الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الأول: قول الجهمية والرد عليهم:
ذهب الجهمية كما ذكرنا إلى أن الفعل ممتنع على الله ثم انقلب إلى الامكان، وقالوا يجب أن يكون للحوادث مبدأ.
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (1/156) وما بعده:
فإن هؤلاء لما اعتقدوا أن الرب في الأزل كان يمتنع منه الفعل والكلام بمشيئته وقدرته - وكان حقيقة قولهم أنه لم يكن قادراً في الأزل على الكلام والفعل بمشيئته وقدرته لكون ذلك ممتنعاً لنفسه، والممتنع لا يدخل تحت المقدور - صاروا حزبين:
حزباً قالوا: إنه صار قادراً على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليه، [لكونه صار الفعل والكلام ممكناً بعد أن كان ممتنعاً، وإنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي] . وهذا قول المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة، (وهو قول الكرامية وأئمة الشيعة كالهاشمية وغيرهم) .
[وحزباً] قالوا: صار الفعل ممكناً بعد أن كان ممتنعاً منه. وأما الكلام فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة، بل هو شيء واحد لازم لذاته، وهو قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما.
أو قالوا: إنه حروف، أو حروف وأصوات قديمة الأعيان، لا تتعلق بمشيئته وقدرته، وهو قول طوائف من أهل الكلام والحديث والفقه، ويعزى ذلك إلى السالمية، وحكاه الشهرستاني عن السلف والحنابلة، وليس هو قول جمهور أئمة الحنابلة، ولكنه قول طائفة منهم من أصحاب مالك والشافعي وغيرهم.
وأصل هذا الكلام كان من الجهمية [أصحاب جهم بن صفوان] وأبي الهذيل
العلاف ونحوهما قالوا: لأن الدليل قد دل على أن دوام الحوادث ممتنع، وأنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ لامتناع حوادث لا أول لها، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
قالوا: فإذا كان الأمر كذلك، وجب أن يكون كل ما تقارنه الحوادث محدثاً، فيمتنع أن يكون البارىء لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئته وقدرته، بل يمتنع أن يكون لم يزل قادراً على ذلك، لأن القدرة على الممتنع ممتنعة، فيمتنع أن يكون قادراً على دوام الفعل والكلام بمشيئته وقدرته.
قالوا: وبهذا يُعلم حدوث الجسم، لأن الجسم لا يخلو عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.
ولم يفرق هؤلاء بين مالا يخلو عن نوع الحوادث، وبين ما لا يخلو عن عين الحوادث، ولا فرقوا فيما لا يخلو عن الحوادث، بين أن يكون مفعولاً معلولاً، أو أن يكون فاعلاً واجباً بنفسه.
فقال لهؤلاء أئمة الفلاسفة وأئمة [أهل] الملل وغيرهم: فهذا الدليل الذي أثبتم به حدوث العالم هو يدل على امتناع حدوث العالم وكان ما ذكرتموه إنما يدل على نقيض ما قصدتموه.
وذلك لأن الحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً، فلابد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، فما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فليس لإمكان الفعل وجواز ذلك وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً صحيحاً، فيلزم أنه لم يزل الرب قادراً عليه، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها.
قال المناظر عن أولئك المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم: نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له، لكن نقول: إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له. وذلك لأن الحوادث عندنا يمتنع أن تكون قديمة النوع، بل يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه. فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له، بخلاف جنس الحوادث.
فيقال لهم: هب أنكم تقولون ذلك. لكن يقال: إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية، فإنه صار جنس الحدوث، عندكم ممكناً بعد أن لم يكن ممكناً، وليس لهذا الإمكان وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان، وإلا لزم انقلاب الجنس من الإمكان إلى الامتناع، من غير حدوث شيء ولا تجدد شيء.
ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث، أو جنس الحوادث، أو جنس الفعل، أو جنس الإحداث، أو ما يشبه هذا من العبارات، من الامتناع إلى الإمكان، هو مصير ذلك ممكناً جائزاً بعد أن كان ممتنعاً من غير سبب تجدد. وهذا ممتنع في صريح العقل، وهو أيضاً انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي، فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة.
وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين، فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكناً، وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا: لم يزل الحادث ممكناً. فقد لزمهم فيما فروا
[إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا] منه، فإنه يعقل كون الحادث ممكناً، ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل. وأما كون الممتنع ممكناً، فهو ممتنع في نفسه، فكيف إذا قيل: لم يزل إمكان هذا الممتنع!
وأيضاً فما ذكروه من الشرط: وهو أن جنس الفعل أو جنس الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم - لم يزل ممكناً، فإنه يتضمن الجمع بين النقيضين أيضاً. فإن كون هذا لم يزل، يقتضي أنه لا بداية لإمكانه وأن إمكانه قديم أزلي. وكونه مسبوقاً بالعدم يقتضي أن له بداية، وأنه ليس بقديم أزلى. فصار قولهم مستلزماً أن الحوادث يجب أن يكون لها بداية، وأنه لا يجب أن يكون لها بداية.
وذلك لأنهم قدروا تقديراً ممتنعاً، والتقدير الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع، كقوله تعالى:{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [سورة الأنبياء: 22]
فإن قولهم: إمكان جنس الحوادث - بشرط كونها مسبوقة بالعدم - لا بداية له، مضمونة (1) : أن ما له بداية ليس له بداية، فإن المشروط بسبق العدم له بداية، وإن قدر أنه لا بداية له كان جمعاً بين النقيضين.
(1)
وأيضاً فيقال: هذا تقدير لا حقيقة له في الخارج، فصار بمنزلة قول القائل: جنس الحوادث بشرط كونها ملحوقة بالعدم، هل لإمكانها نهاية؟ أم ليس
لإمكانها نهاية؟ فكما أن هذا يستلزم الجمع بين النقيضين في النهاية، فكذلك الأول يستلزم الجمع بين النقيضين في البداية.
(1) كذا في الأصل، والصحيح: مضمونه كما في طبعة بيروت (1/40) .
وأيضاً فالممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام يجب به الممكن. وقد يقولون: لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام يستلزم وجود ذلك الممكن.
[وهذا الثاني أصوب، كما عليه نظار المسلمين المثبتين، فإن بقاءه معدوماً لا يفتقر إلى مرجح. ومن قال: إنه يفتقر إلى مرجح، قال: عدم مرجحه يستلزم
عدمه. ولكن يقال: هذا مستلزم لعدمه، لا أن هذا هو الأمر الموجب لعدمه، ولا يجب عدمه في نفس الأمر، بل عدمه في نفس الأمر لا علة له، فإن عدم المعلول يستلزم عدم العلة، وليس هو علة له، والملزوم أعم من كونه علة] ، لأن ذلك المرجح التام لو لم يستلزم وجود الممكن، لكان وجود الممكن مع المرجح التام جائزاً لا واجباً ولا ممتنعاً، وحينئذ فيكون ممكناً فيتوقف على مرجح، لأن الممكن لا يحصل إلا بمرجح.
فدل ذلك على أن الممكن إن لم يحصل مرجح يستلزم وجوده امتنع وجوده، وما دام وجوده ممكناً جائزاً غير لازم لا يوجد، وهذا هو الذي يقوله أئمة أهل
السنة المثبتين للقدر مع موافقة أئمة الفلاسفة لهم، وهذا مما احتجوا به على أن الله خالق أفعال العباد.
والقدرية من المعتزلة وغيرهم تخالف في هذا، وتزعم أن القادر يمكنه ترجيح الفعل على الترك بدون ما يستلزم ذلك، وادعوا أنه إن لم يكن القادر كذلك، لزم أن يكون موجباً بالذات لا قادراً. قالوا: والقادر المختار هو الذي إن شاء
فعل وإن شاء ترك، فمتى قيل: إنه لا يفعل إلا مع لزوم أن يفعل، لم يكن مختاراً بل مجبوراً.
