المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامسالقدم النوعي من نونية ابن القيم - قدم العالم وتسلسل الحوادث

[كاملة الكواري]

الفصل: ‌المبحث الخامسالقدم النوعي من نونية ابن القيم

‌المبحث الخامس

القدم النوعي من نونية ابن القيم

ص: 228

تمهيد:

خصصت هذا المبحث لأبيات نونية ابن القيم مع شرح خليل هراس ليكون مراجعة لما سبق، ولتوضيح مقالة ابن القيم في المسألة رداً على السبكي والكوثري في السيف الصقيل مع حاشيته.

وهذه الأبيات تشمل كلام الله تعالى أيضاً لصلة ذلك بالموضوع، وسوف أذكر الأبيات ثم شرح هراس عليه، وما يوجد من تعليق مني على ذلك فسيكون في الحاشية.

وقضى بأن الله كان معطلا

والفعل ممتنع بلا امكان

ثم استحال وصار مقدوراً له

من غير أمر قام بالديان

بل حاله سبحانه في ذاته

قبل الحدوث وبعده سيان

الشرح

كان الجهم يقول بحدوث العالم بمعنى أنه صار موجوداً بعد أن كان معدوماً لا فرق في ذلك عنده بين أنواع الحوادث وأشخاصها. وتبعه على ذلك معظم فرق المتكلمين كالمعتزلة والأشعرية والكرامية.

ويلزم على هذا القول من الفساد أن الله عز وجل لم يزل معطلاً عن الفعل أو غير قادر عليه، ثم صار فاعلاً وقادراً من غير تجدد سبب أصلاً أوجب له القدرة والفعل. أو أن الفعل منه كان ممتنعاً في الأزل ثم صار ممكناً مقدوراً من غير سبب اقتضى إمكانه - وهذا يستلزم الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي ويلزم هؤلاء أيضاً أن الحادث إذا حدث بعد أن لم يكن فلابد أن يكون ممكناً. والإمكان ليس له وقت محدد فما من وقت يقدر حدوثه فيه إلا

ص: 229

والإمكان ثابت قبله. ليس لإمكان الفعل وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً فيلزم جواز حوادث لا نهاية لها.

فقول المؤلف رحمه الله: وقضى بأن الفعل كان معطلاً إلخ، إنما هو بيان لما يلزم مذهب جهم وشيعته في قولهم بحدوث العالم وأن له بداية في الزمان.

ويقابل قول هؤلاء قول الفلاسفة بقدوم العالم، وأنه صدر عن الله عز وجل صدور المعلول عن علته بلا قصد ولا اختيار، ولا شك أن هذا القول أفسد من سابقه وساده من الظهور بحيث لا يحتاج إلى إطالة الكلام له.

بقى القول الثالث وهو ما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها من أن الله عز وجل لم يزل حياً قادراً فعالاً لما يريد متكلماً إذا شاء بما شاء، وأن الفعل والكلام من صفات كماله التي لا يجوز تعطيله عنها في وقت من الأوقات، وأن الفعل والكلام لم يزل ممكناً مقدوراً لا يجوز القول بامتناع ذلك منه في وقت من الأوقات كذلك.

فصل في مذهب الكرامية

والقائلون بأنه بمشيئة

في ذاته أيضاً فهم نوعان

إحداهما جعلته مبدوءًا به

نوعاً حذار تسلسل الأعيان

فيسد ذاك عليهم في زعمهم

إثبات خالق هذه الأكوان

فلذاك قالوا أنه ذو أول

ما للفناء عليه من سلطان

وكلامه كفعاله وكلاهما

ذو مبدأ بل ليس ينتهيان

ص: 230

الشرح

وأما الفرقة الثانية من القائلين بأن الكلام متعلق بمشيئته تعالى وقدرته فانقسموا إلى طائفتين. الطائفة الأولى الكرامية أتباع محمد بن كرام، وهؤلاء ذهبوا إلى أن الله تعالى يتكلم بمشيئته بالقرآن العربي وغيره، إلا أنهم لا يقولون لم يزل متكلماً إذا شاء لأنه يمتنع عندهم أن يكون الله متكلماً في الأزل فيجعلون كلامه حادثاً في ذاته، مسبوقاً باليوم. بمعنى أن الله لم يكن عندهم متكلماً، ثم صار متكلماً، فنوع الكلام عندهم له ابتداء في ذاته (1) ، وإنما ألجأهم إلى ذلك الخوف من القول بحوادث لا أول لها، فإن هذا يلزمه التسلسل في الموجودات والقول بقدم الأنواع فينسد عليهم طريق إثبات الصانع في زعمهم إذ كان الطريق إلى ذلك هو حدوث الأشياء المستلزم لوجود محدث لها فلهذا اضطر الكرامية إلى أن يجعلوا لما يحدث في ذاته تعالى من الكلام او الفعل ابتداء، لكنه مع ذلك إذ حدث فليس قابلاً عندهم للزوال والفناء، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة الفرقان (ومحمد بن كرام فكان بعد ابن كلاب في عصر مسلم بن الحجاج أثبت أنه يوصف بالصفات الاختيارية، ويتكلم بمشيئته وقدرته. ولكن عنده يمتنع أنه كان في الأزل متكلماً بمشيئته وقدرته لامتناع حوادث لا أول لها، فلم يقل بقول السلف لم يزل متكلماً إذا شاء، وقال هو وأصحابه في المشهور أن الحوادث التي تقوم به لا يخلو عنها، ولا تزول عنه)

(1) أي النوع عندهم حادث وليس قيماً كما يقول السلف فالله لم يكن يتكلم ثم صار يتكلم فعطلوا الله عن كلامه في أول الأمر وأثبتوه له في ثاني الحال.

ص: 231

قالوا ولم ينصف خصوم جعجعوا

وأتوا بتشنيع بلا برهان

قلنا كما قالوه في أفعاله

بل بيننا بون من الفرقان

بل نحن اسعد منهم بالحق إذ

قلنا هما بالله قائمتان

وهم فقالوا لم يقم بالله لا

فعل ولا قول فتعطيلان

لفعاله ومقاله شر وأبطل

من حلول حوادث ببيان

تعطيله عن فعله وكلامه

شر من التشنيع بالهذيان

هذى مقالات ابن كرام وما

ردوا عليه قط بالبرهان

أنى وما قد قال أقرب منهم

للعقل والآثار والقرآن

لكنهم جاءوا له بجعاجع

وفراقع وقعاقع بشمان

الشرح

قالت الكرامية أن خصومنا من الكلابية والأشعرية قد شنعوا علينا في قولنا بحدوث الكلام في ذاته تعالى بمشيئته واختياره مع أنه لا حجة لهم في هذا التشنيع على أنهم قد قالوا بمثل قولنا في أفعاله تعالى فجعلوها حادثة، ولزمهم في ذلك مثل ما لزمنا من أن الله كان معطلاً عن الفعل في الأزل، ثم صار فاعلاً بلا تجدد سبب أوجد القدرة والإمكان، بل نحن أقرب منهم إلى الحق لأننا جعلنا الكلام والفعل صفتين قائمتين بذاته، وأما هم فعطلوه عن قوله وفعله، فإن القول المسموع عندهم مخلوق كما أن الفعل عين المفعول المخلوق، ولا شك أن تعطيل الباري عن قوله وفعله شر، وأدخل في الباطل من القول بحلول الحوادث في ذاته، والحق أن مقالة ابن كرام وإن كانت منحرفة عن جادة الصواب حيث حكم بخلوه تعالى في الأزل من الكلام والفعل وهما من صفات

ص: 232

كماله إلا أن خطأه أهون من خطأ الأشعرية، ولهذا لم يستطيعوا أن يردوا عليه ببرهان جلي، فإن ما قاله أقرب إلى العقل والنقل مما قالوه.

أما من جهة العقل فلأنه لا يعقل متكلماً ولا فاعلاً إلا من قام به الفعل والكلام وأما من جهة النقل فالنصوص كلها دلت على أن الله متكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلامه ليس إلا حروفاً وأصواتاً مسموعة.

قوله جعجعوا: أحدثوا ضجة شديدة، وقوله: بتشنيع من شنع عليه إذا نسبه إلى الشناعة وهي القبح. وقوله لفعاله ومقاله متعلق بتعطيلان في البيت قبله وتعطيلان مبتدأ خبره شر وأني بمعنى كيف والاستفهام استبعاد والجعاجع والفراقع والقعاقع أسماء أصوات.

*****

فصل في ذكر مذهب أهل الحديث

والآخرون أولوا الحديث كأحمد

ومحمد وأئمة الإيمان

قالوا بأن الله حقاً لم يزل

متكلماً بمشيئة وبيان

إن الكلام هو الكمال فكيف

يخلو عنه في أزل بلا إمكان

ويصير فيما لم يزل متكلماً

ماذا اقتضاه له من الإمكان

وتعاقب الكلمات أمر ثابت

للذات مثل تعاقب الأزمان

والله رب العرش قال حقيقة

حم مع طه بغير قران

بل أحرف مترتبات مثل ما

قد رتبت في مسمع الإنسان

وقتان في وقت محال هكذا

حرفان أيضاً يوجدا في آن

من واحد متكلم بل يوجدا

بالرسم أو يتكلم الرجلان

هذا هو المعقول أما الاقتران

فليس معقولاً لذي الأذهان

ص: 233

الشرح

وأما الآخرون من القائلين بأن الله متكلم بكلام قائم بذاته متعلق بمشيئته وإرادته فهم أصحاب الحديث أهل السنة والجماعة كأحمد بن حنبل الشيباني ومحمد بن إسماعيل البخاري وغيرهما من أئمة الإيمان رضي الله عنهم ذهبوا إلى أن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، لأن الكلام صفة كمال إذ أن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازماً لذاته وإذاً فلا يعقل خلوه تعالى عنه في الأزل، لأن الخلو عن الكمال نقص يستحيل على الله. ولأن الكلام إذا كان ممتنعاً عليه في الأزل، ثم صار متكلماً فيما لا يزال، فما الذي اقتضى انقلابه من الامتناع إلى الإمكان، مع أنه لم يتجدد في ذاته شيء يوجب ذلك الانقلاب فتبين أن الرب سبحانه لم يزل متكلماً إذا شاء بمعنى أن جنس كلامه قديم وتعاقب الكلمات وخروجها إلى الوجود شيئاً بعد شيء هو أمر ثابت لها لذواتها مثل تعاقب الأزمنة فكما أن أجزاء الزمان لا توجد مجتمعة، بل توجد على سبيل التعاقب آنا بعد آن، فكذلك الحروف التي هي أجزاء الكلمات لا يمكن النطق بها مجتمعة بحيث يكون النطق بالحرف الثاني مع الأول في آن واحد، بل لابد من وجودها على سبيل التعاقب والتسلسل حرفاً بعد حرف، فإذا قال الله عز وجل: حم أو طه فلا يعقل اجتماع الحرفين من كل من هاتين الآيتين بحيث ينطق بالميم مع الحاء، أو بالهاء مع الطاء بل تأتي الحروف مترتبات في النطق كما هي مترتبة في السماع. وإذا كان وجود وقتين من الزمان في وقت واحد غير معقول لأن الزمان كم متصل غير قار الذات لا يجتمع أجزاؤه في الوجود، فكذلك وجود حرفين من متكلم واحد في آن واحد مستحيل، وإنما يعقل ذلك في الرسم أي الكتابة أو إذا كان

