الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخلاق التاجر المسلم
إن التجارة في الإسلام تحكمها ضوابط وقيم أخلاقية ينبغي على التجار التحلي بها، وهذه الضوابط والقيم مستمدة من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومن سير الصحابة والسلف في تعاملهم التجاري.
قال أبو حامد الغزالي: [وقد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعاً، والعدل سبب النجاة فقط وهو يجري من التجار مجرى رأس المال والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة وهو يجري من التجارة مجرى الربح ولا يعد من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله فكذا في معاملات الآخرة فلا ينبغي للمتدين أن يقتصر على العدل واجتناب الظلم ويدع أبواب الإحسان وقد قال الله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ونعني بالإحسان فعل ما ينتفع به العامل وهو غير واجب عليه ولكنه تفضلٌ منه فإن الواجب يدخل في باب العدل وترك الظلم] إحياء علوم الدين 2/ 80 - 81.
وكذلك فإن الصدق والأمانة والنصيحة من أعظم أخلاق التجار فقد ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) رواه الترمذي وقال حديث حسن. سنن الترمذي 3/ 515. وفيه ضعف منجبر كما قال العلامة الألباني في غاية المرام ص 124.
وعن رفاعة رضي الله عنه أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال: (يا معشر التجار فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبرَّ وصدق) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. سنن الترمذي 3/ 516، ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وغير ذلك من الأحاديث.
ومن الأمور التي ينبغي للتجار ألا يتعاملوا بها الغبن، وهو أن يُغلب أحد المتبايعين، وهو نوع من الخداع. قال أبو حامد الغزالي: [
…
فينبغي أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة فأما أصل المغابنة فمأذون فيه لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما ولكن يراعى فيه التقريب فإن بذل المشتري زيادة على الربح المعتاد إما لشدة رغبته أو لشدة حاجته في الحال إليه فينبغي أن
يمتنع من قبوله فذلك من الإحسان ومهما لم يكن تلبيس لم يكن أخذ الزيادة ظلماً وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الغبن بما يزيد على الثلث يوجب الخيار ولسنا نرى ذلك ولكن من الإحسان أن يحط ذلك الغبن.
يروى أنه كان عند يونس بن عبيد حُلل -نوع من الثياب- مختلفة الأثمان ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة وضرب كل حلة قيمتها مائتان فمرّ إلى الصلاة وخلَّف ابن أخيه في الدكان فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها فاشتراها فمضى بها وهي على يديه فاستقبله يونس فعرف حلته فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة. فقال: لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها. فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها. فقال له يونس: انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها. ثم ردّه إلى الدكان وردّ عليه مائتي درهم وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله وقال أما استحييت أما اتقيت الله تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين فقال: والله ما أخذها إلا وهو راضٍ بها. قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك، وهذا إن كان فيه إخفاء سعر وتلبيس فهو من باب الظلم
…
وكان الزبير بن عدي يقول: أدركت ثمانية عشر من الصحابة ما منهم أحد يحسن يشتري لحماً بدرهم فغبن مثل هؤلاء المسترسلين ظلم إن كان من غير تلبيس فهو من ترك الإحسان وقلما يتم هذا إلا بنوع تلبيس وإخفاء سعر الوقت وإنما الإحسان المحض ما نقل عن السري السقطي أنه اشترى كرّ –مكيال– لوز بستين ديناراً وكتب في روزنامجه – سجله - ثلاثة دنانير ربحه وكأنه رأى أن يربح على العشرة نصف دينار فصار اللوز بتسعين فأتاه الدلال وطلب اللوز فقال: خذه. قال: بكم؟ فقال: بثلاثة وستين. فقال الدلال وكان من الصالحين: فقد صار اللوز بتسعين. فقال السري: قد عقدت عقداً لا أحله لست أبيعه إلا بثلاثة وستين. فقال الدلال: وأنا عقدت بيني وبين الله أن لا أغش مسلماً لست آخذاً منك إلا بتسعين. قال: فلا الدلال اشترى منه ولا السري باعه). فهذا محض الإحسان من الجانبين فإنه مع العلم بحقيقة الحال.
وروي عن محمد بن المنكدر أنه كان له شقق –نوع من الثياب– بعضها بخمسة وبعضها بعشرة فباع في غيبته غلام شقة من الخمسيات بعشرة فلما عرف لم يزل يطلب ذلك الأعرابي المشتري طول النهار حتى وجده فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة. فقال: يا هذا قد رضيت، فقال: وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا فاختر إحدى ثلاث خصال
إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك وإما أن نرد عليك خمسة وإما أن ترد شقتنا وتأخذ دراهمك. فقال: أعطني خمسة. فردّ عليه خمسة وانصرف الأعرابي يسأل ويقول: من هذا الشيخ؟ فقيل له: هذا محمد بن المنكدر، فقال: لا إله إلا الله هذا الذي نستسقي به في البوادي إذا قحطنا. فهذا إحسان في أن لا يربح على العشرة إلا نصفاً أو واحداً على ما جرت به العادة في مثل ذلك المتاع في ذلك المكان ومن قنع بربح قليل كثرت معاملاته واستفاد من تكررها ربحاً كثيراً وبه تظهر البركة.
كان علي رضي الله عنه يدور في سوق الكوفة بالدرة ويقول: [معاشر التجار خذوا الحق تسلموا لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره] إحياء علوم الدين 2/ 81 - 82.
ولا بد أن أشير إشارة سريعة إلى دور التجار المسلمين في نشر الإسلام فقد عمل التجار المسلمون على نشر الدعوة الإسلامية بين أهل البلاد التي رحلوا إليها بالحكمة والموعظة الحسنة وبالسلوك الطيب والتعامل الحسن والتودد إلى أهل البلاد وقد دخل كثير من الناس في الإسلام عن طريق التجار المسلمين، فعرفت تركستان الشرقية في الصين الإسلام عن طريق التجار المسلمين فانتشر الإسلام بين الصينيين وقد وصل التجار المسلمون إلى بلدان جنوب شرق آسيا كأندونيسيا وماليزيا والفلبين وغيرها وكان التجار المسلمون وراء وصول الإسلام إلى جزر المالديف التي تقع في الجنوب الغربي من سريلانكا، ودخل الإسلام فيتنام أيضاً عن طريق التجار المسلمين. وكان للتجار المسلمين دور بارز في نقل الإسلام من الشمال الإفريقي إلى وسط وشرق وجنوب إفريقيا.
ووصل الإسلام إلى ألبانيا وغيرها من مناطق البلقان عن طريق التجار المسلمين قبل الفتح العثماني.
وبعد هذا العرض الموجز جداً نرى أن أخلاق التجار المسلمين وحسن تعاملهم مع الناس كان له أكبر الأثر في انتشار الإسلام في مناطق شاسعة من العالم.
- - -