الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثاني: قول الأشعرية ومن نحا نحوهم:
ذهب الأشعرية ومن سلك مسلكهم إلى ان الله يوصف بالقدرة لا كما يقول الجهمية بأن القدرة ممتنعة عليه لكن قالوا: يمتنع المقدور منه وقد وضح شيخ الإسلام في منهاج السنة أصل شبهتهم وشبهة غيرهم.
يقول رحمه الله في (2/377) :
[وقول القائل: الصفات تنقسم إلى صفة ذات وصفة فعل - ويفسر صفة الفعل بما هو بائن عن الرب - كلام متناقض، كيف يكون صفة للرب وهو لا يقوم به بحال، بل هو مخلوق بائن عنه؟
وهذا وإن كانت الأشعرية قالته تبعاً للمعتزلة فهو خطأ في نفسه، فإن إثبات صفات الرب وهي مع ذلك مباينة له جمع بين المتناقضين المتضادين، بل حقيقة قول هؤلاء: إن الفعل لا يوصف به الرب، فإن الفعل هو مخلوق، والمخلوق لا يوصف به الخالق، ولو كان الفعل الذي هو المفعول صفة له لكانت جميع المخلوقات صفات للرب، وهذا لا يقوله عاقل فضلاً عن مسلم
فإن قلتم: هذا بناء على أن فعل الله لا يقوم به، لأنه لو قام به لقامت به الحوادث.
قيل: والجمهور ينازعونكم في هذا الأصل، ويقولون: كيف يعقل فعل لا يقوم بفاعل، ونحن نعقل الفرق بين نفس الخلق والتكوين وبين المخلوق المكون؟
وهذا قول جمهور الناس كأصحاب أبى حنيفة. وهو الذي حكاه البغوي وغيره من أصحاب الشافعي عن أهل السنة وهو قول أئمة أصحاب أحمد كأبي
إسحاق بن شاقلا وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن حامد [والقاضي أبو يعلى في آخر قوليه] ، [هو] قول أئمة الصوفية وأئمة أصحاب الحديث، [وحكاه] البخاري في كتاب " خلق أفعال العباد " عن العلماء مطلقاً وهو قول طوائف من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم.
ثم القائلون بقيام فعله به، منهم من يقول: فعله قديم والمفعول متأخر، كما أن إرادته قديمة والمراد متأخر؛ كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم، [وهو الذي ذكره الثقفي وغيره من الكلابية لما وقعت المنازعة بينهم وبين ابن خزيمة]
[ومنهم من يقول: هو يقع بمشيئته وقدرته شيئاً فشيئاً لكنه لم يزل متصفاً به، فهو حادث الآحاد قديم النوع، كما يقول ذلك من يقول من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي أحمد.
وسائر الطوائف [منهم من يقول: بل الخلق حادث قائم بالمخلوق كما يقوله هشام بن الحكم وغيره، ومنهم من يقول: بل هو قائم بنفسه لا في محل، كما يقوله أبو الهذيل العلاف وغيره، ومنهم من يقول بمعان قائمة بنفسها لا تتناهى، كما يقوله معمر بن عباد وغيره]
وإذا كان الجمهور ينازعونكم فتقدر المنازعة بينكم وبين أئمتكم من الشيعة ومن وافقهم؛ فإن هؤلاء يوافقونكم على أنه حادث لكن يقولون هو قائم بذات الله، فيقولون: قد جمعنا بين حجتنا وحجتكم، فقلنا العدم لا يؤمر، ولا ينهى، وقلنا: الكلام لابد أن يقوم بالمتكلم.
فإن قلتم لنا: قد قلتم بقيام الحوادث بالرب.
قالوا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل، ومن لم يقل: إن البارىء يتكلم، ويريد، ويحب ويبغض ويرضى، ويأتي ويجىء، فقد ناقض كتاب الله [تعالى] .
ومن قال: إنه لم يزل ينادى موسى في الأزل، فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل ن لأن الله يقول:{فلما جاءها نودى} [سورة النمل: 8]، وقال:{إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [سورة يسن: 82] ، فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال.
قالوا: وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته [وقدرته] ، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء فنحن نقول به؛ وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وإنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فنحن نقول به، وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما. فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به.
قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل، وهو قول لازم لجميع الطوائف، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته.
ولفظ " الحوادث " مجمل، فقد يراد به الأمراض والنقائص، والله [تعالى] منزه عن ذلك [كما نزه نفسه عن السنة والنوم واللغوب، وعن أن يؤوده حفظ السماوات والأرض وغير ذلك مما هو منزه عنه بالنص والإجماع.
ثم إن كثيراً من نفاة الصفات - المعتزلة وغيرهم - يجعلون مثل هذا حجة في
نفي قيام الحوادث به مطلقاً، وهو غلط منهم، فإن نفي الخاص لا يستلزم نفى العام، ولا يجب إذا نفيت عنه النقائص والعيوب أن ينتفي عنه ما هو من صفات الكمال ونعوت الجلال]
ولكن يقوم به ما يشاؤه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة.
ونحن نقول لمن أنكر قيام ذلك به: أتنكره لإنكارك قيام الصفة به كإنكار المعتزلة؟ أم تنكره لأن من قامت به الحوادث لم يخل منها ونحو ذلك مما يقوله الكلابية؟
فإن قال بالأول كان الكلام في أصل الصفات وفي كون الكلام قائماً بالمتكلم لا منفصلاً عنه كافياً في هذا الباب.