ص: 234

المتكلم أكثر من واحد، وأما الاقتران الذي تزعم الاقترانية فشيء غير معقول لذوي الأذهان بل إن استحالته ضرورية لا تحتاج إلى بيان.

******

فتقول هذا القدر قد أعيا على

أهل الكلام وقاده أصلان

إحداهما هل فعله مفعوله

أو غيره فهما لهم قولان

والقائلون بأنه هو عينه

فروا من الأوصاف بالحدثان

لكن حقيقة قولهم وصريحه

تعطيل خالق هذه الأكوان

عن فعله إذ فعله مفعوله

لكنه ما قام بالرحمن

فعل الحقيقة ما له فعل إذ

المفعول منفصل عن الديان

الشرح

هذا جواب المؤلف على إيراد المعتزلة الذي أرادوا به تصحيح مذهبهم في الكلام بقياسه على الفعل، وقولهم أن وصفه بالمتكلم لا يقتضي قيام الكلام به، كما لا يقتضي وصفه بفاعل قيام الفعل به، وقد استطرد المؤلف في الجواب بذكر مذاهب المتكلمين في فعله تعالى، وهل هو عين مفعوله أو غيره، فالقائلون بأنه هو عينه كالجهمية والمعتزلة إنما دعاهم إلى ذلك فرارهم من القول بقيام الحوادث بذاته، فان الفعل إذا جعل وصفاً له لم يكن إلا حادثاً، والله ليس محلا للحوادث عندهم، لأن ذلك يستلزم حدوثه، وهذا الأمر مما وافقت فيه الأشعرية المعتزلة حيث منعوا هم أيضاً قيام الحوادث بذاته، وقالوا ان مالا يخلو من الحوادث فهو حادث

وقد قادت هذه القضية الكاذبة كلا من الطائفتين إلى أحكام فاسدة، فقد التزم المعتزلة لأجلها أن يكون الفعل عين المفعول، وأن يكون كلامه تعالى مخلوقاً له

ص: 235

منفصلاً عنه، والتزم الأشاعرة لأجلها بنفي الحرف والصوت، ونفي صفات الأفعال من الاستواء والمجىء، والغضب والرضى، والمحبة والسخط، والكراهية والنزول والإتيان الخ.

والتزموا أن يكون الله قد تكلم في الأزل بكلام سمعه موسى، وأنه ناداه وناجاه في الأزل إلى غير ذلك مما هذى به الفريقان مما يصادم المعقول والمنقول مصادمة صريحة.

وحقيقة قول هؤلاء المعتزلة والجهمية أن الفعل عين المفعول هو نفي الفعل وتعطيل الخالق عنه، فإنه إذا كان الفعل هو المفعول، ومعلوم أن المفعول مخلوق له منفصل عنه لم يكن له في الحقيقة فعل هو وصف له قائم به، فتفسير الفعل بالمفعول مستلزم لنفيه، وأنه ليس هناك إلا المفعول.

*****

والقائلون بأنه غير له

متنازعون وهم فطائفتان

إحداهما قالت قديم قائم

بالذات وهو كقدرة المنان

سموه تكويناً قديماً قاله

اتباع شيخ العالم النعماني

وخصومهم لم ينصفوا في رده

بل كابروهم ما أتوا ببيان

والآخرون رأوه أمراً حادثاً

بالذات قام وإنهم نوعان

إحداهما جعلته مفتتحاً به

حذر التسلسل ليس ذا إمكان

هذا الذي قالته كرامية

ففعاله وكلامه سيان

الشرح

وأما القائلون بأن الفعل غير المفعول فقد انقسموا أولاً إلى طائفتين:

ص: 236

إحداهما: قالت أنه قديم بالذات لازم لها كالقدرة (1) ، ولم يجعلوه متعلقاً بمشيئته تعالى وقدرته، وهم الماتريدية أتباع الشيخ أبي منصور الماتريدي من علماء الحنفية وهذه المسألة مما خالف فيه الماتريدية الأشاعرة رغم ما بين الطائفتين من اتفاق في كثير من مسائل الكلام، فإن المشهور عن الأشاعرة أنهم لا يثبتون إلا سبع صفات، يسمونها صفات المعاني وهي: الحياة والقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام، ويجعلونها كلها قديمة قائمة بالذات وأما صفات الأفعال عندهم من الخلق والرزق والإحياء والإماتة إلخ، فيجعلونها تعلقات تنجيزية حادثة للقدرة القديمة، ومن العجب أنهم يقولون أن تعلقات الإرادة كلها تنجيزية قديمة، فكيف إذا تخلف عنها المراد في الأزل وكذلك قالوا في تعلقات العلم والكلام. وأما الماتريدية فقد أثبتوا التكوين صفة أخرى وراء الصفات السبع المتقدمة وجعلوها قديمة كما سبق، وقد عارضهم خصومهم، من الأشاعرة وردوا قولهم في إثبات هذه الصفة مكابرة بلا دليل.

وأما الطائفة الأخرى فقد ذهبت إلى أن الفعل حادث قائم بالذات، ثم انقسمت إلى فرقتين: الكرامية أتباع محمد بن كرام، وهؤلاء ذهبوا إلى أن فعله حادث قائم بذاته ومتعلق بمشيئته وقدرته، ولكنهم جعلوا له ابتداء في ذاته،

(1) وانما قالوا ذلك مداهنة للمعتزلة والجهمية والذين يقولون ان الفعل إذا كان حادثاً وقام بالله لزم ان يكون الله محلاً للحوادث فيكون حادثاً ن ولهذا قالوا ان الفعل قديم ويلزم على هذا ان يكون المفعول قديماً لأن الفعل لابد ان ينتج مفعولاً ولهذا قالوا لا نسميه فعلاً بل تكويناً، والتكوين ان أرادوا به التقدير أي قدر كذا فعلى هذا لم يقروا بالفعل بل جعلوا الفعل هو التقدير والقضاء، وإن جعلوا التكوين هو فعل الشيء وعمله فعلى هذا يكون المفعول قديماً، وعلى هذا جرى أبو جعفر الطحاوي.

ص: 237

بمعنى أنه لم يكن فاعلاً ثم فعل (1) . وهكذا قالوا في جميع الصفات المتعلقة بالمشيئة من الكلام والرضى والمحبة والنزول والاستواء، والذي دعاهم إلى ذلك الخوف من القول بالتسلسل في أفعاله، فيلزم قدم أنواع المفعولات، فيسد ذلك عليهم في زعمهم طريق إثبات الصانع، إذ كان إثباته من طريق حدوث المخلوقات، وذهبوا إلى أن الفعل والكلام سيان، كلاهما حادث له ابتداء في الذات، فالله عندهم لم يكن متكلماً ولا فاعلاً، ثم حدث له الفعل والكلام، فعطلوه سبحانه عن فعله وكلامه وجعلوا كلاً منهما ممتنعاً في الأزل.

*****

والآخرون أولوا الحديث كأحمد

ذاك ابن حنبل الرضي الشيباني

قد قال إن الله حقاً لم يزل

متكلماً إن شاء ذو إحسان

جعل الكلام صفات فعل قائم

بالذات لم يفقد من الرحمن

وكذاك نص على دوام الفعل

بالإحسان أيضاً في مكان ثان

وكذا ابن عباس فراجع قوله

لما أجاب مسائل القرآن

وكذاك جعفر الإمام الصادق

المقبول عند الخلق ذو العرفان

قد ق ال لم يزل المهيمن محسناً

براً جواداً عند كل أوان

الشرح

وأما الفرقة الثانية من القائلين بأن فعله تعالى حادث وقائم بذاته، فهم أصحاب الحديث كالإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، هؤلاء ذهبوا إلى ما دلت عليه النصوص الصريحة وحكم به العقل السليم من أن الله لم يزل متصفاً بصفات

(1)

أي كان ممكناً بعد أن كان مستحيلاً.

ص: 238

كماله سواء ما كان فيها لازماً لذاته أو ما كان متعلقاً بمشيئته وقدرته، ليس لما يحدث في ذاته عندهم ابتداء، بل يقولون لم يزل الله متكلماً إذا شاء بما شاء وكيف شاء خلوه عنها في وقت من الأوقات لأن الخلو عن الكمال الممكن نقص مستحيل على الله، ولا يلزم من دوام فعله وكلامه قدم شيء من المفعولات، فإن الله لم يزل يفعل الأشياء ويحدثها شيئاً بعد شيء، وكذلك لم يزل متكلماً بما شاء، فكل من الكلام والفعل قديم النوع ولكن آحاده لم تزل تحدث في ذاته سبحانه بلا بداية ولا انقطاع، وهذا مستلزم للتسلسل في الآثار، وهو ليس بممتنع، بل دل الشرع والعقل على ثبوته، وإنما الممتنع هو التسلسل في العلل والمؤثرين.

