المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث:المخالفون لابن تيمية ونقل كلامهم في ذلك - قدم العالم وتسلسل الحوادث

[كاملة الكواري]

الفصل: ‌المبحث الثالث:المخالفون لابن تيمية ونقل كلامهم في ذلك

‌المبحث الثالث:

المخالفون لابن تيمية ونقل كلامهم في ذلك

ص: 159

المبحث الثالث: المخالفون لابن تيمية:

بعد ان ذكرنا اختلاف الناس في تسلسل الحوادث، وعرفنا أن المتكلمين على منعه! عقدت هذا المبحث للذين خالفوا ابن تيمية تصريحاً أو تلميحاً، واتهموهما بقدم العالم وأن الله موجب بالذات لا فاعلاً بالاختيار، وكذلك من أنكر عليهما من غير اتهامهما، وكذلك من اضطرب كلامه في شيخ الإسلام.

وسوف أكتفي بمجرد النقل للأقوال في هذا المبحث إلا إذا دعت الحاجة إلى التعليق! وسأخصص المبحث الرابع للرد على الطاعنين في ابن تيمية من كلام ابن تيمية نفسه إن شاء الله فإن صاحب البيت أدرى بما فيه.

وأما المخالفون فهم:

1-

تقي الدين السبكي الكبير في السيف الصقيل ص86، وقدر رد فيه على نونية ابن القيم الذي نصر رأي شيخه في هذه المسألة فقال السبكي:

وقد صرح بقبائح منها إمكان التسلسل، ومنها نسبة أكابر علماء الأشعرية إلى التلبيس، ومنها نسبة ذلك إلى القرآن والسنة وأنه لم يجيء أثر ينص على العدم المتقدم وقد جاء (كان الله ولا شيء معه) والشيء يشمل الجسم والفعل والنوع والآحاد.

2-

ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (6/421) فقال:

وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية الباب، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية، ووقفت في كلام له على هذا الحديث يرجح الرواية التي في هذا الباب على غيرها، مع أن قضية الجمع بين الروايتين

ص: 160

تقتضي حمل هذه على التي في بدء الخلق لا العكس، والجمع يقدم على الترجيح بالاتفاق.

3-

ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية ص116:

واعلم أنه خالف الناس في مسائل نبه عليها التاج السبكي وغيره، فمما خرق فيه الإجماع قوله في ان العالم قديم بالنوع ولم يزل مع الله مخلوقاً دائماً فجعله موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار (1) ا 0هـ

4-

تقي الدين الحصني صاحب كفاية الأخيار في كتابه دفع شبه من شبه وتمرد ص 60 حيث قال:

ومما انتقد عليه: وهو من أقبح القبائح ما ذكره في مصنفه المسمى بحوادث لا أول لها وهذه التسمية من أقوى الأدلة على جهله فإن الحادث مسبوق بالعدم (2) والأول ليس كذلك وبنى أمره فيه على اسم من أسماء الأفعال ونفى المجاز في القرآن وهو من الجهل أيضاً فإن القرآن معجز ومحشو بالمجازات والاستعارات حتى أن أول حرف فيه أحد أنواع المجاز وتضمن هذا المصنف مع صغره شيئين عظيمين تكذيب الله عز وجل في قوله هو الأول فجعل معه قديماً وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله كان الله ولا شيء معه وفي البخاري من رواية عمران بن حصين رضي الله عنه كان الله ولم يكن شيء قبله وليس وراء ذلك زيغ وكفر.

(1) سيأتي بطلان نسبة هذا الكلام لابن تيمية في المبحث الرابع إن شاء الله وكيف ظلموا هذا العالم المجاهد عن عقيدة السلف.

(2)

ان كان المخلوق فهو مسبوق بالعدم بلا شك، وكذلك فعل الرب المعين مسبوق بالعدم كما سبق أما نوع المخلوق ونوع الفعل فهو قديم كما سبق أن بينا في مطلب القدم النوعي.

ص: 161

وقال ص 45: فصار كفره مجمعاً عليه ا 0 هـ

5-

زاهد الكوثري في حاشيته على السيف الصقيل وفي حاشيته على الإجماع لابن حزم:

قال في حاشيته على السيف ص 81:

ونسجل هنا على الناظم اعتقاده قيام الحوادث بذات الله سبحانه وتعالى

واعتقاده أن هذه الحوادث لا أول لها (1) . وإني ألفت نظر حضرة القارئ إلى هذه العقيدة وهل تتفق مع دعوى أنه إمام دونه كل إمام؟ بل هل تتفق هذه العقيدة مع دعوى أنه في عداد المسلمين فقط؟

وقال في حاشية السيف ص82:

وهذا (2) تصريح منه بأن الله سبحانه فاعل بالإيجاب انخداعاً منه بقول الفلاسفة القائلين بقدم العالم وقد أتى أهل الحق بنيانهم من القواعد، وإن كان الناظم المسكين بعيداً عن فهم أقوال هؤلاء وأقوال هؤلاء، ثم يناقض الناظم نفسه ويثبت لله الاختيار وهو في الحالتين غير شاعر بما يقول (3) ، تعالى الله عما يقول، وأرجو أن يفهم القارىء هنا معنى لابد من اعتقاده وهو أن القائل بأن الله فاعل بالإيجاب في ناحية ودين الإسلام كله في ناحية، وأي مسلم يستطيع أن يقول إن ربنا مرغم على فعل ما يفعله.

(1) فيه دليل على أن المراد من نفيهم لحوادث لا أول لها هو أفعال الرب، وأن نفيهم بحلول الحوادث أي نفي الصفات الفعلية، وقد سبق لنا انه قد يطلق على المفعول أيضاً.

(2)

أي في قول ابن القيم: فلأي شيء تأخر فعله مع موجب.

