الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التجار من الصحابة
من المعلوم أنه كانت للعرب أسواق في الجاهلية يتاجرون فيها وهي أسواق مشهورة في شعر العرب وأدبهم وقد ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما فقال: كانت عكاظ ومَجنَّه وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فلما كان الإسلام فكأنهم تأثموا فيه، فنزل قول الله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} رواه البخاري.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مكة يرتاد الأسواق ويتاجر كسباً للرزق وطلباً للمعاش بل كان له شريك في التجارة يقال له السائب وقد عاب المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم تردده على الأسواق حيث ذكر الله جل جلاله ذلك عنهم {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} سورة الفرقان الآية 7.
قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى {وَقَالُوا} ذكر شيئاً آخر من مطاعنهم. والضمير في {وَقَالُوا} لقريش؛ وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس مشهور، ذكره ابن إسحاق في السيرة وغيره. مضمنه - أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا: يا محمد! إن كنت تحب الرئاسة وليَّناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا؛ فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك رجعوا في باب الاحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق! فعيروه بأكل الطعام؛ لأنهم أرادوا أن يكون الرسول مَلَكاً، وعيروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفعون عن الأسواق، وكان عليه السلام يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم؛ فقالوا: هذا يطلب أن يتملك علينا، فماله يخالف سيرة الملوك؛ فأجابهم الله بقوله، وأنزل على نبيه:{وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} فلا تغتم ولا تحزن، فإنها شكاة ظاهر عنك عارها
…
دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب المعاش. وكان عليه السلام يدخلها لحاجته، ولتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته، ويعرض نفسه فيها على القبائل، لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق. وفي البخاري في صفته عليه السلام: ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق
…
وذكر السوق مذكور في غير ما حديث، ذكره أهل
الصحيح. وتجارة الصحابة فيها معروفة، وخاصة المهاجرين؛ كما قال أبو هريرة: وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق؛ خرجه البخاري] تفسير القرطبي 13/ 4 - 5.
وقال تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} سورة الفرقان الآية 20.
قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} نزلت جواباً للمشركين حيث قالوا: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} سورة الفرقان الآية 7. وقال ابن عباس: لمّا عيّر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة وقالوا: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} الآية، حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فنزلت تعزية له؛ فقال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله! الله ربك يقرئك السلام ويقول لك: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} أي يبتغون المعايش في الدنيا
…
هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك
…
وقال: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} قال العلماء: أي يتجرون ويحترفون
…
وكان الصحابة رضي الله عنهم يتجرون ويحترفون وفي أموالهم يعملون] تفسير القرطبي 13/ 12 - 14.
وعن مجاهد عن السائب بن أبي السائب أنه كان يشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام في التجارة فلما كان يوم الفتح جاءه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مرحباً بأخي وشريكي، كان لا يداري ولا يماري، يا سائب قد كنت تعمل أعمالاً في الجاهلية لا تقبل منك وهي اليوم تقبل منك وكان ذا سلف وصلة) رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح كما قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد.
وذكر ابن هشام تحت عنوان [خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الشام في تجارة خديجة وما كان من بحيرى].
قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال. تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم وكانت قريش قوماً تجاراً; فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها، من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له ميسرة فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام ثم باع رسول
الله صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري ثم أقبل قافلاً إلى مكة ومعه ميسرة] سيرة ابن هشام 1/ 187 - 188.
هذا وقد اقتدى الصحابة رضوان الله عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يرتادون الأسواق ويتجرّون فيها بأموالهم، ولا يرون في ذلك بأساً.
وقد ذكر أهل الحديث والتاريخ والسير عدداً من الصحابة الذين اشتغلوا في التجارة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وزيد بن أرقم والبراء بن عازب والزبير بن العوام رضوان الله عليهم فقد ذكر ابن سعد في الطبقات في ترجمة أبي بكر رضي الله عنه أنه كان رجلاً تاجراً فكان يغدو إلى السوق فيبيع ويبتاع] الطبقات 3/ 186. وذكر أيضاً أن عثمان رضي الله عنه كان رجلاً تاجراً في الجاهلية والإسلام. الطبقات 3/ 60. وذكر نحوه محمد بن الحسن في كتاب الكسب ص 89.
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لقد خرج أبو بكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تاجراً إلى بصرى، لم يمنع أبا بكر الضن برسول الله صلى الله عليه وسلم شحه على نصيبه من الشخوص للتجارة، وذلك كان لإعجابهم كسبَ التجارة، وحبهم للتجارة، ولم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر من الشخوص في تجارته لحبه صحبته وضنه بأبي بكر، - فقد كان بصحبته معجباً - لاستحسان (وفي رواية: لاستحباب) رسول الله صلى الله عليه وسلم للتجارة وإعجابه بها) رواه الطبراني في الكبير وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 6/ 1036.
