريق الحكم بن نافع حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن مالك بن يخامر عن ابن السعدى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل" اهـ قال الهيثمى: رجال أحمد ثقات، هذا وقد تقدم فى بحث الحديث السادس مزيد بحث لموضوع بقاء الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واللَّه أعلم.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام لا تنقطع إلى يوم القيامة.
2 -
أن قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "لا هجرة بعد الفتح" يعنى من مكة إلى المدينة لأن مكة صارت دار إسلام.
3 -
أن الجهاد لإعلاء كلمة اللَّه ماض إلى يوم القيامة.
9 -
وعن نافع رضى اللَّه عنه قال: أغار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على بنى المصطلق وهم غَارُونَ فقتل مقاتلتهم وسَبَى ذراريهم، حدثنى بذلك عبد اللَّه بن عمر. متفق عليه. وفيه: وأصاب يومئذ جويرية.
[المفردات]
نافع: هو أبو عبد اللَّه نافع مولى عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه تعالى عنهما أصابه ابن عمر فى بعض مغازيه. وقد روى عن ابن عمر وأبى هريرة وأبى لبابة بن عبد المنذر وأبى سعيد الخدرى ورافع بن خديج وعائشة وأم سلمة رضى اللَّه عنهم كما روى عنه أولاده أبو عمر وعمر وعبد اللَّه، وعبد اللَّه بن دينار وصالح بن كيسان ويحيى بن سعيد الأنصارى ومالك بن أنس والليث بن سعد وخلق كثير قال فى تهذيب التهذيب: قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال البخارى: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، وقال بشر بن عمرو عن مالك: كنت إذا سمعت من نافع يحدث عن ابن عمر لا أبالى أن لا أسمعه من غيره، وقال عبد اللَّه بن عمر: لقد من اللَّه تعالى علينا بنافع وقال فى تهذيب التهذيب أيضا، وقال ابن شاهين فى الثقات: قال أحمد بن
صالح المصرى: كان نافع حافظا ثبتا له شأن وهو أكبر من عكرمة عند أهل المدينة، وقال الخليلى: نافع من أئمة التابعين بالمدينة إمام فى العلم، متفق عليه، صحيح الرواية، منهم من يقدمه على سالم، ومنهم من يقارنه به، ولا يعرف له خطأ فى جميع ما رواه اهـ وقد اختلف فى سنة وفاته فقيل سنة 117 هـ وقيل 119 هـ وقيل 120 هـ رحمه الله.
أغار: أى هجم.
المصطلق: بضم الميم وسكون الصاد وفتح الطاء وكسر اللام بعدها قاف، والمصطلق لقب جذيمة بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة. وهم بطن من خزاعة، وكانوا على ماء يقال له المريسيع بينه وبين الفُرْع مسيرة يوم وهو قريب من ساحل البحر، وهم رهط جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضى اللَّه عنها وكان أبوها الحارث بن أبى ضرار هو ملكهم وقائدهم. وقد ذكر ابن إسحاق أن هذه الغزوة كانت سنة ست من الهجرة فى شعبان. وقيل كانت فى شعبان سنة خمس وذكر البخارى عن موسى بن عقبة أنها كانت سنة أربع قال الحافظ فى الفتح: كذا ذكره البخارى وكأنه سبق قلم أراد أن يكتب سنة خمس
فكتب سنة أربع، والذى فى مغازى موسى بن عقبة من عدة طرق أخرجها الحاكم وأبو سعيد النيسابورى والبيهقى فى الدلائل وغيرهم سنة خمس ولفظه عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب ثم قاتل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بنى مصطلق وبنى لحيان فى شعبان سنة خمس اهـ
وهم غارُّون: أى وهم غافلون.
مقاتلتهم: أى من يصلح للقتال ومن كان متهيئا له منهم.
وسَبَى ذراريهم: أى وأخذ منهم من لا يصلح للقتال عبيدا.
وفيه: وأى وفى حديث نافع عن ابن عمر المتفق عليه.
وأصاب يومئذ جويرية: أى وسبى يوم غزوة بنى المصطلق جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار وقد أعتقها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتزوجها رضى اللَّه عنها.
[البحث]
أورد البخارى هذا الحديث فى كتاب العتق من طريق شيخه على ابن الحسن أخبرنا عبد اللَّه أخبرنا ابن عون قال: كتبت إلى نافع فكتب إلىَّ: إن النبى صلى الله عليه وسلم أغار على بنى المصطلق وهم غارُّون، وأنعامهم تُسقَى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسَبَى ذراريَّهم، وأصاب يومئذ جويرية. حدثنى به عبد اللَّه بن عمر وكان فى ذلك الجيش اهـ وقال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى التميمى حدثنا سُلَيْم بنُ أخضر عن ابن عون. قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال
قال: فكتب إلىَّ: إنما كان ذلك فى أول الإِسلام، قد أغار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على بنى المصطلق وهم غارُّون، وأنعامهم تُسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى سَبْيَهُمْ، وأصاب يومئذ (قال يحيى أحسبه قال) جويرية، (أو قال ألبتة) ابنة الحارث وحدثنى هذا الحديث عبد اللَّه بن عمر، وكان فى ذلك الجيش. وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا ابن أبى عدى عن ابن عون بهذا الإِسناد مثله وقال: جويرية ينت الحارث ولم يشك اهـ وقوله فى لفظ مسلم: (قال يحيى أحسبه قال) جويرية (أو قال ألبتة) ابنة الحارث. يعنى قال يحيى: أظن شيخى سليم بن أخضر قال: أصاب يومئذ جويرية ولم يكتف بقوله: بنت الحارث أو قال: جويرية بنت الحارث ألبتة يعنى جزما بلا شك هذا وقد حاول بعض أعداء الإِسلام من اليهود والنصارى أن يلبسوا على بعض الأغرار بأن الإِسلام إنما انتشر بالسيف، فقال بعض الناس من المنتسبين للعلم إن القتال فى الإسلام للدفاع، وتغافلوا عن الآيات الكثيرة والأحاديث الصحيحة الثابتة فى أن الجهاد إنما هو لإِعلاء كلمة اللَّه ونسى هؤلاء أو تناسوا أن الشرائع السماوية السابقة كلها متفقة على الجهاد لإعلاء كلمة اللَّه وأنها ما كانت تبيح الأسر إلا بعد التقتيل الشديد فى أعداء اللَّه وإلى ذلك يشير اللَّه تبارك وتعالى حيت يقول:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} على أن اليهود والنصارى لم يقفوا فى هذا الباب عند حدود ما شرع لهم على لسان أنبيائهم بل كانوا لا يتركون حيا يمشى على الأرض فى المدن والقرى التى يحاربونها، وما محاكم التفتيش التى أقامها النصارى
ضد مسلمى الأندلس ولا مذابح اليهود للمسلمين فى فلسطين ولبنان بخافية على أحد، مع الفارق العظيم بين معاملة أهل الإِسلام لمن يكون تحت أيديهم من الكفار من الرحمة والإِحسان لهم حتى أشار اللَّه عز وجل إلى أن إطعام الأسير الكافر من أعظم ما يقرب العبد من ربه حيث يقول فى ورثة الجنة من الأبرار:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} وسيأتى فى الحديث العاشر من أحاديث هذا الباب النهى عن قتل الصبيان، والتمثيل بالقتلى، كما سيأتى فى الحديث الخامس عشر من أحاديث هذا الباب إنكار قتل النساء والصبيان، فلله الحمد والشكر على نعمة الإِسلام دين الرحمة والإِحسان.
[ما يفيده الحديث]
1 -
مشروعية الهجوم على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإِسلام ورفضوا الدخول فيه إذا رأى إمام المسلمين ذلك.
2 -
الرد على من زعم أن الجهاد لا يكون إلا دفاعا فقط.
3 -
مشروعية استرقاق المشركين فى حالة الحرب.
10 -
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه رضى اللَّه عنهما قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرا على جيش أو سَرِيَّةٍ أوصاه فى خاصته بتقوى اللَّه وبمن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: "اغْزُوا باسم اللَّه فى سبيل اللَّه، قاتلوا من كَفَرَ باللَّه، اغزوا ولا تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا ولا تُمَثِّلُوا ولا تقتلوا وليدا، وإذا لَقِيت عدوك من المشركين
فَادْعُهُمْ إلى ثلاث خصال فَأَيَّتُهُنَّ أجابوك إليها فاقبل منهم وكُفَّ عنهم: ادْعُهُمْ إلى الإِسلام فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبَوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ولا يكون لهم فى الغنيمة والفَئ شئ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فَإِنْ هُمْ أبَوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، فإن هم أبَوْا فاستعن باللَّه وقاتلهم، وإذا حَاصَرْتَ أهل حِصْنِ فأرادوك أن تجعل لهم ذمة اللَّه وذمة نبيه فلا تفعل ولكن اجعل لهم ذمتك فإنكم إن تُخْفِرُوا ذمتكم أهْوَنُ من أن تُخْفِرُوا ذمة اللَّه، وإن أرادوك أن تُنْزِلَهُمْ على حكم اللَّه فلا تَفْعَلْ بل على حُكْمِكَ، فإنك لا تدرى أتصيب فيهم حكم اللَّه أم لا؟ " أخرجه مسلم.
[المفردات]
إذا أمَّر أميرا: أى إذا عين قائدا للقتال.
على جيش: أى على جُنْد متجه لقتال العدو.
أو سرية: قال فى القاموس: والسرية من خمسة أَنْفُسِ إلى ثلثمائة أو أربعمائة أهـ. والمراد القطعة من الجيش تخرج منه لشن غارة على العدو ثم ترجع إلى الجيش.
أوصاه: أى نصحه وعهد إليه.
فى خاصته: أى فى نفسه.
بتقوى اللَّه: أى باتباع أوامر اللَّه واجتناب نواهيه والوقوف عند حدوده.
وبمن معه من المسلمين خيرا: أى وأوصاه بالرفق بمن تحت إمرته
من المسلمين والرحمة بهم والشفقة عليهم وتسهيل وتيسير أمورهم.
اغزوا باسم اللَّه فى سبيل اللَّه: أى اخرجوا لقتال أعداء اللَّه مصحوبين باسم اللَّه لإِعلاء كلمة اللَّه.
قاتلوا من كفر باللَّه: أى حاربوا من جحد ربوبية اللَّه وألوهيته وأسماءه الحسنى وصفاته العلى، كذب كتاب اللَّه ورسله ولم يؤمن بملائكته واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
ولا تَغُلُّوا: أى ولا تخونوا فى المغنم على حد قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
ولا تغدروا: أى ولا تنقضوا العهد إذا عاهدتم.
ولا تُمَثِّلُوا: أى ولا تُشّوِّهُوا القتلى بقطع أطرافهم أو جدع آذانهم أو أنوفهم.
وليدا: أى صبيا.
وإذا لقيت عدوك من المشركين: أى وإذا واجهت جيش العدو الكافر.
فادعهم إلى ثلاث خصال: أى فاطلب منهم إحدى ثلاث خصال.
فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم: أى فأى واحدة من تلك الخصال قبلوا منك فاقبل منهم.
وكُفَّ عنهم: أى وامتنع عن قتالهم ولا تؤذهم فى الأخريين.
ادعهم إلى الإِسلام: أى اطلب منهم الدخول فى الإِسلام وهذه
هى الخصلة الأولى.
فإن أجابوك فاقبل منهم: أى فإن دخلوا فى دين الإِسلام فاقبل منهم فقد صاروا إخوة لك.
ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين: أى ثم بعد دخولهم فى الإِسلام اطلب منهم أن ينتقلوا من موطنهم فى بلاد الكفار إلى المدينة المنورة لينضموا لجيش المسلمين وجماعتهم ويقيموا فى دار الإِسلام تحت ولاية الإِمام. وهذا كان قبل فتح مكة.
فَإِن أبَوا: أى فإن امتنعوا عن الانتقال من دارهم إلى دار المهاجرين.
كأعراب المسلمين: أى كسكان البادية من المسلمين من غير هجرة ولا غزو فإنهم وقتئذ كانت تجرى عليهم أحكام الإِسلام ولا حق لهم فى الغنيمة.
فى الغنيمة: وهى ما يستولى عليه المسلمون من أعدائهم بالقتال.
والفئ: وهو ما يستولى عليه الإِمام من العدو بدون قتال.
إلا أن يجاهدوا مع المسلمين: أى لكن إن قاتلوا مع المسلمين شاركوهم فى أموال الغنيمة والفئ.
فإن هم أبوا: أى فإن امتنعوا عن الدخول فى الإِسلام.
فاسألهم الجزية: أى فاطلب منهم أن يؤدوا الجزية وهى ما يدفعه الذمى لإِمام المسلمين من الخراج عن رأسه، وهذه
هى الخصلة الثانية.
فإن هم أجابوك فاقبل منهم: أى فإن هم قبلوا أن يؤدوا الجزية فامتنع عن قتالهم.
فإن هم أبوا: أى فإن هم رفضوا دفع الجزية بعد أن رفضوا الدخول فى الإسلام.
فاستعن باللَّه وقاتلهم: أى فاعتمد على اللَّه وتوكل عليه وحاربهم. وهذه هى الخصلة الثالثة.
وإذا حاصرت أهل حصن: أى وإذا أحطت بعدوك وضيقت عليهم وهم فى مكان حصين لا يوصل إلى جوفه.
فأرادوك: أى فطلبوا منك.
ذمة اللَّه وذمة نبيه: أى عهد اللَّه وعهد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
فلا تفعل: أى فلا تعاهدهم على ذمة اللَّه وذمة نبيه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم ولا تجعل لهم ذلك.
ولكن اجعل لهم ذمتك: أى ولتكن المعاهدة على ذمتك وعهدك أنت لا على عهد اللَّه وعهد رسوله صلى اللَّه تعالى عليه وسلم فإنه قد ينقضها من لا يعرف حقها وحرمتها من بعض الأعراب.
إن تُخُفِروا ذمتكم: أى إن تغدروا بذمتكم. وتخفروا بضم التاء وكسر الفاء من الإِخفار وهو نقض العهد.
أهون من أن تخفروا ذمة اللَّه: أى أيسر من أن تغدروا بعهد اللَّه أن تُنْزِلَهُمْ على حكم اللَّه: أى أن تتفق معهم على أن يكون الحَكَمُ بينكما هو حُكْم اللَّه.
بل على حكمك: أى بل أَنْزِلْهُمْ على حكمك أيها الأمير على أن تجتهد فى أن يكون حكمك فى حدود شرع اللَّه.
لا تدرى أتصيب فيهم حكم اللَّه أم لا: أى لا تعلم هل يوافق قضاؤك فيهم ما يحبه اللَّه من القضاء فيهم أولا؟ لاسيما إذا كانت المسألة من المسائل الاجتهادية التى قد تخفى على بعض الناس.
[البحث]
سبق قلم الصنعانى وهو يكتب حديث سليمان بن بريدة هذا فى بلوغ المرام عند شرحه لهذا الحديث فى سبل السلام فقال: وعن سليمان بن بريدة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه فى خاصته بتقوى اللَّه وبمن معه من المسلمين خيرا ثم قال: "اغزوا على اسم اللَّه تعالى. ثم أكمل الحديث باللفظ الذى سقته.