(3)

بل ان الكوثري هو المسكين الذي لا يدرك ما يقول لأن الإيجاب لفظ مجمل =

ص: 162

وقال في حاشيته السيف ص 83:

لو كان الناظم سعى في تعلم أصول الدين (1)

عند أهل العلم قبل أن يحاول الإمامة في الدين لبان له الفرق بين الماضي والمستقبل في ذلك، ولعلم أن كل ما دخل في الوجود من الحوادث متناه محصور وأما المستقبل فلا يحدث فيه حادث محقق إلا وبعده حادث مقدر لا إلى غير نهاية بخلاف الماضي كما سبق

وقال في ص84:

عدم فناء النوع في الأزل بمعنى قدمه، وأين قدم النوع مع حدوث أفراده؟ وهذا لا يصدر إلا ممن به مس بخلاف المستقبل وقد سبق بيان ذلك.

وقال في ص 85:

القول بدوام فعله في جانب الماضي قول بحوادث لا أول لها وقد سبق تسخيف ذلك مرات ا 0 هـ

= قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (1/164) :

ولفظ الموجب بالذات فيه إجمال. فإن أريد به أنه يوجب ما يحدثه بمشيئته وقدرته، فلا منافاة بين كونه فاعلاً بالقدرة والاختيار، وبين كونه موجباً بالذات بهذا التفسير وإن أريد بالموجب بالذات أنه يوجب شيئاً من الأشياء بذات مجردة عن القدرة والاختيار، فهذا باطل ممتنع وإن أريد أنه علة تامة أزلية تستلزم معلولها الأزلي، بحيث يكون من العالم ما هو قديم بقدمه، لازم لذاته، أزلا وأباً - الفلك أو غيره - فهذا أيضاً باطل

فالموجب بالذات إذا فسر بما يقتضي قدم شيء من العالم مع الله أو فسر بما يقتضي سلب صفات الكمال عن الله، فهو باطل وإن فسر بما يقتضي أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فهو حق.

(1)

والحمد لله ان الناظم لم يتعلم مثل ما تعلم لكوثري فالله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

ص: 163

وقال في ص 87:

وهذا (1) يناقض القول بحوادث لا أول لها ودوام الفعل في جانب الماضي، والناظم كم ينقض غزله وله هوى في إكفار الأمة بكل وسيلة، ولا أدري ماذا يكسب هذا المتهوس إذا لم يبق من الأمة مسلم سوى مكسرى الحشوية.

وقال في حاشيته على الإجماع لابن حزم ص169

العجب كل العجب اجتراء ابن تيمية هنا على القول بحوادث لا أول لها والقول بالقدم النوعي في العالم وبقيام الحوادث به سبحانه، متعامياً عن حجة إبراهيم المذكورة في القرآن الكريم ومنكراً لما يعزوه لصحيح البخاري (كان الله ولا شيء معه)(2) مع أنه هو القائل بأن ما في الصحيحين يفيد العلم - يعني اليقين إجراء له مجرى الخبر المتواتر - ومخالفاً للإجماع اليقيني في ذلك، وأنى يتصور قدم للنوع الذي لا وجود له إلا في الذهن! وعدم تناهي ما دخل بالفعل تحت الوجود لا يتصوره إلا عقل عليل، وعلى فرض وجود النوع في الخارج لا يكون موجوداً إلا في ضمن أفراده، وأني يكون للنوع قدم مع حدوث أفراده؟ !! ودعوى (أن الله لم يزل ومعه شيء)(3) توازن في البشاعة القول بقدم شيء بعينه سواه تعالى بل القول بالقدم النوعي كالقول بالقدم الشخصي في

(1) أي في قول ابن القيم: (والله كان وليس شيء غيره) ففهم الكوثري أنه تناقض لأجل ان الشيء يعم نوع الفعل عنده في حين ان ابن القيم يقصد المخلوق المقارن لله رداً على الفلاسفة، أما نوع الفعل فليس داخلاً في قول الناظم كما سبق لنا.

(2)

سبق ان الحديث ليس في البخاري.

(3)

ان الله لم يزل فعالاً أي معه نوع الفعل لا فعل معين ولا مفعول معين وقد سبق.

ص: 164

البطلان بل ذاك أسقط من هذا وكلاهما يستلزم نفي الإرادة عن الله (1) سبحانه.

6-

سلامة القضاعي في كتابه فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان ص77 نقلاً عن التقي:

وتعدى في ذلك إلى استلزام قدم العالم، والتزمه بالقول بأنه لا أول للمخلوقات فقال بحوادث لا أول لها، فاثبت الصفة القديمة حادثة، والمخلوق الحادث قديماً، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل، ولا نحلة من النحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاثة والسبعين التي افترقت عليها الأمة، ولا وقفت به مع أمة من الأمم همة، وكل ذلك وإن كان كفراً شنيعاً مما تقل جملته بالنسبة إلى ما أحدث في الفروع " ا 0هـ

7-

د 0 محمد البوطي في كتابه السلفية ص 166 حيث قال:

هذا هو كلام ابن تيمية بطوله تعليقاً على ما جاء في كلام ابن حزم، من أن الإجماع قد انعقد على أن الله تعالى لم يزل وحده ولا شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كلها كما شاء.

ثم أطال في بيان ما يقرره طوائف من علماء الكلام، والفلاسفة في هذه المسألة، لينتهي إلى ما يقرره الفلاسفة (2) من أن الأشياء حادثة بالعين والجزئيات ولكنها قديمة بالنوع وسلسلة التوالدات، وأكد ذلك بقوله:

(1) وهل يوجد أحد يفهم من دوام فاعلية الرب نفي الإرادة عنه، سبحانك هذا بهتان عظيم!

(2)

بل هناك فرق بين وظاهر بينهما كما سيأتي في المبحث الرابع.

ص: 165

" ولكن فرق بين حدوث الشيء المعين، وحدوث الحوادث شيئاً بعد شيء "

أي فالأول هو الحادث بعد أن لم يكن، أما سلسلة الحوادث المتوالدة شيئاً بعد

شيء على حد تعبيره - فهي قديمة مستمرة (1) .

