الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
النقول المستفيضة عن ابن تيمية في إنكاره قد العالم، والفرق بين قوله وقول الفلاسفة
-
الفرق بين قول ابن تيمية وبين قول الفلاسفة:
نسب كثيرون إلى شيخ الإسلام أنه يقول بقدم العالم وأنه وافق في ذلك ابن سينا والفارابي وابن رشد الحفيد.
والجواب على هذا:
أن هناك فرقاً بين قول الفلاسفة وقول ابن تيمية فالفلاسفة يقولون بحدوث ما سوى الله لكن بمعنى الاحتياج إلى الغير لا بمعنى سبق العدم عليه ومعنى الاحتياج إلى الغير أي ان قدم هذا العالم مستند إلى قدمه تعالى أي فقدمه تعالى أوجب قدم هذا العالم وهكذا زعموا قبحهم الله وهو كفر بإجماع المسلمين ولأجل هذا القول كفروا:
بثلاثة كفر الفلاسفة العدا
…
إذ أنكروها وهي حقاً مثبته
علم بجزئي، حدوث عوالم
…
حشر لأجساد وكانت ميته (1)
فالفلاسفة عندهم ان الحادث قسمان والقديم قسمان:
أولاً: الحادث قسمان هما:
1-
حادث بالذات وهو ما يحتاج في وجوده إلى مؤثر
سواء سبقه عدم كأفراد الإنسان
…
أم لم يسبقه عدم كالأفلاك
فإنها تحتاج في وجودها لمؤثر
…
فإنها محتاجة في وجودها لمؤثر
وقد سبقها العدم
…
ولم يسبقها عدم.
2-
حادث بالزمان وهو ما سبق وجوده العدم كأفراد الإنسان
(1)
…
انظر شرح الخريدة مع حاشية الصاوي ص30، وشرح البيجوري على الجوهرة ص68
ثانياً: القديم قسمان هما:
1-
قديم بالذات وهو ما لا يحتاج في وجوده لمؤثر كذات المولى
2-
قديم بالزمان وهو نوعان:
الذي لم يسبقه عدم كذات المولى
ما احتاج في وجوده لمؤثر كالأفلاك فإنها عندهم لم يسبقها عدم لأنها ناشئة عن العقول بطريق العلة ويقولون ان واجب الوجود سبحانه وتعالى واحد من كل جهة فلا قدرة له ولا إرادة ولا صفة له زائدة على الذات والواحد من كل جهة إنما ينشأ عنه واحد بطريق العلة فالواحد الذي ينشأ عنه يقال له العقل الأول ثم إن ذلك العقل متصف بالإمكان من حيث إن الغير أثر فيه وبالوجوب لعلته فهو قديم لعلته حادث باعتبار ذاته فنشأ عنه باعتبار الجهة الأولى عقل ثان ونشأ عنه من الجهة الثانية فلك أول وهو المسمى في لسان الشرع بالعرش، ثم ان هذا العقل الثاني متصف بإمكان من حيث إن الغير أثر فيه وهو العقل الأول وبالوجوب لعلته فهو حادث لذاته قديم لعلته فنشأ عنه باعتبار الجهة الأولى فلك ثان وهو المسمى في لسان الشرع بالكرسي وباعتبار الجهة الثانية عقل ثالث مدبر لذلك الفلك الثاني ثم إن ذلك العقل الثالث متصف بالإمكان من حيث إن الغير أثر فيه وبالوجوب من حيث علته فنشأ عنه من الجهة الأولى فلك ثالث وهو المسمى السماء السابعة ونشأ عنه من الجهة الثانية عقل رابع مدبر لذلك الفلك الثالث وهكذا إلى سماء الدنيا فتكاملت الأفلاك تسعة والعقول عشرة ويسمون العقل المدبر لفلك القمر وهو سماء الدنيا بالعقل الفياض لإفاضته على ما تحت فلك القمر من أنواع
الحيوانات والنباتات والمعادن وبهذا ظهر لك وجه قولهم إن الأفلاك حادثة بالذات قديمة بالزمان وأنه لا أول لها تبعاً لعلتها لأن المعلول يقارن علته ومثلها في ذلك العقول وسائر الأنواع من الحيوان والنباتات والمعادن وأما أفرادها فهي حادثة ذاتاً وزماناً اهـ.
وقول الفلاسفة: ان الرب لا اختيار له كفر (1) ا 0 هـ.
وعلى ضوء ما سبق يكون:
1-
ان أفراد الإنسان حادثة بالذات والزمان معاً.
2-
الأفلاك حادثة بالذات قديمة بالزمان
والخلاصة يمكن أن نتصور الأقوال من خلال هذا الجدول.
كان مع الخلق
…
مذ كان الله فهو الفعال
…
كان ثم خلق
وهذا قول الفلاسفة
…
وهذا قول أهل السنة
…
وهذا قول المتكلمين
وأنقل ما قاله الشيخ خليل هراس في كتابه ابن تيمية السلفي ص162 توضيحاً لما سبق: " ويقولون (الفلاسفة) إنه علة تامة في الأزل فيجب أن يقارنها معلولها في الأزل في الزمن وإن كان متقدماً عليها بالعلة لا بالزمان ويقولون إن العلة التامة ومعلولها يقترنان في الزمان ويتلازمان فلا يوجد معلول إلا بعلة تامة ولا تكون علة تامة إلا مع معلولها في الزمان ثم يعترفون بأن حوادث العالم
(1)
…
انظر في ذلك حاشية الدسوقي على شرح أم البراهين للسنوسي ص70، وحاشية الصاوي على شرح الخريدة للدردير ص28.
حدثت شيئاً بعد شيء من غير أن يتجدد من المبدع الأول ما يوجب أن يصير علة للحوادث المتعاقبة بل حقيقة قولهم إن الحوادث حدثت بلا محدث وكذلك عدمت بعد حدوثها من غير سبب يوجب عدمها على أصلهم، وهؤلاء قابلهم طوائف من أهل الكلام ظنوا أن المؤثر التام يتراخى عنه أثره وأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وأن الحوادث لها ابتداء وقد حدثت بعد أن لم تكن بدون سبب حادث.
ولم يهتد الفريقان للقول الوسط وهو أن المؤثر التام مستلزم أن يكون أثره عقب تأثيره لا مع التأثير ولا متراخياً عنه كما قال تعالى {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}
فهو سبحانه يكون كل شيء فيكون عقب تكوينه لا مع تكوينه في الزمان ولا متراخياً عن تكوينه كما يكون الانكسار عقب الكسر والانقطاع عقب القطع ووقوع الطلاق عقب التطليق لا متراخياً عنه ولا مقارناً له في الزمان (1) .
ومعنى هذا صراحة أن ابن تيمية لا يقول بمقارنة العالم لله حتى يكون قديماً معه كما يقول الفلاسفة ولا يقول بتراخيه عنه في الزمان حتى يكون متراخياً عنه كما يقول المتكلمون، بل يرى أنه متصل به بمعنى أنه حاصل عقب إرادته له وهو سبحانه مستتبع له استتباع المؤثر لأثره.
اعتراضات الفلاسفة على المتكلمين:
الفلاسفة القائلون بقدم العالم اعترضوا على المتكلمين القائلين بحدوثه، والمانعين لتسلسل الآثار في الماضي باعتراضين:
(1)
…
وقد نقله من الفتاوى (9/282) .
أحدهما: قولهم بامتناع الترجيح بلا مرجح.
والثانية: قولهم بأن المؤثر التام يستلزم أثره.
- الاعتراض الأول:
قال الفلاسفة للمتكلمين: إن في قولكم عن الله إنه لم يكن قادراً ثم صار قادراً: ترجيحاً لأحد طرفي الممكن بلا مرجح، والترجيح لابد له من مرجح تام يجب به، ثم قالوا: والقول بوجود سبب يقتضي الترجيح يحتاج إلى سبب آخر، وهكذا إلى غير نهاية، فليزم التسلسل؛ وهو ممتنع عندكم
هذا هو الاعتراض الأول، وهو واحد من مقدمتين هما عمدة الفلاسفة في القول بقدم العالم، وملخص هذا الاعتراض: قول الفلاسفة: الترجيح لابد له من مرجح تام يجب به.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (1) رحمه الله أن هذا الاعتراض (هو أصعب المواضع على المتكلمين في بحثهم مع الفلاسفة في مسألة حدوث العالم وهذه الشبهة أقوى شبهة للفلاسفة؛ فإنهم لما رأوا أن الحدوث يمتنع إلا بسبب حادث، قالوا: والقول في ذلك الحادث، كالقول في الأول)
- فما هي إجابة المتكلمين على هذا الاعتراض؟
تنوعت إجابات المتكلمين على هذا الاعتراض
(1) الصفدية (1/122) وفيه صرح ان هذا هو حجة الفلاسفة على قدم العالم وفصل الرد عليهم في ص 131، وانظر شرح العقيدة الأصفهانية ص71، وكذلك صرح بذلك مراراً في دراء التعارض ومنهاج السنة. .
أ- فبعضهم أجاب (بأن المرجح هو القدرة، أو الإرادة القديمة، أو العلم القديم أو إمكان الحدوث، ونحو ذلك)
لكن الفلاسفة لم يقبلوا هذه الأجوبة، وقالوا: كلها غير مفيدة؛ لأن هذه الأمور إن لم يحدث بسببها سبب حادث، لزم الترجيح بلا مرجح وإن حدث سبب حادث؛ فالكلام في حدوثه، ككلام في حدوث ما حدث به.
فإن لم يوجد بسبب القدرة القديمة، أو الإرادة القديمة، أو العلم القديم، أو إمكان الحدوث سبب حادث: كان الأمر ترجيحاً بلا مرجح.
والحق أن قول جمهور الأشعرية أن المرجح هو الإرادة القديمة: قول ضعيف جداً؛ لأنهم ذكروا للإرادة القديمة ثلاثة لوازم، والثلاثة تناقض الإرادة:
- قالوا: أنها تكون ولا مراد لها، ثم لا تزال على نعت واحد حتى يحدث مرادها من غير تحول حالها؛ فتوجد الحوادث بلا سبب أصلاً
- قالوا: إنها ترجح مثلاً على مثل دون سبب مرجح
- قالوا: إنها يتخلف عنها مرادها مع وجود القدرة؛ فتتقدم على المراد تقدماً لا أول له.