فقوله عن عائشة خطأ ظاهر وقد تابعه على هذا الخطأ الظاهر صديق حسن خان فى فتح العلام، الحديث إنما هو من رواية سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ لا ذكر لعائشة رضى اللَّه تعالى عنها فيه. قال مسلم رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا وكيع
ابن الجراح عن سفيان ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا يحيى بن آدم حدثنا سفيان قال: أملاه علينا إملاء ح وحدثنى عبد اللَّه بن هاشم (واللفظ له) حدثنى عبد الرحمن (يعنى ابن مهدى) حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه فى خاصته بتقوى اللَّه، ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: "اغزوا باسم اللَّه فى سبيل اللَّه، قاتلوا من كفر باللَّه، اغزوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإِسلام فإن أجابوك فاقبل وكُفَّ عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبَوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم اللَّه الذى يجرى على المؤمنين ولا يكون لهم فى الغنيمة والفئ شئ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فَسَلْهُم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن باللَّه وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة اللَّه وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة اللَّه وذمة نبيه، ولكن جعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تُخْفِرُوا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة اللَّه وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنْزِلَهُمْ
على حكم اللَّه فلا تنزلهم على حكم اللَّه ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدرى أتصيب حكم اللَّه فيهم أم لا؟ " قال عبد الرحمن هذا أو نحوه، وزاد إسحاق فى آخر حديثه عن يحيى بن آدم قال: فذكرت هذا الحديث لمقاتل بن حيان (قال يحيى يعنى أن علقمة يقوله لابن حيان) فقال حدثنى مسلم بن هيصم عن النعمان بن مقرن عن النبى صلى الله عليه وسلم نحوه. وحدثنى حجاج بن الشاعر حدثنى عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا شعبة حدثنى علقمة بن مرثد أن سليمان بن بريدة حدثه عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا أو سرية دعاه فأوصاه، وساق الحديث بمعنى حديث سفيان. حدثنا إبراهيم حدثنا محمد بن عبد الوهاب الفَرَّاء عن الحسين ابن الوليد عن شعبة بهذا. اهـ وقوله فى لفظ مسلم (ثم ادعهم إلى الإِسلام) بإثبات ثم، قال النووى: هكذا هو فى جميع نسخ صحيح مسلم، والصواب -كما قال القاضى- رواية "ادعهم" بإسقاط ثم، وقد جاء بإسقاطها على الصواب فى سنن أبى داود اهـ.
[ما يفيده الحديث]
1 -
ينبغى للإِمام أن يوصى أمراءه وقواد جيشه بتقوى اللَّه عز وجل.
2 -
أن تقوى اللَّه تعالى من أعظم أسباب النصر على الأعداء، والتمكين فى الأرض.
3 -
تحريم الغلول من الغنيمة.
4 -
تحريم الغدر.
5 -
تحريم المثلة.
6 -
تحريم قتل من لم يبلغ الحلم من أبناء المشركين.
7 -
وجوب دعوة المشركين إلى الإِسلام قبل قتالهم إذا لم تكن قد بلغتهم الدعوة.
8 -
أن المشركين إذا قبلوا الإِسلام يجب الكف عن قتالهم فورا.
9 -
إذا امتنع المشركون عن الدخول فى الإِسلام طلب الأمير منهم دفع الجزية.
10 -
إذا قبلوا دفع الجزية للمسلمين وجب الكف عن قتالهم فورا.
11 -
إذا امتنع المشركون عن دفع الجزية استعان قائد الجيش باللَّه تعالى وأصدر أمره إلى جيشه أو سريته بقتالهم.
12 -
يجب أن يكون المقصد الأهم عند الجيش هو إعلاء كلمة اللَّه تعالى.
13 -
الرد على من زعم أن القتال فى الإِسلام إنما هو للدفاع فقط.
14 -
أن من أسلم من المشركين ولم يهاجر إلى دار الإِسلام لا حظ له فى غنائم المسلمين وفيئهم.
15 -
أنه يجب على المسلم الالتزام بشرائع الإِسلام ولو كان مقيما بدار الكفر.
11 -
وعن كعب بن مالك رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها. متفق عليه.
[المفردات]
كعب بن مالك: هو كعب بن مالك بن أبى كعب واسمه عمرو
ابن القين بن كعب بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصارى السلمى أبو عبد اللَّه ويقال أبو محمد ويقال أبو بشير، وهو أحد السبعين الذين شهدوا العقبة وأحد الثلاثة الذين خُلِّفوا وتاب اللَّه عليهم وطلب من المسلمين أن يقتدوا بهم فى الصدق وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وهو أحد الشعراء الثلاثة من الأنصار الذين كانوا ينافحون عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعن الإِسلام بشعرهم وهم حسان وعبد اللَّه بن رواحة كعب رضى اللَّه عنهم، وقد شهد المشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سوى بدر وتبوك مات فى خلافة على رضى اللَّه عنه وقيل بعد ذلك. واللَّه أعلم.
إذا أراد غزوة: أى إذا عزم على قتال جماعة من المشركين فى جهة من الجهات.
وري بغيرها: أى عمل عملا قد يفهم منه غير خاصته أنه لا يريد غزو هذه الجهة وإنما يريد غزو جهة أخرى كما إذا كان قصده الحقيقى الاتجاه إلى الشمال فيسأل كثيرا عن جهة الجنوب أو الشرق أو الغرب فيتبادر إلى الذهن أنه يريد غير جهة الشمال مثلا، فيعمى الأمر على العدو حتى لا يستعد العدو استعدادا
لملاقاته وفى هذا "التخطيط الحربى" رحمة بالعدو وإحسان إليه ليسارع إلى الاستسلام فيسعد بالدخول فى دين اللَّه واتباع حبيبه محمد صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، وقد اتخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الخطة عند هجزته فاتجه من مكة إلى غار ثور وهو يقع جنوبى مكة لعلمه أن العدو سيكون أكبر همه البحث عنه فى جهة الشمال من مكة لما قام فى نفوسهم أنه إن هاجر اتجه إلى المدينة المنورة، والتورية تدور على معنى الستر والتغطية قال فى القاموس: وورَّاه تورية أخفاه كواراه والخَبَرَ جعله وراءه، وعن كذا أراده وأظهر غيره، وعنه بَصَرَهُ دفعه وتوارى استتر اهـ وقال الحافظ فى الفتح: معنى ورَّى ستر وتستعمل فى إظهار شئ مع إرادة غيره، وأصله من الوَرْى بفتح ثم سكون وهو ما يجعل وراء الإِنسان لأن من ورى بشئ كأنه جعله وراءه وقيل: هو فى الحرب أخذ العدو على غرة اهـ والتورية عند البلاغيين: أن يَذْكُر المتكلم لفظا يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر فيوهم إرادة القريب وهو يريد البعيد.
[البحث]
هذا الحديث أورده البخارى فى كتاب الجهاد فى باب من أراد غزوة فورَّى بغيرها ومن أحب الخروج إلى السفر يوم الخميس وساقه من طريق عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك أن عبد اللَّه بن كعب
وكان قائد كعب من بنيه قال سمعت كعب بن مالك حين تخلف عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها. ثم ساقه من طريق عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك قال: سمعت كعب بن مالك رضى اللَّه عنه يقول: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورَّى بغيرها حتى كانت غزوة تبوك فغزاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا، واستقبل غزو عدو كثير فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الذى يريد ثم ذكر من طريق عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن كعب بن مالك رضى اللَّه تعالى عنه كان يقول: لَقَلَّمَا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخرج إذا خرج فى سفر إلا يوم الخميس. ثم ساقه البخارى فى المغازى ضمن حديث كعب بن مالك رضى اللَّه تعالى عنه فى قصة تخلفه عن غزوة تبوك من طريق عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك أن عبد اللَّه بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمى قال: سمعت كعب بن مالك يحدث -حين تخلف- عن قصة تبوك قال كعب: لم أتخلف عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى غزوة غزاها إلا فى غزوة تبوك، غير أنى كنت تخلفت فى غزوة بدر ولم يُعَاتِبْ أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع اللَّه بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة
حين تواثقنا على الإِسلام، وما أُحِبُّ أنَّ لى بها مَشْهَدَ بدر، وإن كانت بدر أَذْكَرَ فى الناس منها. كان من خبرى أنى لم أكن قَطُّ أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه فى تلك الغزاةِ، واللَّه ما اجْتَمَعَتْ عندى قبله راحلتان قط حتى جمعتهما فى تلك الغزوة ولم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها. وساق البخارى الحديث بتمامه. أما مسلم رحمه الله فقد أورده ضمن أحاديث التوبة من طريق محمد بن عبد اللَّه بن مسلم بن أخى الزهرى عن عمه محمد بن مسلم الزهرى أخبرنى عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك أن عبيد اللَّه بن كعب بن مالك وكان قائد كعب حين عمى قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك وساق الحديث وزاد فيه على يونس: فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة اهـ وكان مسلم قد أورد قبل هذا الحديث حديث تخلف كعب عن غزوة تبوك وتوبة اللَّه عليه مطولا من طريق يونس عن ابن شهاب بهذا الإِسناد، ولم يذكر فيه حديث الباب.
[ما يفيده الحديث]
1 -
حرص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على مباغتة المشركين حتى تَقِلَّ خسائرهم فى الأرواح رجاء هداية اللَّه لهم.
2 -
جواز الهجوم على العدو قبل دعوتهم عند الحرب ما دامت قد بلغتهم قبل ذلك دعوة الإسلام.
3 -
الرد على من زعم أن القتال فى الإِسلام هو للدفاع فقط.
4 -
حسن التخطط للحرب قبل إعلانه.
12 -
وعن معقل أن النعمان بن مُقَرِّنٍ رضى اللَّه عنه قال: شهدت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تَزُولَ الشمسُ، وتَهُبَّ الرياحُ، ويَنْزِلَ النَّصْرُ. رواه أحمد والثلاثة وصححه الحاكم وأصله فى البخارى.
[المفردات]
معقل: هو ابن يسار المزنى رضى اللَّه عنه.
النعمان بن مُقَرِّن: هو أبو عمرو أو أبو حكيم النعمان بن مُقرِّنٍ ابن عائذ المزنى روى عن النبى صلى الله عليه وسلم وعنه ابنه معاوية ومعقل بن يسار المزنى رضى اللَّه عنه ومسلم بن الهيضم وجبير بن حية. وقد هاجر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى سبعة إخوة له. وقد وصف ابن مسعود رضى اللَّه عنه بيت آل مقرن بأنه من بيوت الإِيمان. وقد سكن النعمان البصرة وتحول عنها إلى الكوفة وقدم المدينة، وفتح القادسية وأمَّره عمر على الجيش فغزا أصبهان ففتحها ثم أتى نهاوند فاستشهد بها يوم جمعة سنة إحدى وعشرين رضى اللَّه عنه.
شهدت: أى حضرت.
إذا لم يقاتل أول النهار: أى إذا لم يبدأ الحرب فى الصباح.
أخر القتال حتى تزول الشمس: أى أجَّل مقاتلة العدو حتى يدخل وقت الظهر يعنى ويصلون الظهر.
وتهُبَّ الرياح: أى وتثور الرياح ويتحرك "الهواء" وتحرك الريح يكون بعد زوال الشمس غالبا.
وينزل النصر: أى ويجئ الغيث ويتلطف الجو.
[البحث]
وقع تصحيف فى بعض نسخ بلوغ المرام فجاء فيها "عن معقل بن النعمان بن مقرن" ولم يقف الصنعانى إلا على هذه النسخ المصحفة، فقال فى سبل السلام: ولم يذكر ابن الأثير معقل بن مقرن فى الصحابة إنما ذكر النعمان بن مقرن وعزا هذا الحديث إليه وكذلك البخارى وأبو داود والترمذى، أخرجوه عن النعمان بن مقرن فينظر فما أظن لفظ معقل إلا سبق قلم، والشارح وقع له أنه قال: هو معقل بن النعمان بن مقرن المزنى، ولا يخفى أن النعمان هو ابن مقرن فإذا كان له أخ فهو معقل بن مقرن لا ابن النعمان قال ابن الأثير: إن النعمان هاجر ومعه سبعة إخوة له، يريد أنهم هاجروا كلهم معه فراجعت التقريب للمصنف فلم أجد فيه صحابيا يقال له معقل بن النعمان ولا ابن مقرن بل فيه النعمان بن مقرن فتعين أن لفظ معقل فى نسخ بلوغ المرام سبق قلم. وهو ثابت فيما رأيناه من نسخه اهـ وهذا وهم من الصنعانى كما وهم من قبل ذلك فيه المغربى فى شرح بلوغ المرام الذى أشار إليه الصنعانى، والحديث إنما هو من رواية
معقل بن يسار المزنى رضى اللَّه عنه عن النعمان بن مقرن وقد وقع التصريح باسم والد معقل وهو يسار عند المزى فى الأطراف وأخرجه الترمذى رحمه الله فى باب ما جاء فى الساعة التى يستحب فيها القتال من طريق قتادة عن النعمان بن مقرن قال: غزوت مع النبى صلى الله عليه وسلم فكان إذا طلع الفجر أمسك حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قاتل فإذا انتصف النهار أمسك حتى تزول الشمس، فإذا زالت الشمس قاتل حتى العصر ثم أمسك حتى يصلى العصر ثم يقاتل، كان يقال عند ذلك تهيج رياح النصر ويدعو المؤمنون لجيوشهم فى صلاتهم. وقد روى هذا الحديث عن النعمان بن مقرن بإسناد أوصل من هذا وقتادة لم يدرك النعمان بن مقرن، مات النعمان فى خلافة عمر بن الخطاب، ثم ساق الترمذى من طريق علقمة بن عبد اللَّه المزنى عن معقل بن يسار أن عمر بن الخطاب بعث النعمان بن مقرن إلى الهرمزان فذكر الحديث بطوله فقال النعمان بن مقرن: شهدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر. هذا حديث حسن صحيح اهـ أما أصل هذا الحديث فى البخارى فهو ما رواه البخارى فى كتاب الجزية من طريق بكر بن عبد اللَّه المزنى وزياد بن جبير عن جبير بن حية قال: فندبنا عمر واستعمل علينا النعمان بن مقرن حتى إذا كنا بأرض العدو وخرج عامل كسرى فى أربعين ألفا فقام ترجمان فقال: لِيُكَلِّمْنِى رجلٌ منكم، فقال المغيرة: سل عما شئت. قال: ما أنتم؟
قال: نحن أُنَاسٌ من العرب كنا فى شقاء شديد وبلاء شديد، نَمُصُّ الجِلْدَ والنَّوَى من الجوع، ونلبس الوَبَرَ والشَّعرَ، ونعبد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السموات ورب الأرضين تعالى ذكره، وجلت عظمته، إلينا نَبِيًّا من أنفسنا نعرف أباه وأمه، فأمرنا نَبِيُّنا رسولُ ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا اللَّه وحده أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قُتِلَ منا صار إلى الجنة فى نعيم لم يَرَ مِثْلَهَا قط. ومن بقى منا ملك رقابكم فقال النعمان: ربما أَشْهَدَكَ اللَّهُ مثلها مع النبى صلى الله عليه وسلم فلم يُنَدِّمْكَ ولم يُخزِكَ، ولكن شهدت القتال مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يُقَاتِلْ فى أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح، وتحضر الصلوات اهـ والأرواح جمع ريح كما يقال فى جمعها أيضا رياح وأرياح ورِيَح كعنب.