ومن تأمل الكلام الطويل الذي ساقه في الرد على ابن حزم في نقله الإجماع على أن الله خالق كل شيء، وأنه عز وجل كان وليس معه شيء ثم خلق الأشياء كما أراد، وقع على خلط وتخبط عجيبين في كلامه هذا. ولا تدري ما الذي أقحمه في هذه المخاضة الفلسفية التي يبرأ إلى الله منها السلف الصالح (2) بعصورهم الثلاثة، شكلاً ومضموناً؛ وهو الذي ما زال يحذرنا من أضاليل الفلاسفة وابتداعاتهم ويوصينا بالوقوف عند نصوص الكتاب والسنة!

والعجب كل العجب أن نرى ابن تيمية الذي يسفه الفلسلفة والفلاسفة، ويشدّ أزره دوماً بانتمائه إلى السلف والسير على صراطهم، والبعد عن كل ما ترفعوا عن الخوض فيه، وقد أصابته من الفلاسفة لوثة وأي لوثة، وأصبح يدافع عن رأيهم (3) في القول بقدم النوع الأساسي وحدوث الأعيان الجزئية.

ففي سبيل الدفاع عن رأيهم هذا، يعلن أنه لا إجماع على كفر من نازع في أن

(1) من الواضح ان البوطي يقول بأن حكم الواحد هو حكم المجموع وقد سبق ايضاح الفرق بينهما ص101.

(2)

بل هو مذهب السلف وقد ذكرنا الأدلة على ذلك.

(3)

بل رأي الفلاسفة هو كون المخلوق مقارناً لله ولم يسبق من عدم، أما ابن تيمية فيقول بسبق كل مخلوق من عدم إلا ان أفعال الله قديمة وهذا لا يلزم منه قدم المخلوق بحيث يكون مع الله.

ص: 166

الله كان وحده ولا شيء معه ثم خلق الأشياء كما شاء! أي فلنا أن نقرر بأن

المادة الأولى للمكونات كانت قديمة ولم تستحدث، وأنها تشترك مع الله اشتراكاً ذاتياً في صفة القدم (1) ، لنا أن نقرر هذا ولا حرج! .

بل يزيدنا ابن تيمية رحمه الله تعجباً واستغراباً عندما يقول بأن تكفير القائلين بهذا الرأي لم يأت عليه دليل صريح لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

إذن فما معنى قول الله عز وجل: {الله خالق كل شيء} [الرعد 16، والزمر: 62] وقد علمت أن المادة بمعناها النوعي، الذي توالدت منها الأشياء، على حد تصور الفلاسفة، بفريقيهم اليونانين والإشراقيين، داخلة في عموم كل شيء. ولا شك أن خالقيته بإرادة واختيار، لا بتسبب ولا بفيض أو اضطرار. إذن فكل الأشياء حادثة مهما سبق بعضها بعضاً، وليس انتقاء بعض منها (2) دون بعض لإعطائها صفة القدم إلا ترجيحاً بين أشياء متساوية دون أي مرجع، وهو باطل يرفضه العقل.

وما معنى قول الله عز وجل: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} [العنكبوت: 22] وقد علمنا أن بداءة الشيء تعني كونه مسبوقاً بالعدم (3) فلو كان أصل المادة ذا وجود قديم مع وجود الله، إذن لما كانت له بداءة، ولما اتصف

(1)

هذا كلام من لم يفهم قول شيخ الإسلام وسيأتي تفصيله في المبحث الرابع.

(2)

ابن تيمية لم يقل بقدم شيء من المادة أو أي مخلوق آخر بل صرح بأن كل شيء فهو مسبوق بالعدم إلا ان الأفعال والمفعولات من حيث النوع فقديمة كما سبق.

(3)

وهو ما يصرح به ابن تيمية كما سيأتي.

ص: 167

خلق الله له - إن صح أن يسمى ذلك خلقاً - بالبدء كما يقرر أكثر من مرة في محكم كتابه، والخلق في الآية عام يشمل الإنسان وغيره من سائر الموجودات والمخلوقات، فلا يوهمنك مبطل من ذوي السمادير الفلسفية بأن الآية تعني الإنسان وتلفت لنظر إلى كيفية خلق الله له من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخار فإن لفت النظر إلى خصوص نشأة الإنسان لا يحتاج إلى الأمر بالسير في الأرض وتأمل قصة الكائنات عموماً.

وما معنى اسم الله (الأول) في قوله عز وجل: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3] وهل منا من لا يعلم أن أول اسم تفضيل أصله أوءل على وزن أفعل، وأنه على تقدير: أول من كذا أي أسبق في الوجود منه؟ فما هو هذا (الكذا) الذي يدل عليه اسم الله (الأول) ؟ وهل منا من يجهل

أن التقدير: أول من كل شيء، أي أسبق في الوجود من كل شيء؟ وهل من مسلم يجرؤ أن يقول: لا بل التقدير: أول من بعض الأشياء، أي باستثناء أصل الأشياء ونوعها الأول (1) ، فهي قديمة كقدمه وهي الأخرى جديرة أن تكتسب الاشتراك مع اسمه (الأول) !

ولا يقف العجب بنا عند تجاهل ابن تيمية (2) رحمه الله لهذه النصوص البينة في كتاب الله عز وجل، بل الأغرب من ذلك أنه يبذل جهداً شاقاً متكلفاً لينتقي

(1) واضح أن البوطي لم يفهم قول ابن تيمية حيث يظن ان ابن تيمية يقول بقدم المادة مع ان ابن تيمية يقول بقدم فعل الرب وانه لم يزل فعالاً لا ان المخلوق لم يزل مع الله فإن هذا كفر بالله أما نوع المخلوق فقد سبق انه قديم وبينا معنى ذلك.

(2)

لم يتجاهل ابن تيمية ذلك وإنما قال بدوام فاعلية الرب سبحانه.