وهذه اللوازم الثلاثة تناقض القدرة.
ب وكثير من المتكلمين جوز ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عنهم: " كثير من أهل الكلام يختار الترجيح بلا مرجح بناءً على أن القادر المريد يرجح بقدرته، او بالقدرة
والداعي، أو أن الإرادة نفسها ترجح أحد المثلين على الآخر.
وبهذا الجواب أجابهم جمهور المعتزلة والأشعرية والكرامية، ومن وافق هؤلاء من أصحاب الأئمة الأربعة، وهو أحد جوابي الغزالي في تهافت الفلاسفة، وبه أجاب الآمدي، وغيره ".
ومعلوم أن صنيع هؤلاء متفق على امتناعه عند عامة العقلاء؛ إذ انتفاء ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وبطلانه مما اتفق عليه العقلاء
ج -
…
" وعدل آخرون إلى الإلزام، فقالوا: هذا يقتضي أن لا يحدث في العالم حادث والحس يكذبه "
وقد رد عليهم الفلاسفة بأن هذا الذي ذكرتموه إنما يلزم إذا كان التسلسل باطلاً، " وأنتم تقولون بإبطاله وأما نحن فلا نقول بإبطاله وإذا كان الحدوث موقوفاً على حوادث متجددة زال هذا المحذور "
فأعلمهم الفلاسفة أن هذا الجواب يكون ملزماً لهم لو كانوا يمنعون التسلسل مثلهم، ولكن لما كانوا يجيزون التسلسل، لم يكن هذا الجواب ملزماً لهم.
فهذه الشبهة - كما ذكر شيخ الإسلام - هي أقوى شبهة للفلاسفة والمتكلمون لم يستطيعوا الإجابة عليها بإجابات شافية؛ لذلك لم يستطيعوا التخلص من المأزق الذي أوقعهم فيه الفلاسفة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم؛ يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث. ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع، وقال لهم الناس: هذا ينقض الأصل الذي أثبتم به الصانع؛ وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا
بمرجح؛ فإذا كانت الأوقات متماثلة، والفاعل على حال واحدة لم يتجدد فيه شيء أزلاً وأبداً ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه، كان ذلك ترجيحاً بلا مرجح ".
وهذا مما يثبت تناقض أصحاب هذا الدليل في دليلهم، بل وفي مقدماته.
ففي إثبات الصانع جل وعلا: استدلوا بأن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح؛ فيفتقر إلى مرجح خارج عنه؛ وهو الواجب الوجود تبارك وتعالى الذي يرجح وجوده على عدمه فيخرجه من العدم إلى الوجود.
فأوجبوا وجود مرجح يرجح أحد طرفي الممكن على الآخر.
وهنا جوزوا ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح؛ فناقضوا أنفسهم بأنفسهم، ونقضوا بصنيعهم دليلهم الذي اثبتوا به الصانع جل وعلا.
أما عن موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من اعتراض الفلاسفة الأول، وإجابة المتكلمين عليه؛ فقد وجه نقداً للفلاسفة ونصيحة للمتكلمين.
أما نقده للفلاسفة، فهو قوله عنهم:"فهؤلاء الفلاسفة أنكروا على المتكلمين -نفاة الأفعال القائمة به- أنهم أثبتوا حدوث الحوادث بدون سبب حادث، مع كون الفاعل موصوفاً بصفات الكمال وهم أثبتوا حدوث الحوادث كلها بدون سبب حادث ولا ذات موصوفة بصفات الكمال بل حقيقة قولهم: أن الحوادث تحدث بدون محدث فاعل؛ إذ كان مصرحين بأن العلة التامة الأزلية يجب أن يقارنها معلولها؛ فلا يبقى للحوادث فاعل أصلاً لا هي ولا غيرها، فعلم أن قولهم أعظم تناقضاً من قول المعتزلة ونحوهم، وأن ما ذكروه من الحجة في قدم العالم هو على حدوثه أدل منه على قدمه باعتبار كل واحدة من مقدمتي حجتهم "
فتبين أن الفلاسفة أشد تناقضاً من المتكلمين، وأنهم ما ألزموا المتكلمين بشيء إلا وفي مذهبهم ما هو أشد إلزاماً لهم.
وأما عن النصيحة التي وجهها ابن تيمية رحمه الله إلى المتكلمين؛ فقد وجهها على لسان مثبتي قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى، وهي نصيحة مشتملة على نقد ضمني، فكأنه يقول لهم من خلاله: لو أثبتم قيام أفعال الله الاختيارية به جل وعلا لما جرى عليكم ما جرى، ولتخلصتم من المأزق الذي أوقعتم أنفسكم فيه بنفيكم قيام هذه الأفعال بالله دجل وعلا. يقول شيخ الإسلام رحمه الله:" قال هؤلاء المثبتة لقيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى: وعلى أصلنا يبطل كلام الفلاسفة؛ فإنه يقال لهم: أنتم تجوزون قيام الحوادث بالقديم؛ إذ الفلك قديم عندكم، والحركات تقوم به، وتجوزون حوادث لا أول لها وتعاقب الحركات على الشيء لا يستلزم حدوثه وإذا كان كذلك: فلم يجوز أن يكون الخالق للعالم له أفعال اختيارية تقوم به يحدث بها الحوادث، ولا يكون تسلسلها وتعاقبها دليلاً على حدوث ما قامت به "
وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله أن قول المتكلمين بترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح سبب استطالة الفلاسفة والملاحدة عليهم.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله مخاطباً المتكلمين: " أنتم تقولون: إن الرب كان معطلاً في الأزل، لا يتكلم ولا يفعل شيئاً، ثم أحدث الكلام والفعل بلا سبب حادث اصلاً، فلزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح. وبهذا استطالت عليكم الفلاسفة - وخالفتم أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة في ذلك - وظننتم أنكم أقمتم الدليل على حدوث العالم بهذا؛ حيث ظننتم أن ما لا يخلو
عن نوع الحوادث يكون حادثاً؛ لامتناع حوادث لانهاية لها.
وهذا الأصل ليس معكم به كتاب ولا سنة ولا أثر عن الصحابة والتابعين، بل الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة والقرابة وأتباعهم بخلاف ذلك "
فالمقصود أن المتكلمين لما قالوا إن الله لم يزل معطلاً عن الفعل والكلام حتى أحدث العالم بلا سبب أصلاً، " بل نفس القادر المختار يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح أصلاً، كالجائع إذا قدم له رغيفان، والهارب إذا عنّ له طريقان "؛ أطمعوا القائلين بقدم العالم فيهم؛ فاعتقد القائلون بقدم العالم أنهم إذا أثبتوا امتناع حدوث العالم بعد دوام التعطيل الذاتي، فقد قطعوا هؤلاء وأثبتوا قدم العالم وقدم هذه الأفلاك.
- الإعتراض الثاني:
قال الفلاسفة للمتكلمين: إن المؤثر التام يستلزم أثره، والعلة التامة تستلزم معلولها.
وهذا الاعتراض هو ثاني مقدمتي حجة الفلاسفة على قدم العالم، إذ قالوا العلة التامة الأزلية يجب أن يقارنها معلولها، فيكون العالم بما فيه من أفلاك أزلياً.
وهذا يلزم منه أن لا يكون في العالم شيئاً محدثاً، بل الكل قديم وهذا خلاف المحسوس.
هذا هو الاعتراض الثاني
وقد أجاب عنه المتكلمون بأن " المؤثر التام يجوز، بل قد يجب أن يتراخى عنه أثره، فقالوا: البارى كان في الأزل مؤثراً تاماً، وتراخى عنه أثره "
وقد رد عليهم بأن هذا باطل، لأنه يلزم منه: " أن يصير المؤثر مؤثراً تاماً بعد
أن لم يكن مؤثراً تاماً بدون سبب حادث، أو أن الحوادث تحدث بدون مؤثر تام، وأن الممكن يرجح وجوده على عدمه بدون المرجح التام "
وهذا كله باطل.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن الجواب عن شبهة العلة التامة، وقول المتكلمين: إنه يجب أن يتراخى عنها معلولها جواب غير صحيح، كما أن قول الفلاسفة عن هذه العلة: إنه يجب أن يقارنها معلولها بالزمان قول باطل أيضاً.
والجواب الصحيح هو قول ثالث، وهو:" أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر، فيكون عقبه، لا مقارناً له، ولا متراخياً عنه؛ كما يقال: كسرت الإناء فانكسر، وقطعت الحبل فانقطع، وطلقت المرأة فطلقت، وأعتقت العبد فعتق، قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} فإذا كون شيئاً، كان عقب تكوين الرب له، لا يكون مع تكوينه، ولا متراخياً عنه وقد يقال: يكون مع تكوينه؛ بمعنى أنه يتعقبه لا يتراخى عنه، وهو سبحانه ما شاء كان ووجب بمشيئته وقدرته، وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته له، وعلى هذا فكل ما سوى الله تعالى لا يكون إلا حادثاً مسبوقاً بالعدم؛ فإنه يجب أن يكون عقب تكوينه له؛ فهو مسبوق بغيره سبقاً زمانياً، وما كان كذلك لا يكون إلا محدثاً، والمؤثر التام يستلزم وجود أثره عقب كمال التأثير التام ".
فليس القول بوجوب مقارنة العلة لمعلولها قولاً صحيحاً، ولا بوجوب تراخيها عنه كذلك.
وقول الفلاسفة بمقارنة العلة لمعلولها: " يوجب أن لا يحدث في العالم شيء وهو خلاف المشاهدة؛ فقد قالوا بما يخالف الحس والعقل وأخبار الأنبياء "
وهو من أعظم الباطل المخالف لدين الرسل عليهم الصلاة والسلام (1) ا 0هـ
وبهذا نعلم ان شيخ الإسلام انما يجيز التسلسل في الآثار وهذا النوع من التسلسل جائز عند أكثر العقلاء؛ من أئمة أهل الملل، وأئمة الفلاسفة، وغيرهم.