[ما يفيده الحديث]
1 -
استحباب القتال فى أول النهار.
2 -
إذا لم يقاتل الجيش أول النهار يستحب تأخير المعركة إلى ما بعد الزوال.
3 -
يستحب أن يكون بدء القتال بعد الصلاة.
4 -
ينبغى للمسلمين أن يسألوا اللَّه عز وجل النصر لجيش المسلمين فى أوقات صلواتهم.
5 -
وجوب الاعتماد على اللَّه وحده مع بذل الأسباب.
13 -
وعن الصعب بن جَثَّامة رضى اللَّه عنه قال: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الذرارى من المشركين يُبَيَّتُونَ فيصيبون من نسائهم وذَرَارِيِّهم؟ فقال: "هم منهم" متفق عليه.
[المفردات]
الذرارى من المشركين: أى الأطفال ذكورا أو إناثا من أبناء المشركين.
يُبَيَّتونَ: أى يصابون ليلا، وتبييت العدو هو الهجوم عليه ليلا بغتة على غرة.
فيصيبون من نسائهم وذراريهم: أى فيقتل المسلمون أو يجرحون بعض النساء والأطفال من المشركين من غير قصد إلى ذلك، وإنما يقع ذلك اللصبيان والنساء بسبب اختلاطهم بأهلهم من المشركين.
هم منهم: أى لا إثم على المسلمين فى ذلك لأن هؤلاء من أهلهم فى الحكم فهم سواء عند عدم التمكن من تبييت المشركين إلا بذلك ما دام المسلمون لم يقصدوا إصابة هؤلاء الأطفال أو النساء، وأطفال المشركين تجرى عليهم أحكام آبائهم فى الميراث وفى النكاح وفى القصاص والديات وغير ذلك.
[البحث]
وقع فى بعض نسخ بلوغ المرام (سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الدار
من المشركين يُبَيَّتُونَ) وهو قريب من لفظ الحديث عند البخارى، أما لفظه فى أكثر نسخ مسلم فهو مطابق لسائر نسخ بلوغ المرام، ومشى الصنعانى على النسخة التى فيها "سئل عن الدار". قال البخارى: باب أهل الدار يُبَيَّتُونَ فيصاب الولدان والذرارى بياتا ليلا ثم ساق من طريق ابن عباس عن الصعب بن جثامة رضى اللَّه عنهم قال: مَرَّ بِى النبىُّ صلى الله عليه وسلم بالأبواء أو بِوَدَّانِ فسئل عن أهل الدار يُبَيَّتُونَ من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريِّهم قال: "هم منهم" وقد أخرجه مسلم كذلك من طريق ابن عباس عن الصعب بن جثامة قال: سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن الذرارى من المشركين يُبَيَّتُونَ فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: "هم منهم" وفى لفظ لمسلم من طريق ابن عباس عن الصعب اين جثامة قال: قلت: يا رسول اللَّه إنا نصيب فى البيات من ذرارى المشركين، قال:"هم منهم" وفى لفظ لمسلم من طريق ابن عباس عن الصعب بن جثامة أن النبى صلى الله عليه وسلم قيل له: لو أن خيلا أغارت من الليل فأصابت من أبناء المشركين، قال:"هم من آبائهم".
[ما يفيده الحديث]
1 -
لا يجوز قصد قتل أطفال المشركين ونسائهم.
2 -
إذا بيَّت المسلمون المشركين فأصابوا من ذراريهم ونسائهم بلا قصد فلا إثم عليهم.
14 -
وعن عائشة رضى اللَّه عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لرجل تبعه يوم بدر: "ارجع فلن أستعين بِمُشْرِكٍ" رواه مسلم.
[المفردات]
ارجع: أى لا تتبعنا إلى الغزو والجهاد.
فلن أستعين بمشرك: أى فلن أستظهر على الوثنيين بوثنى مثلهم.
[البحث]
لفظ هذا الحديث عند مسلم عن عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم أنها قالت: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يُذْكَرُ منه جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، ففرح أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين رَأَوْهُ، فلما أدركه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: جئت لِأَتَّبِعَكَ، وأُصِيبَ معك، قال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "تؤمن باللَّه ورسوله؟ " قال: لا. قال: "فارْجِعْ فلن أستعين بمشرك" قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة، قال:"فارجع فلن أستعين بمشرك" قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة: "تؤمن باللَّه ورسوله؟ " قال: نعم فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فَانْطَلِقْ".
[ما يفيده الحديث]
1 -
ينبغى الحيطة والحذر من وجود أعداء الإِسلام فى صفوفهم.
2 -
لا ينبغى للمسلمين الاعتماد على غير المسلمين ولاسيما فى حالة الحرب.
15 -
وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة فى بعض مغازيه فأنكر قتل النساء والصبيان" متفق عليه.
[المفردات]
رأى امرأة مقتولة: أى أبصر امرأة مشركة مقتولة فى المعركة.
فى بعض مغازيه: قيل هى غزوة الفتح، وقيل الطائف واللَّه أعلم
فأنكر قتل النساء والصبيان: أى فنهى عن قتل النساء والصبيان فى الحرب.
[البحث]
أورد البخارى هذا الحديث فى باب قتل النساء والصبيان من طريق الليث عن نافع أن عبد اللَّه رضى اللَّه عنه أخبره أن امرأة وجدت فى بعض مغازى النبى صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان" ثم أورده فى باب قتل النساء فى الحرب من طريق عبيد اللَّه عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: وجدت امرأة مقتولة فى بعض مغازى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان" اهـ وقدأورد مسلم هذا الحديث من طريق الليث باللفظ الذى أخرجه به البخارى من طريقه ثم أخرجه من طريق عبيد اللَّه بن عمر بقريب من اللفظ الذى أخرجه به البخارى من طريقه أيضا حيث جاء فى لفظ مسلم: وجدت امرأة مقتولة فى بعض تلك المغازى.
[ما يفيده الحديث]
1 -
يحرم على المسلم أن يتعمد قتل نساء المشركين فى الحرب.
2 -
يحرم على المسلم أن يتعمد قتل صبيان المشركين فى الحرب.
3 -
رحمة الإِسلام للضعفاء والمحافظة على الذين لا يقاتلون.
16 -
وعن سمرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "اقتلوا شيوخ المشركين واستبْقوا شَرْخَهُمْ" رواه أبو داود وصححه الترمذى.
[المفردات]
شيوخ المشركين: يعنى الأقوياء المقاتلين ذوى الجلد والقوة على القتال ولاسيما المتمرسين فى الحرب حتى ولو كانوا كبار السن، قال فى القاموس: والشيخ والشيخون من استبانت فيه السن أو من خمسين أو إحدى وخمسمين إلى آخر عمره أو إلى الثمانين اهـ.
واستبقوا شرخهم: أى ولا تقتلوا صبيانهم، والشرخ الصغار الذين لم يدركوا.
[البحث]
ذكر المصنف أن هذا الحديث رواه أبو داود وذكر فى التلخيص أنه رواه أحمد والترمذى ولم يذكر تخريج أبى داود له فقد قال فى التلخيص:
قوله: روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم. أحمد والترمذى من حديث الحسن عن سمرة بلفظ: واستبقوا. اهـ
17 -
وعن على رضى اللَّه عنه أنهم تبارزوا يوم بدر. رواه البخارى وأخرجه أبو داود مطولا.
[المفردات]
أنهم: يعنى أن عليا وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث من المسلمين وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد ابن عتبة من المشركين.
تبارزوا: أى برز كل قِرْنٍ إلى قِرْنه ليقاتله.
يوم بدر: أى فى أول معركة بدر.
[البحث]
أخرج البخارى فى المغازى من طريق أبى مِجْلَز عن قيس بن عُباد عن على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدى الرحمن للخصومة يوم القيامة. وقال قيس بن عباد: وفيهم أنزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قال: هم الذين تبارزوا يوم بدر: حمزة وعلى وعبيدة أو أبو عبيدة بن الحارث، وشيبة بن ربيعة وعتبة والوليد بن عتبة. وأخرج البخارى فى المغازى والتفسير ومسلم فى آخر صحيحه واللفظ للبخارى من طريق هشيم عن أبى هاشم
عن أبى مجلز عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما، إن هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نزلت فى الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلى وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنى ربيعة والوليد بن عتبة. أما حديث أبى داود فلفظه: حدثنا هارون بن عبد اللَّه ثنا عثمان بن عمر ثنا إسرائيل عن أبى إسحاق عن حارثة بن مضرب عن على قال: تقدم -يعنى عتبة بن ربيعة- وتبعه ابنه وأخوه، فنادى: من يبارز؟ فانتدب له شباب من الأنصار، فقال: مَنْ أنتم؟ فأخبروه، فقال: لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بنى عمنا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قم يا حمزة، قم يا على قم يا عبيدة ابن الحارث، فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه، واحتملنا عبيدة اهـ.
[ما يفيده الحديث]
1 -
للإِمام أن يأذن لبعض جنده بمبارزة أقرانهم من المشركين.
2 -
لا يجوز لمن أمره الإِمام بالمبارزة أن يتأخر عن ذلك.
3 -
فضل على بن أبى طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث رضى اللَّه عنهم.
18 -
وعن أبى أيوب رضى اللَّه عنه قال: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، يعنى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قاله ردًّا
على من أنكر على من حَمَلَ على صف الروم حتى دخل فيهم. رواه الثلاثة وصححه الترمذى وابن حبان والحاكم.
[المفردات]
فينا: أى فى الأنصار يعنى بسبب الأنصار وقولهم: لقد نصر اللَّه نبيه ودخل الناس فى دين اللَّه أفواجا فلنرجع إلى بساتيننا ونصلحها، ونقعد فيها.
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة: أى ولا تلقوا أنفسكم فى الهلاك، ولا تَسْعَوا فى إتلاف أنفسكم.
قاله: أى أبو أيوب رضى اللَّه عنه.
رَدًّا: أى إنكارا.
على من أنكر على من حمل على صف الروم: أى على شخص استقبح من شخص آخر هجومه على صف الروم وهو وحده وهم كثير وظن أن المهاجم وحده ألقى بيده فى التهلكة.
حتى دخل فيهم: أى حتى التحم بصفهم وصار وسطهم يقاتلهم رضى اللَّه عنه.
[البحث]
قال ابن كثير رحمه الله فى تفسيره: وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبى حبيب عن أسلم أبى عمران قال: حمل رجل من
المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه ومعنا أبو أيوب الأنصارى فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب: "نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا: صَحِبْنَا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإِسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تَحَبُّبًا فقلنا: قدأكرمنا اللَّه بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما، فنزل فينا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التهلكة فى الإِقامة فى الأهل والمال وترك الجهاد. رواه أبو داود والترمذى والنسائى وعبد بن حميد فى تفسيره وابن أبى حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى فى مسنده وابن حبان فى صحيحه والحاكم فى مستدركه كلهم من حديث يزيد بن أبى حبيب به، وقال الترمذى: حسن صحيح غريب، وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه اهـ ولا معارضة بين هذا وبين ما رواه البخارى عن حذيفة {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: نزلت فى النفقة. فإن الآية تضمنت المعنيين، كما تضمنت الأمر بالإِحسان ولا شك أن القعود عن الجهاد من أقوى أسباب طمع أعداء اللَّه فى المسلمين والسعى فى استئصال شأفتهم ولذلك تكاثرت الآيات والأحاديث فى الحض على الجهاد وقد أشار القرآن العظيم إلى أنه لا حياة كريمة إلا بالمنهج القائم على شرع اللَّه والسيف الذى يحمى هذا
المنهج وأهله وفى ذلك يقول تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ثم يتبعها بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} فالحياة بلا منهج حياة بهيمية، والمنهج بلاسيف لا بقاء له، والسيف بلا منهج يجعل الحياة سَبُعِيَّة غابية. واللَّه أعلم.
[ما يفيده الحديث]
1 -
الحض على الجهاد ومداومة الاستعداد له.
2 -
كراهة الانقطاع إلى المزارع ونحوها وترك الجهاد.
3 -
أن من حمل على صف العدو ودخل فيه للقتال لا يكون قد ألقى بنفسه إلى التهلكة.
4 -
أن الإِلقاء فى التهلكة إنما هو بترك الجهاد لا بالشجاعة فيه.
19 -
وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: حرَّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نخل بنى النضير وقطع. متفق عليه.
[المفردات]
حرَّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نخل بنى النضير: أى أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه فى غزوة بنى النضير أن يشعلوا النار فى نخيل بنى النضير.
بنو النضير: هم قبيلة كبيرة من قبائل اليهود وكانوا بالبُوَيْرَة، وتقع جنوبى مسجد قباء، ومن العجيب قول الحافظ فى الفتح فى شرح هذا الحديث: وهى هنا مكان معروف بين المدينة وبين تيماء اهـ وتيماء تقع شمالى المدينة بين خيبر وتبوك.
وقطع: أى وأمر أصحابه رضى اللَّه عنهم باجتثاث بعض أشجار بنى النضير ولعلها الأشجار التى يسهل قطعها ويصعب تحريقها لشدة خضرتها وكثرة الماء فى عروقها.
[البحث]
أورد البخارى رحمه الله هذا الحديث فى كتاب المزارعة فى باب قطع الشجر والنخيل من طريق جويرية عن نافع عن عبد اللَّه رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه حرَّق نخل بنى النضير قطع وهى البويرة، ولها يقول حسان:
وَهَانَ على سَرَاةِ بنى لُؤَيٍّ
…
حريق بالبويرة مُسْتَطِير
وساقه فى الجهاد من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: حرَّق النبىُّ صلى الله عليه وسلم نخل بنى النضير. وساقه فى المغازى من طريق جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم حرَّق نخل بنى النضير. قال: ولها يقول حسان بن ثابت:
وهان على سراة بنى لؤى
…
حريق بالبويرة مستطير
وأورده فى تفسير سورة الحشر من طريق ليث عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حرَّق نخل بنى النضير وقطع وهى البويرة، فأنزل اللَّه تعالى:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} .
أما مسلم رحمه الله فقد أورده من طريق الليث باللفظ الذى أورده البخارى به من طريقه، وأورده من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قطع نخل بنى النضير وحَرَّقَ، ولها يقول حسان:
وهان على سَرَاة بنى لؤى
…
حريق بالبويرة مستطير
وفى ذلك نزلت {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا. الآية} ثم ساقه من طريق عبيد اللَّه عن نافع عن عبد اللَّه بن عمر قال: حرَّق رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم نخل بنى النضير اهـ.