ص: 168

من الروايات الثلاثة الصحيحة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع، ما هو أقرب إلى التناسب مع رأيه هذا، فيرجحها على الروايتين الأخريين ويشطب عليها بالوهم والبطلان، دون أي مسوغ لهذا الترجيح. فقد ورد في البخاري في كتاب (بدء الخلق) بلفظ " كان الله ولم يكن شيء غيره " وورد في رواية أبي معاوية في الكتاب ذاته " كان الله تبارك وتعالى قبل كل شيء " وورد في كتاب (التوحيد) بلفظ " كان الله ولم يكن شيء قبله " ولما كانت الروايتان الأوليان أصرح في الرد على الفلاسفة الذين أثبتوا حوادث لا أول لها، أي أثبتوا ما يسمونه القدم النوعي، فقد اختار ابن تيمية أن يشطب عليهما، ويرجح عليهما رواية " ولم يكن قبله شيء " مع أن ابن تيمية رحمه الله يعلم ما هو معلوم لدى جميع علماء أصول الفقه، من أن الترجيح إنما يلجأ إليه عند التعارض وعدم إمكان الجمع، فأما ان كان الجمع بين الروايات ممكناً بل لا تعارض بينها، فيجب المصير إليه ويمنع من الإلغاء والترجيح. والروايات الثلاث هنا منسجمة مع بعضها ولا تعارض بينهما. فقد كان الله وليس معه شيء (1) ، وليس غيره شيء وليس قبله شيء. فما المسوغ إذن لترجيح واحدة منها واعتمادها، وإلغاء الروايتين الآخريين؟ وهذه من القواعد الأصولية التي لا خلاف فيها والتي لا تخفى على أحد، فضلاً عن ابن تيمية رحمه الله.

وقد علمت أن الدافع الوحيد الذي حمله على اختيار رواية " ولا شيء قبله " التي لا تخالف الروايات الأخرى مخالفاً القاعدة المتفق عليها في تفسير النصوص، هو أن لا يجد أمامه ما يمنعه من القول باستمرار حوادث متوالدة من بعضها إلى ما لا نهاية كما يقول الفلاسفة، وأن يصح له التفريق في المنع بين " حدوث

(1) لكن البوطي لم يفسر لنا مراده من قوله (ليس معه شيء) هل يعني أن الله لم يكن فاعلاً

ولا خالقاً كما قال السبكي فيكون معطلاً للرب أم لا؟! وعلى كل حال سبق أن فصلنا معنى الرواية على فرض صحتها.

ص: 169

الشيء المعين وحدوث شيئاً بعد شيء " على حد تعبيره، أي فالأول هو الذي يمنع في حقه القدم، أما الثاني فقديم مع الله (1) عز وجل!

ثم أن الأغرب من هذا وذاك أن يدعي رحمه الله أنه لا إجماع على كفر من يقول بقدم المادة نوعاً إذا علم أنها حادثة من حيث الأعيان الجزئية (1) !

كل تلك النصوص القرآنية، وهذا البيان النبوي الصحيح، لا يجعل المسألة من ضروريات العقيدة الإسلامية، ولا يستتبع إجماعاً من أئمة المسلمين وعلمائهم على كفر من اعتقد بقدم المادة أو أعتقد بأصلها النوعي! إذن فما هي الأسباب الثلاثة التي أجمع أئمة المسلمين على كفر الفلاسفة بها؟ (2)

ومع هذا فلعل أنصح ردّ على كلام ابن تيمية هذا، كلام ابن تيمية نفسه! فقد أثبت كفر من قال بقدم العالم (3)(قدماً نوعياً أو عينياً) ونقل الإجماع على ذلك في أكثر من موضع ومناسبة، في رسائله وكتاباته.

8-

د 0 عبد الفتاح بركة في شرح السنوسية الكبري ص 100

(ش) اعلم أن الملل كلها أجمعت على حدوث كل ما سوي الله جل وعلا،

(1)

الرد على هذه الأسطر الأخيرة واضح كما بيناه في مطلب القدم النوعي فليراجع هناك.

(2)

انما كفر الفلاسفة لكونهم لم يقولوا بسبق الأشياء من العدم بل هي مقارنة لله تعالى عن قولهم.

(3)

وهل ابن تيمية من السذاجة بحيث يقول بالقدم النوعي ثم ينقل الإجماع على كفر قائله أم ان البوطي حفظه الله لم يفهم مراد ابن تيمية ولم يتأمله؟!!

ص: 170

حتى اليهود والنصارى، وحتى المجوس.

ولم يخالف في ذلك إلا شر ذمة من الفلاسفة.

وتبعهم على ذلك بعض من ينسب نفسه للإسلام، وليس له فيه نصيب.

والاشتغال بتفصيل مذاهبهم في ذلك يطول.

9-

د 0 محمد عبد الستار نصار في كتابه العقيدة الإسلامية (1/228) :

العالم عند النظام له بداية ونهاية، أي أنه مخلوق بعد العدم المحض خلافاً لما ذهب إليه جمهور الفلاسفة، اعتقاداً منهم بأنه معلول لعلة قديمة والعلة والمعلول - في نظرهم - متساوقان في الزمان والوجود، وهم لا يتصورون مدة يكون " الله " فيها معطلاً عن الفعل، من ثم يذهبون إلى " الفاعلية "، المستمرة أزلاً وأبداً، وقد وافقهم على هذا الرأي بعض المفكرين الذين ينتسبون إلى المذهب السلفي، وقد طوعوا لمذهبهم هذا، بعض الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى:" فعال لما يريد " وفهموا من هذه الآيات دوام الفعل أزلاً وأبداً، ولم يغفلوا عن اللازم الذي يترتب على هذا الفهم، وهو أن يكون مع الله قديم سواه، فقالوا بقدم جنس العالم وحدوث أعيانه

10-

الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 133 حيث قال:

(وفيه رد أيضاً على من يقول بحوادث لا أول لها، وأنه ما من مخلوق، إلا ومسبوق بمخلوق قبله، وهكذا إلى ما لا بداية له، بحيث لا يمكن أن يقال: هذا أول مخلوق، فالحديث يبطل هذا القول ويعين أن القلم هو أول مخلوق،