وقوله في البيت الثاني: ذو إحسان خبر ثان لأن، أي لم يزل محسناً كما لم يزل متكلماً، وقوله في البيت الرابع وكذلك نص الخ، يعني به أحمد رحمه الله أنه نص في مكان آخر من كتابه الذي رد به على الجهمية على دوام فعله سبحانه بدوام إحسانه كما نص على ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فيما أجاب به على مسائل القران، وكذاك جعفر الصادق من أئمة أهل البيت المشهود لهم بالورع والتقوى والمعرفة الحقة. وقال لم يزل المهيمن محسناً برا جواداً في كل وقت وحال، وهذا إثبات لدوام فعله سبحانه واستمراره في أوقات الزمان كلها بلا بداية ولا انقطاع.

*****

وكذا الإمام الدارمى فإنه

قد قال ما فيه هدى الحيران

قال الحياة مع الفعال كلاهما

متلازمان فليس يفترقان

صدق الإمام فكل حي فهو

فعال وذا في غاية التبيان

ص: 239

إلا إذا ما كان ثم موانع

من آفة أو قاسر الحيوان

والرب ليس لفعله من مانع

ما شاء كان بقدرة الديان

ومشيئة الرحمن لازمة له

وكذاك قدرة ربنا الرحمن

الشرح

وممن نص على دوام فاعلية الرب، وأنه لم يعطل عنها في وقت من الأوقات - الإمام الكبير عثمان بن سعيد الدارمي - المشهور في رده على الجهمية والقدرية، وقد قال في هذا كلاماً جيداً وأدلى بحجة قوية، مبناها على أن الفعل لازم للحياة، فكل حي لابد أن يكون فعالا، وما ليس بفعال فهو ليس بحي، فالحياة والفعل متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود، اللهم إلا إذا وجد مانع يمنع لحي من الفعل من آفة تصيبه أو قاسر يقسره، وذلك لا يتصور في حقه سبحانه فإن حياته أكمل حياة فيجب أن تستلزم أكمل الأفعال ويستحيل أن تطرأ عليه آفة يعجز معها عن الفعل بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالمشيئة لازمة له لا مكره له ولا غالب، والقدرة كذلك من صفاته اللازمة فلا يعتريه وهن ولا عجز ولا قصور، ومع نفوذ المشيئة وتمام القدرة وانتفاء كل الموانع التي تمنع من تعلقها بالممكن لا يتصور التعطيل عن الفعل، فثبت أنه سبحانه لم يزل فعالاً لأنه لم يزل حياً قادراً مريداً.

*****

هذا وقد فطر الإله عباده

إن المهيمن دائم (1) الإحسان

أو لست تسمع قول كل موحد

يا دائم المعروف والسلطان

(1) والدوام يقتضي التسلسل في الأزل والأبد.

ص: 240

وقديم الإحسان الكثير ودائم

الجود العظيم وصاحب الغفران

من غير إنكار عليهم فطرة

فطروا عليها ولا تواصٍ ثان

أو ليس فعل الرب تابع وصفه

وكماله (1) أفذاك ذو حدثان

وكماله سبب الفعال وخلقه

أفعالهم سبب الكمال الثاني

أو ما فعال الرب عين كماله

أفذاك ممتنع على المنان

أزلاً إلى أن صار فيما لم يزل

متمكناً والفعل ذو إمكان

الشرح

بعد أن قرر المؤلف مذهب السلف القويم في دوام فاعلية الرب وكلامه أورد من النقول عن بعض أئمة أهل السنة كأحمد وغيره ما يشهد لصحته أراد أن يستدل عليه كذلك عن طريق الفطرة والعقل وأما الفطرة فأننا نسمع الناس في دعائهم واستغاثتهم، وطلبهم الحاجات من الله عز وجل يلهجون بهذه العبارات من قولهم: يا قديم الإحسان، يا قديم المعروف والسلطان، يا دائم الجود والامتنان إلى غير ذلك مما يفهم أنهم فطروا على اعتقد ذلك فطرة دون أن يوصى بعضهم بعضاً بذلك، أو يعلمه إياه ودون أن ينكر بعضهم على بعض.

وأما دليل العقل فهو أن فعل الرب سبحانه تابع لوصفه وكماله، فإذا كان لم يزل موصوفاً بصفات الكمال ونعوت لجلال بحيث لا يتصور خلوه عنها لحظه من اللحظات في جانب الأزل أو الأبد فهو إذاً لم يزل فعالاً لأن الفعل من جملة الصفات التي لم يزل بها موصوفاً، والفعل من لوازم كماله سبحانه فكماله

(1)

ففعل الرب تابع لكماله، وكمال الرب ليس حادثاً بل وصفه الدائم، ولما كان كاملاً كان الكمال سبب الفعل.

ص: 241

في

ذاته وصفاته هو سبب كونه فاعلاً فهو سبحانه كامل ففعل، أما الكمال في المخلوقات والمكونات في أعيانها وأوصافها فهو تابع لكمال الكون المكون فإن أثر الكمال لا يكون إلا كاملاً.

وإذا كان الفعل عين كماله سبحانه لأن الكمال مستتبع له ولا يحصل إلا به. فكيف إذاً يجوز القول بامتناع الفعل منه في الأزل، ثم يصير هذا الفعل ممكناً فيما لا يزال من غير تجدد سبب أوجب ذلك الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي لا تجدد قدرة ولا إرادة ولا غيرهما.

*****

تالله قد ضلت عقول القوم إذ

قالوا بهذا القول ذي البطلان

ماذا الذي أضحى له متجدداً

حتى تمكن فانطقوا ببيان

والرب ليس معطلاً عن فعله

بل كل يوم ربنا في شان

والأمر والتكوين وصف كماله

ما فقد ذا ووجوده سيان

وتخلف التأثير بعد تمام موجبه

محال ليس في الإمكان

والله ربي لم يزل ذا قدرة

ومشيئة ويليهما وصفان

العلم مع وصف الحياة وهذه

أوصاف ذات الخالق المنان

وبها تمام العقل ليس بدونها

فعل يتم بواضح البرهان

فلأى شيء قد تأخر فعله

مع موجب قد تم بالأركان

ما كان ممتنعاً عليه الفعل بل

ما زال فعل الله ذا إمكان

الشرح

يعني أن هؤلاء الذين قالوا بأن الله كان معطلاً عن الفعل في الأزل وإن الفعل كان ممتنعاً منه فيما لم يزل، ثم صار ممكناً فيما لا يزال قد قالوا بما يعلم كل عاقل بطلانه وبرهنوا على سخافة عقولهم إذ لو كان الفعل ممتنعاً عنه في الأزل

ص: 242

فما الذي صيره ممكناً مع أنه لم يتجدد في ذاته شيء يقتضي هذا الانقلاب من الامتناع إلى الإمكان، وهذا الإلزام لا مخلص لهم منه فإن أجابوا عنه بأن نفس الأزل هو المانع من التأثير في الممكن لأن من شرائط التأثير فيه أن يكون مسبوقاً بالعدم قلنا سبق العدم أمر عدمي يصلح أن يكون شرطاً للتأثير، ولكن الذي يصلح شرطاً هو الإمكان والإمكان ثابت في الأزل فثبت أن الرب سبحانه لم يكن معطلاً عن فعله في وقت من الأوقات بل كل يوم هو في شأن يدبر ما يشاء ويحدث من الأمور ما تقتضيه حكمته - ويقال لهؤلاء أيضاً أليس الأمر والتكوين من صفات الكمال بدليل أن المتصف بهما أكمل من الفاقد لهما، وحينئذ فالله لم يزل آمراً مكوناً والأمر والتكوين هما الموجب التام للتأثير وهو مستلزم لوجود الأثر لأن تخلف الآثر بعد تمام علته الموجبة له محال غير ممكن، ويقال لهم كذلك أن الله لم يزل قادراً مريداً عالماً حياً وهذه الأربعة صفات ذاتية له، وليس يحتاج الفاعل في كونه فاعلاً إلى غير هذه الأربع فهي التي بها تمام الفعل لأنها أركانه التي لا يتحقق بدونها، وإذا كان ذلك فلماذا تأخر فعله سبحانه عن وجود الموجب التام لجميع أركانه، فإن قلتم: تأخر الفعل لأنه كان ممتنعاً في الأزل، قلنا: كذبتم بل لم يزل لأن الممتنع لا ينقلب ممكناً

*****

والله عاب المشركين بأنهم

عبدوا الحجارة في رضا الشيطان

ونعى عليهم كونها ليست

بخالقة وليست ذات نطق بيان

فأبان أن الفعل والتكليم من

أوثانهم لا شك مفقودان

وإذا هما فقدا فما مسلوبها

بإله حق وهو ذو بطلان

والله فهو إله حق دائماً

أفعنه ذا الوصفان مسلوبان

ص: 243

أزلاً وليس لفقدها من غاية

هذا المحال وأعظم البطلان

الشرح

ويقال لهؤلاء أيضاً إذا كان الله معطلاً عن الفعل والكلام في الأزل لم يكن إلهاً حقاً ولا واجب العبادة فإن الإلهية الحقة واستحقاق العبادة لا يكون إلا مع القدرة على الخلق والتكليم، ولهذا عاب الله المشركين الذين يعبدون الأصنام إرضاء للشيطان بأنهم عبدوا ما لا يستحق العبادة لأنه لا يقدر على خلق شيء ولا يستطيع تكليم عابديه. قال تعالى {أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون} وقال في سورة النحل {أفمن يخلق كمن لا يخلق} وقال في سورة الفرقان:{واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون} وقال في سورة الأحقاف {قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات} وقال تعالى في شأن الذين عبدوا العجل من قوم موسى عليه السلام {ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا} وقال الحكاية عما قاله إبراهيم عليه السلام لقومه {بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون}

فدللت هذه الآيات الكريمة على أن الفعل والتكليم مفقودان من هذه الأوثان وفقدهما يدل على أنها ليست بآلهة. ومعلوم أن الله إله حق دائماً. ولا يكون كذلك إلا إذا كان موصوفاً بالفعل والتكليم دائماً لأن فاقدهما لا يكون إلهاً حقاً كما تقدم، فكيف يجوز أن يقال أن هذين الوصفين اللذين عليهما مدار الألهية مسلوبان عنه أزلاً، ومعلوم أن الأزل لا غاية له ولا نهاية، هذا من أمحل المحال وأعظم البطلان.