فقال لهم الجمهور من أهل الملة وغيرهم: بل هذا خطأ فإن القادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك، ليس هو الذي إن شاء الفعل مشيئة جازمة، وهو قادر عليه قدرة تامة، يبقى الفعل ممكناً جائزاً، لا لازماً واجباً، ولا ممتنعاً محالاً.
بل نحن نعلم أن القادر المختار إذا أراد الفعل إرادة جازمة، وهو قادر عليه قدرة تامة، لزم وجود الفعل، وصار واجباً بغيره لا بنفسه، كما قال المسلمون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وما شاء سبحانه فهو قادر عليه، فإذا شاء شيئاً حصل مراداً له - وهو مقدور عليه فيلزم وجوده وما لم يشأ لم يكن، فإنه ما لم يرده - وإن كان قادراً عليه - لم يحصل المقتضى التام لوجوده، فلا يجوز وجوده.
قالوا: ومع القدرة التامة والإرادة الجازمة يمتنع عدم الفعل، ولا يتصور عدم الفعل، إلا لعدم كمال القدرة أو لعدم كمال الإرادة. وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه، وهو معروف بالأدلة اليقينية، فإن فعل المختار لا يتوقف إلا على قدرته وإرادته، فإنه قد يكون قادراً ولا يريد الفعل فلا يفعله، وقد يكون مريداً للفعل لكنه عاجز عنه فلا يفعله، أما مع كمال قدرته وإرادته، فلا يتوقف الفعل على شيء غير ذلك، والقدرة التامة والإرادة الجازمة هي المرجح التام للفعل الممكن، فمع وجودهما يجب وجود ذلك الفعل.
والرب تعالى قادر مختار يفعل بمشيئته لا مكره له، وليس هو موجباً له، بمعنى أنه علة أزلية مستلزمة للفعل، ولا بمعنى أنه يوجب بذات لا مشيئة لها ولا قدرة، بل هو يوجب بمشيئته وقدرته ما شاء وجوده، وهذا هو القادر المختار،
فهو قادر مختار يوجب بمشيئته ما شاء وجوده.
وبهذا التحرير يزول الإشكال في هذه المسألة، فإن الموجب بذاته إذا كان أزلياً يقارنه موجبه. فلو كان الرب تعالى موجباً بذاته [للعالم] في الأزل، [لكان كل ما في العالم مقارناً له في الأزل] ، وذلك ممتنع. بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل ما شاء الله وجوده من العالم فإنه يجب وجوده بقدرته ومشيئته، وما لم يشأ يمتنع وجوده، إذ لا يكون شيء إلا بقدرته ومشيئته، ـ وهذا يقتضي وجوب وجود ما شاء تعالى وجوده.
ولفظ الموجب بالذات فيه إجمال، فإن أريد به أنه يوجب ما يحدثه بمشيئته وقدرته، فلا منافاة بين كونه فاعلاً بالقدرة والاختيار، وبين كونه موجباً بالذات بهذا التفسير. وإن أريد بالموجب بالذات أنه يوجب شيئاً من الأشياء بذات مجردة عن القدرة والاختيار، فهذا باطل ممتنع وإن أريد أنه علة تامة أزلية تستلزم معلولها الأزلي، بحيث يكون من العالم ما هو قديم بقدمه، لازم لذاته، أزلاً وأبداً - الفلك أو غيره - فهذا أيضاً باطل.
فالموجب بالذات إذا فسر بما يقتضي قدم شيء من العالم مع الله، أو فسر بما يقتضي سلب صفات الكمال عن الله، فهو باطل. وإن فسر بما يقتضي أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فهو حق. فإن ما شاء وجوده فقد وجب وجوده بقدرته ومشيئته، لكن لا يقتضى هذا أنه شاء شيئاً من المخلوقات بعينه في الأزل، بل مشيئته لشيء معين في الأزل ممتنع لوجوده متعددة.