ص: 171

فليس قبله قطعاً (1) أي مخلوق. ولقد أطال ابن تيمية رحمه الله الكلام في رده على الفلاسفة محاولاً إثبات حوادث لا أول لها، وجاء في أثناء ذلك بما تحار فيه العقول، ولا تقبله أكثر القلوب، حتى اتهمه خصومه بأنه يقول بأن المخلوقات قديمة لا أول لها، مع أنه يقول ويصرح بأن ما من مخلوق إلا وهو مسبوق بالعدم، ولكنه مع ذلك يقول بتسلسل الحوادث إلى ما لا بداية له. كما يقول

هو وغيره بتسلسل الحوادث إلى ما لا نهاية (2) ، فذلك القول منه غير مقبول، بل هو مرفوض بهذا الحديث، وكم كنا نود أن لا يلج ابن تيمية رحمه الله هذا المولج، لأن الكلام فيه شبيه بالفلسفة وعلم الكلام الذي تعلمنا منه التحذير والتنفير منه، ولكن صدق الإمام مالك رحمه الله حين قال:" ما منا من أحد إلا رد ورد عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم "

11-

الحبشي في كتابه الدليل القويم ص41 وليس عندي كتابه فسأنقله من كتاب موسوعة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية (2/1091) :

قال الحبشي " فإن قلت أين قال ابن تيمية بأن دوام النوع أزليته قلنا مراده بدوام النوع الأزلية كما لا يخفى فلم ينقل الحبشي شيئاً من كتب ابن تيمية وانما قال

(1) القطع بأنه ليس قبل القلم مخلوق مما لا علم فيه للبشر ولابد فيه من نص صريح ويقال للألباني ان كان يعتقد بدوام الفاعلية للرب فهو قائل بقول ابن تيمية، وإن كان لا يقول بدوام الفاعلية فقد وقع في قول أرباب أهل الكلام المذموم، والظن به أنه يقول بدوام الفاعلية إلا ان يعين أول مخلوق اجتهاداً منه فيكون قائلاً بتجويز حادث لا أول لها وموافقاً في ذلك شيخ الإسلام.

(2)

وماذا يقول الشيخ الألباني في التسلسل أبداً؟ .

ص: 172

"لا يخفى أن يكون هذا مراده " أي مقصوده. ولو كان لابن تيمية نص صريح لتمسك به الحبشي وأظهره على الملأ لكنه لا يملك نصاً فلم يسعه إلا أن يقول: ومراده بدوام النوع الأزلية كما لا يخفى " وهذا تلبيس ماكر لا يتفطن له العامة من الناس.

وهو لا يخبرهم أن ابن تيمية يرى أن الصفات الفعلية لله تعالى وإن كانت أزلية النوع إلا أنها حادثة الإفراد كالخلق والكلام.

لكن الظالمين قلبوها إلى " قدم العالم النوعي " وجعلوا ذلك موافقاً لقول ابن سينا والفارابي وابن رشد الحفيد، بطريقة اعتباطية جائزة، وهذا كقولهم عن

الحنابلة أنهم يعتقدون بأزلية وقدم ورق المصحف والحبر وجلد الغلاف. وقد جهلوا أن الله مطلع على هذا التلبيس الذي لا يزيد طالب الحق إلا نفوراً من مذهب الظلم.

وقد أفتى ابن تيمية بكفر الفلاسفة لقولهم بقدم العالم، وصرّح مراراً بأن الله لم يزل خالقاً فعالاً وأن دوام خالقيته من لوازم وجوده فهذا ليس قولاً بقدم شيء من العالم.

12-

د 0 أحمد الحجازي السقا في كتابه دفع الشبهات عن الشيخ محمد لغزالي حيث قال ص13:

وللشيخ ابن تيمية عبارات تل على قدم العالم فإنه يقول: إن الله والعالم كالخاتم والإصبع، لا يتصور تحرك أحدهما منفصلاً عن الآخر اهـ. (1)

(1) والسقا لم يأت بنقل واحد من كتب ابن تيمية!!! بل شيخ الإسلام رد على هذا المثال في منهاج السنة (1/170) و (1/222) وهو من شبهات الفلاسفة.

ص: 173

13-

حسن السقاف في كتابه التنبيه والرد على معتقد قدم العالم والحد حيث قال ص6 وما بعده:

مسألة قدم العالم

اعلم أن عقيدة الإسلام جاءت مبينة بأن الله تعالى: (هو الأول) الذي تفرد وحده بالقدم، حيث لم كن أنس ولا جان، ولا ملائكة أو شيطان، ولا مكان ولا زمان، ولا أرض ولا سماء، ولا قلم ولا ماء، ولا عرش ولا هواء،

ولا فرش ولا ضياء، ولا ظلمة ولا نور لقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري وغيره:(كان الله ولم يكن شيء قبله) وفي رواية (كان الله ولم يكن شيء معه) وفي رواية (كان الله ولم يكن شيء قبله) وجاء أيضاً في صحيح الحديث: (ان أول شيء خلقه الله تعالى القلم، وأمره أن يكتب كل شيء يكون) وأئمة المسلمين نقلوا الإجماع على ان الله تعالى كان وحده في الأزل ولم يكن معه شيء من المخلوقات (1) ، بل نقلوا الإجماع على كفر من خالف في هذا ووافقهم ابن حزم في مراتب الإجماع ص167 وذكره الحافظ القاضي عياض في الشفاء وغيرهم، وهو أمر معلوم من الدين بالضرورة ولننقل ما يقوله الإمام القاضي عياض في الشفا 2/606، ناقلاً لجملة من الاعتقادات الكفرية التي يجب حفظ الإيمان منها، قال:(أو - اعتقد - ان معه في الأزل شيئاً قديماً غيره، أو ان ثم صانعا للعالم سواه، أو مدبراً غيره فذلك كله كفر بإجماع المسلمين) .