وروي في الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر رضي الله عنه في تجارة إلى بصرى قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعام ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة وكانا شهدا بدراً وكان نعيمان على الزاد وكان سويبط رجلاً مزَّاحاً، فقال لنعيمان: أطعمني، قال: حتى يجيء أبو بكر، قال: فلأغيظنك، قال: فمروا بقوم فقال لهم سويبط: تشترون مني عبداً لي؟ قالوا: نعم، قال: إنه عبد له كلام وهو قائل لكم إني حر فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه فلا تفسدوا عليَّ عبدي، قالوا: لا بل نشتريه منك، فاشتروه منه بعشر قلائص، ثم أتوه فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلا فقال: نعيمان إن هذا يستهزئ بكم وإني حر لست بعبد، فقالوا: قد أخبرنا خبرك فانطلقوا به فجاء أبو بكر فأخبروه بذلك قال: فاتبع القوم ورد عليهم القلائص وأخذ نعيمان، قال: فلما قدموا على النبي
- صلى الله عليه وسلم وأخبروه، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منه حولاً) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني في الكبير.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتاجر أيضاً حتى شغله الصفق في الأسواق عن المواظبة على مجالس العلم عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الإمام البخاري بإسناده (أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يؤذن له وكأنه كان مشغولاً فرجع أبو موسى ففرغ عمر فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ائذنوا له، قيل: قد رجع، فدعاه فقال: كنا نؤمر بذلك، فقال: تأتيني على ذلك بالبينة، فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا أبو سعيد الخدري فذهب بأبي سعيد الخدري، فقال: عمر أخفي هذا عليَّ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني الصفق بالأسواق يعني الخروج إلى تجارة).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [
…
وأطلق عمر على الاشتغال بالتجارة لهواً لأنها ألهته عن طول ملازمته النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمع غيره منه ما لم يسمعه، ولم يقصد عمر ترك أصل الملازمة وهي أمر نسبي، وكان احتياج عمر إلى الخروج للسوق من أجل الكسب لعياله والتعفف عن الناس] فتح الباري 4/ 378.
وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من أهم التجار في المدينة وكان ذا ثراء عظيم مع أنه بدأ تجارته بعد الهجرة ولما مات رضي الله عنه ترك ثروة كبيرة حتى إن امرأته صولحت بثمنها بثمانين ألفا. أخرجه ابن أبي الدنيا في إصلاح المال ص51.
وقال الإمام البخاري: [باب ما ذكر في الأسواق، وقال عبد الرحمن بن عوف لما قدمنا المدينة قلت هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع. وقال أنس قال: عبد الرحمن دلوني على السوق، وقال عمر: ألهاني الصفق بالأسواق).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (باب ما ذكر في الأسواق) قال ابن بطال: أراد بذكر الأسواق إباحة المتاجر ودخول الأسواق للأشراف والفضلاء
…
قوله: (وقال عبد الرحمن بن عوف إلخ) تقدم موصولاً في أوائل البيوع، والغرض منه هنا ذكر السوق فقط وكونه كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يتعاهده الفضلاء من الصحابة لتحصيل المعاش للكفاف وللتعفف عن الناس] فتح الباري 4/ 429.
وروى الإمام البخاري بإسناده أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (لما قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم لك نصف مالي وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها فإذا حلت تزوجتها، قال فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع قال فغدا إليه عبد الرحمن فأتى بأقط وسمن قال ثم تابع الغدو فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوجت؟ قال: نعم، قال: ومن قال امرأة من الأنصار، قال: كم سقت؟ قال: زنة نواة من ذهب أو نواة من ذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أولم ولو بشاة).
وجاء في رواية عند الإمام أحمد في المسند (أن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري فقال له سعد: أي أخي أنا أكثر أهل المدينة مالاً فانظر شطر مالي فخذه وتحتي امرأتان فانظر أيهما أعجب إليك حتى أطلقها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فدلوه على السوق، فذهب فاشترى وباع وربح فجاء بشيء من أقط وسمن ثم لبث ما شاء الله أن يلبث فجاء وعليه ردع زعفران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهيم – أي ما أمرك وما شأنك - فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة، فقال: ما أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب، قال: أولم ولو بشاة. قال عبد الرحمن فلقد رأيتني ولو رفعت حجراً لرجوت أن أصيب ذهباً أو فضةً).
وعن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: (كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير فآخذ مكانها الورق وأبيع بالورق فآخذ مكانها الدنانير فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته خارجاً من بيت حفصة فسألته عن ذلك فقال: لا بأس به بالقيمة) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.
وكان زيد بن أرقم والبراء بن عازب والزبير بن العوام وعثمان بن عفان رضوان الله عليهم من التجار. روى الإمام البخاري بإسناده عن أبي المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فقالا: كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف فقال: إن كان يداً بيد فلا بأس وإن كان نساءً – أي مؤجلاً - فلا يصلح).
وهكذا كان عدد كبير من الصحابة مهاجرين وأنصار يشتغلون في التجارة. روى الإمام البخاري بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً ثم يتلو {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى
…
إلى قوله
الرَّحِيمُ} إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون).