ولهذا كان عامة العقلاء على أن الأزلي لا يكون مراداً مقدوراً، ولا أعلم نزاعاً بين النظار أن ما كان من صفات الرب أزلياً لازماً لذاته لا يتأخر منه شيء لا
يجوز أن يكون مراداً مقدوراً، وأن ما كان مراداً مقدوراً لا يكون إلا حادثاً شيئاً بعد شيء، وإن كان نوعه لم يزل موجوداً، أو كان نوعه كله حادثاً بعد أن لم يكن.
ولهذا كان الذين اعتقدوا أن القرآن قديم لازم لذات الله متفقين على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته، وإنما يكون بمشيئته وقدرته خلق إدراك في العبد لذلك المعنى القديم. والذين قالوا: كلامه قديم، وأرادوا أنه قديم العين، متفقون على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته، سواء قالوا: هو معنى واحد قائم بالذات، أو قالوا: هو حروف، أو حروف وأصوات قديمة أزلية الأعيان.
بخلاف أئمة السلف الذين قالوا: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وإنه لم يزل متكلماً إذا شاء وكيف شاء. فإن هؤلاء يقولون: الكلام قديم النوع، وإن كلمات الله لا نهاية لها، بل لم يزل متكلماً بمشيئته وقدرته، ولم يزل يتكلم كيف شاء إذا شاء، ونحو ذلك من العبارات. والذين قالوا: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه حادث بالغير قائم بذاته، أو مخلوق منفصل عنه، يمتنع عندهم أن يكون قديماً.
فقد اتفقت الطوائف كلها على أن المعين القديم الأزلي لا يكون مقدوراً مراداً، بخلاف ما كان نوعه لم يزل موجوداً شيئاً بعد شيء، فهذا مما يقول أئمة السلف وأهل السنة والحديث إنه يكون بمشيئته وقدرته، كما يقول ذلك جماهير الفلاسفة الأساطين الذين يقولون بحدوث الأفلاك وغيرها، وأرسطو وأصحابه الذين يقولون بقدمها.
فأئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة يقولون: إن الأفلاك محدثة كائنة بعد أن لم تكن،
مع قولهم: إنه لم يزل النوع المقدور المراد موجوداً شيئاً بعد شيء.
ولكن كثيراً من أهل الكلام يقولون: ما كان مقدوراً مراداً يمتنع أن يكون لم يزل شيئاً بعد شيء، ومنهم من يقول بمنع ذلك في المستقبل أيضاً.
وهؤلاء هم الذين ناظرهم الفلاسفة القائلون بقدم العالم، ولما ناظروهم واعتقدوا أنهم قد خصموهم وغلبوهم، اعتقدوا أنهم قد خصموا أهل الملل مطلقاً، لاعتقادهم الفاسد الناشيء عن جهلهم بأقوال أئمة أهل الملل، بل وبأقوال أساطين الفلاسفة القدماء، وظنهم أنه ليس لأئمة الملل وأئمة الفلاسفة قول إلا قول هؤلاء المتكلمين وقولهم، أو قول المجوس والحرانية، او قول من يقول بقدم مادة بعينها، ونحو ذلك من الأقوال التي قد يظهر فسادها للنظار، وهذا مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أن عامة العقلاء مطبقون على أن العلم بكون الشيء المعين مراداً مقدوراً، يوجب العلم بكونه حادثاً كائناً بعد أن لم يكن، بل هذا عند العقلاء: أن الشيء مقدور للفاعل مراد له فعله بمشيئته وقدرته، موجب للعلم بأنه حادث. بل مجرد تصورهم كون الشيء مفعولاً أو مخلوقاً أو مصنوعاً أو نحو ذلك من العبارات، يوجب العلم بأنه محدث كائن بعد أن لم يكن ا0هـ.