(1) وابن تيمية لا يقول ان شيئاً من المخلوقات أزلي مع الله بل يقول إنه تعالى لم يزل فاعلاً، وان نوع المفعول معه وقد سبق انه لا محذور من ذلك.

ص: 174

فقوله هنا: (أو انه معه في الازل شيئاً قديماً غيره) نفي لقدم العالم بالنوع وتكفير لقائل ذلك ومعتقده وناشره (1) ، وكذا لقدم الإفراد عند كل مبصر لبيب لم يغشى على عقله، وقد صرح جماعات من العلماء بلفظ (نوع) كما سيمر ان شاء الله تعالى، وكذا بلفظة (حوادث لا أول لها) وأن ذلك كله كفر بواح (2) صراح، وقال القاضي عياض أيضاً في نفس المرجع السابق:

(وكذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم أو بقائه أو شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة والدهرية)(3) الشفا 2/606.

فاتضح ان قدم العالم نوعا أو فرداً شيء واحد من حيث أن مؤدى كل منهما إلى الكفر، وان الكل يطلق عليه قدم العالم (4) ، وأينما أطلق لفظ قدم العالم في كلام العلماء فالمراد به ما يشمل النوع والفرد، إلا عند كل عنيد معثار، ومعنى قدم العالم بالنوع هو (5) : أن هذا العالم كان قبله عالم آخر وقبل ذلك آخر وهكذا إلى غير بداية أي إلى عدد غير متناه وغير محدود، وإني أعجب ممن

(1) واضح أن السقاف لم يفهم المراد من القدم النوعي وأن المراد به دوام فاعلية الرب، والتبس عليه معنى الأزل والفرق بين النوع والآحاد.

(2)

هل الاعتقاد بأن الرب لم يأت يوم وهو معطل عن الخلق كفر به أم ان الضلال في اعتقاد تعطيله؟ !

(3)

وهذا ما يقول به شيخ الإسلام.

(4)

هناك فرق بين القدم النوعي بمعنى أن الله لم يزل يخلق شيئاً بعد شيء وبين ان يكون شيء من العالم قديماً مع الله فهو كفر بلا شك.

(5)

هذا تفسير غير دقيق وبقراءة ما سبق يتضح خطؤه لأن ابن تيمية يصرح بكونها مسبوقة من عدم.

ص: 175

يصف الله تعالى بالحد وينزه المخلوق عن عدد يبلغه الحد، أو يدركه العد، والقول بعدم تناهي المخلوقات إلى اللابداية يبطله قول الله تعالى:{وأحصى كل شيء عدداً} وقوله {إنا كل شيء خلقناه بقدر} ، وبعض من يعتقد قدم العالم بالنوع أي تسلسل الحوادث إلى لا بداية يقول متبجحاً: انه إذا قال ان الله تعالى كان وحده في الأزل ولم يكن معه أحد من المخلوقات اقتضى ذلك أنه لم يكن خالقاً ثم صار خالقاً، وان هذا تعطيل لصفة الخلق، وهذا الاشكال مع كونه منهاراً باطلاً فجوابه: ان الله تعالى كان في الأزل خالقاً ولم يخلق، أي أنه اقتضت ارادته ومشيئته أن لا يخلق فهو خالق ولم يخلق (1) ،

ولو شاء لخلق متى شاء (والله على كل شيء قدير) كما أخبر، وقد أخبرنا أنه كان وحده ولم يكن معه شيء في القرآن وعلى لسان رسوله الصادق المصدوق، والذي وصفه بأنه لا ينطق عن الهوى. وقال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأكبر: وكان الله خالقاً قبل أن يخلق ورازقاً قبل أن يرزق أ 0 هـ.

وقد قال الإمام حجة الإسلام الغزالي واصفاً الفلاسفة الذين عارضوا القرآن والسنة بعقولهم الفاسدة:

بثلاثة كفر الفلاسفة العدا

في نفيها وهي حقا مثبته

علم يجزئي حدوث عوالم

حشر لأجساد وكانت ميتة.

(1) هل لم يخلق وجوباً أو جوزاً؟ فإذ كان جوازاً فهو تجويز لحوادث لا أول لها مع أن حكم الجواز قول على الله بغير علم، وإن كان وجوباً فهل دليله العقل أم النقل؟ !!

وعلى كل حال فإن كلام السقاف أنه لو شاء الله لخلق متى شاء قول بحوادث لا أول لها فيكون قائلاً بقول ابن تيمية الذي مال إلى كفره.!! ولكن لازم المذهب ليس بمذهب.

ص: 176

فعقيدة قدم العالم هي قضية الفلاسفة التي يبرأ منها المسلمون.

- القول بتسلسل الحوادث إلى غير بداية، من غير أن يكون هناك مخلوق قديم بعينه وهذا هو المعبر عنه بقدم العالم النوعي، أي معية المخلوقات لله في الأزل بجنسها، د ون أن يكون لابتدائها أول وهذا الذي يعتقده ابن تيمية ويقول به، وهو الموجود في كتبه ومؤلفاته كما سننقله حرفياً منها، وهذا القول أبطله الله تعالى كما في نصوص قرآنية، منها قوله تعالى:

(هو الأول) ومنها قوله تعالى: {وأحصى كل شيء عدداً} فلو كانت الحوادث متسلسلة إلى غير أول ما يتصور حشر ما لا نهاية له على محدود، كما أبطل هذا القول أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى في قوله:

(كان الله ولم يكن شيء غيره) رواه البخاري وإجماع الأمة على ذلك أيضاً، وأما قول بعض الفلاسفة ومن تبعهم: أننا إذ قلنا بأن الله تعالى كان في الأزل ولم يكن معه شيء غيره اقتضى ذلك تعطيله من الخالقية، فظاهر البطلان.