وليس يُفهم من هذا وجود المفعولات أزلاً مع الله تعالى؛ فما من مفعول إلا وهو حادث كائن بعد أن لم يكن؛ " فليس مع الله في الأزل شيء من المفعولات؛ إذ كان كل منهما حادثاً بعد أن يكن، والحادث بعد أن لم يكن لا يكون مقارناً للقديم الذي لم يزل.
والسلف رحمهم الله يجيزون هذا النوع من التسلسل، ويرون أن إثباته ضروري لإثبات أفعال الله تعالى الاختيارية.
وعلى هذا النوع يشهد قولهم: لم يزل الله فاعلاً بمشيئته وقدرته، أولم يزل متكلماً بمشيئته وقدرته، ولا نهاية لكلماته؛ كما أخبر جل وعلا {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً} .
لهذا يقول السلف رحمهم الله عن أفعال الله الاختيارية: لم يزل يفعل كذا؛ يريدون بذلك قدم النوع، وتجدد الآحاد، لا بمعنى وجود المفعولات معه جل وعلا أزلاً؛ فإن القول بوجود المفعولات أو المخلوقات مع الله تعالى أزلاً ليس من أقوال المسلمين.
(1) من الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات د 0 عبد القادر صوفي.
فهذا هو التسلسل في الآثار الذي أجازه السلف رحمهم الله، وأكثر العقلاء، وشهد بصحته العقل الصريح.
النقول عن ابن تيمية في إنكار ما نسب إليه:
إن خير من يدافع عن المتهم هو المتهم نفسه ولهذا جعلت هذا المبحث لنقول ابن تيمية في إنكار ما نسب إليه من القول بقدم العالم وان الله موجب بالذات لا فاعلاً بالاختيار، وسيذكر قول المتكلمين أهل التراخي، وقول الفلاسفة أهل المقارنة، وقول أهل الحديث وهو ان الله لم يزل فعالاً، وفي أثناء ذلك يذكر المسائل المتعلقة بالموضوع كحدوث العالم، وكلام الله ونحو ذلك، وقد نقلنا هذه النقولات من الفتاوى، والدرء، والمنهاج، وله في الصفدية كذلك إلا أننا تركناه خشية الإطالة.
يقول شيخ الإسلام في المجلد الخامس من الفتاوى ص537
وأما (المقدمة الثانية) : وهو منع دوام نوع الحادث فهذه يمنعها أئمة السنة والحديث القائلين بأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته؛ وأن كلماته لا نهاية لها؛ والقائلين بأنه لم يزل فعالاً؛ كما يقوله البخاري وغيره؛ ويمنعها أيضاً جمهور الفلاسفة، ولكن الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية يقولون بامتناعها وهي من الأصول الكبار التي يبتني عليها الكلام في كلام الله تعالى وفي خلقه.
وهذا القول هو أصل الكلام المحدث في الإسلام الذي ذمه السلف والأئمة؛ فإن أصحاب هذا الكلام في الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم ظنوا أن معنى كون الله خالقاً لكل شيء - كما دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم - أنه سبحانه وتعالى لم يزل معطلاً. لا
يفعل شيئاً ولا يتكلم بشيء أصلاً، بل هو وحده موجود بلا كلام يقوله ولا فعل يفعله ثم أنه أحدث ما أحدث من كلامه ومفعولاته المنفصلة عنه فأحدث العالم. وظنوا ان ما جاءت به الرسل واتفق عليه أهل الملل - من أن كل ما سوى الله مخلوق، والله خالق كل شيء - هذا معناه وإن ضد هذا قول من قال بقدم العالم أو بقدم مادته، فصاروا في كتبهم الكلامية لا يذكرون إلا قولين:
(احدهما) : قول المسلمين وغيرهم من أهل الملل أن العالم محدث، ومعناه عندهم ما تقدم.
(والثاني) : قول الدهرية الذين يقولون: العالم قديم، وصاروا يحكمون في كتب الكلام والمقالات ان مذهب أهل الملل قاطبة من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم ان الله كان فيما لم يزل لا يفعل شيئاً، ولا يتكلم بشيء،
ثم إنه احدث العالم؛ ومذهب الدهرية ان العالم قديم.
والمشهور عن القائلين بقدم العالم أنه لا صانع له؛ فينكرون الصانع جل جلاله. وقد ذكر أهل المقالات أن أول من قال من الفلاسفة بقدم العالم " أرسطو " صاحب التعاليم الفلسفية: المنطقي والطبيعي والإلهي. وأرسطو وأصحابه القدماء يثبتون في كتبهم العلة الأولى، ويقولون: إن الفلك يتحرك للتشيبه بها؛ فهي علة له بهذا الاعتبار، إذ لولا وجود من تشبه به الفلك لم يتحرك، وحركته من لوازم وجوده، فلو بطلت حركته لفسد ولم يقل أرسطو: إن العلة الأولى أبدعت الأفلاك؛ ولا قال هو موجب بذاته، كما يقوله من يقول من متأخري الفلاسفة كابن سينا وأمثاله، ولا قال: أن الفلك قديم وهو ممكن بذاته؛ بل كان عندهم ما عند سائر العقلاء ان الممكن هو الذي يمكن وجوده
وعدمه، ولا يكون كذلك إلا ما كان محدثاً، والفلك عندهم ليس بممكن بل هو قديم لم يزل وحقيقة قولهم أنه واجب لم يزل ولا يزال.
فلهذا لا يوجد في عامة كتب الكلام المتقدمة القول بقدم العالم، إلا عمن ينكر الصانع، فلما أظهر من أظهر من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله أن العالم قديم عن علة موجبة بالذات قديمة، صار هذا قولا آخر للقائلين بقدم العالم أزالوا به ما كان يظهر من شناعة قولهم من إنكار صانع العالم، وصاروا أيضاً يطلقون ألفاظ المسلمين من انه مصنوع ومحدث ونحو ذلك، ولكن مرادهم بذلك أنه معلول قديم أزلي لا يريدون بذلك، أن الله أحدث شيئاً بعد ان لم يكن، وإذا قالوا: ان الله خالق كل شيء، فهذا معناه عندهم؛ فصار المتأخرون من المتكلمين يذكرون هذا القول، والقول المعروف عن أهل الكلام في معنى حدوث العالم الذي يحكونه عن أهل الملل كما تقدم، كما يذكر ذلك الشهرستاني والرازي والآمدي وغيرهم.
وهذا الأصل الذي ابتدعه الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام من امتناع دوام فعل الله، وهو الذي بنوا عليه أصول دينهم، وجعلوا ذلك أصل دين المسلمين، فقالوا: الأجسام لا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، لأن ما لا يخلو عنها ولا يسبقها يكون معها أو بعدها، وما كان مع الحوادث أو بعدها فهو حادث.
وكثير منهم لا يذكر على ذلك دليلاً لكون ذلك ظاهراً (1) ، إذ لم يفرقوا بين
(1)
…
وانظر درء التعارض (1/303) .
نوع الحوادث وبين الحادث المعين، لكن من تفطن منهم للفرق، فإنه يذكر دليلاً على ذلك بأن يقول: الحوادث لا تدوم بل يمتنع وجود حوادث لا أول لها، ومنهم من يمنع أيضاً وجود حوادث لا آخر لها، كما يقول ذلك إماما هذا الكلام: الجهم بن صفوان وأبو الهذيل.
ولما كان حقيقة هذا القول ان الله سبحانه لم يكن قادراً على الفعل في الأزل؛ بل صار قادراً على الفعل بعد أن لم يكن قادراً عليه؛ كان هذا مما أنكره المسلمون على هؤلاء، حتى انه كان من البدع التي ذكروها: من بدع الأشعري في الفتنة التي جرت بخراسان لما اظهروا لعنة أهل البدع، والقصة مشهورة.
فيقال " لأرسطو واتباعه " ممن رأى دوام الفاعلية ولوازمها: العقل الصريح لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم: لا فلك ولا غيره؛ وإنما يدل على أن الرب لم يزل فاعلاً. وحينئذ فإذا قدر أنه لم يزل يخلق شيئاً بع شيء كان كل ما سواه مخلوقاً محدثاً مسبوقاً بالعدم، ولم يكن من العالم شيء قديم، وهذا التقدير ليس معكم ما يبطله فلماذا تنفونه؟ !
وإذا كان مدلول الدليل العقلي انه لابد أنه قديم تقوم به الأفعال شيئاً بعد
شيء، فهذا إنما يناقض قول المبتدعة من أهل الملل الذين ابتدعوا الكلام المحدث - الذي ذمه السلف والأئمة - الذين قالوا: إن الرب لم يزل معطلاً عن الفعل والكلام. فصار ما علمته العقلاء من أصناف الأمم من الفلاسفة وغيرهم بصريح المعقول هو عاضد وناصر لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على من ابتدع في ملته ما يخالف أقواله.
وكان ما علم بالشرع مع صريح العقل أيضاً زاد لما يقوله الفلاسفة الدهرية من قدم شيء من العالم مع الله بل القول " بقدم العالم " قول اتفق جماهير العقلاء على بطلانه؛ فليس أهل الملة وحدهم تبطله، بل أهل الملل كلهم، وجمهور من سواهم من المجوس وأصناف المشركين: مشركي العرب، ومشركي الهند وغيرهم من الأمم، وجماهير أساطين الفلاسفة كلهم معترفون بأن هذا العالم محدث كائن بعد ان لم يكن، بل وعامتهم معترفون بأن الله خالق كل شيء، والعرب المشركون كلهم كانوا يعترفون بأن الله خالق كل شيء، وان هذا العالم كله مخلوق، والله خالقه وربه، وهذه الأمور مبسوطة في موضعها.