ص: 244

إن كان رب العرش حقاً لم يزل

أبداً إله الحق ذا سلطان

فكذاك أيضاً لم يزل متكلماً

بل فاعلاً ما شاء ذا إحسان

والله ما في العقل ما يقضي لذا

بالرد والإبطال والنكران

بل ليس في المعقول غير ثبوته

للخالق الأزلي ذي الإحسان

هذا وما دون المهيمن حادث

ليس القديم سواه في الأكوان

والله سابق كل شيء غيره

ما ربنا والخلق مقترنان

والله كان وليس شيء غيره

سبحانه جل العظيم الشان

الشرح

فإذا كان الله لم يزل ولا يزال له الإلهية الحقة والسلطان الأعظم، فيجب كذلك أن يكون لم يزل متكلماً بما شاء وفاعلاً لما شاء، ولم يزل محسناً براً رحيماً، وليس في العقل ما يحيل هذا أو يأباه، كيف والعقل إنما يقتضي ثبوته للخالق جل وعلا، لأنه يقر له بالأزلية ذاتا وصفات. والأزلية تنافي حدوث الصفات وابتداؤها في ذاته، ولا يلزم من القول بقدم الفعل القول بقدم شيء من المفعولات، فإن الله هو وحده القديم، وكل ما سواه حادث، وليس وجود الأشياء مقارناً بوجوده، بل وجوده سابق عليها جميعاً كما جاء في الحديث " كان الله ولم يكن شيء معه " أي مساوق له في الوجود سبحانه، بل متأخر عنه. ولكنا مع ذلك لا نقول بوجود فاصل لا نهاية له في الزمان بين وجود الله ووجود العالم كما يقوله من ذهب إلى أن العالم وجد من عدم، فإن هذا يستلزم كما قدمنا أن يكون الباري معطلاً عن الفعل أو غير قادر عليه مدة لا تقاس بها مدة فاعليته، بل نقول أنه سبحانه يكون الشيء فيكون عقب تكوينه،

ص: 245

لا مع تكوينه ولا متراخياً عنه فإن المؤثر التام يجب أن يكون أثره عقيب تأثيره بلا مهلة، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى:{إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}

*****

لسنا نقول كما يقول الملحد

الزنديق صاحب منطق اليونان

بدوام هذا العالم المشهود (1)

والأرواح (2) في أزل وليس بفان

هذى مقالات الملاحدة الأولى

كفروا بخالق هذه الأكوان

الشرح

يعني أننا وإن قلنا بقدم الفعل الذي هو صفة الله، لا نقول بأن العالم المفعول قديم مع الله، وأنه مقارن له في الزمان، كما يقول ذلك أرسطو صاحب المنطق، فالمشهور عن أرسطو أنه كان يرى أن العالم مساوق لله في الوجود أزلاً وأبداً، والله عنده ليس خالقاً للعالم، وإنما هو محرك فقط، ولهذا كان يسميه المحرك الأول أو العلة الأولى أو الصورة المحضة. ولا يعني أرسطو بذلك أن الله فعل في العالم الحركة، فإن الله ليس بعلة فاعلية عنده، وإنما هو علة غائية.

ويقول أرسطو في بيان ذلك: أن الله لما كان صورة محضة كان في غاية الكمال وكانت المادة في الجهة الأخرى أقرب إلى العدم منها إلى الوجود إذ كانت إمكاناً وكانت وجوداً بالقوة لا بالفعل، فتركت بدافع الشوق إلى محاكاة تلك الصورة المحضة والقرب منها قدر الطاقة، وكانت هذه الحركة الشوقية هي التي أبرزت هذه المادة إلى الوجود بالفعل وسارت بها في طريق التقدم والارتقاء ولا

(1) وهو السماوات والأرض والأفلاك.

(2)

وهو عالم خفي.

ص: 246

ريب أن هذا الكلام هو إلى الشعر والخيال أقرب منه إلى الفلسفة، فكيف خان صاحب المنطق منطقه ولم يسعده في هذه المشكلة حتى تورط فيما تورط فيه من كلام هو إلى الهذيان أقرب منه إلى الجد.

فليبين لنا أرسطو ما الذي بث الشوق والحنين في مادته المزعومة حتى تحركت تحاول التشبه بتلك الصورة المحضة، وكيف كانت المادة أو الهيولي الأولى قبل حلول الصورة فيها إمكاناً أو قوة، والإمكان معنى من المعاني التي توصف بها المادة وليس هو المادة، ولسنا هنا بصدد الرد على هذه الحماقة من فيلسوف طار صيته وذاع، حتى كاد أن يعبده أتباعه من متفلسفة الإسلام المارقين من أمثال الفارابي وابن سينا ويزعمون لآرائه العصمة والقداسة، ويقدمونها على الوحي المنزل ولا ريب أن هذا الذي قال به أرسطو في قدم العالم هو رأى الملاحدة الدهرية الذين ينكرون وجود الخالق جل وعلا ويقولون {ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} .

*****

واتى ابن سينا بعد ذاك مصانعاً

للمسلمين فقال بالإمكان

لكنه الأزلى ليس بمحدث

ما كان معدوماً ولا هو فان

وأتى بصلح بين طائفتين بينهما

الحروب وما هما سلمان

أنى يكون المسلمون وشيعة

اليونان صلحا قط في الإيمان

والسيف بين الأنبياء وبينهم

والحرب بينهم فحرب عوان

الشرح

جاء ابن سينا بعد أرسطو، وكان كما قلنا تلميذاً وفياً لفلسفة أستاذه، ولكنه من جهة أخرى كان يريد مصانعة المسلمين ومداهنتهم حتى لا يفطنوا لمروقه

ص: 247

وإلحاده، فتكايس بمحاولة التوفيق بين الفلسفة التي تقول بقدم العالم ومقارنته الله في الزمان، وبين الدين الذي يجعله مخلوقاً حادثاً، بعد أن لم يكن، فزعم أن الله علة تامة لوجود العالم، والعلة التامة يجب أن يقارنها معلولها ولا يتخلف عنها،

وعلى هذا فيمكن القول بأن العالم أزلى مقارن لله في الزمان، كما تقول الفلسفة، ولكنه من جهة أخرى متأخر وممكن حادث بالذات أما كونه متأخراً فلأن المعلول قد استفاد الوجود من علته، ولا نعنى بالحدوث الذاتي إلا استفادة الوجود من الغير ومن العجيب أن ابن سينا مع قوله بقدم العالم يسمى الله خالقاً وفاعلاً ويسمى العالم مخلوقاً ومفعولا، فمتى خلق الله العالم على رأيه أو فعله إذا كان وجوده مقارناً لوجوده وكيف يمكن أن يكون الله خالقاً للعالم مع القول بأنه علة والخلق إنما يعتمد على القصد والاختيار، وأما العلة فيصدر عنها معلولها بالايجاب المنافي للاختيار، والعالم عنده كما هو أزلي مساوق لعلته في جانب الأزل، هو كذلك أبدى غير قابل للفناء لأن المعلول لعلة تامة يجب أن يبقي ببقاء علته.

وهكذا يظن ابن سينا أنه أفلح بهذا التمويه والمغالطة في لبس الأمر على المسلمين، ولكن الأذكياء من علماء هذه الأمة من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية استطاعوا كشف تلبيساته وفضح سرائره ونياته.

ومن العجب أيضاً أن يزعم هذا الرجل أنه يحاول الصلح والتوفيق بين طائفتين لا يعقل أن تهدأ بينهما الحرب أو أن يتم سلام، فهذه طائفة تؤمن بالوحي والقرآن وتعتصم بعرى الإسلام والإيمان وهذه طائفة كافرة تدين بما ضرطت به عقول فلاسفة اليونان مما كله أو أغلبه كفر وإلحاد وهذيان. فلا يمكن أن يوضع

ص: 248

السيف بينهم وبين أتباع الأنبياء أبد الدهر، وستبقى بينهم الحرب العوان حتى لا تكون فتنة وحتى يظهر دين الله على الدين كله ولو كره الكافرون.

*****

وكذا أتى الطوسى بالحرب الصريح

بصارم منه وسل لسان

وأتى إلى الإسلام يهدم أصله

من أسه وقواعد البنيان

عمر المدارس للفلاسفة الألى

كفروا بدين الله والقرآن

وأتى إلى أوقاف اهل الدين

ينقلها إليهم فعل ذى أضغان

وأراد تحويل الإشارات التي

هي لابن سينا موضع الفرقان

وأراد تحويل الشريعة بالنواميس

التي كانت لذى اليونان

لكنه علم اللعين بأن هذا

ليس في المقدور والإمكان

إلا إذا قتل الخليفة والقضاة

وسائر الفقهاء في

البلدان

فسعى لذاك وساعد المقدور بالأمر

الذي هو حكمة الرحمن

الشرح

بعد أن فرغ المؤلف من الكلام على ابن سينا القرمطي، وما كان يكيد به للإسلام وأهله في الخفاء بسبب اتباعه للفلسفة مع إيهامه انه حريص على اتباع الشريعة، وأنه يحاول جاهداً التوفيق بينها وبين الفلسفة، أخذ في الحديث على ذيل من ذيوله الذين تعلقوا بفلسفته وهو الخواجة نصير الدين الطوسي، فذكر أن هذا الرجل لم يكن يصانع المسلمين كسلفه، ولكنه أعلنها على الإسلام وأهله حرباً صريحة سافرة بسيفه ولسانه، فكان يسعى جهده لكى يهدم الإسلام من أساسه، فأنشأ المدارس، لا لدراسة الكتاب والسنة وعلوم

ص: 249

الشريعة، ولكن لدراسة الكفر والإلحاد باسم الفلسفة، وحول الأحباس التي كانت لأهل الدين إلى طلبه هذه المدارس حسداً منه وبغياً.