أما قول حسان: (وهان على سراة بنى لؤى) فقد قال الحافظ فى الفتح: وإنما قال حسان ذلك تعييرا لقريش لأنهم كانوا أغروهم بنقض العهد وأمروهم به، ووعدوهم أن ينصروهم إن قصدهم النبى صلى الله عليه وسلم اهـ.
[ما يفيده الحديث]
1 -
جواز التحريق فى بلاد العدو إذا كان ذلك يُشَرِّد مَنْ خَلْفَهُمْ.
2 -
بذل الجهد فى إضعاف "اقتصاديات" العدو.
3 -
أن الأمر فى ذلك راجع إلى إمام المسلمين بحسب ما يرى فيه المصلحة.
20 -
وعن عبادة بن الصامت رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَا تَغُلُّوا فإن الغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ على أصحابه فى الدنيا والآخرة" رواه أحمد والنسائى وصححه ابن حبان.
[المفردات]
لا تَغُلُّوا: أى لا تخونوا فى المغنم، قال الحافظ فى الفتح:(قوله باب الغلول). بضم المعجمة واللام أى الخيانة فى المغنم قال ابن قتيبة: سمى بذلك لأن آخذه يغله فى متاعه أى يخفيه فيه، ونقل النووى الإجماع على أنه من الكبائر اهـ.
فإن الغلول نار: أى فإن الخيانة فى المغنم تسبب لصاحبها عذاب النار إن لم يتجاوز اللَّه عنه.
وعار: أى وخزى وفضيحة.
على أصحابه: أى على مرتكبيه ومقترفيه.
فى الدنيا والآخرة: أى فى العاجلة والآجلة ففى الدنيا العار وفى الآخرة النار على طريق اللف والنشر المشوش.
[البحث]
تقدم فى الحديث العاشر من أحاديث هذا الباب قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى الوصية للغزاة: "ولا تَغُلّوا" وقال البخارى (باب الغلول وقول
اللَّه عز وجل {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ثم ساق من طريق أبى زرعة قال: حدثنى أبو هريرة رضى اللَّه عنه قال: قام فينا النبى صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فَعَظَّمَهُ، وعَظَّمَ أمره، قال:"لا أُلْفِيَنَّ أحدَكم يوم القيامة على رقبته شاةٌ لها ثُغَاءٌ، على رقبته فرس له حَمْحَمَةٌ يقول: يا رسول اللَّه أغثنى فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير له رُغَاءٌ يقول: يا رسول اللَّه أغثنى فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، وعلى رقبته صَامِتٌ فيقول: يا رسول اللَّه أغثنى، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، وعلى رقبته رقاعٌ تخفق فيقول: يا رسول اللَّه أغثنى فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك" ثم ساق البخارى من طريق سالم بن أبى الجعد عن عبد اللَّه بن عمرو قال: كان على ثَقَل النبى صلى الله عليه وسلم رجل يقال له "كركرة" فمات، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"هو فى النار" فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غَلَّهَا اهـ وقوله فى الحديث (فعظمه وعظم أمره) أى بَيَّن عظيم ضرره وكبير شره على صاحبه، والثُّغَاءُ صوت الشاة، والحمحمة صوت الفرس عند العلف وهو دون الصهيل، والرغاء صوت البعير والصامت الذهب والفضة وقيل: ما لا روح له من أصناف المال. والمراد بالرقاع الثياب وقوله تخفق أى تَتَقَعْقَعُ وتضطرب إذا حركتها الرياح وقيل: تخفق أى تلمع.
وقد أخرج مسلم فى صحيحه حديث أبى هريرة من طريق أبى زرعة أيضا بقريب من لفظ البخارى إلا أن فيه تقديما وتأخيرا وفيه:
"لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته نَفْسٌ لها صياح" قال الحافظ فى الفتح: وكأنه أراد بالنفس ما يغله من الرقيق من امرأة أو صبى. اهـ وحديث الشيخين هذا يفسر قوله عز وجل {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أى يأت به حاملا له على رقبته. هذا وقد قيل: إن الغلول خاص بالخيانة فى المغنم والإِغلال الخيانة مطلقا. واللَّه أعلم.
[ما يفيده الحديث]
1 -
تحريم الغلول.
2 -
أن الغلول من الكبائر.
3 -
صيانة حقوق المجاهدين.
21 -
وعن عوف بن مالك رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قَضَى بالسَّلَبِ للقاتل" رواه أبو داود وأصله عند مسلم.
[المفردات]
قَضَى: أى حكم.
بالسَّلَبِ: بفتح السين واللام هو ما يكون مع المقتول من لباس وسلاح ودابة.
للقاتل: أى للغازى فى سبيل اللَّه الذى باشر قتل الكافر وأثخنه.
[البحث]
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل قال: ثنا الوليد
ابن مسلم قال: حدثنى صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير ابن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعى قال: خرجت مع زيد بن حارثة فى غزوة مؤتة، فرافقنى مدرى من أهل اليمن ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزورا، فسأله المدرى طائفة من جلده، فأعطاه إياه، فاتخذه كهيئة الدرق، ومضينا، فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب، وسلاح مذهب، فجعل الرومى يغرى بالمسلمين، فقعد له المدرى خلف صخرة، فمر به الرومى، فَعَرْقَبَ فرسه، فَخَرَّ، وعلاه فقتله، وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح اللَّه عز وجل للمسلمين، بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ من السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى ولكنى استكثرته، قلت: لتردنه عليه أو لأعرفنكها عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأبى أن يرد عليه، قال عوف: فاجتمعنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه قصة المدرى، وما فعل خالد، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"يا خالد ما حملك على ما صنعت؟ " قال: يا رسول اللَّه استكثرته، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"يا خالد رد عليه ما أخذت منه" قال عوف: فقلت: دونك يا خالد ألم أَفِ لك؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وما ذلك؟ " فأخبرته، قال: فغضب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "يا خالد لا ترد عليه، هل أنتم تاركو لى
أمرائى، لكم صنفوة أمرهم وعليهم كدره" ثم ساق أبو داود من طريق أحمد بن حنبل قال: ثنا الوليد قال: سألت ثورا عن هذا الحديث فحدثنى عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك الأشجعى نحوه. ثم ساق أبو داود من طريق سعيد بن منصور ثنا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعى وخالد بن الوليد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل، ولم يخمس السلب اهـ أما أصل هذا الحديث الذى فى مسلم فقد ساقه من طريق معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جُبَير عن أبيه عن عوف بن مالك قال: قتل رجل من حِمير رجلا من العدو فأراد سَلَبَهُ فمنعه خالد بن الوليد، وكان واليا عليهم فأتى رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عوفُ بن مالك فأخبره، فقال لخالد:"ما منعك أن تعطيه سَلَبَهُ؟ " قال: استكثرته يا رسول اللَّه قال: "ادفعه إليه" فمر خالد بعوف فَجَرَّ بردائه ثم قال: هل أنجزتُ لك ما ذكرتُ لك من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فسمعه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَاسْتُغْضِبَ، فقال: "لا تعطه يا خالد لا تعطه يا خالد هل أنتم تاركون لى أمرائى وإنما مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كمثَل رجل اسْتُرْعِى إبلا أو غنما فرعاها ثم تَحَيَّنَ سَقْيَهَا، فأوردها حوضا فشرعت فيه فشربت صفوه وتركت كدره، فَصَفْوُهُ لكم وكدره عليهم. ثم قال مسلم: وحدثنى زهير بن حرب حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا صفوان بن عمرو عن عبد الرحن بن جُبَيْر بن نُفَيْر عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعى قال: خرجت مع مَنْ خرج مع
زيد بن حارثه فى غزوة مؤتة ورافقنى مددى من اليمن، وساق الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم بنحوه غير أنه قال فى الحديث: قال عوف: فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضى بالسَّلب للقاتل؟ قال: بلى ولكنى استكثرته اهـ وقوله فى حديث مسلم "مددى" بِدَالَيْن بدل "مدرى" بدل وراء التى جاءت فى رواية أبى داود قال النووى فى قوله "ورافقنى مددى" أى جاء رجل من المدد الذى جاؤا يمدون جيش مؤتة ويساعدونهم اهـ.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن الأصل هو أن من قتل قتيلا فله سلَبه.
2 -
وأن للإِمام أن يمنع بعض السَّلَب عن القاتل إذا رأى فى ذلك مصلحة ولاسيما إذا كان السلب كثيرا.
3 -
ينبغى رعاية حق الأمراء وعدم الاستهانة بهم وهو يتحملون أعباء الرعية وثقل "المسئولية".
22 -
وعن عبد الرحمن بن عوف رضى اللَّه عنه فى قصة قتل أبى جهل قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال:"أيكما قتله؟ هل مسحتما سيفيكما؟ " قالا: لا. قال: فنظر فيهما، فقال:"كلاكما قتله؟ " فقضى صلى الله عليه وسلم بِسَلَبِه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. متفق عليه.
[المفردات]
فى قصة قتل أبى جهل: أى فى شأن قتل أبى جهل يوم بدر ومن استحق سلبه.
أبو جهل: هو عدو اللَّه فرعون هذه الأمة عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عُمَر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى. وكان لعنه اللَّه يكنى عند أهل الجاهلية أبا الحكم وقد قتله اللَّه تعالى يوم بدر، عليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين.
فابتدراه بسيفيهما: أى فتسابقا إلى أبى جهل بسيفيهما، والضمير للغلامين المتقدم ذكرهما فى قصة قتل أبى جهل.
فأخبراه: أى فَأَعْلَمَا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأنهما قتلا أبا جهل لعنه اللَّه هل مسحتما سيفيكما: أى هل أزلتما أثر دم أبى جهل من سيفيكما فنظر فيهما: أى فنظر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى سيفيهما.
كِلَاكما قتله: أى كِلَاكما كان له أثر فى قتله.
معاذ بن عمرو بن الجموح: هو معاذ بن عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غَنْم بن كعب بن سلمى رضى اللَّه عنه، وهو ممن شهد العقبه وبايع رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بها، وشهد بدرا ولما ضرب أبا جهل بسيفه ضربة صارمة أطنت قدمه جاء عكرمة وضرب معاذا على عاتقه فطرح يده رضى اللَّه عنه وعاش إلى زمن عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه.
[البحث]
روى البخارى ومسلم واللفظ لمسلم من طريق صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: بينا أنا واقف فى الصف يوم بدر نظرت. عن يمينى وشمالى فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت لو كنت بين أضلع منهما، فغمزنى أحدهما فقال: ياعم هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخى؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والذى نفسى بيده لئن رأيته لا يفارق سوادى سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، فغمزنى الآخر فقال مثلها، قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبى جهل يزول فى الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذى تسألان عنه قال: فابتدراه فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال:"أيكما قتله؟ " فقال كل واحد منهما: أنا قتلت. فقال: "هل مسحتما سيفيكما؟ " قالا: لا. فنظر فى السيفين فقال: "كلاكما قتله" وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح (والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء) ولفظ البخارى: فنظر فى السيفين فقال: "كلاكما قتله، سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح" وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح اهـ وقد جاء فى لفظ فى الصحيحين من حديث أنس قال قال النبى صلى الله عليه وسلم: "من ينظر ما صنع أبو جهل فانطلق ابن مسعود
فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، قال: أأنت أبو جهل قال: فأخذ بلحيته قال: وهل فوق رجل قتلتموه؟ . ولا معارضة بين قوله فى رواية الشيخين الأولى (والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء) وبين رواية أنس: قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، وبين محادثة أبى جهل مع ابن مسعود رضى اللَّه عنه وبين ما روى من أن ابن مسعود رضى اللَّه عنه أدركه وبه رمق وأنه أتاه من ورائه فتناول قائم سيف أبى جهل فاستله ورفع بيضة أبى جهل عن قفاه فضربه فوقع رأسه بين يديه وبين قوله صلى الله عليه وسلم كلاكما قتله، وقد جاء فى الصحيح ما يدل على أن معاذا ومعوِّذا ابنى عفراء شهدا بدرا، أقول: لا معاوضة فى ذلك كله، فكل واحد من هؤلاء كان له بعض الأثر فى قتل أبى جهل لعنة اللَّه عليه وكان أكثرهم أثرا هو معاذ بن عمرو ابن الجموح ولذلك أعطى سلبه وأما معوذ بن عفراء، فقد قاتل حتى استشهد فى المعركة ولذلك لم يحضر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سوى معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء. وأما قوله: حتى برد وفى حديث ابن مسعود: أدركه وبه رمق فإن قوله برد معناه فتر وخدر وسكن ولا ينافى أن تكون به بقية من حياة وبها خاطب ابن مسعود رضى اللَّه عنه. وعفراء ليست أم معاذ بن عمرو بن الجموح وإنما ولداها هما معاذ ومعوذ وهما ابنا الحارث واشتهرا بابنى عفراء. وقال بعض أهل العلم: إنما أطلق على معاذ بن عمرو بن الجموح اسم ابن عفراء تغليبا، واللَّه أعلم.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أنه إذا اشترك أكثر من شخص فى قتل الكافر وكانت ضربة واحد منهم أكثر إثخانا من غيره استحق سلبه.
2 -
أنه لابد فى استحقاق السلب من قرينة أو بينة على هذا القتل.
23 -
وعن مكحول رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم نَصَبَ المنجنيق على أهل الطائف" أخرجه أبو داود فى المراسيل، ورجاله ثقات، ووصله العُقَيْلِىُّ بإسناد ضعيف عن على.
[المفردات]
مكحول: هو فقيه الشام أبو عبد اللَّه ويقال أبو أيوب ويقال أبو مسلم مكحول بن عبد اللَّه الدمشقى عده ابن سعد فى الطبقات من الطبقة الثالثة من تابعى أهل الشام. روى عن أنس بن مالك وأبى هند وواثلة ابن الأسقع وروى عنه خلق كثير منهم الزهرى وربيعه ابن أبى عبد الرحمن وعطاء الخراسانى وكان من سبى كابل وصار مولى لامرأة من قيس وكان سنديا وعتق بمصر، وَطَوَّفَ فى الآفاق يطلب العلم حتى استقر بالشام وصار أشهر المفتين من أهل الشام. وقد اتهم بالقدر وذُكر أنه رجع عن ذلك. قال فى تقريب التهذيب:
مكحول الشامى أبو عبد اللَّه ثقة فقيه كثير الإِرسال مشهور، من الخامسة مات سنة بضع عشرة ومائة وأشار إلى أنه من رجال مسلم.
المنجنيق: آلة ترمى بها الحجارة.
ووصله العقيلى: أى رواه مسندا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن على رضى اللَّه تعالى عنه.
العقيلى: هو الإِمام الحافظ أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلى صاحب كتاب الضعفاء الكبير، سمع جده الأمه يزيد بن محمد العقيلى ومحمد بن إسماعيل الصائغ ويحيى بن أيوب العلاف ومحمد بن خزيمة وغيرهم، وحدث عنه خلق كثير منهم محمد بن نافع الخزاعى ويوسف بن الدخيل المصرى. وأقام العقيلى بالحرمين، وكان ثقة جليل القدر وتوفى سنة 322 هـ رحمه اللَّه تعالى.