ويقول في المجلد السادس ص231
و" طائفة " يقولون: هب أنه يفتقر إلى فعل قبله، فلم قلتم: ان ذلك ممتنع؟ وقولكم: هذا تسلسل فيقال: ليس هذا تسلسلاً في الفاعلين، والعلل الفاعلة؛ فإن هذا ممتنع باتفاق العقلاء؛ بل هو تسلسل في الآثار والأفعال، وهو حصول شيء، وهذا محل النزاع " فالسلف " يقولون: لم يزل متكلماً إذا شاء؛ وقد قال تعالى {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماتي ربي ولو جئنا بمثله مددا} فكلمات الله لا نهاية لها، وهذا تسلسل جائز كالتسلسل في المستقبل فإن نعيم الجنة دائم نفاد له، فما من شيء إلا وبعده شيء لا نهاية له.
وأما قدم " الفاعلية " وهو: أنه ما زال فاعلاً، فيقال: هذا لفظ مجمل؛
فأنتم (1) تريدون بالفاعل أن مفعوله مقارن له في الزمان وإذا كان فاعلاً بهذا الاعتبار وجب مقارنة مفعوله له فلا يتأخر فعله، فهذه عمدتكم، والفاعل عند عامة العقلاء وعند سلفكم، وعندكم أيضاً - في غير هذا الموضع - هو الذي يفعل شيئاً فيحدثه، فيمتنع أن يكون المفعول مقارناً له بهذا الاعتبار ـ بل على هذا الاعتبار يجب تأخر كل مفعول له، فلا يكون في مفعولاته شيء قديم بقدمه، فيكون كل ما سواه محدث.
ثم للناس هنا طريقان:
" منهم " من يقول: يجب تأخر كل مفعول له، وأن يبقى معطلاً عن الفعل ثم يفعل، كما يقوله أهل الكلام المبتدع من أهل الملل، من الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم وهذا النفي يناقض دوام الفاعلية فهو يناقض موجب تلك الحجج.
و" الثاني ": أن يقال: ما زال فاعلاً لشيء بعد شيء، فكل ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن وهو وحده الذي اختص بالقدم والأزلية، فهو " الأول" القديم الأزلي ليس معه غيره، وانه ما زال يفعل شيئاً بعد شيء.
فيقال لهم: الحجج التي تقيمونها في وجوب قدم " الفاعلية " كما أنها تبطل قول أهل الكلام المحدث فهي أيضاً تبطل قولكم؛ وذلك أنها لو دلت على دوام الفاعلية بالمعنى الذي ادعيتم، للزم أن لا يحدث في العالم حادث؛ إذ كان المفعول المعلول عندكم يجب أن يقارن علته الفاعلية في الزمان، وكل ما
(1)
…
أي الفلاسفة.
سوى الأول مفعول معلول له، فتحدث مقارنة كل ما سواه فلا يحدث في العالم حادث وهو خلاف المشاهدة والمعقول، وباطل باتفاق بني آدم كلهم، مخالف للحس والعقل.
وأيضاً إذا وجب في العلة يقارنها معلولها في الزمان فكل حادث يجب أن يحدث مع حدوثه حوادث مقترنة في الزمان، لا يسبق بعضها بعضاً ولا نهاية لها، وهذا قول بوجود علل لا نهاية لها؛ وهذا أيضاً باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء؛ ولا فرق بين امتناع ذلك في ذات العلة أو شرط من شروطها؛ فكما يمتنع ان يحدث عند كل حادث ذات علل لا تتناهى في آن واحد؛ وكذلك شروط العلة وتمامها فإنها إحدى جزئي العلة؛ فلا يجوز وجود ما لا يتناهى في آن واحد لا في هذا الجزء ولا في هذا الجزء؛ وهذا متفق عليه بين الناس وأما النزاع في " وجود مالا يتناهى على سبيل التعاقب " فقد زال جزء حجتهم ليس هو ما قالوه؛ بل موجبه هو " القول الآخر " وهو: أن الفاعل لم يزل يفعل شيئاً بعد شيء، وحينئذ كل مفعول محدث كائن بعد ان لم يكن وهذا نقيض قولهم، بل هذا من أبلغ ما يحتج به على ما أخبرت به الرسل من أن الله خالق كل شيء؛ فإنه بهذا يثبت أنه لا قديم إلا الله، وانه كل ما سواه كائن بعد ان لم يكن سواء سمى عقلاً أو نفساً أو جسماً أو غير ذلك.
بخلاف دليل أهل الكلام المحدث على الحدوث؛ فإنهم قالوا: لو كان صحيحاً لم يدل إلا على حدوث الأجسام، ونحن أثبتنا موجودات غير العقول، و" أهل الكلام " لم يقيموا دليلاً على انتفائها، وقد وافقهم على ذلك المتأخرون: مثل الشهر ستاني، والرازي، والآمدي وادعوا أنه لا دليل للمتكلمين على نفي هذه
الجواهر العقلية، ودليلهم على حدوث الأجسام لم يتناولها؛ ولهذا صار الذين زعموا أنهم يجيبونهم " بالجواب الباهر " إلى ما تقدم ذكره من التناقض؛ فقد تبين أن نفس ما احتجوا به يدل على فساد قولهم، وفساد قول المتكلمين، ويدل على حدوث كل ما سوى الله وانه وحده القديم، دلالة صحيحة لا مطعن فيها.
فقد تبين - ولله الحمد - ان عمدتهم على قدم العالم إنما تدل على نقيض قولهم، وهو: حدوث كل ما سوى الله - ولله الحمد والمنة -
ويقول في المجلد الثامن ص 380 وما بعده
وأما كون ذلك يستلزم قيام الأمور الاختيارية بذاته فهذا قول السلف وأئمة الحديث والسنة كثير من أهل الكلام.
وأما كون ذلك يستلزم التسلسل في المستقبل فإنه إذا خلق شيئاً لحكمة توجد بعد وجوده وتلك الحكمة لحكمة أخرى لزم التسلسل في المستقبل فهذا جائز عند المسلمين وغيرهم ممن يقول بدوام نعيم أهل الجنة وإنما يخالف في ذلك من شك: كالجهم بن صفوان الذي يقول: بفناء الجنة والنار وكأبي الهذيل الذي يقول: بانقطاع حركات أهل الجنة والنار. فإن هذين ادعيا امتناع وجود مالا يتناهى في الماضي والمستقبل، وخالفهم جماهير المسلمين.
و (الجواب الثاني) : أن يقال التسلسل نوعان:
(احدهما) في الفاعلين، وهو أن يكون لكل فاعل فاعل. فهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء.
و (الثاني) التسلسل في الآثار؛ مثل أن يقال: ان الله لم يزل متكلماً إذا شاء ويقال: ان كلمات الله لا نهاية لها فهذا التسلسل يجوزه أئمة أهل الملل، وأئمة الفلاسفة ولكن الفلاسفة (1) يدعون قدم الأفلاك. وإن حركات الفلك لا بداية لها ولا نهاية لها وهذا كفر مخالف لدين الرسل وهو باطل في صريح المعقول.
وكذلك القول: بأن الرب لم يكن يمكنه أن يتكلم ولا يفعل بمشيئته ثم صار يمكنه الكلام والفعل بمشيئته كما يقول ذلك الجهمية والقدرية. ومن وافقهم من أهل الكلام قول باطل. وهو الذي أوقع الاضطراب بين ملاحدة المتفلسفة
ومبتدعة أهل الكلام. في هذا الباب والكلام على هذه الأمور مبسوط في موضعه وهذه مطالب غالية. أنما يعرف قدرها من عرف مقالات الناس والاشكالات اللازمة على كل قول حتى أوقعت كثيراً من فحول النظار في بحور الشك والارتياب وهي مبسوطة في غير هذا الموضع.
ويقول في المجلد التاسع:
وكان أرسطو واتباعه يسمون " الرب " عقلاً وجوهراً، وهو عندهم لا يعلم شيئاً سوى نفسه ولا يريد شيئاً، ويسمونه " المبدأ " و " العلة الأولى " لأن الفلك عندهم متحرك للتشبه به أو متحرك للشبه بالعقل، فحاجة الفلك عندهم إلى العلة الأولى من جهة أنه متشبه بها كما يتشبه المؤتم بالإمام والتلميذ بالأستاذ وقد يقول: أنه يحركه كما يحرك المعشوق عاشقه، ليس عندهم أنه ابدع شيئاً
(1)
…
هذا هو قول الفلاسفة الذين يزعمون ان الشيء غير مسبوق بالعدم وهو كفر كما قال شيخ الإسلام.
ولا فعل شيئاً، ولا كانوا يسمونه واجب الوجود، ولا يقسمون الوجود إلى واجب وممكن، ويجعلون الممكن هو موجوداً قديماً أزلياً كالفلك عندهم.
وإنما هذا فعل ابن سينا وأتباعه وهم خالفوا في ذلك سلفهم وجميع العقلاء وخالفوا أنفسهم أيضاً فتناقضوا؛ فإنهم صرحوا بما صرح به سلفهم وسائر العقلاء من ان الممكن الذي يمكن أن يكون موجوداً وان يكون معدوماً، لا يكون إلا محدثاً مسبوقاً بالعدم.
وأما الأزلي الذي لم يزل ولا يزال فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء ان يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم، بل كل ما قبل الوجود والعدم لم يكن إلا محدثاً، وهذا مما يستدل به على ان كل ما سوى الله فهو محدث مسبوق بالعدم كائن بعد ان لم يكن، كما بسط في موضعه.
لكن ابن سينا ومتبعوه تناقضوا فذكروا في موضع آخر ان الوجود ينقسم إلى: واجب، وممكن، وان الممكن قد يكون قديماً أزلياً لم يزل ولا يزال يمتنع عدمه، ويقولون: هو واجب بغيره وجعلوا الفلك من هذا النوع؛ فخرجوا عن إجماع لعقلاء الذين وافقوهم عليه في إثبات شيء ممكن يمكن أن يوجد وان لا يوجد وانه مع هذا يكون قديماً أزليا أبدياً ممتنع العدم واجب الوجود بغيره فإن هذا ممتنع عند جميع العقلاء وذلك بين في صريح العقل لمن تصور حقيقة الممكن الذي يقبل الوجود والعدم كما بسط في موضعه.
وهؤلاء المتفلسفة إنما تسلطوا على المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم؛ لأن هؤلاء لم يعرفوا حقيقة ما بعث الله به رسوله. ولم يحتجوا لما نصروه بحجج صحيحة في المعقول. فقصر هؤلاء المتكلمون في معرفة السمع والعقل.