وقد أراد هذا الخبيث أن يجعل الإشارات الذي ألفه سيده ابن سينا كتاباً مقدساً بدلاً من القرآن، يعني بحفظه ودراسته وتعليمه، كما أراد أن ينسخ الشريعة ويستعيض عنها بالنظم والقوانين التي كانت عند اليونان والرومان، ولكنه علم أن ذلك لا يتم له ولا يقر عليه إلا إذا أزال دولة الإسلام بقتل رجالاتها من الخليفة والقضاة والفقهاء في سائر البلدان، فسعى لذلك سعيه باستعداء التتار أتباع جانكيز خان على المسلمين، وكان يعمل كالمشير لهم، وساعد على تحقيق غرضه موافقة الأقدار له لحكمة أرادها الله سبحانه وهو أحكم الحاكمين

*****

فأشار أن يضع التتار سيوفهم

في عسكر الإيمان والقرآن

لكنهم يبقون أهل مصانع الدنيا

لأجل مصالح الأبدان

فغدا على سيف التتار الألف في

مثل لها مضروبة بوزان

وكذا ثمان مئينها في ألفها

مضروبة بالعد والحسبان

حتى بكى الإسلام أعداه اليهود

كذا المجوس وعابد الصلبان

فشفى اللعين النفس من حزب

الرسول وعسكر الإيمان والقرآن

وبوده لو كان في أحد وقد

شهد الوقيعة مع أبي سفيان

لأقر إعينهم وأوفى نذره

أو أن يرى متمزق اللحمان

الشرح

أراد هذا الخبيث شفاء غيظه المتقد على الإسلام وأهله بمحاولة الإتيان على أصوله وقواعده والقضاء على حملته، فأشار على أعوانه من التتار، وهم أهل

ص: 250

جهل وغلظة أن يضعوا سيوفهم في معسكر الإيمان والقرآن من رجال الفقه والدين مع الإبقاء على ذوى الحرف وأرباب الصنائع من أجل عمارة البلدان ومصالح الأبدان.

وقد أخذ هؤلاء السفكة من التتار بمشورة هذا الخبيث الملحد، فأعملوا سيوفهم في أهل الإسلام في كل بلد دخلوه حتى قدر عدد القتلى بسيوف هؤلاء المجرمين بما يقرب من مليون وثمانمائة ألف شخص ونكب الإسلام بهم نكبة جعلت أعداءه من اليهود والنصارى والمجوس يبكونه ويرثون لحاله، وبذلك تمكن هذا اللعين من شفاء نفسه من حزب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين هم جند الإيمان وعسكر القرآن. وكان يود له أنه شهد وقعة أحد مع أبي سفيان وحزنه، وكان جنديا في جيش الباطل إذاً لصال وجال وأقر أعين إخوانه من أهل الشرك والضلال وأوفى نذره في الكيد للإسلام وجها أهله، او يرى مقتولاً متمزق اللحمان.

*****

وشواهد الأحداث ظاهرة على

ذا العالم المخلوق بالبرهان

وأدلة التوحيد تشهد كلها

بحدوث كل ما سوى الرحمن

أو كان غير الله جل جلاله

معه قديماً كان ربا ثان

إذ كان عن رب العلي مستغنياً

فيكون حينئذ لنا ربان

والرب باستقلاله متوحد

أفممكن أن يستقل اثنان

لو كان ذاك تنافيا وتساقطا

فإذا هما عدمان ممتنعان

والقهر والتوحيد يشهد منهما

كل لصاحبه هما عدلان

ولذلك اقترنا جميعاً في صفات

الله فانظر ذاك في القرآن

فالواحد القهار حقاً ليس في

الإمكان أن تحظى به ذاتان

ص: 251

الشرح

بعد هذا الاستطراد الطويل بذكر مذاهب الفلاسفة والدهرية في قدم العالم وموقف ابن سينا ونصيره نصير الدين الطوسي من الإسلام وأهله رجع إلى ما كان فيه من بيان أن الله هو وحده القديم، وأن ما سواه حادث، فقال إن أمارات الحدوث وهو الوجود بعد العدم بادية على كل جزء من أجزاء هذا العالم المخلوق المصنوع - فإن هذه التغيرات الدائبة التى تجري في هذا العالم علويه وسفليه من ولادة وموت وزرع وحصاد، وهبوب رياح ونزول أمطار، وشروق وغروب وحر وبرد، وزلازل وصواعق الخ تشهد بحدوثه إذ لو كان قديماً لما قبل هذه التغيرات، كما أن أدلة التوحيد المثبتة لانفراده سبحانه بالربوبية والقهر شاهدة كذلك بحدوث كل ما سواه، إذ لو كان معه قديم غيره لكان مستغنياً في وجوده وبقائه عنه فيكون ربا معه، ومن خصائص الرب أن يستقل بالخلق والإيجاد، فلو كان هنا ربان لحاول كل منهما أن يستقل بالفعل ولا يتم له ذلك ما دام له شريك مساو له في القدرة ومكافيء في الربوبية فيتمانعان ويتعارضان، فإذا هما عدمان ممتنعان قال تعالى:{ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} وحينئذ فلابد أن ينفرد أحدهما بالقهر والعلو على الآخر ويكون الآخر عاجزاً مغلوباً ولهذا كان كل من القهر والتوحيد عدلا للآخر ودالاً على صاحبه فقل واحد قهار وكل قهار واحد وهذا هو سر مجيئهما مقترنين في كتاب الله تعالى كما قال سبحانه في سورة الرعد {قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار} وكما قال في سورة الزمر {لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما

ص: 252

يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار} فصفة القهر والعلو لا يمكن أن يتصف بها اثنان.

فصل في اعتراضهم على القول بدوام فاعلية الرب

تعالى وكلامه والانفصال عنه

فلئن زعمتم أن ذاك تسلسل

قلنا صدقتم وهو ذو إمكان

كتسلسل التأثير في مستقبل

هل بين ذلك قط من فرقان

والله ما افترقا لذى عقل ولا

نقل ولا نظر ولا برهان

في سلب إمكان ولا في ضده

هذى العقول ونحن ذو أذهان

فليأت بالفرقان من هو فارق

فرقا يبين لصالح الأذهان

وكذاك سوى الجهم بينهما

كذا العلاف في الإنكار والبطلان

ولأجل ذا حكما بحكم باطل

قطعا على الجنات والنيران

فالجهم أفنى الذات والعلاف

للحركات أفنى قاله الثوران

الشرح

هذا بيان لشبهة قد ترد من جانب المانعين لدوام فاعلية الرب وكلامه بأن ذلك يستلزم التسلسل في جانب الماضي بلا بداية، فإنه ما دام نوع الفعل والكلام قديماً يجب أن يكون كل حادث منهما مسبوقاً بحادث لا ينتهي ذلك إلى حادث يعتبر أول الحوادث.

والجواب عن الشبهة المذكورة أننا نلتزم لزوم التسلسل، ولكن نمنع استحالته فإن هذا تسلسل في الحوادث والآثار وهو ممكن في جانب الماضي كما هو ممكن في جانب المستقبل بلا فارق أصلاً، فإذا كان الخصوم يسلمون بإمكان تسلسل

ص: 253

التأثير في المستقبل بمعنى أنه ما من حادث إلا وبعده حادث لا ينتهي ذلك إلى حادث يعتبر آخر الحوادث فيجب عليهم أن يسلموا كذلك بإمكانه أيضاً في جانب الماضي إذ لا يدل على الفرق بينهما شيء من عقل ولا نقل، ولا يثبت ذلك الفرق بنظر ولا برهان وإلا فمن ادعى ذلك الفرق فليبينه لنا بياناً يرتضيه العقل. وقد سوى بينهما الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف لكن لا في الثبوت والإمكان بل في الإنكار والبطلان؛ فحكموا بامتناع كل منهما، وبنوا على هذا حكمهم الجائز بفناء الجنة والنار وأهلهما، فالجهم حكم بفناء الذات، وأما أبو الهذيل فقال بانقطاع الحركات، وقد سبق الكلام على ذلك فلا نطيل فيه.

*****

وأبو علي وابنه والأشعري

وبعده ابن الطيب الرباني

وجميع أرباب الكلام الباطل

المذموم عند أئمة الإيمان

فرقوا وقالوا ذاك فيما لم يزل

حق وفي أزل بلا إمكان

قالوا لأجل تناقض الأزلي و

الأحداث ما هذان يجتمعان

لكن دوام الفعل في مستقبل

ما فيه محذور من النكران

الشرح

انقسم الناس في تسلسل الحوادث والآثار إلى ثلاث طوائف فأهل السنة والجماعة ذهبوا إلى إمكانه في جانب الماضي والمستقبل جميعاً بلا فارق،

وذهب الجهم وأبو الهذيل إلى القول بامتناعه في جانب الماضي والمستقبل جميعاً كما تقدم.

ص: 254

وأما أبو على الجبائي المعتزلي شيخ الجبائية وولده أبو الحسن الأشعري وتلميذه أبو بكر الباقلاني وجميع أهل الكلام الباطل المذموم ففرقوا بينهما فذهبوا إلى جوازه في جانب المستقبل وبامتناعه في جانب الأزل وكانت شبهتهم في ذلك أن الدليل القطعي قد قام على حدوث العالم بجميع أجزائه والقول بتسلسل الحوادث في جانب الأزل بلا بداية معناه القول بقدم العالم، والقدم والحدوث نقيضان لا يجتمعان لهذا منعوا دوام الفعل في الماضي لما يلزمه من قدم المفعول، وأما دوام الفعل في المستقبل وتسلسه إلى غير نهاية، فهذا لا محذور فيه ولا يقتضي الدليل إنكاره، فالعقل يجيز أن يكون بعد كل حادث حادث دون انقطاع في جانب الأبد.