وقال سعيد بن المسيب: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في بحر الروم، منهم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل) إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص 76.
وقال أيوب: (كان أبو قلابة يأمرني بلزوم السوق والصنعة، ويقول: إن الغنى من العافية) إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص76.
وعن الهيثم بن جميل قال: قلت لابن المبارك: أتّجر في البحر؟ قال: اتّجر في البر والبحر، واستغن عن الناس) إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص77.
ولقي رجل الحسن بن يحيى بأرض الحبشة، معه تجارة، فقال له:(ما الذي بلغ بك هاهنا؟ فأخبره، فعذله الرجل. فقال: أكل هذا طلب للدنيا، وحرص عليها؟ فقال له الحسن: يا هذا إن الذي حملني على هذا، كراهة الحاجة إلى مثلك) إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص78.
وقد ضرب التجار من الصحابة أروع الأمثلة في البذل والعطاء والإنفاق في سبيل الله تعالى فهذا أبو بكر رضي الله عنه خير مثال للمنفق في سبيل الله. فعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك عندي مالاً فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، قال: فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك قلت مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: والله لا أسبقه إلى شيء أبداً) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وروى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الرحمن بن سمرة، قال:(جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة فينثرها في حجره قال عبد الرحمن فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين) قال الترمذي حديث حسن غريب.
وعن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله عليَّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله عليَّ ثلاث مائة بعير بأحلاسها وأقتابها
في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عن المنبر وهو يقول ما على عثمان ما عمل بعد هذه ما على عثمان ما عمل بعد هذه) رواه الترمذي.
وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: لما حصر عثمان أشرف عليهم فوق داره ثم قال: أذكركم بالله هل تعلمون أن حراء حين انتفض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أثبت حراء فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد، قالوا: نعم، قال: أذكركم بالله، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جيش العسرة: من ينفق نفقة متقبلة والناس مجهدون معسرون فجهزت ذلك الجيش قالوا: نعم، ثم قال أذكركم بالله، هل تعلمون أن بئر رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن فابتعتها فجعلتها للغني والفقير وابن السبيل قالوا اللهم نعم وأشياء عددها) رواه الترمذي ثم قال حديث حسن صحيح غريب وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/ 208.
وذكر أهل التاريخ أنه في عهد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أصاب الناس جفاف وجوع شديدان، فلمّا ضاق بهم الأمر ذهبوا إلى الخليفة أبي بكر رضي الله عنه وقالوا: يا خليفة رسول الله، إنّ السّماء لم تمطر، والأرض لم تنبت، وقد أدرك الناس الهلاك فماذا نفعل؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: انصرفوا، واصبروا، فإني أرجو ألاّ يأتي المساء حتّى يفرج الله عنكم. وفي آخر النهار جاء الخبر بأنّ قافلة جمالٍ لعثمان بن عفّان رضي الله عنه قد أتت من الشّام إلى المدينة. فلمّا وصلت خرج النّاس يستقبلونها، فإذا هي ألف جمل محملة سمناً وزيتاً ودقيقاً، وتوقّفت عند باب عثمان رضي الله عنه فلمّا أنزلت أحمالها في داره جاء التجار. قال لهم عثمان رضي الله عنه ماذا تريدون؟ أجاب التجار: إنّك تعلم ما نريد، بعنا من هذا الذي وصل إليك فإنّك تعرف حاجة النّاس إليه. قال عثمان: كم أربح على الثّمن الذي اشتريت به؟ قالوا: الدّرهم درهمين. قال: أعطاني غيركم زيادة على هذا. قالوا: أربعة! قال عثمان رضي الله عنه: أعطاني غيركم أكثر. قال التّجار: نربحك خمسة. قال عثمان: أعطاني غيركم أكثر. فقالوا: ليس في المدينة تجار غيرنا، ولم يسبقنا أحد إليك، فمن الذي أعطاك أكثر مما أعطينا؟! قال عثمان رضي الله عنه:إن الله قد أعطاني بكل درهم عشرة، الحسنة بعشرة أمثالها، فهل عندكم زيادة؟ قالوا: لا. قال عثمان: فإني أشهد الله أني جعلت ما جاءت به هذه الجمال صدقة للمساكين وفقراء المسلمين. ثم أخذ عثمان بن عفان يوزّع بضاعته، فما بقي من فقراء المدينة واحد إلاّ أخذ ما يكفيه ويكفي أهله.
قال الإمام البخاري: [باب مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يحفر بئر رومة فله الجنة فحفرها عثمان وقال من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان).
وعن أنس رضي الله عنه قال: بينما عائشة في بيتها إذ سمعت صوتاً في المدينة فقالت: ما هذا؟ قالوا: عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل من كل شيء، قال: فكانت سبع مائة بعير، قال: فارتجت المدينة من الصوت، فقالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فقال: إن استطعت لأدخلنها قائماً فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله عز وجل رواه أحمد.
- - -