حتى قالوا: إن الله لم يزل لا يفعل شيئاً ولا يتكلم بمشيئة، ثم حدث ما حدث من غير تجدد سبب حادث، وزعموا دوام امتناع كون الرب متكلماً بمشيئته ثم حدث ما حدث من غير تجدد سبب حادث وزعموا دوام امتناع كون الرب متكلماً بمشيئته فعالاً لما يشاء؛ لزعمهم امتناع دوام الحوادث ثم صار أئمتهم كالجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف إلى امتناع دوامهما في المستقبل والماضي، فقال الجهم: بفناء الجنة والنار، وقال أبو الهذيل: بفناء حركاتهما، وأنهم يبقون دائماً في سكون، ويزعم بعض من سلك هذه السبيل أن هذا هو مقتضى العقل، وان كل ماله ابتداء فيجب أن يكون له انتهاء.
ولما رأوا الشرع قد جاء بدوام نعيم أهل الجنة كما قال تعالى: {أكلها دائم وظلها} وقال: {إن هذا لرزقنا ماله من نفاد} ظنوا أنه يجب تصديق الشرع فيما خالف فيه أهل العقل، ولم يعلموا أن الحجة العقلية الصريحة لا تناقض الحجة الشرعية الصحيحة، بل يمتنع تعارض الحجج الصحيحة سواء كانت عقلية أو سمعية أو سمعية وعقلية. بل إذا تعارضت حجتان دل على فساد إحداهما وفسادهما جميعاً.
وصار كثير منهم إلى جواز دوام الحوادث في المستقبل دون الماضي، وذكروا فروعاً عرف حذاقهم ضعفها كما بسط في غير هذا الموضع، وهو لزومهم أن يكون الرب كان غير قادر ثم صار قادراً من غير تجدد سبب يوجب كونه قادراً، وانه لم يكن يمكنه أن يفعل ولا يتكلم بمشيئته ثم صار الفعل ممكناً له بدون سبب يوجب تجدد الإمكان وإذا ذكر لهم هذا قالوا: كان في الأزل قادراً على ما لم يزل، فقيل لهم: القادر لا يكون قادراً مع كون المقدور ممتنعاً، بل القدرة
على الممتنع ممتنعة، وإنما يكون قادراً على ما يمكنه أن يفعله، فإذا كان لم يزل قادراً فلم يزل يمكنه أن يفعل.
ولما كان أصل هؤلاء هذا صاروا في كلام الله على ثلاثة أقوال.
(فرقة) قالت: الكلام لا يقوم بذات الرب بل لا يكون كلامه إلا مخلوقاً؛ لأنه إما قديم وإما حادث، ويمتنع أن يكون قديماً لأنه متكلم بمشيئته وقدرته، والقديم لا يكون بالقدرة والمشيئة، وإذا كان الكلام بالقدرة والمشيئة كان مخلوقاً لا يقوم بذاته، إذ لو قام بذاته كانت قد قامت به الحوادث والحوادث لا تقوم به، لأنها لو قامت به لم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، قالوا: إذ بهذا الأصل أثبتنا حدوث الأجسام، وبه ثبت حدوث العالم قالوا: ومعلوم أن ما لم يسبق الحادث لم يكن قبله إما معه وإما بعده، وما كان مع الحادث أو بعده فهو حادث.
وكثير منهم لم يتفطن للفرق بين نوع الحوادث وبين الحادث المعين، فإن الحادث المعين والحوادث المحصورة يمتنع أن تكون أزلية دائمة، وما لم يكن قبلها فهو إما معها وإما بعدها وما كان كذلك فهو حادث قطعاً وهذا لا يخفي على أحد.
ولكن موضع النظر والنزاع " نوع الحوادث " وهو أنه هل يمكن أن يكون النوع دائماً فيكون الرب لا يزال يتكلم أو يفعل بمشيئته وقدرته أم يمتنع ذلك؟ فلما تفطن لهذا الفرق طائفة قالوا: وهذا أيضاً ممتنع لامتناع حوادث لا أول لها، وذكروا على ذلك حججاً كحجة التطبيق، وحجة امتناع انقضاء مالا نهاية له وأمثال ذلك وقد ذكر عامة ما ذكر في هذا الباب وما يتعلق به في
مواضع غير هذا الموضع، ولكل مقام مقال.
وأولئك المتفلسفة لما رأوا أن هذا القول مما يعلم بطلانه بصريح العقل وأنه يمتنع حدوث الحوادث بدون سبب حادث، ويمتنع كون الرب يصير فاعلاً بعد أن لم يكن وان المؤثر التام يمتنع تخلف أثره عنه - ظنوا أنهم إذا أبطلوا هذا القول فقد سلم لهم ما ادعوه من " قدم العالم " كالأفلاك وجنس المولدات ومواد العناصر، وضلوا ضلالاً عظيماً خالفوا به صرائح العقول، وكذبوا به كل رسول.
فإن الرسل مطبقون على أن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد ان لم يكن ليس مع الله شيء قديم بقدمه، وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام والعقول الصريحة تعلم ان الحوادث لا بد لها من محدث، فلو لم تكن إلا العلة القديمة الأزلية المستلزمة لمعلولها لم يكن في العالم شيء من الحوادث فإن حدوث ذلك الحادث عن علة قديمة أزلية مستلزمة لمعلولها ممتنع فإنه إذا كان معلولها لازماً لها كان قديماً معها لم يتأخر عنها، فلا يكون لشيء من الحوادث سبب اقتضى حدوثه فتكون الحوادث كلها حدثت بلا محدث، وهؤلاء فروا من أن يحدثها القادر بغير سبب حادث، وذهبوا إلى أنها تحدث بغير محدث أصلاً لا قادر ولا غير قادر فكان ما فروا إليه شراً مما فروا منه وكانوا شراً من المستجير من الرمضاء بالنار.
واعتقد هؤلاء أن المفعول المصنوع المبتدع المعين كالفلك يقارن فاعله أزلاً وأبداً لا يتقدم الفاعل عليه تقدماً زمانياً وأولئك قالوا: بل المؤثر التام يتراخى عنه أثره ثم يحدث الأثر من غير سبب اقتضى حدوثه، فأقام الأولون
الأدلة العقلية الصريحة على بطلان هذا، كما أقام هؤلاء الأدلة العقلية الصريحة على بطلان قول الآخرين، ولا ريب ان قول هؤلاء أهل المقارنة أشد فساداً ومناقضة لصريح المعقول وصحيح المنقول من قول أولئك أهل التراخي.
(والقول الثالث) الذي يدل عليه المعقول الصريح ويقر به عامة العقلاء ودل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة لم يهتد له الفريقان: وهو أن المؤثر يستلزم وقوع أثره عقب تأثره التام لا يقترن به ولا يتراخى كما إذا طلقت المرأة فطلقت، وأعتقت العبد فعتق، وكسرت الإناء فانكسر، وقطعت الحبل فانقطع، فوقوع العتق والطلاق ليس مقارناً لنفس التطليق والإعتاق بحيث يكون معه، ولا هو أيضاً متراخ عنه بل يكون عقبه متصلا به، وقد يقال هو معه ومفارق له باعتبار أنه يكون عقبه متصلاً به، كما يقال: هو بعده متأخر عنه باعتبار إنما يكون عقب التأثير التام، ولهذا قال تعالى:{إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} فهو سبحانه يكون ما يشاء تكوينه فإذا كونه كان عقب تكوينه متصلاً به، لا يكون مع تكوينه في الزمان ولا يكون متراخياً عن تكوينه بينهما فصل في الزمان، بل يكون متصلاً بتكوينه كاتصال أجزاء الحركة والزمان بعضها ببعض.
وهذا مما يستدل به على أن كل ما سوى الله حادث كائن بعد أن لم يكن وان قيل مع ذلك بدوام فاعليته ومتكلميته، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
ويقول في المجلد الحادي عشر ص232
وهؤلاء يلبسون على المسلمين تلبيساً كثيراً، كاطلاقهم أن " الفلك " محدث؛ أي معلول مع انه قديم عندهم، والمحدث لا يكون إلا مسبوقاً بالعدم، ليس في لغة العرب ولا في لغة أحد أنه يسمى القديم الأزلي محدثاً، والله قد أخبر أنه خالق كل شيء؛ وكل مخلوق فهو محدث، وكل محدث كائن بعد ان لم يكن؛ لكن ناظرهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبرت به الرسل، ولا احكموا فيها قضايا العقول.
فلا للإسلام نصروا ولا للأعداء كسروا، وشاركوا أولئك في بعض قضاياهم الفاسدة، ونازعوهم في بعض المعقولات الصحيحة، فصار قصور هؤلاء في العلوم السمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
ويقول في المجلد الثاني عشر ص 42
واصل قول هؤلاء أن الأفلاك قديمة أزلية، وأن الله لم يخلقها بمشيئته وقدرته في ستة أيام كما أخبرت به الأنبياء.
ويقولون أنه علة تامة في الأزل؛ فيجب أن يقارنها معلولها في الأزل في الزمن وإن كان متقدماً عليها بالعلة لا بالزمان ويقولون إن العلة التامة ومعلولها يقترنان في الزمان ويتلازمان، فلا يوجد معلول إلا بعلة تامة، ولا تكون علة تامة إلا مع معلولها في الزمان، ثم يعترفون بأن حوادث العالم حدثت شيئاً بعد شيء من غير أن يتجدد من المبدع الأول ما يوجب أن يصير علة للحوادث المتعاقبة؛ بل حقيقة قولهم أن الحوادث حدثت بلا محدث، وكذلك عدمت
بعد حدوثها من غير سبب يوجب عدمها على أصلهم.
وهؤلاء قابلهم طوائف من أهل الكلام ظنوا أن المؤثر التام يتراخى عنه أثره، وأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، والحوادث لها ابتداء، وقد حدثت بعد أن لم تكن بدون سبب حادث ولم يهتد الفريقان للقول الوسط، وهو أن المؤثر التام مستلزم أن يكون أثره عقب تأثيره التام لا مع التأثير ولا متراخياً عنه، كما قال تعالى:{إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} فهو سبحانه يكون كل شيء فيكون عقب تكوينه لا مع تكوينه في الزمان، ولا متراخياً عن تكوينه، كما يكون الانكسار عقب الكسر والانقطاع عقب القطع، ووقوع الطلاق عقب التطليق لا متراخياً عنه ولا مقارناً له في الزمان.