[البحث]
قال الحافظ فى تلخيص الحبير: وروى أبو داود فى المراسيل عن ثور عن مكحول: أن النبى صلى الله عليه وسلم نصب على أهل الطائف المنجنيق. ورواه الترمذى فلم يذكر مكحولا، ذكره معضلا عن ثور اهـ
24 -
وعن أنس رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال:"اقتلوه" متفق عليه.
[المفردات]
دخل مكة: يعنى يوم الفتح.
المغفر: بكسر الميم وسكون الغين هو زَرَدٌ من الدرع يُلْبَسُ تحت القلنسوة على قدر الرأس أدر حلق يتقنع بها المتسلح، قال الحافظ فى الفتح: وفى المشارق: هو ما يجعل من فضل دروع الحديد على الرأس مثل القلنسوة.
فلما نزع المغفر: أى فلما خلع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذا اللباس الحربى.
جاءه رجل: أى حضر رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واختلف فى اسم هذا الرجل فقيل: هو أبو برزة الأسلمى، وقيل غيره.
ابن خطل: هو عبد العزى أو عبد اللَّه بن خطل واسم خطل عبد مناف، من بنى تيم بن فهر بن غالب القرشى كان أسلم ثم عدا على مسلم فقتله وارتد مشركا وكان يهجو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكان له قينتان تغنيان بهجاء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
وكان اسم إحداهما فَرْتَنَى والثانية قريبة. وقد قتلت إحداهما وهربت الأخرى ثم أسلمت ونجت من القتل يوم الفتح.
متعلق بأستار الكعبة: أى داخل بين الكعبة والثياب المرخاة على جدرانها الساترة لها وهو مستمسك بالحبال التى تشد بها أستار الكعبة مستجيرا من القتل، وقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أمَّن أهلَ مكة استثنى رجالا ونساء وأمر بقتلهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، منهم ابن خطل وقينتاه.
[البحث]
هذا الحديث أورده البخارى فى كتاب الحج من طريق عبد اللَّه بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل (وفى نسخة للبخارى جاءه رجل) فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال:"اقتلوه" وساقه فى المغازى من طريق يحيى بن قزعة حدثنا مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: "اقتله" اهـ. وقال مسلم: حدثنا عبد اللَّه بن مسلمة القعنبى ويحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد أما
القعنبى فقال: قرأت على مالك بن أنس وأما قتيبة فقال حدثنا مالك. وقال يحيى واللفظ له: قلت لمالك: أحدثك ابن شهاب عن أنس بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: "اقتلوه" فقال مالك: نعم اهـ قال الحافظ فى الفتح: والسبب فى قتل ابن خطل وعدم دخوله فى قوله: "من دخل المسجد فهو آمن" ما روى ابن إسحاق فى المغازى حدثنى عبد اللَّه بن أبى بكر وغيره أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة قال: "لا يقتل أحد إلا من قاتل إلا نفر سماهم فقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة، منهم عبد اللَّه بن خطل وعبد اللَّه بن سعد اهـ. وقوله فى إحدى روايات البخارى: "اقتله" يفيد أن الذى تولى قتل ابن خطل هو الرجل الذى أخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. قال الحافظ فى الفتح: وقد جزم الفاكهى فى شرح العمدة بأن الذى جاء بذلك هو أبو برزة الأسلمى وكأنه لما رجح عنده أنه هو الذى قتله رأى أنه هو الذى جاء مخبرا بقصته، ويرشحه قوله فى رواية يحيى بن قزعة فى المغازى: فقال: "اقتله" بصيغة الإِفراد، على أنه اختلف فى اسم قاتله اهـ، ثم ساق الحافظ من حديث سعد بن أبى وقاص عند البزار والحاكم والبيهقى فى الدلائل أنه قال: "أربعة نفر وامرأتين فقال "اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة" فذكرهم، وقال:
فأما عبد اللَّه بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان أشب الرجلين فقتله اهـ. ثم قال الحافظ: وروى ابن أبى شيبة من طريق أبى عثمان الهندى أن أبا برزة الأسلمى قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وإسناده صحيح مع إرساله، وله شاهد عند ابن المبارك فى البر والصلة من حديث أبى برزة نفسه ورواه أحمد من وجه آخر وهو أصح ما ورد فى تعيين قاتله وبه جزم البلاذرى وغيره من أهل العلم بالأخبار اهـ.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن الحرم لا يعيذ عاصيا.
2 -
جواز دخول مكة من غير إحرام لمن لم يرد الحج أو العمرة.
3 -
جواز قتل الأسير صبرا.
4 -
أن رفع أخبار أهل الفساد إلى ولاة الأمر المسلمين ليس من باب الغيبة ولا النميمة.
5 -
أن اتخاذ آلات الحرب لا ينافى التوكل على اللَّه عز وجل.
6 -
حرص أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على تطهير الأرض من أعداء الإِسلام.
7 -
لا يجوز لأحد من المسلمين قتل أحد مستوجب للقتل إلا بأمر الإمام.
8 -
أن من عُرِفَ أنه يسب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
جاز للإِمام أن يقتله دون أن يستتيبه.
25 -
وعن سعيد بن جبير رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَتَل يَوْمَ بدرٍ ثلاثةً صَبرا. أخرجه أبو داود فى المراسيل ورجاله ثقات.
[المفردات]
سعيد بن جبير: هو الإِمام المقرئ الفقيه أحد الأعلام الأثبات الثقات أبو عبد اللَّه سعيد بن جبير الكوفى الوالبى الأسدى مولى بنى والبة بطن من أسد بن خزيمة، روى عن جماعة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منهم ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وابن الزبير وعدى بن حاتم وعبد اللَّه بن مغفل وأنس ابن مالك رضى اللَّه عنهم، وروى عنه جعفر بن أبى المغيرة وجعفر بن إياس وأيوب والأعمش وعطاء ابن السائب وعمرو بن دينار وخلق كثير. وقد أثر أن ابن عباس رضى اللَّه عنهما كان إذا حج أهل الكوفة وسألوه يقول لهم: أليس فيكم سعيد ابن جبير؟ وكان سعيد أسود اللون يلبس عمامة ويرخيها من ورائه شبرا، وقد قتله الحجاج بن يوسف فى
شعبان سنة خمس وتسعين وله تسع وأربعون سنة على الأشهر، وقيل بل عاش بضعا وخمسين سنة رحمه اللَّه تعالى.
يوم بدر: أى بعد انتهاء معركة بدر وأخذ الأسارى.
ثلاثة: أى من الأسارى.
صبرا: أصل الصبر الحبس والمراد هنا أن يمسك الإِنسان ويحبس عن الحركة ثم يضرب حتى يموت.
[البحث]
قال فى تلخيص الحبير: قال الشافعى: أنا عدد من أهل العلم من قريش وغيرهم من أهل العلم بالمغازى أن النبى صلى الله عليه وسلم أسر النضر بن الحارث العبدرى يوم بدر وقتله صبرا. وأسر عقبة بن أبى معيط يوم بدر وقتله صبرا، وروى البيهقى من طريق محمد بن يحيى بن سهل بن أبى حثمة عن أبيه عن جده: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما أقبل بالأسارى وكان بعرق الظبية أمر عاصم بن ثابت فضرب عنق عقبة بن أبى معيط صبرا، فقال: من للصبيه يا محمد؟ قال: النار، ورواه الدارقطنى فى الافراد وزاد: فقال: النار لهم ولأبيهم. وفى المراسيل لأبى داود عن سعيد بن جبير: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر ثلاثة من قريش صبرا: المطعم بن عدى، والنضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط انتهى وفى قوله: المطعم بن عدى تحريف، والصواب: طعيمة بن عدى، بهذا
أخرجه ابن أبى شيبة ووصله الطبرانى فى الأوسط بذكر ابن عباس اهـ هذا وقد روى مسلم فى صحيحه من طريق عبد اللَّه بن مطيع عن أبيه قال سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة: "لا يقتل قرشى صبرا بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة".
26 -
وعن عمران بن حصين رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَدَى رجلين من المسلمين برجل من المشركين. أخرجه الترمذى وصححه وأصله عند مسلم.
[المفردات]
فدى رجلين من المسلمين: أى أنقذ رجلين من المسلمين وخلصهما من أسر المشركين برجل من المشركين، أى فى مقابلة إطلاق أسير من الوثنيين كان فى أسر المسلمين.
[البحث]
قال الترمذى رحمه الله: حدثنا ابن أبى عمر ثنا سفيان ثنا أيوب عن أبى قلابة عن عمه عن عمران بن حصين أن النبى صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين. هذا حديث حسن صحيح، عم أبى قلابة هو أبو المهلَّب واسمه عبد الرحمن بن عمرو ويقال معاوية
ابن عمر وأبو قلابة اسمه عبد اللَّه بن زيد الجرمى اهـ وأصل هذا الحديث عند مسلم من طريق أيوب عن أبى قلابة عن أبى المهلَّب عن عمران ابن حصين قال: كانت ثقيف حلفاء لبنى عُقَيْل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلا من بنى عُقَيْل وأصابوا معه العَضْبَاء فَأتَى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو فى الوثاق، قال يا محمد، فأتاه، فقال:"ما شأنك؟ " فقال: بم أخذْتَنى وبم أخذْتَ سابقة الحاج؟ فقال (إعظاما لذلك): "أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف" ثم انصرف عنه، فناداه، فقال: يا محمد يا محمد وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رحيما رقيقا، فرجع إليه فقال:"ما شأنك؟ " قال: إنى مسلم، قال:"لو قُلْتَهَا وأنت تملك أمرك أَفَلَحْتَ كل الفلاح" ثم انصرف فناداه، فقال: يا محمد يا محمد، فأتاه، فقال:"شأنك؟ " قال: إنى جائع فَاطْعِمنى وَظَمْآن فَاسْقِنى قال: "هذه حاجتك" فَفُدِىَ بالرجلين. قال: وَأسِرَتْ امرأة من الأنصار، وأُصيبَتْ العضباء، فكانت المرأة فى الوثاق، وكان القوم يُرِيحُون نَعَمَهُمْ بين يَدَى بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق فأتت الإِبل فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتس إلى العضباء فلم تَرْغُ، قال: ونَاقة مُنَوَّقَةٌ فقعدت فى عَجُزِهَا ثم زَجَرَتْهَا فَانْطَلَقَتْ، ونَذِرُوا بها فَطَلَبُوهَا فأعجَزَتْهُمْ، قال: وَنَذَرَتْ للَّه إنْ نَجَّاهَا اللَّه عليها لَتَنْحَرَنَّهَا، فلما قَدِمَت المدينة رآها الناس، فقالوا: العضباء ناقة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: إنها نذرت إن نجاها اللَّه عليها لتنحرنها، فأتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له
فقال: سبحان اللَّه بئسما جَزَتْهَا. نَذَرَتْ للَّه إن نجاها اللَّه عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر فى معصية ولا فيما لا يملك العبد اهـ وقوله: ناقة مُنَوَّقَة أى وكانت العضباء ناقة مدربة مذللة.
[ما يفيده الحديث]
1 -
جواز مفاداة الأسير المسلم بأسير أو أكثر من المشركين.
2 -
حرص الإِسلام على تحرير الأسارى.
27 -
وعن صخر بن العَيْلَة رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم" أخرجه أبو داود ورجاله مُوَثَّقُونَ.
[المفردات]
صخر بن العيلة: قال فى تهذيب التهذيب: صخر بن العيلة بن عبد اللَّه بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن أسلم بن أحمس الأحمسى، له صحبة، وروى حديثه أبان ابن عبد اللَّه بن أبى حازم الأحمسى عن عمه عثمان ابن أبى حازم عن أبيه عن جده صخر بن العيلة أن النبى صلى الله عليه وسلم غزا ثقيفا. قلت: قال ابن السكن والبغوى: ليس له غيره، وذكره ابن سعد فى مسلمة الفتح، وقال: روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أحاديث قال ابن عبد البر: يقال إن العيلة أمه اهـ
أحرزوا: أى حازوا وصانوا وحصنوا.
دماءهم: أى فلا يجوز لأحد أن يريقها إلا بحق.
وأموالهم: أى فلا يجوز لأحد أن يستولى عليها إلا بحق.
[البحث]
قال أبو داود: حدثنا عمر بن الخطاب أبو حفص ثنا الفريابى ثنا أبان قال عُمَرُ: وهو ابن عبد اللَّه بن أبى حازم قال: حدثنا عثمان ابن أبى حازم عن أبيه عن جده صخر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غزا ثفيفا، فلما أن سمع ذلك صخر ركب فى خيل يمد النبى صلى الله عليه وسلم فوجد نبى اللَّه صلى الله عليه وسلم قد انصرف ولم يفتح، فجعل صخر يومئذ عهد اللَّه وذمته أن لا يفارق هذا القصر حتى ينزلوا على حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلم يفارقهم حتى نزلوا على حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه صخر: أما بعد فإن ثقيفا قد نزلت على حكمك يا رسول اللَّه وأنا مقبل إليهم وهم فى خيل، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالصلاة جامعة، فدعا لأحمس عشر دعوات:"اللهم بارك لأحمس فى خيلها ورجالها" وأتاه القوم، فتكلم المغيرة بن شعبة، فقال: يا نبى اللَّه إن صخرا أخذ عمتى ودخلت فما دخل فيه المسلمون، فدعاه، فقال:"يا صخر إن القوم قد أسلموا، أحرزوا دماءهم وأموالهم، فادفع إلى المغيرة عمته" فدفعها إليه، وسأل نبى اللَّه صلى الله عليه وسلم ما لبنى سليم قد هربوا عن الإسلام
وتركوا ذلك الماء؟ فقال: يا نبى اللَّه أنزلنيه أنا وقومى قال: "نعم" فأنزله، وأسلم يعنى السلميين فأتوا صخرا فسألوه أن يدفع إليهم الماء فأبى، فأتوا النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبى اللَّه أسلمنا وأتينا صخرا ليدفع إلينا ماءنا، فأبى علينا، فأتاه فقال:"يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم فادفع إلى القوم ماءهم قال: نعم يا نبى اللَّه، فرأيت وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتغير عند ذلك حمرة حياء من أخذه الجارية وأخذه الماء اهـ. وقد وصف المصنف رجال هذا الحديث بأنهم موثقون، وهذا المعنى الذى يدل عليه هذا الحديث يؤكده ما رواه البخارى ومسلم من طريق أبى هريرة عن عمر رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه، فمن قالها فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على اللَّه "الحديث".
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن من أسلم من الكفار فقد عصم دمه وماله.
2 -
أن المقصود من الجهاد هو إعلاء كلمة اللَّه وإسعاد الناس بالإِسلام لا سفك دمائهم ولا أخذ أموالهم.
28 -
وعن جبير بن مطعم رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى أُسَارَى بدر: "لو كان المطعم بن عدى حيا ثم كلمنى فى
هؤلاء النَّتْنَى لتركتهم له" رواه البخارى.
[المفردات]
فى أسارى بدر: أى فى شأن من أسِرُوا من المشركين يوم معركة بدر وقد طُلِب منهم الفداء.