ومن شبههم أيضاً أنه إذا كان كل فرد من أفراد الفعل حادثاً، فكيف يكون نوعه قديماً مع أن النوع ليس إلا مجموعة الأفراد، فإذا كان كل فرد حادثاً مسبوقاً بالعدم، كان الكل كذلك، إذ لا تصح أن توصف الجملة بحكم غير حكم الأفراد، فإذا قلت مثلاً كل زنجي أسود، كان الكل أسود بالضرورة، راجع كتابنا ابن تيمية السلفي في مبحث قيام الحوادث بذاته تعالى.

*****

فانظر إلى التلبيس في ذا الفرق

ترويجاً على العوران والعميان

ما قال ذو عقل بأن الفرد ذو

أزل لذي ذهن ولا أعيان

بل كل فرد فهو مسبوق

بفرد قبله أبداً بلا حسبان

ونظير هذا كل فرد فهو

ملحوق بفرد بعده حكمان

النوع والآحاد مسبوق

وملحوق وكل فهو منها فان

والنوع لا يفني أخيراً فهو

لا يفني كذلك أولاً ببيان

ص: 255

وتعاقب الآنات أمر ثابت

في الذهن وهو كذاك في الأعيان

الشرح

هذا رد لتلك الشبهة التي بنى عليها الأشعري وموافقوه الفرق بين الدوام في جانب الأزل وبين الدوام في جانب المستقبل، وملخص الدفع أن هذه التفرقة مغالطة وتلبيس لا يروح إلا على السذج البسطاء من الجهلة وأنصاف العلماء، إذ لم يقل أحد من العقلاء الذين ذهبوا إلى دوام فاعلية الرب تعالى وتسلسل أفعاله ماضياً ومستقبلاً أن شيئاً من أعيان المخلوقات وأفرداها قديم، لا ذهنا ولا خارجاً، بل قالوا أن كل فرد منها فهو مسبوق بفرد قلبه إلى غير بداية يمكن أن يحضرها العد والحساب، مع قولهم بأن كل فرد منها حادث. ونظير هذا قولهم أن كل فرد فهو ملحوق بفرد آخر يجيء بعده بلا نهاية، كذلك فالآحاد كلها لها ابتداء وانتهاء، سواء في ذلك السابق منها واللاحق، وأما النوع فهو مستمر أزلاً وأبداً بلا ابتداء ولا انتهاء. وقس ذلك على آنات الزمان، وهي أجزاؤه، فإنها تتعاقب في الوجود شيئاً بعد شيء لا إلى نهاية مع امتدادها كذلك في جانب الأزل بلا بداية، فليست تبتدىء من آن هو أول الآنات. ولا تنتهي إلى آن هو آخرها، مع أن كل آن منها له بداية وانتهاء، لأنه واقع بين آنين، فكل آن منها يبتدىء من نهاية الآن الذي قبله بابتداء الذي بعده ومع ذلك فجمله الآنات لا أول لها ولا آخر لا في الذهن ولا في الخارج. فكل فرد من أفراد المخلوقات حادث موجود بعد أن لم يكن.

وأما النوع الذي هو من لوازم الكمال لأنه وصفه تعالى فلا مبتدأ له ولا منتهى، بل لم يزل الله فعالاً لما يريد، لأنه لا يمكن أن يكون في وقت من الأوقات فاقداً لشيء من الكمال.

*****

ص: 256

فإذا أبيتم ذا وقلتم أول

الآنات مفتتح بلا نكران

ما كان ذاك الآن مسبوقاً يرى

إلا بسلب وجوده الحقاني

فيقال ما تعنون بالآنات هل

تعنون مدة هذه الأزمان

من حين إحداث السموات العلي

والأرض والأفلاك والقمران

ونظنكم تعنون ذاك ولم يكن

من قبلها شيء من الأكوان

هل جاءكم في ذاك من أثر ومن

نص ومن نظر ومن برهان

هذا الكتاب وهذه الآثار و

المعقول في الفطرات والأذهان

إنا نحاكمكم إلى ما شئتمو

منها فكل الحق في تبيان

الشرح

لما مثل المؤلف لتعاقب الحوادث وتسلسلها فيما لم يزل ولا يزال بلا بداية ولا نهاية بتعاقب آنات الزمان، كذلك قال للخصوم المانعين: فإذا أبيتم هذا القياس ومنعتم التسلسل في المقيس عليه وهو الآنات، وقلتم إن أول الآنات مفتتح وله بداية، ولم يكن هذا الآن الأول مسبوقاً بآن قبله. وإنما كان مسبوقاً بعدم وجود، فيقال لكم: ماذا تعنون بالآنات التي أنكرتم الحكم عليها بالتسلسل هل تعنون بها مدة الأزمنة الكائنة منذ خلق الله السموات والأرض وما فيهما من الأشياء، ولا نظنكم تعنون بالزمان إلا ذلك بدليل أنكم تقيسون الزمان بحركات الأفلاك ودورانها، فهذا يفيد أن الزمان عندكم حادث بحدوث هذه الأفلاك، وأنه قبل خلق السموات والأرض لم يكن في زعمكم شيء من الأكوان موجوداً ونحن نسألكم: هل عندكم على ذلك دليل من نقل أو عقل، فهذا كتاب الله عز وجل وهذه الآثار المروية عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذه

ص: 257

هي الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، وهذه هي بدائه العقول ومسلماتها، فأين تجدون زعمكم في شيء من هذه الأربع التي هي مرجع كل حجة ومصدر كل دليل، إنا نحاكمكم إلى أيها شئتم حتى يتبين الحق ويتضح، ويظهر أنكم لا ترجعون في قولكم هذا إلى دليل معتبر ولا حجة بينة.

*****

أو ليس خلق الكون في الأيام كان

وذاك مأخوذ من القرآن

أو ليس ذلكم الزمان بمدة

لحدوث شيء وهو عين زمان

فحقيقة الأزمان نسبة حادث

لسواه تلك حقيقة الأزمان

واذكر حديث السبق للتقدير و

التوقيت قبل جميع ذى الأعيان

خمسين ألفاً من سنين عدها

المختار سابقة لذى الأكوان

هذا وعرش الرب فوق الماء من

قبل السنين بمدة وزمان

الشرح

يعني أن الأدلة من النقل والعقل دلت على فساد زعم هؤلاء أن السموات والأرض هما أول المخلوقات، وأنه لم يكن قبلهما شيء يمكن أن يقاس به الزمان، فقد ذكر الله عز وجل في عدة مواضع من القرآن أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وهذه الأيام التي جعلها الله مدة وظرفاً لذلك الخلق هي جملة معينة من الزمان، وحقيقة الزمان هي نسبة حادث إلى آخر، فلابد أن تكون هذه الأيام مقدرة بحركة أخرى غير سير الشمس والقمر إذ كانت سابقة عليهما وهذا يدل على وجود أزمنة ومخلوقات قبل خلق السموات والأرض، وهذا هو ما يشهد له الحديث الصحيح الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم (قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه

ص: 258

على الماء) والحديث الآخر الذي بمعناه (أن الله لما خلق القلم قال له: أكتب، قال: ما أكتب؟ قال: أكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة، وذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام وكان عرشه على الماء)

فهذا صريح في وجود مخلوقات قبل السموات والأرض حيث أخبر أن التقدير سابق على وجود هذه الأعيان بخمسين ألف سنة، ووجود العرش كان سابقاً على هذا التقدير بدليل قوله {وكان عرشه على الماء} أي عند كتابة القلم للمقادير ولا يرى إلا الله كم من السنين كان العرش على الماء قبل أن يجري القلم بما جرى به من قدر الله عز وجل.

*****

والناس مختلفون في القلم الذي

كتب القضاء به من الديان

هل كان قبل العرش أو هو بعده

قولان عند أبي العلا الهمذاني

والحق أن العرش قبل لأنه

قبل الكتابة كان ذا أركان

وكتابة القلم الشريف تعقبت

إيجاده من غير فصل زمان

لما براه الله قال: اكتب كذا

فغدا بأمر الله ذا جريان

فجرى بما هو كائن أبداً إلى

يوم المعاد بقدرة الرحمن.

الشرح

اختلف العلماء هل القلم كان قبل العرش أو بعده، وأيهما كان أول المخلوقات؟ قولان ذكرهما الحافظ أبو العلا الهمداني، أصحهما أن العرش كان قبل القلم، لما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله

ص: 259

- صلى الله عليه وسلم (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء)

فهذا صريح أن التقدير إنما وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أول خلق القلم بلا مهلة لما رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب، قال يا رب وماذا أكتب قال أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) يعني أنه عند أول خلقه للقلم قال له أكتب، بدليل الرواية الأخرى (أول ما خلق الله القلم قال له أكتب) بنصب أول على الظرفية، ونصب القلم على المفعولية وأما على رواية رفع أول والقلم فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم، - يعني عالم الأقلام - ليتفق الحديثان، إذ حديث عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير، والتقدير مقارن لخلق القلم وفي لفظ (لما خلق الله القلم قال له أكتب) فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة بقدرة الله عز وجل.

*****

أفكان رب العرش جل جلاله

من قبل ذا عجز وذا نقصان

أم لم يزل ذا قدرة والفعل

مقدور له أبدا وذو إمكان

فلئن سألت وقلت ما هذا الذي

أداهم لخلاف ذا التبيان

ولأي شيء لم يقولوا إنه

سبحانه هو دائم الإحسان

فاعلم بأن القوم لما أسسوا

أصل الكلام عموا عن القرآن

وعن الحديث ومقتضى المعقول بل

عن فطرة الرحمن والبرهان

وبنوا قواعدهم عليه فقادهم

قسراً إلى التعطيل والبطلان

ص: 260

الشرح

أفبعد هذا البيان الذي دل على وجود مخلوقات قبل هذا العالم ووجود زمان قبل هذا الزمان يصح أن يقال أن رب العرش قبل وجود هذا العالم كان عاجزاً عن الفعل والإيجاد، فيما لم يزل، أم الحق هو عكس ذلك تماماً، وهو أنه سبحانه لم يزل قادراً على إيجاد الفعل والفعل لم يزل مقدوراً له ممكناً.