والقائلون بالتراخي ظنوا امتناع حوادث لا تتناهى، فلزمهم أن الرب لا يمكنه فعل ذلك؛ فالتزموا أن الرب يمتنع أن يكون لم يزل متكلماً بمشيئته، ويمتنع أن يكون لم يزل قادراً على الفعل والكلام بمشيئته. فافترقوا بعد ذلك، منهم من قال: كلامه لا يكون إلا حادثاً؛ لأن الكلام لا يكون إلا مقدوراً مراداً، وما كان كذلك لا يكون إلا حادثاً وما كان حادثاً كان مخلوقاً منفصلاً عنه؛ لامتناع قيام الحوادث به، وتسلسلها في ظنهم.
ومنهم من قال: بل كلامه لا يكون إلا قائماً به، وما كان قائماً به لم يكن متعلقاً بمشيئته وإرادته، بل لا يكون إلا قديم العين؛ لأنه لو كان مقدوراً مراداً لكان حادثاً فكانت الحوادث تقوم به، ولو قامت به لم يسبقها ولم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث؛ لامتناع حوادث لا أول لها.
ومنهم من قال: بل هو متكلم بمشيئته وقدرته، لكنه يمتنع أن يكون متكلماً في الأزل، أو أنه لم يزل متكلماً بمشيئته وقدرته؛ لأن ذلك يستلزم وجود حوادث لا أول لها، وذلك ممتنع.
قالت " هذه الطوائف ": ونحن بهذا الطريق علمنا حدوث العالم؛ فاستدللنا على حدوث الأجسام بأنها لا تخلوا من الحوادث ولا تسبقها وما لم يسبق الحوادث فهو حادث، ثم من هؤلاء من ظن أن هذه قضية ضرورية ولم يتفطن لاجمالها، ومنهم من تفطن للفرق بين ما لم يسبق الحوادث المحصورة المحدودة وما يسبق جنس الحوادث المتعاقبة شيئاً بعد شيء، أما الأول فهو حادث بالضرورة؛ لأن تلك الحوادث لها مبدأ معين، فما لم يسبقها يكون معها أو بعدها وكلاهما حادث.
وأما جنس الحوادث شيئاً بعد شيء فهذا شيء تنازع فيه الناس، فقيل إن ذلك ممتنع في الماضي والمستقبل كقول الجهم وأبي الهذيل، فقال الجهم: بفناء الجنة والنار، وقال أبو الهذيل: بفناء حركات أهلهما وقيل: بل هو جائز في المستقبل دون الماضي؛ لأن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل وهو قول كثير من طوائف النظار، وقيل: بل هو جائز في الماضي والمستقبل وهذا قول أئمة أهل الملل وأئمة السنة كعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل، وغيرهما ممن يقول بأن الله لم يزل متكلماً إذا شاء؛ وأن كلمات الله لا نهاية لها وهي قائمة بذاته وهو متكلم بمشيئته وقدرته، وهو أيضاً قول أئمة الفلاسفة.
لكن أرسطو وأتباعه مدعون ذلك في حركات الفلك؛ ويقولون إنه قديم أزلي، وخالفوا في ذلك جمهور الفلاسفة مع مخالفة الأنبياء والمرسلين وجماهير
العقلاء. فإنهم متفقون على أن الله خلق السموات والأرض؛ بل هو خالق كل شيء، وكل ما سوى الله مخلوق حادث كائن بعد أن لم يكن، وإن القديم الأزلى هو الله تعالى بما هو متصف به من صفات الكمال وليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه؛ بل من قال عبدت الله ودعوت الله فإنما عبد ذاته المتصفة بصفات الكمال التي تستحقها، ويمتنع وجود ذاته بدون صفاتها اللازمة لها.
ثم لما تكلم في " النبوات " من اتبع أرسطو - كابن سينا وأمثاله - ورأوا ما جاءت به الأنبياء من إخبارهم بأن الله يتكلم، وأنه كلم موسى تكليماً، وأنه خالق كل شيء، أخذوا يحرفون كلام الأنبياء عن مواضعه، فيقولون: الحدوث نوعان، ذاتي وزماني، ونحن نقول أن الفلك محدث الحدوث الزماني؛ بمعنى أنه معلول وإن كان أزلياً لم يزل مع الله، وقالوا إنه مخلوق بهذا الاعتبار، والكتب الإلهية أخبرت بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام والقديم الأزلي لا يكون في أيام.
وقد علم بالاضطرار أن ما أخبرت به الرسل من أن الله خلق كل شيء، وأنه خلق كذا إنما أرادوا بذلك انه خلق المخلوق، وأحدثه بعد أن لم يكن، كما قال:{وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً} والعقول الصريحة توافق ذلك، وتعلم أن المفعول المخلوق المصنوع لا يكون مقارناً للفاعل في الزمان ولا يكون إلا بعده، وأن الفعل لا يكون إلا باحداث المفعول.
وقالوا لهؤلاء قولكم: " إنه مؤثر تام في الأزل " لفظ مجمل يراد به التأثير العام في كل شيء ويراد به التأثير المطلق في شيء بعد شيء ويراد به التأثير المطلق في
شيء بعد شيء ويراد به التأثير في شيء معين دون غيره، فإن أردتم " الأول " لزم أن لا يحدث في العالم حادث، وهذا خلاف المشاهدة وإن أردتم " الثاني " لزم أن يكون كل ما سوى الله مخلوقاً حادثاً كائناً بعد أن لم يكن، وكان الرب لم يزل متكلماً بمشيئته فعالاً لما يشاء، وهذا يناقض قولكم ويستلزم أن كل ما سواه مخلوق ويوافق ما أخبرت به الرسل، وعلى هذا يدل العقل الصريح، فتبين أن العقل الصريح يوافق ما أخبرت به الأنبياء، وإن أردتم " الثالث " فسد قولكم؛ لأنه يستلزم أنه يشاء [حدوثها] بعد أن لم يكن فاعلاً لها من غير تجدد سبب يوجب الأحداث، وهذا يناقض قولكم، فإن صح هذا جاز أن يحدث كل شيء بعد أن لم يكن محدثاً لشىء، وإن لم يصح هذا بطل، فقولكم باطل على التقديرين.
وحقيقة قولكم أن المؤثر التام لا يكون إلا مع أثره، ولا يكون الأثر إلا مع المؤثر التام في الزمن، وحينئذ فيلزمكم أن لا يحدث شيء، ويلزمكم أن كل ما حدث حدث بدون مؤثر، ويلزمكم بطلان الفرق بين أثر وأثر، وليس لكم أن تقولوا بعض الآثار يقارن المؤثر التام وبعضها يتراخى عنه.
وأيضاً فكونه فاعلاً لمفعول معين يقارن له أزلاً وأبداً باطل في صريح العقل، وأيضاً فأنتم وسائر العقلاء موافقون على أن الممكن الذي لا يكون [إلا] ممكناً يقبل الوجود والعدم، وهو الذي جعلتموه الممكن الخاص الذي قسيمه الضروري الواجب، والضروري الممتنع لا يكون إلا موجوداً تارة ومعدوماً اخرى، وأن القديم الأزلي لا يكون إلا ضرورياً واجباً يمتنع عدمه، وهذا مما اتفق عليه أرسطو واتباعه حتى ابن سينا وذكره في كتبه المشهورة " كالشفا"
وغيره. ثم تناقض فزعم أن الفلك ممكن مع كونه قديماً أزلياً لم يزل ولا يزال وزعم أن الواجب بغيره القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم وزعم أن له ماهية غير وجوده وقد بسط الكلام على فساد قول هؤلاء وتناقضه في غير هذا الموضع.
وهذا الأصل تنازع الناس فيه على " ثلاثة أقوال "
فقيل: ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وبامتناع حوادث لا أول لها مطلقاً وهذا قول المعتزلة ومن اتبعهم من الكرامية والأشعرية ومن دخل معهم من الفقهاء وغيرهم.
وقيل: بل يجوز دوام الحوادث مطلقاً وليس كل ما قارن حادثاً بعد حادث لا إلى أول يجب أن يكون حادثاً؛ بل يجوز أن يكون قديماً سواء كان واجباً بنفسه أو بغيره، وربما عبر عنه بالعلة والمعلول، والفاعل والمفعول ونحو ذلك وهذا قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم والأفلاك، كأرسطو واتباعه مثل ثامسطيوس، والاسكندر الافريدوسي وبرقلس، والفارابي، وابن سينا وأمثالهم.
وأما جمهور الفلاسفة المتقدمين على أرسطو فلم يكونوا يقولون بقدم الأفلاك، ثم الفلاسفة من هؤلاء وهؤلاء متنازعون في قيام الصفات والحوادث بواجب الوجود على قولين معروفين لهم، وإثبات ذلك قول كثير من الأساطين القدماء، وبعض المتأخرين، كأبي البركات صاحب المعتبر وغيره، كما بسطت أقوالهم في غير هذا الوضع.
وقيل: بل أن كان المستلزم للحوادث ممكناً بنفسه، وانه هو الذي يسمى مفعولاً ومعلولاً ومربوباً ونحو ذلك من العبارات وجب أن يكون حادثاً وان
كان واجباً بنفسه لم يجز أن يكون حادثاً وهذا قول أئمة أهل الملل وأساطين الفلاسفة، وهو قول جماهير أهل الحديث، وصاحب هذا القول يقول مالا يخلو عن الحوادث وهو معلول أو مفعول أو مبتدع أو مصنوع فهو حادث؛ لأنه إذا كان مفعولاً مستلزماً للحوادث امتنع أن يكون قديماً؛ فإن القديم المعلول لا يكون قديماً إلا إذا كان له موجب قديم بذاته يستلزم معلوله، بحيث يكون معه أزلياً لا يتأخر عنه، وهذا ممتنع.