وقول ابن تيمية عند إثباته قدم العالم بالنوع: (إن كل ما سوى الله مخلوق وجد بعد ان لم يكن) لا ينفي قوله: بقدم العالم بالنوع، وإنما ينفي به قدم شيء بعينه، ارضاء وإيهاما في هذا المقام، ولا سيما أنه قد صرح بهذا الكلام الذي قررته في منهاج السنة 1/109 حيث قال:

(وحينئذ فيمتنع كون شيء من العالم أزلياً وإن جاز أن يكون نوع الحوادث (1)

(1) نعم فنوع الحوادث قديم سواء قلنا إن الحوادث هي الأفعال أو المفعولات وقد عرفنا سابقاً معنى القدم النوعي لهما.

ص: 177

دائماً لم يزل) فتأمل هذا، فإن قال بعضهم:

انما أراد ابن تيمية بهذا الكلام: أن الأشياء متعلقة بالمشيئة الأزلية ولم يرد قدم العالم بالنوع. فنقول له: قولك هذا فاسد، ينقضه قول ابن تيمية

نفسه: (وإن جاز أن يكون نوع الحوادث دائماً لم يزل) فنوع الحوادث الذي يصفه بالديمومة الأزلية ليس هو المشيئة، يثبت ذلك أيضاً نصوص كثيرة قالها ابن تيمية ستأتي، علماً بأن مشيئة الله تعالى متعلقة بالنوع والفرد، فلا معنى لقول المدافع بباطل ان المراد تعلقها بالمشيئة، وهل المشيئة متعلقة بالنوع دون الفرد؟ !!!! فابن تيمية قائل بهذه المسألة الثانية بلا شك ولا ريب، وقوله مع ذلك ان كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد ان لم يكن لا ينجيه من ذلك بداهة، وقد اعترف بذلك حتى الألباني (1) في سلسلته الصحيحة عند حديث رقم 133 (أول ما خلق الله القلم) فليراجع.

- القول بقدم بعض أفراد العالم كالعرش أو الكرسي أو غير ذلك في العالم العلوي، وهذا قول باطل أيضاً، وأدلة نقضه نفس الأدلة الناقضة للمسألة الثانية، وقد صرح ابن تيمية بقدم بعض الأشياء وإن حاول أحياناً أن يقول بأن العرش مخلوق، فهو يقول مخلوق لكن يقول بنفس الوقت أنه لا أول له (2)، ومراده أحياناً بقوله ان العالم مخلوق وله أول هو: العالم السفلي الذي هو: السموات والأرض، الذي خلقه الله تعالى على حسب ما يراه في ستة أيام، وأما العالم

(1) الألباني قرر ان القلم أول مخلوق ولم يقرر ان الرب كان معطلاً عن الخلق كما هو قول أرباب أهل الكلام المذموم.

(2)

لا أدري ما الذي فهمه السقاف من ذلك لكن نقطع أنه لم يفرق بين النوع والأفراد!!

ص: 178

العلوي الذي فيه العرش والكرسي والقلم واللوح ففيه حوادث لا أول لها.

(إيضاح قضية أن قدم نوع العالم أمر ذهني فقط)(1) :

اعلم ان معنى قولهم أن قدم العالم أمر ذهني، أي: أن هذا التسلسل الذي لا أول له بزعمهم غير موجود في وقت معين بأجمعه، وإنما يتصوره الذهن فقط أي العقل، لكن هذا التسلسل الذي لا أول له بزعمهم غير موجود في وقت معين بأجمعه، يعني أن هذه الأعداد الهائلة لا يتصور وجودها في لحظة واحدة أو

في وقت معين بأجمعها، وإنما يتصورها الذهن فقط أي العقل، لكن هذا التسلسل الباطل واقع حتماً بالنسبة لله تعالى على زعمهم.

وتقريب المسألة أكثر للفهم بمثال نقول: ان تسلسل الإنسان من الآن إلى ألف سنة سبقت يدرك بالنسبة إلينا من جهة أفراده فوجوده الآن أمر ذهني مع كونه حقيقة ملموسة من أوله إلى الآن، وخصوصاً عند من عاش مثلاً أكثر من ألف سنة فإنه يشاهده من أوله إلى هذه اللحظة.

فتبين أن قول بعضهم: أن قدم العالم أمر ذهني أي غير موجود حقيقة باطل فاسد صادر عن عقل عليل.

واتضح أيضاً أن معنى قدم العالم بالنوع هو: أن هذا العالم كان قبله عالم آخر، وقبل ذلك كان آخر وهكذا إلى غير بداية وقد هدمت عقيدة الإسلام هذه العقيدة الباطلة العارية عن الدليل المستمد من آراء أرسطو، بقول النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

لا زال الكلام للسقاف.

ص: 179

"كان الله ولا شيء معه (1) " فالحمد لله على توفيقه.

والفلاسفة الزائغون (2) قبحهم الله تعالى قال قسم منهم أن العالم العلوى وهو السماء وما فيها أزلي بمادته وأفراده، ومن هؤلاء أرسطو وتبعه الفارابي وابن سينا، ومنهم من يقول أن العالم بأسره قديم الجنس والنوع حادث الأفراد وهؤلاء متأخروا الفلاسفة وتبعهم في ذلك أبو العباس ابن تيمية من غير ان ينسب نفسه إلى اتباعهم بل نسب ذلك لأهل الحديث ظلماً منه لهم وهم بريئون من ذلك قطعاً.

وقوله: (أكثر أهل الحديث) افتراء منه عليهم وعلى الأبرياء، لأن أهل الحديث وغيرهم من علماء المسلمين يكفرون من قال بقدم العالم إجماعاً، سواء بنوعه أو بأفراده، إذ لا فرق بين قدم العالم نوعاً أو فرداً، إذ ان الكل يطلق عليه قدم العالم، (3) وإن كان هناك فرق بين الفرد والجنس، فلا يفرق بينهما إذ أن مؤدي كل منهما إلى قعر سقر، فمن قال بواحد منهما أو بكليهما فإنه باعتقاده الفاسد هذا أثبت أولاً قديماً غير الله تعالى وهذا مما نقضته عقيدة الإسلام في القرآن والسنة مع إجماع من يعتد به في الإجماع.

(1) سبق الجواب عن هذه الرواية.