فلئن سأل سائل عما حدا بهؤلاء الخصوم إلى المنازعة في تلك القضية التي تتألق وضوحاً وتبياناً، ولماذا لم يقولوا بما قال به السلف من أنه سبحانه دائم الإحسان وقديمه، فإنا نقول له: أن هؤلاء المخذولين اغتروا بعقولهم الفاسدة وبما أصلته لهم من أصول باطلة، فعموا بسبب ذلك عن كل ما يصلح أن يكون حجة ودليلا عموا عن القرآن والحديث، وعموا عن الفطرة الإنسانية وعما يقتضيه العقل السليم والنظر الصحيح، لقد أسسوا لهم أصلاً في الكلام وبنوا عليه جميع قواعدهم، فقادهم هذا الأصل الفاسد رغماً عنهم إلى التعطيل والإنكار وهذا الأصل هو:

****

نفي القيام لكل أمر حادث

بالرب خوف تسلسل الأعيان

فيسد ذاك عليهم في زعمهم

إثبات صانع هذه الأكوان

إذ أثبتوا بكون ذي الإجساد حادثة ****فلا تنفك عن حدثان

فإذا تسلسلت الحوادث لم يكن

لحدوثها إذ ذاك من برهان

فلأجل ذا قالوا التسلسل باطل ****والجسم لا يخلو عن الحدثان

فيصح حينئذ حدوث الجسم من

هذا الدليل بواضح البرهان

هذى نهايات لإقدام الورى

في ذا المقام الضيق الأعطان

ص: 261

فمن الذي يأتي بفتح بين

ينجي الورى من غمرة الحيران

فالله يجزيه الذي هو أهله

من جنة المأوى مع الرضوان

الشرح

هذا هو الأصل الذي أسسوه وبنوا عليه مذاهبهم في تعطيل الرب سبحانه عن صفاته الإختيارية التي تحدث في ذاته بمشيئته وهو الحكم بامتناع قيام الحوادث بذاته إذ لو قامت به الحوادث من الأفعال لوجب القول بتسلسلها وتعاقبها في الوجود شيئاً قبل شيء لا إلى أول، وهذا يؤدي بدوره إلى القول بتسلسل الأعيان التي هي المفعولات وبذلك تكون هذه المفعولات قديمة فينسد حينئذ طريق إثبات الصانع إذ كان الطريق إلى إثباته هو لزوم الحدوث لهذه المخلوقات وعدم انفكاكها عنه، فإذا تسلسلت بطل دليل حدوثها فلأجل هذا قالوا ببطلان التسلسل ولزم الحدوث للأجسام.

وهذه الآراء التي تقدم ذكرها هي غاية ما وصلت إليه عقول الورى في هذا المقام الذي هو مزلة الأقدام ومضلة الأفهام فمن ذا يستطيع أن يأتي فيه بحكم بين وقول فصل ينجي به الناس من هذه الحيرة الغامرة ويكون له عند الله ما هو له أهل من جنة ورضوان.

*****

فاسمع إذاً وافهم فذاك معطل**** ومشبه وهداك ذو الغفران

هذا الليل هو الذي أرداهم

بل هد كل قواعد القرآن

وهو الدليل الباطل المردود

عند أئمة التحقيق والعرفان

ما زال أمر الناس معتدلاً إلى

أن دار في الأوراق والأذهان

وتمكنت أجزاؤه بقلوبهم

فأتت لوازمه إلى الإيمان

ص: 262

رفعت قواعده وتحت أساسه

فهوى البناء وخر للأركان

وجنوا على الإسلام كل جناية

إذ سلطوا الأعداء بالعدوان

الشرح

بعد أن أورد المؤلف الأصل الذي بني عليه أهل الكلام قواعدهم الفاسدة في منع قيام الحوادث بذاته تعالى، وزعمهم أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث واتخاذهم من هذه القضية الكاذبة التي يزعمون أن عقولهم قد اجتمعت على صحتها أساساً لنفي صفات الفعل والصفات الاختيارية التى تحدث في ذاته تعالى بمشيئته وقدرته أراد بعد ذلك أن يبين فساد هذا الدليل الي تشبثوا به فذكر أن هذا الدليل هو الذي أوقعهم في الهلكة وأضلهم عن سواء السبيل كما أنه قد هدم كل ما جاء به القرآن الحكيم من قواعد الإيمان فقد وصف الله نفسه في كتبه بأنه كلم موسى عند مجيئه للميقات وناداه من جانب الطور الأيمن وأنه استوى على عرشه بعد خلق السموات والأرض، وأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وأنه سيأتي ويجيء يوم القيامة وأنه يحب المؤمنين ويرضى عنهم ويبغض الكافرين ويغضب عليهم، وأنه يفرح بتوبة عبده التائب وأنه يسمع أصوات عباده حين تحدث ويرى حركاتهم وأعمالهم إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة والتي تدل أقوى دلالة على حدوث هذه الأفعال في ذاته تعالى بمشيئته وقدرته، فكيف إذاً يصح قول هؤلاء الجاهلين أن ما لم يخلو من الحوادث فهو حادث دون أن يفرقوا بين جنس الحوادث وأعيانها، فالممنوع هو قيام أشخاص الحوادث بذاته بمعنى أن يكون لها ابتداء في ذاته، أما قيام أجناس الحوادث وحدوث آحادها في ذاته شيئاً بعد شيء وفي وقت دون آخر بمعنى أنه

ص: 263

لم يزل فاعلاً لها إذا شاء فإنه لا يدل على امتناعه دليل بل نصوص الكتاب والسنة تثبته ولا تنفيه.

فقد تبين بذلك بطلان دليل هؤلاء وفساده ومصادمته للنصوص ولهذا اشتغل برده وإبطاله كثير من أئمة التحقيق والعرفان. ولقد كان أمر الناس معتدلاً وبعيداً عن الزيغ والانحراف قبل أن يلقي الشيطان بهذا الدليل إلى أوليائه من الإنس، ويدفعهم إلى أن يشيعوه بين الناس ويشتغلوا به كتابة وتفكيراً حتى تمكنت قضاياه من قلوبهم فالتزموا من أجله اللوازم الفاسدة التي أتت على الإيمان من القواعد حتى هوى بناؤه وتداعت أركانه، وجنوا على الإسلام أكبر جناية ومكنوا منه أعداءه وأعطوهم السلاح الذي يستطيعون محاربته به، فقد جاء الفلاسفة واستغلوا هذا الدليل الذي هو عمدة المتكلمين في القول بالإيجاب ونفي الاختيار عن الله عز وجل والقول بقدم العالم إلخ.

*****

حملوا بأسلحة المحال فخانهم

ذاك السلاح فما اشتفوا بطعان

وأتى العدو إلى سلاحهم

فقاتلهم به في غيبة الفرسان

يا محنة الإسلام والقرآن من

جهل الصديق وبغي ذي طغيان

والله لولا الله ناصر دينه

وكتابه بالحق والبرهان

لتخطفت أعداؤنا أرواحنا

ولقطعت منا عرى الإيمان

الشرح

يعني أن هؤلاء الجهلة من المتكلمين الذين لا يحسنون الدفاع عن الإسلام ضد خصومه وأعدائه حملوا على هؤلاء الخصوم بأسلحة مفلولة، والمراد بها الأدلة الباطلة المحالة فخانهم سلاحهم ولم يسعفهم ولا شفي منهم الصدور عند

ص: 264

الطعان، ثم جاء العدو الماكر فاستلب منهم هذا السلاح وقاتلهم به فأصماهم حيث قال لهم أنتم تمنعون قيام الحوادث بذاته تعالى، فلماذا قلتم بحدوث العالم مع أن كل ما يحتاج إليه في الفعل موجود في الأزل من علم شامل وقدرة تامة وإرادة نافذة. فلماذا إذاً يتأخر وجود المراد مع أنه لم يحدث في ذات الرب سبحانه شيء لا تجدد قدرة ولا إرادة ولا وجود آلة يستعين بها على الايجاد الخ.

وهكذا قاتلتم العدو بنفس السلاح، وكان ذلك في غيبة فرسان الإسلام الحقيقيين ذوي الأسلحة الماضية وهكذا كانت محنة الإسلام والقرآن في الصديق الجاهل كمحنته في العدو الظالم، فتعاون الفريقان على هدمه وإفساده وإن كان الفريق الأول لم يقصد إلى ذلك، ولولا أن الله ناصر دينه وكتابه بالحجة والبرهان لمزقنا الأعداء شر ممزق ولسلبونا أرواحنا من جسومنا ولقطعوا منا عرى الإيمان.

*****

أيكون حقاً ذا الدليل وما اهتدى

خير القرون له محال ذان

وفقتمو للحق إذ حرموه في

أصل اليقين ومقعد العرفان

وهديتمونا للذي لم يهتدوا

أبداً به واشدة الحرمان

ودخلتم للحق من باب وما

دخلوه واعجباً لذا الخذلان

وسلكتم طرق الهدى والعلم

دون القوم واعجباً لذا البهتان

وعرفتم الرحمن بالأجسام

والأعراض والحركات والألوان

وهم فما عرفوه منها بل من

الآيات وهي فغير ذى برهان

الله أكبر انتم أو هم على

حق وفي غي وفي خسران

ص: 265

الشرح

ينكر المؤلف على هؤلاء المتكلمين اعتمادهم في إثبات وجود الله عز وجل الذي هو أعظم المطالب في الدين على هذا الدليل المتقدم المبني على حدوث الجواهر والأعراض، حتى ذهب بعضهم جهلاً وغلوا إلى أن من لم يؤمن بالله عن طريقه لم يصح إيمانه، فهو يقول لهم لو كان دليلكم هذا حقاً. ويتوقف الإيمان بالله عز وجل على معرفته، كيف لم يهتد إليه خير القرون وأفضلها، وهم أكمل هذه الأمة علماً وإيماناً، هذا محال، وكيف يعقل أن توفقوا أنتم يا أذناب الفلاسفة وإخوان الزنادقة للحق في أصل اليقين وأساس الإيمان في حين يرجع هؤلاء الأفاضل الكملة بالخيبة والحرمان، وكيف جاز أن تهتدوا أنتم إلى ما لم يهتدوا إليه أو تدخلوا إلى الحق من باب لم يعرفوه أو تسلكوا إلى العلم والهدى طريقاً لم يسلكوه، ولكنكم لا تتورعون عن رمي القوم بالجهل وقلة المعرفة حيث قلتم أن مذهبنا أعلى وأحكم. ومذهب السلف أسلم. وزعمتم أنكم عرفتم ربكم بدليل العقل وهو يفيد القطع واليقين. أما القوم فما عرفوه إلا من طريق الآيات القرآنية وهي في زعمكم لا تفيد إلا الظن وإقناع السامعين.