فإن كونه مفعولاً ينافي كونه قديماً بل قدمه ينافي كونه ممكناً، فلا يكون ممكناً إلا ما كان محدثاً عند جماهير العقلاء من الأولين والآخرين، وهذا قول الفلاسفة القدماء قاطبة كأرسطو وأتباعه، وأما " الفريق الثاني " الذين قالوا بجواز حوادث لا أول لها مطلقاً، وأن القديم الواجب بنفسه يجوز أن تتعقب عليه الحوادث مطلقاً، وإن كان ممكناً لا واجباً بنفسه، فهؤلاء القائلون بقدم العالم كما يقولون بقدم الأفلاك، وأنها لم تزل ولا تزال معلولة لعلة قديمة أزلية، لكن المنتسبون إلى الملل كابن سينا ونحوه منهم قالوا أنها صادرة عن الواجب بنفسه الموجب لها بذاته.
وأما أرسطو وأتباعه فإنهم قالوا: أن لها علة غائبة تتحرك للتشبه بها في تحركها، كما يحرك المعشوق عاشقه، ولم يثبتوا لها مبدعاً موجباً ولا موجباً قائماً بذاته، ولا قالوا أن الفلك ممكن بنفسه واجب بغيره.
بل الفلك عندهم واجب بنفسه لكن قالوا، مع ذلك: إن له علة غائبة يتحرك للتشبه بها لا قوام له إلا بها، فجعلوا الواجب بنفسه الذي لا فاعل له مفتقراً إلى علة غائية منفصلة عنه، هذه حقيقة قول أرسطو وأتباعه؛ ولهذا لم يثبتوا الأول
عالماً بغيره؛ إذ لم يكن الأول عندهم مبدعاً للفلك؛ فإنه إذا كان مبدعاً يجب أن يكون عالماً بمفعوله، كما قال:{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟}
ولهذا كانت أقوالهم في الإلهيات من أعظم الأقوال فساداً، بخلاف أقوالهم في الطبيعيات؛ ولهذا كان قولهم أشد فساداً في العقل والدين.
وقال في المجلد السادس عشر ص94:
(الثاني) : أنه قد سلم (1) أنه لم يزل قادراً على أن يخلق الخلق؛ وهذا يقتضي إمكان وجود المقدور في الأزل فإنه إذا كان المقدور ممتنعاً لم تكن هناك قدرة فكيف يجعله لم يزل قادراً مع امتناع أن يكون المقدور لم يزل ممكناً؟ بل المقدور عنده كان ممتنعاً ثم صار ممكناً بلا سبب حادث اقتضى ذلك.
(الثالث) أن قوله: " لأن معنى الخلق أنه لم يكن ثم كان، فكيف يكون ما لم يكن ثم كان لم يزل موجوداً؟ " فيقال: بل كل مخلوق فهو محدث مسبوق بعدم نفسه، وما ثم قديم أزلي إلا الله وحده. وإذا قيل:" لم يزل خالقاً " فإنما يقتضي قدم نوع الخلق، و " دوام خالقيته " لا يقتضي قدم شىء من المخلوقات فيجب الفرق بين أعيان المخلوقات الحادثة بعد أن لم تكن، فإن هذه لا يقول عاقل إن منها شيئاً أزلياً ومن قال بقدم شيء من العالم - كالفلك أو مادته - فإنه يجعله مخلوقاً بمعنى أنه كان بعد أن لم يكن؛ ولكن إذ أوجده القديم.
ولكن لم يزل فعالاً خالقاً، [ودوام خالقيته] من لوازم وجوده، فهذا ليس
(1) هذا جواب ابن تيمية على الخصوم الذين يقولون انه قادر والمقدور ممتنع.
قولا بقدم شيء من المخلوقات، بل هذا متضمن لحدوث كل ما سواه وهذا مقتضى سؤال السائل له.
وقال في منهاج السنة (1/148)
وعمدة الفلاسفة على قدم العالم هو قولهم: يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث، فيمتنع تقدير ذات معطلة عن الفعل لم تفعل ثم فعلت من غير حدوث سبب.
وهذا القول لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم لا الأفلاك ولا غيرها، إنما يدل على أنه لم يزل فعالاً وإذا قدر أنه فعال لأفعال تقوم بنفسه أو مفعولات حادثة شيئاً بعد شيء، كان ذلك وفاء بموجب هذه الحجة، مع القول بأن كل ما سوى الله محدث [مخلوق] بعد أن لم يكن، [كما أخبرت الرسل أن الله خالق كل شيء] ، وإن كان النوع لم يزل متجدداً، كما في الحوادث المستقبلة: كل منها حادث [مخلوق] ، وهي لا تزال تحدث شيئاً بعد شيء.
قال هؤلاء: والله قد أخبر أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأخبر أنه خالق كل شيء، ولا يكون المخلوق إلا مسبوقاً [بالعدم] فالقرآن يدل على أن كل ما سوى الله مخلوق مفعول محدث
فليس شيء من الموجودات مقارناً لله تعالى، كما يقوله [دهرية] الفلاسفة ك إن العالم معلول له، وهو موجب له مفيض له، وهو متقدم عليه بالشرف والعلية والطبع، وليس متقدماً عليه بالزمان فإنه لو كان علة تامة موجبة يقترن بها معلولها - كما زعموا - لم يكن في العالم شيء محدث، فإن ذلك المحدث لا يحدث عن علة تامة أزلية يقارنها معلولها، فإن المحدث المعين لا يكون أزلياً.
وسواء قيل إنه حدث عنه بوسط أو بغير وسط - كما يقولون: إن الفلك تولد عنه بوسط عقل أو عقلين، أو غير ذلك مما يقال - فإن كل قول يقتضي أن يكون شيء من العالم قديماً لازماً لذات الله فهو باطل، لأن ذلك يستلزم كون البارىء موجباً بالذات بحيث يقارنه موجبه، إذ لولا ذلك لما قارنه ذلك الشيء، ولو كان موجباً بالذات لم يتأخر عنه شيء من موجبه ومقتضاه، فكان يلزم أن لا يكون في العالم شيء محدث.
وقال في ص 396:
ومما يستفاد بذلك: أنها برهان باهر على بطلان قول القائلين بقدم العالم أو شيء منه، وهو متضمن الجواب عن عمدتهم.
ومما يستفاد بذلك: الاستدلال على المطلوب من غير احتياج إلى الفرق بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار وذلك أن كثيراً من أهل النظر غلطوا في الفرق بين هذا وهذا، من المعتزلة والشيعة، وصار كثير من الناس كالرازي وأمثاله مضطربين في هذا المقام، فتارة يوافقون المعتزلة على الفرق وتارة يخالفونهم وإذا خالفوهم فهم مترددون بين أهل السنة وبين الفلاسفة أتباع أرسطو.
وأصل ذلك أنا نعلم أن القادر المختار يفعل بمشيئته وقدرته، لكن هل يجب وجود المفعول عند وجود الإرادة الجازمة والقدرة التامة أم لا؟ فمذهب الجمهور من أهل السنة المثبتين للقدر، وغيرهم من نفاة القدر، أنه يجب وجود المفعول عند وجود المقتضى التام، وهو الإرادة الجازمة والقدرة التامة وطائفة [أخرى] من مثبته القدر: الجهمية وموافقيهم، ومن نفاة القدر: المعتزلة
وغيرهم، لا توجب ذلك؛ بل يقولون: القادر هو الذي يفعل على وجه الجواز لا على وجه الوجوب، ويجعلون هذا هو الفرق بينه وبين الموجب بالذات، وهؤلاء يقولون: إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، كالجائع مع الرغيفين والهارب مع الطريقين.
ثم القدرية من هؤلاء يقولون: العبد قادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح، كما يقولون مثل ذلك في الرب. ولهذا كان [من] قول هؤلاء القدرية: إن الله لم ينعم على أهل الطاعة بنعم خصهم بها حتى أطاعوه بها، بل تمكينه للمطيع وغيره سواه؛ لكن هذا رجح الطاعة بلا مرجح، بل بمجرد قدرته من غير سبب أوجب ذلك، وهذا رجح المعصية بمجرد قدرته، من غير سبب أوجب ذلك.
وأما الجبرية - كجهم وأصحابه - فعندهم أنه ليس للعبد قدرة ألبتة.
الأشعري يوافقهم في المعنى فيقول: ليس للعبد قدرة مؤثرة؛ ويثبت شيئاً يسميه قدرة يجعل وجوده كعدمه، وكذلك الكسب الذي يثبته.
وهؤلاء لا يمكنهم أن يحتجوا على بطلان قول القدرية بأن رجحان فاعلية العبد على تاركيته لابد لها من مرجح - كما يفعل ذلك الرازي وطائفة من الجبرية - ولهذا لم يذكر الأشعري وقدماء أصحابه هذه الحجة.
وطائفة من الناس - كالرازي وأتباعه - إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر أبطلوا هذا الأصل، وبينوا أن الفعل يجب وجوده عند وجود المرجح التام، وأنه يمتنع فعله بدون المرجح التام، ونصروا أن القادر المختار لا يرجح أحد مقدورية على الآخر إلا بالمرجح [التام] وإذا ناظروا الفلاسفة في مسألة
حدوث العالم وإثبات الفاعل المختار، وإبطال قولهم بالموجب بالذات، سلكوا مسلك المعتزلة والجهمية في القول بأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وعامة الذين سلكوا مسلك أبي عبد الله بن الخطيب وأمثاله تجدهم يتناقضون هذا التناقض.
وفصل الخطاب أن يقال: أي شيء يراد بلفظ الموجب بالذات؟ إن عنى [به] أنه يوجب بذات مجردة عن المشيئة والقدرة، فهذه الذات لا حقيقة لها ولا ثبوت في الخارج، فضلاً عن أن تكون موجبة
والفلاسفة يتناقضون فإنهم يثبتون للأول غاية، ويثبتون العلل الغائبة في إبداعه، وهذا يستلزم الإرادة.