لو كان المطعم بن عدى إلخ: أى لو كان المطعم بن عدى النوفلى القرشى موجودا الآن لم يمت وطلب منى إطلاق هؤلاء الأسرى المنتنين النَّجَس بدون فداء لأطلقتهم من أجله.
المطعم بن عدى: هو المطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف القرشى النوفلى أحد المشركين الذين كانوا يدافعون عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى مكة، وأحد الذين ساهموا فى نقض صحيفة المقاطعة التى كانت كتبتها قريش ضد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومن معه، حين حصروهم فى الشعب وهو الذى استقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف وأمر أربعة من أولاده فلبسوا السلاح وقام كل واحد منهم عند ركن من الكعبة لحماية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من قريش، وكان يطلب من قريش أن يكفوا عن أذى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة. وقد مات المطعم كافرا قبل موقعة بدر وله بضع وتسعون سنة.
النَّتْنى: جمع نَتِن أو نَتِين، فهو كَزَمْنَى جمع زَمِن أو كجَرْحَى جَمع جَرِيج، والمراد أنهم خبيثوا النفوس نَجَسُ بسبب شركهم.
لتركتهم له: أى لأطلقت هؤلاء الأسرى بدون فداء من أجله.
[البحث]
هذا الحديث رواه البخارى فى المغازى من طريق الزهرى عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: فى أسارى بدر "لو كان المطعم بن عدى حيا ثم كلمنى فى هؤلاء النتنى لتركتهم له" وقد كان عدد الأسرى من المشركين يوم بدر سبعين أسيرا وقد استشار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه رضى اللَّه عنهم فى الأسرى فأشار أبو بكر رضى اللَّه عنه بأن يأخذ منهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الفدية وأشار عمر رضى اللَّه عنه بقتلهم وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا خير بين أمرين اختار الأيسر منهما فاختار أن يأخذ منهم الفداء، وقد روى مسلم فى صحيحه هذه القصة من طريق أبى زُمَيْل سماك الحنفى عن عبد اللَّه بن عباس قال: حدثنى عمر بن الخطاب قال: لما كان يومُ بدر نظر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألْفُ، وأصحابه ثلثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبىُّ اللَّه صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه:
"اللهم أنْجِزْ لى ما وعدتنى، اللهم آت ما وعدتنى، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد فى الأرض" فما زال يهتف بربه، مادًّا يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبى اللَّه كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل اللَّه عز وجل:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} فأمده اللَّه بالملائكة قال: أبو زميل: فحدثنى ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد فى أثَر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصَوتَ الفارس يقول: أقْدِمْ حَيزُومُ، فنظر إلى المشرك أمامه فَخَرَّ مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خُطمَ أنفُهُ، وَشُقَّ وَجهُهُ، كَضَرْبَةِ السوط، فَاخْضَرَّ ذلك أجْمَعُ، فجاء الأنصارىُّ فحَدَّثَ بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: صَدَقتَ، ذلك من مَدَدِ السماء الثالثة، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. قال أبو زميل: قال ابن عباس: فلما أسَرُوا الأُسارَى قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأبى بكر وعمر: "ما تَرَوْنَ فى هؤلاء الأُسارَى؟ " فقال أبو بكر: يا نبى اللَّه هم بنو العم والعشيرة أَرَى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى اللَّه أن يهديهم للإِسلام فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قلت: لا واللَّه يا رسول اللَّه ما أرى الذى رأى أبو بكر ولكنى أرى أن تُمَكِّنَّا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا، من
عقيل فيضرب عنقه، وتمكنى من فلان (نسيبا لعمر) فأضربا عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فَهَوِيَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يَهوَ ما قلت. فلما كان من الغد جئت فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قَاعِدَين يبكيان قلت: يا رسول اللَّه أخبرنى من أى شئ تبكى أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أبكى للذى عَرَضَ علىَّ أصحابُك من أخذهم الفداء، لقد عُرِضَ علىَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة" (شجرة قريبة من نبى اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنزل اللَّه عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} فأحل اللَّه الغنيمة لهم اهـ.
[ما يفيده الحديث]
1 -
جواز المن على الأسير وإطلاقه بدون فداء.
2 -
جواز أخذ الفداء من الأسير.
3 -
استحباب مكافأة من أسدي إليك يدا وإن كان كافرا.
29 -
وعن أبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنه قال: أصبنا
سبايا يوم أوطاس لهن أزواج، فَتحَرَّجُوا، فأنزل اللَّه تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية، أخرجه مسلم.
[المفردات]
أصبنا: أى وجدنا وأدركنا.
لهن أزواج: أى للسبايا أزواج مشركون فى دار الحرب.
فَتَحرَّجُوا: أى فَتَخَوَّفَ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من وطء السبايا اللاتى لهن أزواج وخافوا أن يقعوا فى الإِثم والحرج.
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم: أى وحرمت عليكم المتزوجات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم من الإِماء بالسبى فلكم وطؤهن بعد الاستبراء وإن كان لهن أزواج فى دار الحرب لوقوع الفرقة بتباين الدارين ولذلك يقول الفرزدق:
وذات حليل أنكحتها رماحنا
…
حلال لمن يبنى بها لم تطلق
[البحث]
أخرج مسلم فى صحيحه من طريق يزيد بن زُرَيع حدثنا سعيد ابن أبى عروبة عن قتادة عن صالح أبى الخليل عن أبى علقمة
الهاشمى عن أبى سعيد الخدرى أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس، فلقوا عدوا، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناسا من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن، من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل اللَّه عز وجل فى ذلك {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أى فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن. ثم ساقه من طريق عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن أبى الخليل أن أبا علقمة الهاشمى حدَّث أن أبا سعيد الخدرى حدثهم أن نبى اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين سرية، بمعنى حديث يزيد بن زريع غير أنه قال:"إلا ماملكت أيمانكم" منهن فحلال لكم ولم يذكر "إذا انقضت عدتهن" ثم ساقه من طريق شعبة عن قتادة عن أبى الخليل عن أبى سعيد قال: أصابوا سَبْيا يوم أوطاس لهن أزواج، فتخوفوا، فَأُنْزِلَتْ هذه الَاية {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن من سبيت من نساء المشركين وهى متزوجة بانت من زوجها بالسبى.
2 -
أنه لا يحل نكاح متزوجة إلا من سبيت لوقوع الفرقة بينها وبين زوجها بالسبى.
3 -
احتياط أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وخوفهم من الوقوع فى الإِثم والحرج.
30 -
وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: بعث رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم سرية وأنا فيهم قِبَلَ نجد، فَغَنِمُوا إبلًا كثيرة، فكانت سُهمَانُهُم اثنى عشر بعيرا، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا. متفق عليه.
[المفردات]
وأنا فيهم: أى وعبد اللَّه بن عمر ضمن هذه السرية.
قِبَلَ نجد: أى جهة نجد يعنى كانت السرية مبعوثة من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى جهة نجد والمراد بها هنا غطفان بأرض محارب وكانت قبل مؤتة أو فى شعبان أو رمضان من سنة ثمان من الهجرة، وكان أميرها أبا قتادة رضى اللَّه عنه.
سُهمَانهم: أى أنصباؤهم من الغنيمة فهى جمع سَهْم بمعنى النصيب.
وَنُفِّلُوا بعيرا بعيرا: أى وزيد كل واحد منهم على نصيبه من الغنيمة بعيرا واحدا. وأصل النفل الزيادة والمراد هنا: زيادة يزادها الغازى على نصيبه من المغنم.
[البحث]
هذا الحديث رواه البخارى فى كتاب فرض الخمس من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما ولفظه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عبد اللَّه بن عمر قِبَلَ نجد، فغنموا إبلا كثيرة فكانت سهامهم اثنى عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا ونُفِّلُوا بعيرا بعيرا. وساقه فى المغازى من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: بعث النبى صلى الله عليه وسلم سرية قِبَلَ نجد، فكنت فيها، فبلغت سهماننا اثنى عشر بعيرا ونُفِّلْنَا بعيرا بعيرا، فرجعنا بثلاثة عشر بعيرا اهـ وأخرجه مسلم من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر قال: بعث النبى صلى الله عليه وسلم سرية وأنا فيهم قِبَلَ نجد فغنموا إبلا كثيرة فكانت سهمانهم اثنى عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا ونُفِّلُوا بعيرا بعيرا. ثم ساقه من طريق الليث عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث سرية قِبَلَ نجد وفيهم ابن عمر وأنَّ سهمانهم بلغت اثنى عشر بعيرا، ونُفِّلُوا سوى ذلك بعيرا، فلم يغيره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وساقه من طريق عبيد اللَّه بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد فخرجت فيها فأصبنا إبلا وغنما فبلغت سهماننا اثنى عشر بعيرا اثنى عشر بعيرا ونفلنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا اهـ والذى نفل كل واحد منهم بعيرا هو أميرهم أبو قتادة رضى اللَّه عنه وقوله هنا "ونفلنا رسول اللَّه بعيرا بعيرا"
أى وأقر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم النَّفَل الذى نَفَّلنَاه أمِيرنا، بدليل قوله فى رواية الليث عند مسلم: وَنُفَّلُوا سوى ذلك بعيرا فلم يغيره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. واللَّه أعلم. قال الحافظ فى الفتح: وفى الحديث أن الجيش إذا انفرد منه قطعة فغنموا شيئا كانت الغنيمة للجميع، قال ابن عبد البر: لا يختلف الفقهاء فى ذاك أى إذا خرج الجيش جميعه ثم انفردت منه قطعة انتهى، وليس المراد الجيش القاعد فى بلاد الإِسلام فإنه لا يشارك الجيش الخارج إلى بلاد العدو اهـ.
[ما يفيده الحديث]
1 -
يجوز أن يُنَفلَ الإِمام أو الأمير رجاله من الغنيمة فوق نصيبهم.
2 -
أنه إذا انفردت قطعة من الجيش فغنموا شيئا كانت الغنيمة للجميع.
3 -
استحباب تشجيع بعض أفراد الجيش الذين يقومون ببعض المهام الخاصة.
31 -
وعنه رضى اللَّه عنه قال: قَسَمَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين وللرَّاجِل سهما، متفق عليه، واللفظ للبخارى. ولأبى داود: أسْهَمَ لرَجُلٍ ولفرسه ثلاثة أسهم: سهمين لفرسه وسَهْمًا له.
[المفردات]
وعنه: أى وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما.
يوم خيبر: أى يوم غزوة خيبر.
للفرس سهمين: أى أعطى للفارس سهمين عن فرسه زيادة على سهمه فيكون للفارس وفرسه ثلاثة أسهم.
وللراجل سهما: أى وأعطى لمن يقاتل من المشاة سهما واحدا فالمراد بالراجل هنا المقاتل من المشاة وجمعه رِجَال كقوله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} أى مشاة على أرجلهم.
ولأبى داود: أى من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما.
سهمين لفرسه: أى سهمين من أجل فرسه الذى قاتل عليه.
وسهما له: أى وسهما من إجله.
[البحث]
هذا الحديث أورده البخارى فى باب سهام الفرس من كتاب الجهاد، من طريق أبى أسامة عن عبيد اللَّه عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما، وساقه فى المغازى فى باب غزوة خيبر من طريق زائدة عن عبيد اللَّه بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهما، قال: فسره نافع فقال:
إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثه أسهما فإن لم يكن له فرس فله سهم اهـ قال الحافظ فى الفتع: والقائل قال: فسره نافع: هو عبيد اللَّه بن عمر العمرى الراوى عنه وهو موصول بالإِسناد المذكور إليه اهـ، أما مسلم رحمه الله فقد قال: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو كامل فُضَيْل بن حسين كلاهما عن سُلَيْم قال يحيى: أخبرنا سُلَيْم ابن أخضر عن عبيد اللَّه بن عمر حدثنا نافع عن عبد اللَّه بن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قسم فى النَّفَلِ للفرس سهمين وللرَّجُلِ سهما، حدثناه ابن نمير حدثنا أبى حدثنا عبيد اللَّه بهذا الإِسناد مثله ولم يذكر فى النَّفَل اهـ، وقال أبو داود:(باب فى سُهْمان الخيل) حدثنا أحمد بن حنبل ثنا أبو معاويه ثنا عبيد اللَّه عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سَهمًا لَهُ وسهمين لفرسه اهـ.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن الفارس المقاتل على فرسه يستحق ثلاثة أسهم منها سهمان من أجل فرسه وسهم من أجله.
2 -
أن للراجل سهما واحد.
3 -
الحض على اقتناء الخيل للجهاد فى سبيل اللَّه، وهى معقود فى نواصيها الخير.
4 -
الحض على العناية بالمعدات الحربية وآلات القتال.
32 -
وعن معن بن يزيد رضى اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نَفَلَ إلا بعد الخُمس" رواه أحمد وأبو داود وصححه الطحاوى.
[المفردات]
معن بن يزيد: هو أبو يزيد معن بن يزيد بن الأخنس بن حبيب ابن حرة بن زغب بن مالك بن عفاف بن عتبة بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم السلمى المدنى الكوفى ث المصرى ثم الشامى له ولأبيه ولجده صحبة رضى اللَّه عنهم، وقد روى عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أبو الجويرية الجرمى وسهيل بن ذراع وعتبة بن رافع، وقد شهد مرج راهط مع الضحاك بن قيس سنة أربع وستين قال فى تهذيب التهذيب: وقال ابن سميع قتل هو أبوه فى ذلك اليوم، ويروى عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبى حبيب أن معن بن يزيد هو وأبوه وجده شهدوا بدرا، ولم يتابع على هذا اهـ.
لا نفل إلا بعد الخُمُس: أى لا يزاد للغازى على سهمه من الغنيمة إلا بعد فرز خمس الغنيمة المذكور فى قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.
[البحث]
قال أبو داود: (باب فى النَّفَل من الذهب والفضة ومن أول مغنم) حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى أخبرنا أبو إسحاق الفزارى عن عاصم بن كليب عن أبى الجويرية الجرمى قال: أصبت بأرض الروم جرة حمراء فيها دنانير فى إمرة معاوية وعلينا رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم من بنى سليم يقال له: معن بن يزيد فأتيته بها فقسمها بين المسلمين، وأعطانى منها مثل ما أعطى رجلا منهم، ثم قال: لولا أنى سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نَفَلَ إلا بعد الخُمس" لأعطيتك، ثم أخذ يعرض علىَّ من نصيبه، فأبيت، حدثنا هناد عن ابن المبارك عن أبى عوانة عن عاصم بن كليب بإسناده ومعناه اهـ، ومحبوب بن موسى صدوق وأبو إسحاق الفزارى قال ابن معين ثقة ثقة، وعاصم بن كليب بن شهاب الجرمى من رجال مسلم وأبو الجويرية حِطَّان بن خُفَاف الجرمى من رجال البخارى وهناد بن السرى من رجال مسلم، وابن المبارك من رجال الجماعة وأبو عوانة وضاح بن عبد اللَّه اليشكرى من رجال الجماعة أيضا، وبهذا يكون هذا الحديث حريا بالتصحيح.
[ما يفيده الحديث]
1 -
جواز التنفيل من الغنيمه.