(2)

بتصرف لما يقتضيه المقام.

(3)

كل ذلك دليل على ان السقاف قد فهم من كلام ابن تيمية ان العالم قديم بمعنى انه لم يزل مع الله وليس الأمر كذلك كما سبق تفصيله.

ص: 180

والذين اضطرب كلامهم في المسألة هم:

1-

محمد خليل هراس:

يقول في كتابه ابن تيمية السلفي ص122:

ولكننا نتعجل فنقول إن ابن تيمية قد بني على هذه القاعدة (قدم الجنس وحدوث الأفراد) كثيراً من العقائد وجعلها مفتاحاً لحل مشاكل كثيرة في علم الكلام وهي قاعدة لا يطمئن إليها العقل كثيراً فإن الجملة ليست شيئاً أكثر من الأفراد مجتمعة فإذا فرض أن كل فرد منها حادث لزم من ذلك حدوث الجملة قطعاً.

وقد رأيت سعد الدين التفتازاني في رده على الفلاسفة القائلين بقدم الحركة بالنوع مع حدوث أشخاصها يقول بأن ماهية الحركة لو كانت قديمة أي موجودة في الأزل لزم أن يكون شيء من جزئياتها أزلياً، إذ لا تحقق للكلي إلا في ضمن جزئياته. ويذكر أيضاً عند بيان امتناع تعاقب الحوادث لا إلى بداية أنه لما كان كل حادث مسبوقاً بالعدم كان الكل كذلك فإذا كان كل زنجي أسود كان الكل أسود ضرورة.

وقد تعقبه الجلال الدواني في شرحه للعقائد العضدية وعد ذلك سخافة منه وبين أن مراد الفلاسفة بقدم الحركة هو قدم نوعها بمعنى أن لا يزال فرد من أفراد ذلك النوع موجوداً بحيث لا ينقطع بالكلية ثم قال ومن البين أن حدوث كل فرد لا ينافي ذلك أصلاً وضرب لذلك مثلاً بالورد الذي لا يبقى منه فرد أكثر من يوم أو يومين مع أن الورد باق أكثر من شهر أو شهرين.

ونحن نقول له هذا قياس باطل فإن الكلام ليس فيما لا نهاية له من الحوادث في جانب المستقبل كما يقول به كثير من المتكلمين في نعيم أهل الجنة ونحو ذلك

ص: 181

حتى يعترض ببقاء الورد مع فناء كل فرد من أفراده وإنما كلامنا فيما لا بداية له من الحوادث في جانب الماضي بمعنى انه ما من حادث إلا وهو مسبوق بحادث لا إلى أول بحيث يكون جنس هذه الحوادث قديماً، وكل فرد منها حادثاً هل هو معقول أم لا، الحق أنه يحتاج في تصوره إلى جهد كبير ا 0 هـ

وقد سبق الرد على ذلك من كلام شيخ الإسلام في منهاج السنة.

2-

سليم الهلالي:

قال في كتابه عن ابن تيمية ص 83: ان ابن تيمية لم يثبت حوادث لا أول لها وإنما أجاز هذا الاحتمال العقلي لابقاء حجج الخصمين. اهـ.

وصواب العبارة أن يقول: وابن تيمية لم يقطع أو لم يجزم بحوادث لا أول لها، هذا إن كان يقصد بالحوادث هنا المفعولات أما ان قصد أفعال الرب فلا شك انه يجزم بأنه لا أول لها.

وقال ص 86: يجب التفريق بين الاحتمال والإثبات وابن تيمية أجاز ذلك عقلاً ولم يثبته شرعاً ا 0 هـ، وقال مثله: ص88

ويقال فيه ما قيل في سابقه.

وقال في ص93:

إن مما يشرح الصدر إلى ما قدمناه من تبرئه ساحة ابن تيمية من القول بالقدم النوعي للعالم وإثبات حوادث لا أول لها أن هذه الأمور لم ترد في شيء مما صنفه مبيناً عقيدته كالعقيدة الواسطية والحموية والرسالة التدمرية وعقيدة الفرقة الناجية وغيرها بل لاحظنا ذلك كله في أثناء مناقشة الخصمين وإيراد حجج

الفريقين.

ص: 182

وقد علمت أن لا زم المذهب ليس بمذهب، إذن فالقدم النوعي والقول به ليس مذهباً لابن تيمية رحمه الله، وإنما مذهبه التصريح بأن هذا العالم حادث مخلوق وأول ما خلق الله خلق القلم، قال رحمه الله: " فأول ما خلق خلق الله القلم

. " ا 0 هـ.

ولا أدري كيف وقع الباحث في هذا الخطأ، ويظهر أنه لم يفهم المراد من القدم النوعي لأنه يرى أن بينهما تعارضاً والأمر ليس كذلك، وعلى كل حال لعل ما سبق من شرح هذه المسألة قد وضح للقارىء بجلاء خطأ كلام الهلالي.

3-

محمد أمان الجامي رحمه الله:

قال في شرحه على شرح الطحاوية (1) :

ان أهل السنة قالوا ان تسلسل الحوادث من حيث الوقوع والوجود ممتنع عقلاً وشرعاً، وأما من حيث الإمكان فغير ممتنع ا 0 هـ.

ولا شك ان كلامه غير صحيح لأنه إن قصد بالحوادث أفعال الرب فكلامه خطأ، وان قصد المخلوقات فكلامه خطأ أيضاً لأن امتناعه مع القول بدوام الفاعلية تناقض، والظاهر ان الشيخ قد فهم ان القول بدوام الفاعلية وتسلسل المخلوقات يلزم منه قدم العالم ولهذا قال بعد ذلك: ودوام الحوادث في الماضي بحيث يكون المفعول مقارناً لفاعله محال وممتنع عقلاً وشرعاً اهـ

والصحيح ان يقول بوجوب تسلسل الأفعال وجواز تسلسل المخلوقات أما ما قاله رحمه الله فغير صحيح.

(1)

في الشريط العاشر من شرحه.

ص: 183