وإذا فسروا الغاية بمجرد العلم، وجعلوا العلم مجرد الذات، كان هذا في غاية الفساد والتناقض؛ فإنا نعلم بالضرورة أن الإرادة ليست مجرد العلم، وأن العلم ليس هو مجرد العالم، لكن هذا من تناقض هؤلاء الفلاسفة في هذا الباب، فإنهم يجعلون المعاني المتعددة معنى واحدا، فيجعلون العلم هو القدرة وهو الإرادة، ويجعلون الصفة هي نفس الموصوف، كما يجعلون العلم هو [نفس] العالم، والقادر هو القدرة، والإرادة هي المريد، والعشق هو العاشق.
وهذا قد صرح به فضلاؤهم - وحتى المنتصرون لهم - مثل ابن رشد الحفيد، الذي رد على [أبي حامد] الغزالي في " تهافت التهافت " وأمثاله.
وأيضاً: فلو قدر وجود ذات مجردة عن المشيئة والاختيار، فيمتنع أن يكون العالم صادراً عن موجب بالذات بها التفسير، لأن الموجب بالذات بهذا الاعتبار يستلزم موجبه ومقتضاه؛ فلو كان مبدع العالم موجباً بالذات بهذا التفسير،
لزم أن لا يحدث في العالم شيء، وهو خلاف المشاهدة، فقولهم بالموجب بالذات يستلزم نفي صفاته ونفي أفعاله ونفي حدوث شيء من العالم، وهذا كله معلوم البطلان.
وأبطل من ذلك أنهم جعلوه واحداً بسيطاً، وقالوا: إنه لا يصدر عنه إلا واحد، ثم احتالوا في صدور الكثرة عنه بحيل تدل على عظيم حيرتهم وجهلهم بهذا الباب، كقولهم: إن الصادر الأول هو العقل الأول، وهو موجود، واجب بغيره، ممكن بنفسه، ففيه ثلاث جهات؛ فصدر عنه باعتبار وجوبه عقل آخر، وباعتبار وجوده نفس، وباعتبار إمكانه [فلك وربما قالوا: وباعتبار وجوده صورة الفلك، وباعتبار إمكانه] مادته وهم متنازعون في النفس الفلكية: هل هي جوهر مفارق له، [أم] عرض قائم به؟
ولهذا أطنب الناس في بيان فساد كلامهم، وذلك أن هذا الواحد الذي فرضوه لا يتصور وجوده إلا في الأذهان لا في الأعيان ثم قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد قضية كلية، وهم لو علموا ثبوتها في [بعض] الصور، لم يلزم أن تكون كلية إلا بقياس التمثيل، فكيف وهم لا يعلمون واحداً / صدر عنه شيء؟
والمقصود هنا أن الموجب بالذات إذا فسر بهذا فهو باطل، وأما إذا فسر الموجب بالذات [بأنه] الذي يوجب مفعوله بمشيئته وقدرته لم يكن هذا المعنى منافياً لكونه فاعلاً بالاختيار بل يكون فاعلاً بالاختيار، موجباً بذاته التي هي فاعل قادر مختار، وهو موجب بمشيئته وقدرته.
وإذا تبين أن الموجب بالذات يحتمل معنيين: أحدهما لا ينافي كونه فاعلاً بمشيئته
[وقدرته]، والآخر ينافي كونه فاعلاً بمشيئته وقدرته؛ فمن قال: القادر لا يفعل إلا على وجه الجواز - كما يقوله من يقوله من القدرية والجهمية - يجعل الفعل بالاختيار منافياً للإيجاب، لا يجامعه بوجه من الوجوه ويقولون: إن القادر المختار لا يكون قادراً [مختاراً] إلا إذا فعل على وجه الجواز لا على وجه الوجوب.
والجمهور من أهل السنة وغيرهم يقولون: القادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، لكنه إذا شاء أن يفعل مع قدرته لزم وجود فعله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فإنه قادر على ما يشاء، ومع القدرة التامة والمشيئة الجازمة يجب وجود الفعل.
ولهذا صارت الأقوال ثلاثة:
فالفلاسفة يقولون بالموجب بالذات المجردة عن الصفات، أو الموصوف بالصفات الذي يجب أن يقارنه موجبه المعين أزلا وأبداً
والقدرية من المعتزلة وغيرهم [من الجهمية، ومن وافقهم من غيرهم] يقولون بالفاعل المختار الذي يفعل على وجه الجواز لا على وجه الوجوب.
ثم منهم من يقول: يفعل لا بإرادة، بل المريد عندهم هو الفاعل العالم ومنهم من يقول بحدوث الإرادة وما يحدثه من إرادة أو فعل فهو يحدثه بمجرد القدرة، فإن القادر عندهم يرجح بلا مرجح ثم القدرية من هؤلاء يقولون: يريد ما لا يكون، ويكون ما لا يريد، وقد يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، [بخلاف المجبرة] والجمهور من أهل السنة وغيرهم المثبتين للقدر والصفات، يقولون إنه فاعل بالاختيار، وإذا شاء شيئاً كان، وإرادته وقدرته من لوازم
ذاته سواء قالوا بإرادة واحدة قديمة، أو بإرادات متعاقبة، أو بإرادات قديمة تستوجب حدوث إرادات أخر فعلى كل قول من هذه الأقوال الثلاثة يجب عندهم وجود مراده.
وإذا فسر الإيجاب بالذات بهذا المعنى كان النزاع لفظياً، فالدليل الذي ذكرناه يمكن تصوره بلفظ الموجب بالذات، ولفظ العلة والمعلول، ولفظ المؤثر والأثر، ولفظ الفاعل المختار، وهو بجميع هذه العبارات يبين امتناع قدم شيء من العالم، ووجوب حدوث كل ما سوى الله.
وهنا أمر آخر، وهو أن الناس تنازعوا في الفاعل المختار: هل يجب أن تكون إرادته قبل الفعل ويمتنع مقارنتها له؟ أم يجب مقارنة إرادته التي هي القصد - للفعل، وما يتقدم الفعل يكون عزماً لا قصداً؟ أم يجوز كل من الأمرين؟ على ثلاثة أقوال.
ونحن قد بينا وجوب حدوث كل ما سوى الله على كل قول من الأقوال الثلاثة: قول من يوجب المقارنة، [وقول من يقول بأن المقارنة] ممتنعة، وقول من يجوز الأمرين.
وقال في درء التعارض (1/341) :
وهذا على قول الجمهور الذين يقولون: الموجب يحصل عقب الموجب التام، والأثر يحصل عقب المؤثر التام، والمفعول يحصل عقب كمال الفاعلية، والمعلول يحصل عقب كمال العلية.
وأما من جعل الأثر مقارناً للمؤثر في الزمان - كما تقوله طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم - فهؤلاء يلزم قولهم لوازم تبطله؛ فإنه يلزم عند وجود المؤثرية
التامة أن يكون لها مؤثرية تامة، ومع المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة، وهلم جرا، وهذا تسلسل في تمام المؤثرية، وهو من جنس التسلسل في المؤثرات لا في الآثار، فإن التسلسل في الآثار هو أن يكون أثر بعد أثر، والتسلسل في المؤثرات ان يكون للمؤثر مؤثر معه لا يكون حال عدم المؤثر؛ فإن الشيء لا يفعل في حال عدمه، وإنما يفعل في حال وجوده، فعند وجود التأثير لابد / من وجود المؤثر، فإن المؤثر التام لا يكون حال عدم التأثير، بل لا يكون إلا مع وجوده، لكن نفس تأثيره يستعقب الأثر، فإن جعل تمام المؤثرية مقارناً للأثر كان من جنس التسلسل في المؤثرات، لا في الآثار.
وإن قلتم: " إن التسلسل في الآثار جائز " - وهو قولكم - بطل استدلالكم بهذه الحجة على قدم شيء من العالم؛ فإنها لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم، وإنما تدل على وجوب دوام كون الرب فاعلاً.
فيقال لكم حينئذ: لم لا يجوز أن تكون الأفلاك، أو كل ما يقدر موجوداً في العالم، أو كل ما يحدثه الله: موقوفاً على حادث بعد حادث، ويكون مجموع العالم الموجود الآن كالشخص الواحد من الأشخاص الحادثة؟
فتبين أن احتجاجكم على مطلوبكم باطل، سواء كان تسلسل الحوادث جائزاً أو لم يكن بل إذا لم يكن جائزاً بطلت الحجة، وبطل المذهب المعروف عندكم، وهو أن حركات الأفلاك أزلية، فإن هذا إنما يصح إذا كان تسلسل الحوادث جائزاً / فإذا كان تسلسلها ممتنعاً لزم أن يكون لحركة الفلك أول، وإن كان تسلسل الحوادث جائزاً، لم يكن في ذلك دلالة على قدم شيء من العالم، لجواز أن يكون حدوث الأفلاك موقوفاً على حوادث قبله، وهلم جرا.
وقال ص 345
ولكن مثار الغلط والاشتباه هنا: أن لفظ التسلسل إذا لم يرد به التسلسل في نفس الفعل فإنه يراد به التسلسل في الأثر، بمعنى أنه يحدث شيء بعد شيء، ويراد به التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلاً، وهذا عند من يقول:" إن المؤثر التام وأثره مقترنان في الزمان " كما يقوله هؤلاء الدهرية، فيقتضي أن يكون ما يحدث من تمام المؤثر مقارناً للأثر لا يتقدم عليه، فتبين به فساد حجتهم.
وأما من قال: " إن الأثر إنما يحصل عقب تمام المؤثر " فيمكنه أن يقول بما ذكره الأرموى، وهو أن كونه مؤثراً في الأثر المعين يكون مشروطاً بحادث يحدث يكون الأثر عقبه، ولا يكون الأثر مقارناً له.
ولكن هذا يبطل قولهم بقدم شيء من العالم، ويوافق أصل أئمة السنة وأهل الحديث الذين يقولون: لم يزل متكلماً إذا شاء.
فإنه على قول هؤلاء يقال: فعله لما يحدث من الحوادث مشروط بحدوث حادث به تتم مؤثرية المؤثر، ولكن عقب حدوث ذلك التمام يحدث ذلك الحادث، وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء أزلي، إذ الأزلي لا يكون إلا مع تمام مؤثرة، ومقارنة الأثر للمؤثر زماناً ممتنعة ا0هـ.