2 -
لا يكون التنفيل إلا بعد فرز الخمس.
33 -
وعن حَبيب بن مَسْلَمَةَ رضى اللَّه عنه قال: شَهِدْتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ الرُّبْعَ فى البَدْأَةِ وَالثُّلُثَ فى الرَّجْعَةِ. رواه أبو داود وصححه ابن الجارود وابن حبان والحاكم.
[المفردات]
حبيب بن مسلمة: هو أبو عبد الرحمن أو أبو مسلمة أو أبو سلمة حبيب بن مسلمة بن مالك بن وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر القرشى الفهرى. قال البخارى له صحبة، وقال الزبير بن بكار: كان شريفا وقد سمع من النبى صلى الله عليه وسلم. وقد ولاه عمر رضى اللَّه عنه أعمال الجزيرة وضم إليه أرمينية وأذربيجان. وقال فى تهذيب التهذيب: قال ابن منيع: مات فى خلافة معاوية، وقال ابن سعد: لم يزل مع معاوية فى حروبه، ووجهه إلى أرمينية واليا فمات بها ولم يبلغ الخمسين وذلك سنة (42) وقيل مات بدمشق، أخرجا له حديثا واحدا فى النَّفَلِ. قلت: وأخرجه ابن حبان فى صحيحه وأبو ذر الهروى فى المستخرج على إلزامات الدارقطنى، وله ذكر فى الصحيح فى حديث سالم بن عبد اللَّه ابن عمر وعكرمة بن خالد جميعا عن ابن عمر،
وفيه: فقال حبيب بن مسلمة لابن عمر: فهلا أجبته يعنى معاوية؟ فقال: خشيت أقول كلمة تفرق الجمع قال: فقال له حبيب: حفظت وعصمت. وقال سعيد بن عبد العزيز: كان فاضلا مجاب الدعوة اهـ
نَفَّلَ الرُّبُعَ فى البَدْأَةِ: أى زاد للغازى فوق سهمه من الغنيمة الرُّبع عند الدخول إلى أرض المعركة أو عند الهجوم الأول.
وَالثُّلُثَ فى الرجعة: أى وزاد الغازى فوق سهمه من الغنيمة الثلث عند القفول من أرض المعركة والرجوع إلى وطنه، أو معاودة الكرة على العدو مرة أخرى. قال الخطابى: والبدأة إنما هى ابتداء السفر للغزو إذا نهضت سرية من جملة العسكر، فإذا أوقعت بطائفة من العدو فما غنموا كان لهم فيه الربع ويشركهم سائر العسكر فى ثلاثة أرباعه، فإن قفلوا من الغزوة ثم رجعوا فأوقعوا بالعدو ثانية كان لهم مما غنموا الثلث لأن نهوضهم بعد القفول أشد لكون العدو على حذر وحزم اهـ
[البحث]
قال أبو داود: حدثنا عبد اللَّه بن أحمد بن بشير بن ذكوان ومحمود بن خالد الدمشقيان المعنى قالا: ثنا مروان بن محمد قال: ثنا يحيى بن حمزة
قال: سمعت أبا وهب يقول: سمعت مكحولا يقول: كنت عبدا بمصر لامرأة من بنى هذيل فأعتقتنى فما خرجت من مصر وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى ثم أتيت الشام فغربلتها كل ذلك أسأل عن النفل فلم أجد أحدا يخبرنى فيه بشئ حتى أتيت شيخا يقال له زياد ابن جارية التميمى فقلت له: هل سمعت فى النَّفَل شيئا؟ قال: نعم سمعت حبيب بن مسلمة الفهرى يقول: شهدت النبى صلى الله عليه وسلم نفل الربع فى البدأة والثلث فى الرجعة اهـ وعبد اللَّه بن أحمد بن بشير بن ذكوان البهرانى الدمشقى صدوق، ومحمود بن خالد السلمى أبو على الدمشقى ثقة ومروان بن محمد بن حسان الأسدى الدمشقى ثقة. ويحيى بن حمزة بن واقد الحضرمى أبو عبد الرحمن الدمشقى ثقة من رجال الجماعة، وأبو وهب عبيد اللَّه بن عبيد الكلاعى صدوق ومكحول من رجال مسلم، وزياد بن جارية ويقال له زايد أو يزيد أو زيد بن جارية التميمى الدمشقى قال فى التقريب: يقال له صحبة وقد وثقه النسائى اهـ وقد أخرج ابن ماجه هذا الحديث من طريق على بن محمد ثنا وكيع عن سفيان عن عبد الرحمن بن الحارث الزُّرَقى عن سليمان بن موسى عن مكحول عن أبى سَلَّام الأعرج عن أبى أمامة عن عبادة بن الصامت أن النبى صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ فى البَدْأةِ الرُّبُعَ، وفى الرجعة الثلث اهـ
وقوله فى سند ابن ماجه (عبد الرحمن بن الحارث الزرقى) صوابه المخزومى وهو صدوق له أوهام وساق الترمذى هذا الحديث من طريق محمد بن بشار عن عبد الرحمن بن مهدى عن سفيان بنفس سند ابن ماجه إلا أنه قال: وفى القفول الثلث ثم قال الترمذى: وفى الباب عن ابن عباس وحبيب بن مسلمة ومعن بن يزيد وابن عمر وسلمة بن الأكوع وحديث عبادة حديث حسن اهـ.
[ما يفيده الحديث]
1 -
جواز التنفيل من الغنيمة.
2 -
جواز أن ينفل الإِمام أو الأمير الربع عند البدأة.
3 -
جواز أن ينفل الإِمام أو الأمير الثلث عند الرجعة.
34 -
وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُنَفِّلُ بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسمة عامَّة الجيش. متفق عليه.
[المفردات]
يُنَفِّلُ: أى يزيد.
يبعث من السرايا: أى يرسل من فرق الجيش للهجوم على العدو وحدهم دون بقية العسكر.
لأنفسهم خاصة: أى لهم دون من لم يشهد معهم هذا الهجوم من العسكر.
سوى قسمة عامة الجيش: أى زيادة على نصيبهم الذى يحصلون عليه كبقية أفراد العسكر.
[البحث]
أخرج البخارى هذا الحديث من طريق عُقَيْل عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يُنَفِّلُ بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسْمِ عامة الجيش وأخرجه مسلم من طريق عُقيل بن خالد عن ابن شهاب عن سالم عن عبد اللَّه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد كان يُنَفِّلُ بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش، والخمس فى ذلك واجب كله.
[ما يفيده الحديث]
1 -
جواز تخصيص بعض السرايا بالتنفيل دون بعض.
2 -
أن الترغيب والحض على الجهاد بالتنفيل لا يضر فى إخلاص المجاهدين.
35 -
وعنه رضى اللَّه عنه قال: كنا نصيب فى مغازينا العَسَلَ والعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ ولا نرفعه، رواه البخارى، ولأبى داود: فلم يُؤخَذ منهم الخُمُسُ. وصححه ابن حبان.
[المفردات]
وعنه: أى وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما.
نصيب فى مغازينا العسل والعنب: أى نأخذ من أرض العدو أثناء غَزوِنَا لهم من عسلهم وعنبهم.
فنأكله ولا نرفعه: أى فنطعمه ولا نسلمه لمن يتولى أمر الغنيمة، أو لا ندخره.
ولأبى داود: أى من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما.
فلم يؤخذ منهم الخمس: أى لم يحتسب العسل والعنب الذى أكلوه أثناء الغزوة من أنصبائهم ولم يخمسه عليهم.
[البحث]
هذا الحديث أخرجه البخارى فى باب ما يصيب من الطعام فى أرض الحرب من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر باللفظ الذى ساقه المصنف، وقال أبو داود رحمه الله:(باب فى إباحة الطعام فى أرض العدو) حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيرى قال: ثنا أنس بن عياض عن عبيد اللَّه عن نافع عن ابن عمر أن جيشا غنموا فى زمان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طعاما وعسلا فلم يؤخذ منهم الخمس اهـ وإبراهيم بن حمزة الزبيرى من رجال البخارى وأنس بن عياض من رجمال الجماعة وقوله (فى زمان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) يؤيد أنه فى حكم المرفوع. وقد روى البخارى من طريق شعبة عن حميد بن هلال عن عبد اللَّه بن مُغَفَّلِ رضى اللَّه عنه قال: كنا مُحاصرين قصر خيبر فَرَمَى إنسان بِجِرَابٍ فيه شحم فنزوت لآخذه، فَالتَفَتُّ فإذا النبى صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه. كما روى مسلم من
طريق سليمان (يعنى ابن المغيرة) حدثنا حميد بن هلال عن عبد اللَّه ابن مغفل قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر قال: فالتزمته، فقلت: لا أعطى اليوم أحدا من هذا شيئا، قال: فالتفتُّ فإذا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مُتَبَسِّمًا. ثم ساق من طريق بهز بن أسد حدثنا شعبة حدثنى حميد بن هلال قال: سمعت عبد اللَّه بن مغفل يقول: رُمِيَ إلينا جِرَابٌ فيه طعام وشحم يوم خيبر، فَوَثَبتُ لآخذه، قال: فالتفت فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فاستحييت منه.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أنه لا حرج على الغزاة إذا أكلوا من الطعام الذى يصيبونه فى أرض العدو قبل قسمة الغنائم دون حاجة إلى استئذان الإمام أو الأمير.
2 -
أن ذلك ليس من الغلوا.
36 -
وعن عبد اللَّه بن أبى أوفى رضى اللَّه عنهما قال: أصبنا طعاما يوم خيبر، فكان الرجل يجئ فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف. أخرجه أبو داود وصححه ابن الجارود والحاكم.
[المفردات]
أصبنا طعاما يوم خيبر: أى وجد أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طعاما من طعام اليهود يوم غزوة خيبر واستولوا عليه.
فكان الرجل يجئ فيأخذ منه مقدار ما يكفيه: أى فكان الواحد من الصحابة الغزاة يومئذ يحضر إلى هذا الطعام فيأخذ منه بقدر حاجته كفايته دون أن يستأذن فى الحصول على ذالك.
ثم ينصرف: أى ثم ينطلق.
[البحث]
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء ثنا أبو معاوية ثنا أبو إسحاق الشيبانى عن محمد بن أبى مجالد عن عبد اللَّه بن أبى أوفى قال: قلت: هل كنتم تخمسون يعنى الطعام، فى عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أصبنا طعاما يوم خيبر فكان الرجل يجئ فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف اهـ ورجال هذا الحديث كلهم ثقات.
[ما يفيده الحديث]
1 -
يجوز للغازى أن يأخذ من الطعام الذى يستولى عليه الغزاة بقدر حاجته قبل القسمة.
2 -
لا ينبغى أن يأخذ الغازى من هذا الطعام أكثر من حاجته.
3 -
وأن من أخذ منهم بقدر حاجته لا يكون عمله هذا من الغلول.
37 -
وعن رُوَيْفِع من ثابت رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يَركَب دابة من فَئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردَّها فيه، ولا يلبس ثوبا من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه" أخرجه أبو داود والدارمى ورجاله لا بأس بهم.
[المفردات]
من فئ المسلمين: أى من الدواب التى يغنمها المسلمون فالمراد بالفئ هنا الغنيمة.
أعجفها: أى أتعبها وصيرها هزيلة.
وردها فيه: أى أرجعها ووضعها فى الفئ.
أخلقه: أى أبلاه وأتلفه.
رده فيه: أى أرجعه ووضعه فى الفئ.
[البحث]
هذا الحديث أخرجه أبو داود من طريق محمد بن إسحاق معنعنا عن يزيد بن أبى حبيب عن أبى مرزوق مولى تجيب عن حنش الصنعانى عن رويفع بن ثابت رضى اللَّه عنه. ومحمد بن إسحاق لا يقبل حديثه إذا عنعن لاشتهاره بالتدليس. قال الحافظ فى الفتح: واتفقوا على جواز ركوب دوابهم. ولبس ثيابهم، واستعمال سلاحهم، ورد ذلك بعد انقضاء الحرب اهـ واللَّه أعلم.
38 -
وعن أبى عبيدة بن الجراح رضى اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يُجير على المسلمين بَعْضُهُمْ" أخرجه ابن أبى شيبة وأحمد، وفى إسناده ضعف، وللطيالسى من حديث عمرو بن العاص قال: يجير على السلمين أدناهم. وفى الصحيحين عن على قال: "ذمة المسلمين واحدة
يسعى بها أدناهم" زاد ابن ماجه من وجه آخر: ويجير عليهم أقصاهم. وفى الصحيحين من حديث أم هانئ: "قد أجرْنَا مَن أَجَرْتِ".
[المفردات]
يُجير: أى يُعطى الذمة والعهد والأمان.
بعضهم: أى بعض المسلمين فيكون عهدا على جميع المسلمين.
وفى إسناده ضعف: أى وفى إسناد حديث أبى عبيدة بن الجراح ضعف لأنه من رواية الحجاج بن أرطأة.
وللطيالسى: هو أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الطيالسى البصرى مولى آل الزبير، وأمه فارسية، روى عن أبان ابن يزيد العطار وإبراهيم بن سعد وجرير بن حازم وحبيب بن يزيد والحمادين، وزائدة وزهير بن محمد وزهير بن معاوية وشعبة والثورى وابن أبى الزناد وأبى عوانة وخلق كثير، وروى عنه أحمد بن حنبل وعلى بن المدينى وإسحاق بن منصور الكوسج وحجاج بن الشاعر وعمرو بن على الفلاس وبندار وروى عنه جرير ابن عبد الحميد وهو من شيوخه، وخلق كثير، قال فى تهذيب التهذيب: قال عمرو بن على الفلاس: ما رأيت فى المحدثين أحفظ من أبى داود، سمعته يقول: أسرد ثلاثين ألف حديث ولا فخر، وقال جعفر بن محمد
الفريابى عن عمرو بن على: أبو داود ثقة وقال ابن المدينى: ما رأيت أحفظ منه، وقال عمر بن شبة: كتبوا عن أبى داود بأصبهان أربعين ألف حديث وليس معه كتاب اهـ وتوفى سنة ثلاث ومائتين أو أربع ومائتين فى ربيع الأول وهو ابن 72 سنة رحمه الله.
أدناهم: أى أضعفهم وأقلهم منزلة عند الناس.
ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهها: قال الحافظ فى الفتح: أى أمانهم صحيع فإذا أَمَّنَ الكافر واحدٌ منهم حرم غيره التعرض له، وللأمان شروط معروفة، وقال البيضاوى: الذمة العهد سمى بها لأنه يذم متعاطيها على إضاعتها، وقوله:"يسعى بها" أى يتولاها ويذهب ويجئ، والمعنى أن ذمة المسلمين سواء صدرت من واحد أو أكثر شريف أو وضيع فإذا أَمَّنَ أحَدٌ من المسلمين كافرا وأعطاه ذمة لم يكن لأحد نقضه فيستوى فى ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد لأن المسلمين كنفس واحدة اهـ.
أقصاهم: أى أبعدهم.