فقول الجهمية فاسد من وجوه: -
1-
انه يدل على امتناع حدوث العالم كما قال شيخ الإسلام. وهو حادث لأنه إذا كان الفعل ممتنعاً، فالممتنع ما لا يمكن وجوده، فهو ممتنع الوجود، أما وقد حدث العالم، فإن حدوثه يدل على أنه ممكن وليس بممتنع فإذا كان ممكناً في وقت كذا، فلابد أن يكون أيضاً ممكناً في أي وقت قبله أو بعده،
فيلزم دوام الإمكان، وهو ما عُبر عنه بجواز حوادث لا نهاية لأولها (1) .
يقول الرازي (2) في المطالب (4/35) :
أن كل ما كان ممتنع الوجود لعينه ولذاته امتنع أن يقبل الوجود البتة، لأن مقتضى الماهية لا يتبدل ولا يتغير، فإن كانت الماهية مقتضية لعدم قبول الوجود، وجب أن تكون أبداً كذلك، وإن كانت مقتضية لقبول الوجود، وجب أن تكون [أبداً] كذلك. فيثبت: أن العالم لو صدق عليه في بعض الأوقات [أنه ممتنع الوجود لذاته، لصدق عليه الحكم في كل الأوقات ولما كان التالي كاذباً، كان المقدم أيضاً كاذباً.
2-
[إنه] لو كان العالم ممتنعاً لذاته في الوقت الأول، ثم انقلب ممكناً لذاته في الوقت الثاني، فذلك الإمكان إما أن يحدث مع جواز أن لا يحدث، أو يحدث مع وجوب أن يحدث.
فإن كان الأول كان إمكان حدوث هذا المكان سابقاً على حدوث هذا الإمكان يقتضي حصول الإمكان، فقد كان الشيء ممكناً [قبل كونه ممكناً] وذلك محال، وإن كان الثاني وهو أنه حدث مع وجوب أن يحدث، فنقول: إن هذا غير معقول، وبتقدير كونه معقولاً، فإنه يقتضي نفي الصانع. أما أنه
(1) تقريب الطحاوية لخالد فوزي (1/561) .
(2)
نقلنا كلامه لأن فيه رداً قوياً على الجهمية القائلين بانقلاب الفعل من الامتناع إلى الامكان فبين الرازي أن هذا خرق لقانون العقل وأحكامه فيكون سفسطة، وقد نقل شيخ الإسلام من الرازي بعض الردود على الخصم لأن حق كل فريق من ضالة المؤمن.
غير معقول، فلأن الأوقات متشابهة متساوية، فإن بتقدير أن يحدث قبل ذلك الوقت بتقدير يوم واحد، لا يصير أزلياً. وإذا كانت الأوقات متشابهة متساوية، كان القول بأنه ممتنع الحدوث قبل ذلك الوقت بتقدير يوم واحد، وواجب الحدوث في ذلك الوقت بعينه: قول خارج عن العقل. وأما أن بتقدير صحته، فإنه يلزم نفي الصانع وذلك [محال] لأنه لو جاز أن يقال: إنه حدث ذلك الإمكان في ذلك الوقت بعينه، حدوثاً لا على سبيل الوجوب الذاتي، فلم لا يجوز أيضاً أن يقال: إن وجود العالم حدث في ذلك الوقت بعينه حدوثاً على سبيل الوجوب الذاتي؟ وحينئذٍ لا يمكن الاستدلال بحدوث المحدثات على افتقارها إلى الصانع، وذلك يوجب نفي الصانع. فثبت بهذا أن هذا القول باطل.
3-
…
إنا توافقنا على أنه تعالى كان قادراً على إيجاد [هذا] العالم قبل الوقت الذي أوجده فيه بمقدار ألف سنة، لأن بتقدير أن يتقدم حدوثه [على هذا الوقت الذي حدث] فيه بمقدار ألف سنة لا يصير أزلياً، وإذا ثبت هذا فلا وقت يفرض كونه أولاً لوقت حصول الإمكان، إلا وكان الإمكان حاصلاً قبله بمقدار آخر متناه، وإذا كان لا وقت يشار إليه إلا وقد كان الإمكان حاصلاً قبله لزم القطع بأنه ليس هذا الإمكان مبدأ البتة، فوجب القطع بأنه لا أول لهذا الإمكان وهو المطلوب.