فيا عجباً لكم تخالفون طريق القوم وتزعمون أنكم على الحق والهدى. فمن أحق بذلك، أنتم أم هم؟ لا شك أنهم أولى وأحق بكل حق وكل هدى. وليس لمن خالفهم واتبع غير سبيلهم إلا الوقوع في الغي والضلال.

*****

دع ذا أليس الله قد أبدى لنا

حق الأدلة وهي في القرآن

متنوعات صرفت وتظاهرت

في كل وجه فهي ذو أفنان

معلومة للعقل أو مشهودة

للحس أو في فطرة الرحمن

ص: 266

لسمعتم لدليلكم في بعضها

خبراً أو احسستم له ببيان

أيكون أصل الدين ما تم الهدى

إلا به وبه قوى الإيمان

وسواه ليس بموجب من لم يحط

علماً به لم ينج من كفران

الشرح

ولندع مخالفتكم لطريق القوم جانباً ولنسألكم هل تعتقدون أن الله عز وجل قد بين لنا الأدلة الحقة على وجوده في القرآن وصرفها ونوعها لتتظاهر على إثبات هذا المطلوب الأعظم من كل وجه. وحتى لا يبقى فيه لبس ولا خفاء أصلاً، فمنها ما هو معلوم للعقل، ومنها ما هو مشهود للحس، ومنها ما يرجع إلى الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها فمع كل هذه الأدلة المتكاثرة التي جاء بها القرآن هل سمعتم في بعضها خبراً عن دليلكم هذا الذي جعلتموه عمدتكم في الاستدلال وأهملتم لأجله كل ما جاء بالقرآن الكريم من أنواع الأدلة بحجة أنها لا تفيد ما يفيده هذا الدليل من قطع ويقين، فهل يعقل أن يكون دليلكم (ولم يرد له في كتاب الله ذكر ولا وقعت إليه إشارة مع كثرة ما أورد من أدلة) هو أصل اليقين والإيمان وسواه من الأدلة ليس بموصل لهذا المطلوب ولا محصل للإيمان وأن الواجب هو معرفة الله بهذا الدليل الفاسد، وأن من لم يحط به علماً لم ينج من كفران ولم تحصل له حقيقة الإيمان.

*****

والله ثم رسوله قد بينا

طرق الهدى في غاية التبيان

فلأى شيء أعرضا عنه ولم

نسمعه في أثر ولا قرآن

لمن أتانا بعد خير قروننا

بظهور أحداث من الشيطان

وعلى لسان الجهم جاءوا حزبه

من كل صاحب بدعة حيران

ص: 267

ولذلك اشتد النكير عليهم

من سائر العلماء في البلدان

صاحوا بهم من كل قطر بل رموا

في إثرهم بثواقب الشبهان

عرفوا الذي يفضي إليه قولهم

ودليلهم بحقيقة العرفان

وأخو الجهالة في خفارة جهله

والجهل قد ينجي من الكفران

الشرح

يعني أن الله ورسوله قد بينا جميع الطرق المعرفة بالله غاية البيان، فإذا كان دليل هؤلاء حقاً فلماذا لم يذكره الله ولا رسوله، ولم نسمع عنه لا في قرآن ولا أثر، ولكنه دليل باطل متهافت ومقدماته. على ما فيها من خفاء وبعد.

ليست كلها صحيحة وهو دليل مبتدع متلقي من مبادىء الفلسفة اليونانية الوثنية فإن الكلام في الجسم والعرض والجوهر وغيرها لم يظهر إلا بعد ترجمة هذه الفلسفة إلى العربية في عهد المأمون ومن بعده من خلفاء العباسيين وكان أول من أحدثه هو الجهم وحزبه من المبتدعة الضلال ولهذا لما أطلع أئمة الحق على حقيقة هذا الدليل وما فيه من تناقض واضطراب أنكروا على أهله غاية الإنكار وحذروا منه غاية التحذير لعلمهم بما يفضي إليه من لوازم فاسدة فيها هدم لكل قواعد الإسلام ولسنا نعرف أحداً اختص هذا الدليل بالنقد المر اللاذع. وأبان عن تناقضه وفساده بأدلة العقل والنقل بمثل ما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (العقل والنقل) و

(منهاج السنة) فقد أتى فيه بما يشفي ويقنع فجزاه الله عن الإيمان وأهله خير الجزاء.

ص: 268

فصل

في خلود أهل الجنة ودوام صحتهم ونعيمهم وشبابهم

واستحالة النوم والموت عليهم

هذا وخاتمة النعيم خلودهم

أبداً بدار الخلد والرضوان

أو ما سمعت منادى الإيمان

يخبر عن مناديهم بحسن بيان

لكم حياة ما بها موت وعافية

بلا سقم ولا أحزان

ولكم نعيم ما به بؤس وما

لشبابكم هرم مدى الأزمان

كلا ولا نوم هناك يكون ذا

نوم وموت بيننا أخوان

والجهم أفناها وأفنى أهلها

تباً لذاك الجاهل الفتان

طردا لنفى دوام فعل الرب في

الماضي وفي مستقبل الأزمان

وأبو الهذيل يقول يفنى كل ما

فيها من الحركات للسكان

وتصير دار الخلد مع سكانها

وثمارها كحجارة البنيان

قالوا ولولا ذاك لم يثبت لنا

رب لأجل تسلسل الأعيان

فالقوم إما جاحدون لربهم

أو منكرون حقائق الإيمان

الشرح

هذا وتمام نعيم أهل الجنة وخلودهم فيها وبقاءهم أبد الآباد ولا يفنون ولا يخرجون، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، فإن الآيات والأحاديث في هذا الباب من الكثرة والصراحة بحيث لا تقبل جدلاً ولا تأويلاً كقوله تعالى {خالدين فيها أبدا} {لهم فيهم نعيم مقيم} {وما هم منها بمخرجين} {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ}

ص: 269

{طبتم فادخلوها خالدين} {أكلها دائم وظلها} إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم[يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال فيؤمر به فيذبح، قال ثم يقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} .

قال المؤلف في (حادى الأرواح " وهذا الكبش والإضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال ولا تمثيل كما أخطأ فيه بعض الناس خطأ قبيحاً، وقال: الموت عرض والعرض لا يتجسم، فضلاً عن أن يذبح وهذا لا يصح، فإن الله ينشيء من الموت صورة كبش يذبح كما ينشيء من الأعمال صوراً معاينة يثاب بها ويعاقب، والله تعالى ينشىء من الأعراض أجساماً تكون الأعراض أعراضاً مادة لها وينشىء من الأجسام أعراضاً كما ينشىء سبحانه من الأعراض أعراضاً ومن الأجسام أجساماً، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب تعالى ا 0 هـ.

وأهل الجنة كذلك في عافية دائمة لا يصيبهم الآفات ولا الأمراض ولا الآلام والأوصاب، كما قال تعالى {لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب} ونعيمهم باق فلا يلحقهم بؤس ولا شقاء، وشبابهم لا يفنى ولا يحول ولا

ص: 270

تنسخه شيخوخة ولا فناء وهم كذلك لا ينامون، فإن النوم والموت فيما بيننا أخوان.

روى ابن مردوية من حديث سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم[النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون]

وهذا الذي ذكرناه من دوام حياة أهل الجنة ونعيمهم وسرورهم وشبابهم وانتفاء الموت والنوم والأسقام والأحزان والتعب والنصب عنهم هو ما علم بالاضطرار من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

ولكن جهما قبحه الله قضى بفناء الجنة وأهلها محتجاً بأن كل ما له ابتداء لابد أن يكون له انتهاء ، وبأن تسلسل في الحوادث كما هو ممتنع في الماضي، فكذلك في المستقبل فلابد أن يأتي وقت لا يكون فيه إلا الله وحده تفنى الجنة والنار وأهلهما.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية (وهذا قاله جهم لأصله الذي اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهي من الحوادث، وهو عمدة أهل الكلام التي استدلوا بها على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يخل من الحوادث. وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم فرأى الجهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنع في المستقبل، فدوام الفعل عنده ممتنع على الرب تبارك وتعالى في المستقبل كما هو ممتنع عليه في الماضي. وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة وافقه على هذا الأصل، لكن قال إن هذا يقتضي فناء الحركات لكونها متعاقبة شيئاً بعد شيء. فقال بفناء حركات أهل الجنة والنار حتى يصيروا في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة)

ص: 271

وقال الجهم وأبو الهذيل ومن وافقهما في امتناع دوام فاعلية الرب في الماضي والمستقبل جميعاً أنه لولا القول بحدوث العالم وامتناع التسلسل لما كان لنا طريق إلى إثبات وجود الله عز وجل، فإن إثباته إنما هو طريق حدوث العالم المحوج له إلى محدث يخرجه من العدم إلى الوجود، فوقعوا بهذا بين أمرين أحدهما مر فهم إما جاحدون منكرون لوجود الله تعالى، وإما منكرون لحقائق الإيمان الثابتة المعلوم ثبوتها بالضرورة.

ص: 272