أم هانئ: قيل: اسمها فاختة وقيل هند وقيل فاطمة وقيل عاتكة وقيل جمانة وقيل رملة وهى بنت أبى طالب بن
عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمية القرشية وهى شقيقة على رضى اللَّه عنه. وكانت تحت هبيرة ابن أبى وهب المخزومى فولدت له عمرا -وبه كان يكنى- وهائنا ويوسف وجعدة، وقد أسلمت يوم الفتح وتوفيت فى خلافة معاوية رضى اللَّه تعالى عنها. وقد فر زوجها هبيرة يوم الفتح إلى نجران ومات بها مشركا.
أَجَرنَا من أَجَرْتِ: أى أجزنا جوارك، وصُنَّا ذمتك ونَفَّذنَا أَمَانَكِ، وَأمَّنَّا من أَمَّنْتِ.
[البحث]
قال الحافظ فى تلخيص الحبير: حديث أن رجلا أجار رجلا من المشركين فقال عمرو بن العاص وخالد بن الوليد: لا نجيز ذلك فقال أبو عبيدة من الجراح: ليس كما قلتما سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: يجير على المسلمين بعضهم، فأجاروه. أحمد من حديث أبى أمامة نحوه بهذه القصة، وقال ابن أبى شيبة: نا عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن الوليد بن أبى مالك عن عبد الرحمن بن سلمة: أن رجلا أَمَّن قوما وهو مع عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وأبى عبيدة ابن الجراح فقال عمرو وخالد: لا نجير من أجار، فقال أبو عبيدة: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: يجير على المسلمين بعضهم.
حجاج هو ابن أرطأة وفيه ضعف وهو مدلس، والمعروف عن عمرو ابن العاص خلاف ذلك فقد روى الطيالسى فى مسنده عنه فرفعه: يجير على المسلمين أدناهم، ورواه أحمد من حديث أبى هريرة رفعه: يجير على المسلمين أدناهم، ورواه أحمد من حديث أبى عبيدة: يجير على المسلمين بعضهم. اهـ أما حديث على فى الصحيحين. فقد أخرجه مسلم من طريق إبراهيم التيمى عن أبيه عن على باللفظ الذى ساقه المصنف، وأخرجه البخارى من طريق إبراهيم التيمى من أبيه عن على بلفظ:"ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين" وقد سقت لفظ حديث على عند الشيخين فى بحث الحديث الرابع عشر من أحاديث باب الإِحرام وما يتعلق يه فى كتاب الحج. وقال ابن ماجه: حدثنا هشام بن عمار ثنا حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن عياش عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يد المسلمين على من سواهم، تتكافأ دماؤهم وأموالهم، ويجير على المسلمين أدناهم، ويرد على المسلمين أقصاهم" وأما حديث أم هانئ فى الصحيحين فقد رواه البخارى ومسلم واللفظ لمسلم من طريق أبى مرة مولى أم هانئ بنت أبى طالب أنه سمع أم هانئ بنت أبى طالب تقول: ذهبت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته
تستره بثوب، قالت: فسلمت، فقال:"من هذه؟ " قلت: أم هانئ بنت أبى طالب. قال: "مرحبا بأم هانئ" فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمانى ركعات ملتحفا فى ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول اللَّه زعم ابن أُمِّى علىُّ بن أبى طالب أنه قَاتِلٌ رجلا أَجَرتُهُ، فلان ابن هُبَيرَةَ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"قد أجرنا من أجرت يا أم هانى" قالت أم هانئ: وذلك ضحى اهـ هذا وقد قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن أمان الصبى غير جائز اهـ وقال الحافظ فى الفتح: وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف.
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن المسلمين يد واحدة.
2 -
أنه يسعى بذمتهم أدناهم.
3 -
جواز أمان النساء وجِوَارهن.
4 -
أن الغدر بمن أمَّنَه أحد من المسلمين كبيرة من الكبائر.
5 -
إعزاز الإِسلام للمسلمين.
39 -
وعن عمر رضى اللَّه عنه أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لأخرِجَنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدَعَ إلا مسلما" رواه مسلم.
[المفردات]
لأُخْرِجَنَّ: أى لأُجلِيَنَّ وَلأُبْعِدَنَّ.
اليهود: أى بنى إسرائيل الذين يزعمون أنهم أهل التوراة مع كفرهم بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
والنصارى: أى الذين يزعمون أنهم أهل الإِنجيل مع كفرهم بمحمد صلى اللَّه تعالى عليه وسلم.
جزيرة العرب: هى الأرض الواقعة بين بحر عدن جنوبا والحفر (حفر أبى موسى القريب من البصرة) وبصرى وأذرعات وخليج العقبة شمالا. وبين البحر الأحمر غربا وبحر عمان وقطر والكويت شرقا. والعرب هم الذين يسكنون هذه الجزيرة من أبناء يعرب وإسماعيل عليه الصلاة والسلام، فهى موطنهم وموطن أسلافهم ولذلك نسبت إليهم.
حتى لا أدع إلا مسلما: أى حتى لا أترك أحدا من الناس يعيش فوق أرضها إلا المؤمنين بجميع كتب اللَّه ورسله المتبعين لمحمد صلى الله عليه وسلم.
[البحث]
أورد مسلم حديث الباب باللفظ الذى ساقه المصنف، وقد أخرج البخارى ومسلم من حديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال عند موته:"أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" وروى أحمد
فى مسنده من طريق ابن إسحاق قال: حدثنى صالح بن كيسان عن الزهرى عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: آخر ما عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يترك بجزيرة العرب دينان" وقد سقت فى بحث الحديث الأول من أحاديث باب المساقاة والإِجارة لفظ حديث البخارى فى قصة إجلاء عمر رضى اللَّه عنه اليهود من خيبر وفيه: فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء.
والظاهر أن إجلاءهم كان إلى تيماء ثم إلى أريحاء إذ أن تيماء داخلة فى جزيرة العرب بخلاف أريحاء.
[ما يفيده الحديث]
1 -
لا يجوز أن يُمَكَّنَ أحد من الكفار من الاستيطان فى جزيرة العرب.
2 -
وجوب صيانة أرض الجزيرة العربية من كل دين يخالف دين الإِسلام.
40 -
وعنه رضى اللَّه عنه قال: كانت أموال بنى النضير مما أفاء اللَّه على رسوله مما لم يُوجِفْ عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبى صلى الله عليه وسلم خاصة فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بَقِىَ يجعله فى الكُرَاعِ والسلاحِ عُدَّةً فى سبيل اللَّه عز وجل" متفق عليه.
[المفردات]
وعنه: أى وعن عمر رضى اللَّه عنه.
أفاء اللَّه على رسوله: أى ما رَدَّ اللَّه على رسوله صلى الله عليه وسلم وجعله فى يده صلى الله عليه وسلم، والفئ ما أخذ بغير قتال.
لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب: أى لم يُعمل فيه الصحابة فَرَسًا ولا بعيرا ولم يقاسوا فيه مشقة.
قال فى المصباح: وجف الفرس والبعير وجيفا عدا، وأوجفته -بالألف- أعديته وهو العنق فى السير، وقولهم: ما حصل بإيجاف أى بإعمال الخيل والركاب فى تحصيله الإِبل. قال فى القاموس: والركاب ككتاب الإِبل واحدتها راحلة ج ككتُب وركابات وركائب اهـ.
فكانت للنبى صلى الله عليه وسلم خاصة: أى لم يقسمها بين المسلمين ولم يُجرِهَا مجرى الغنائم فكانت خالصة.
فكان ينفق على أهله نفقة سنة: أى كان يدخر منها لأهله وزوجاته رضى اللَّه عنهن ما يكفيهن من النفقة لمدة عام، وما يحتاجه صلى الله عليه وسلم فى حاجته الخاصة.
وما بقى: أى وما زاد عن نفقة أهله لمدة عام.
يجعله فى الكراع والسلاح: أى ينفقه فى إعداد وتهيئة آلات القتال من الخيل والسيوف وأدوات الحرب. وعرف
فى القاموس الكراع بأنه: اسم يجمع الخيل.
عُدَّةً فى سبيل اللَّه عز وجل: أى تهيئة فى سبيل اللَّه عز وجل واستعدادا لقتال أعدائه.
[البحث]
أورد البخارى هذا الحديث فى التفسير فى باب قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} من طريق سفيان عن عمرو عن الزهرى عن مالك بن أوس بن الحَدَثان عن عمر رضى اللَّه عنه قال: كانت أموال بنى النضير مما أفاء اللَّه على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خاصة، ينفق على أهله منها سنته، ثم يجعل ما بقى فى السلاح والكراع عُدَّة فى سبيل اللَّه. وأخرجه مسلم من طريق سفيان عن عمرو عن الزهرى عن مالك بن أوس عن عمر رضى اللَّه عنه باللفظ الذى ساقه المصنف وفى لفظ لمسلم من طريق معمر عن الزهرى عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر: فكان ينفق على أهله منه سنة، وربما قال معمر: يحبس قوت أهله منه سنة ثم يجعل ما بقى منه مجْعل مال اللَّه عز وجل. وفى رواية للبخارى ومسلم واللفظ للبخارى من طريق مالك بن أوس قال عمر: إن اللَّه قد خص رسوله صلى الله عليه وسلم فى هذا الفئ بشئ لم يعطه أحدا غيره، ثم قرأ {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} إلى قوله {قَدِيرٌ} فكانت هذه خالصة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وواللَّه ما احتازها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، قد أعطاكموه
وبثها فيكم حتى بقى منها هذا المال، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقى فيجعله مَجْعَلَ مال اللَّه. الحديث، وفى لفظ لمسلم: ثم يجعل ما بقى أُسوة المال.
[ما يفيده الحديث]
1 -
الحض على إعداء آلات الجهاد فى سبيل اللَّه.
2 -
يجوز للإِنسان أن يدخر لأهله قوت سنة.
3 -
أن الادخار للأهل لا ينافى التوكل على اللَّه عز وجل.
41 -
وعن معاذ بن جبل رضى اللَّه عنه قال: غزونا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خيبر، فأصبنا فيها غَنَمًا، فقسم فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طائفة، وجعل بقيتها فى المَغْنَم، رواه أبو داود ورجاله لا بأس بهم.
[المفردات]
فأصبنا فيها غَنَمًا: أى غنمنا فيها شاءً.
فقسم فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طائفة: أى فَوَزَّع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علينا معشر الغزاة قطعة من هذه الغنم قبل قسمتها على سبيل التنفيل.
وجعل بقيتها فى المغنم: أى وضم بقية الغنم إلى الغنيمة لتقسم على الغانمين بعد استخراج الخمس.
[البحث]
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المصفى ثنا محمد بن المبارك عن يحيى بن حمزة قال: ثنا أبو عبد العزيز شيخ من أهل الأردن عن عبادة بن نسى عن عبد الرحمن بن غنم قال: رابطنا مدينة قنسرين مع شرحبيل بن السمط، فلما فتحها أصاب فيها غنما وبقرا، فقسم فينا طائفة منها وجعل بقيتها فى المغنم، فلقيت معاذ بن جبل فحدثته فقال معاذ: غزونا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خيبر، فأصبنا فيها غنما، فقسم فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طائفة، وجعل بقيتها فى المغنم اهـ وقد سكت أبو داود عن هذا الحديث، ووصف المصنف هنا رجاله بأنه لا بأس بهم، وقال فى التقريب: يحيى بن عبد العزيز أبو عبد العزيز الأردنى بضمم الهمزة والمهملة بينهما راء ساكنة ثم نون ثقيلة، نزل اليمامة، مقبول اهـ. وقال الشوكانى فى نيل الأوطار: وفى إسناده أبو عبد العزيز شيخ من الأردن وهو مجهول اهـ.
وقد تقدم فى الحديث الخامس والثلاثين والسادس والثلاثين من أحاديث هذا الباب أباحة الطعام فى أرض العدو من الغنيمة قبل القسمة. واللَّه اُعلم.
42 -
وعن أبى رافع رضى اللَّه عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: إنى لا أخيس بالعهد، ولا أحبس الرسل" رواه
أبو داود والنسائى وصححه ابن حبان.
[المفردات]
لا أخيس: أى لا أنقض ولا أخون ولا أغدر.
بالعهد: أى بالميثاق والأمان والذمة.
ولا أحبس الرسل: أى ولا أسجن السفراء.
[البحث]
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح ثنا ابن وهب أخبرنى عمرو عن بكير بن الأشج عن الحسن بن على بن أبى رافع أن أبا رافع أخبره قال: بعثتنى قريش إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ألقى فى قلبى الإسلام، فقلت: يا رسول اللَّه إنى واللَّه لا أرجع إليهم أبدا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "إنى لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع، فإن كان فى نفسك الذى فى نفسك الآن فارجع" قال: فذهبت ثم أتيت النبى صلى الله عليه وسلم فأسلمت. قال بكير: وأخبرنى أن أبا رافع كان قبطيا، سمعت أبا داود يقول: هذا كان فى ذلك الزمان فأما اليوم لا يصلح اهـ ورجال هذا الحديث كلهم ثقات، وقد روى مسلم فى صحيحه من حديث حذيفة رضى اللَّه عنه قال: ما منعنى أن أشهد بدرا إلا أنى خرجت أنا وأبى حُسَيْلٌ قال: فَأَخَذَنَا كُفَّار قريش قالوا: إنكم تريدون محمدا، فقلنا ما نريده ما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد اللَّه وميثاقه لنَنصَرِفَنَّ إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال:"انصرفا نفى لهم بعهدهم ونستعين اللَّه عليهم".
[ما يفيده الحديث]
1 -
وجوب حفظ العهد والوفاء به.
2 -
تحريم الغدر.
3 -
لا يجوز حبس السفراء.
4 -
يجب تأمين السفراء حتى يرجعوا إلى بلادهم.
5 -
سمو التعاليم الإِسلامية وشمولها.
43 -
وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: أيُّمَا قَريَةٍ أَتَيتُمُوها، فأَقمتم فيها، فَسَهمُكُمْ فيها، وأيما قرية عصت اللَّه ورسوله فإن خُمسَها للَّه ورسوله ثم هى لكم" رواه مسلم.
[المفردات]
أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها: أى إذا جئتم إلى قرية من قرى الكفار دون إيجاف بخيل أو ركاب فصالحتم أهلها ونزلتم فيها.
فسهمكم فيها: أى ما أخذتم منهم من مال يكون فيئا للمسلمين مصرفه مصرف الفئ.
وأيما قرية عصت اللَّه ورسوله: أى وإذا جئتم قرية فلم تستسلم لكم إلا بالقتال، وإيجاف الخيل والركاب، فإن ما تأخذونه منهم من مال يكون غنيمة خمسها للَّه
ورسوله وأربعة أخماسها للغانمين.
[البحث]
قد ذكر اللَّه تبارك وتعالى أن الغنيمة تُخَمَّسُ فيأخذ الغانمون منها أربعة أخماس تقسم بينهم، وبيَّن مصرف الخمس حيث قال:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كما بين مصرف الفئ حيث قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
[ما يفيده الحديث]
1 -
أن ما يستولى عليه المسلمون بغير قتال يكون فيئا مصرفه مصرف الفئ.
2 -
وأن ما يستولى عليه المسلمون بقتال يكون غنيمة ويخمس.