4-
[إنه] لو صدق في وقت من الأوقات أنه يمتنع على قدرة الله التأثير في الإحداث والتكوين، ثم صدق بعد ذلك على تلك القدرة أنه يصح منها التأثير والتكوين، فإما أن يحصل هذا التبدل لأمر، او لا لأمر، والقسمان باطلان.
أما حصوله لا لأمر أصلاً، فهو غير معقول، وأما حصوله لأمر [ما] سواء كان ذلك وجوداً [بعد عدم، أو كان عدماً] بعد وجود، فحصول ذلك التبدل في ذلك الوقت بعينه، إما ان يكون واجباً أو ممكناً فإن كان واجباً عاد التقسيم الأول فيه، وهو أن اختصاص ذلك التبدل بذلك الوقت المعين من غير سبب: كلام لا يقبله العقل. وإن كان ممكناً فحينئذ يمكن حصول ذلك قبل ذلك الوقت، وبتقدير حصول ذلك التبدل قبل [حصول] ذلك الوقت، لزم حصول ذلك الإمكان قبل ذلك الوقت. وإذا كان كذلك فذلك الشيء كان ممكن الوجود قبل ذلك الوقت، وكنا فرضناه ممتنعاً. هذا خلف. فثبت: أن القول بإثبات أول لهذا الإمكان، ولهذه الصحة: كلام لا يقبله العقل.
5-
إن الذي يكون ممتنعاً لذاته، وجب أن يكون ممتنعاً أبداً والذي يكون ممكناً لذاته، وجب أن يكون ممكناً أبدا. ولو جاز التغير على هذه المعاني، فحينئذ لا يبقي للعقل أمان في الحكم بجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات فلعل الجمع بين الضدين وإن كان ممتنعاً، فسيجيء وقت يصير فيه واجباً لعينه، ولعل كون الأربعة زوجاً، وإن كان واجباً لذاته، فسيجيء وقت يصير فيه ممتنعاً لعينه. وبالجملة: فالعقل إنما يمكنه تركيب المقدمات بناء على أن ما يكون ممتنعاً لعينه، وجب أن يكون كذلك أبداً، وما كان واجباً لعينه، وجب أن يكون كذلك أبداً فإن أدخلنا الطعن والتكذيب في هذه المقدمة، فحينئذ لا يبقى عند العقل مقدمة يمكنه الجزم بها، وذلك [دخول في السفسطة] .
وطرد الجهم قاعدته في المستقبل أيضاً وقال بامتناع الحوادث فيها، وأما العلاف
فذهب إلى فناء الحركات دون الذات وسيأتي في مبحث نونية ابن القيم (1) .
لكن يمكن أن يقال ان الفرق بين قول شيخ الإسلام وتلميذه وقول الجهم ان الجهم يرى ان الدوام مستحيل أما شيخ الإسلام وابن القيم فيريان أنه ممكن لكن بفضل الله يفنيها.
وليس هذا مجال بسط المسألة ولا ذكر الأدلة.
(1)
…
: حكي عن شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم القول بفناء النار وللمعاصرين تحقيقات في هذه المسألة، منهم من ينكر ذلك عنهما ومنهم من يثبت ذلك عنهما ويمكن أن تراجع هذه المسألة في الكتب التالية:
1-
رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار للصنعاني - ط. المكتب الإسلامي
2-
توفيق الفريقين على خلود أهل الدارين لمرعي الحنبلي - تحقيق: خليل السبيعي.
3-
الرد على من قال بفناء الجنة والنار لشيخ الإسلام ابن تيمية - تحقيق د 0 محمد السمهري - ط. الرياض
4-
كشف الأستار لابطال إدعاء فناء النار المنسوب لإبن تيمية وابن القيم للدكتور علي اليماني - ط. طيبة في مكة.