وإن كان الثاني قلنا لهؤلاء: أتجوزون حدوث الأحداث بلا سبب حادث أم لا؟ فإن جوزتم ذلك - وهو قولكم - لزم أن يفعل الحوادث من لم يكن فاعلاً لها ولا لضدها، فإذا جاز هذا [فلم] لا يجوز أن تقوم الحوادث بمن لم تكن قائمة به هي ولا ضدها؟
ومعلوم أن الفعل أعظم من القبول، فإذا جاز فعلها بلا سبب حادث فكذلك قيامها بالمحل.
فإن قلتم: القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده.
قلنا: هذا ممنوع ولا دليل لكم عليه، [ثم إذا سلم ذلك فهو كقول القائل: القادر على الشيء لا يخلو عن فعله وفعل ضده، وأنتم تقولون: إنه لم يزل قادراً، ولم يكن فاعلاً ولا تاركاً، لأن الترك عندكم أمر وجودي مقدور،
وأنتم تقولون: لم يكن فاعلاً لشيء من مقدوراته في الأزل مع كونه قادراً، بل تقولون: إنه يمتنع وجود مقدوره في الأزل مع كونه قادراً عليه.
وإذا كان هذا قولكم فلأن لا يجب وجود المقبول في الأزل بطريق الأولى والأحرى، فإن هذا المقبول مقدور لا يوجد إلا بقدرته، وأنتم تجوزون وجود قادر مع امتناع مقدوره في حال كونه قادراً]
ثم نقول: إن كان القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده لزم تسلسل الحوادث، وتسلسل الحوادث إن كان ممكناً كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون: لم يزل متكلماً إذا شاء كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة.
وإن لم يكن جائزاً [أمكن أن يقوم به الحادث بعد أن لم يكن قائماً به، كما يفعل الحوادث بعد أن لم يكن فاعلاً لها] وكان قولنا هو الصحيح، فقولكم أنتم باطل على [كلا] التقديرين.
فإن قلتم لنا: أنتم توافقونا على امتناع تسلسل الحوادث، وهو حجتنا وحجتكم على [نفى] قدم العالم.
قلنا لكم: موافقتنا لكم حجة جدلية، وإذا كنا قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم، وقلنا بأن القابل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده مخالفة لكم. وأنتم تقولون: إن قبل الحوادث لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك.
قلنا: إن صحت هاتان المقدمتان - ونحن لا نقول بموجبهما - لزم خطؤنا: إما في هذه وإما في هذه. وليس خطؤنا فيما سلمناه لكم بأولى من خطئنا فيما خالفناكم فيه، فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث لا في قولنا: إن
القابل للشيء يخلو عنه وعن ضده، فلا يكون خطؤنا في إحدى المسألتين دليلاً على صوابكم في الأخرى التي خالفناكم فيها.
أكثر ما في هذا الباب [أنا نكون] متناقضين، والتناقض شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلم في هذه المسألة ونظائرها. وإذا كنا متناقضين، فرجوعنا إلى قول نوافق [فيه] العقل والنقل أولى من رجوعنا إلى قول نخالف فيه العقل والنقل
فالقول بأن المتكلم يتكلم بكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته أو منفصل عنه لا يقوم به مخالف للعقل والنقل، بخلاف تكلمه بكلام يتعلق بمشيئته وقدرته قائم به فإن هذا لا يخالف لا عقلاً ولا نقلاً، لكن قد نكون [نحن] لم نقله بلوازمه فنكون متناقضين، وإذا كنا متناقضين كان الواجب أن نرجع عن القول الذي أخطأنا فيه لنوافق ما أصبنا فيه، ولا نرجع عن الصواب لنطرد الخطأ، فنحن نرجع عن تلك [المتناقضات] ونقول بقول أهل الحديث.
فإن قلتم: إثبات حادث بعد حادث لا إلى أول قول الفلاسفة الدهرية.
قلنا: بل قولكم: إن الرب تعالى لم يزل معطلاً لا يمكنه أن يتكلم بشيء ولا أن يفعل شيئاً، ثم صار يمكنه أن يتكلم وأن يفعل بلا حدوث سبب يقتضي ذلك قول مخالف لصريح العقل ولما عليه المسلمون، فإن المسلمين يعلمون أن الله لم يزل قادراً، وإثبات القدرة مع كون المقدور ممتنعاً غير ممكن جمع بين النقيضين، فكان فيما عليه المسلمون من أنه لم يزل قادراً ما يبين أنه لم يزل قادراً على الفعل والكلام بقدرته ومشيئته.
والقول بدوام كونه متكلماً ودوام كونه فاعلاً بمشيئته منقول عن السلف
وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم، كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم، وهو منقول عن جعفر ابن محمد الصادق في الأفعال المتعدية - فضلاً عن اللازمة - وهو دوام إحسانه، [وذلك قوله وقول المسلمين: يا قديم الإحسان، إن عنى بالقديم قائم به]
والفلاسفة الدهرية قالوا بقدم [الأفلاك وغيرها من] العالم، وأن الحوادث فيه لا إلى أول، وأن البارىء موجب بذاته للعالم ليس فاعلاً بمشيئته وقدرته ويتصرف بنفسه.
[ومعلوم بالاضطرار من دين الرسل أن الله تعالى خالق كل شيء، ولا يكون المخلوق إلا محدثاً، فمن جعل مع الله شيئاً قديماً بقدمه فقد علم مخالفته لما أخبرت به الرسل مع مخالفته لصريح لعقل]
وأنتم وافقتموهم على طائفة من باطلهم حيث قلتم: إنه لا يتصرف بنفسه، ولا يقوم به أمر يختاره ويقدر عليه، بل جعلتموه كالجماد الذي لا تصرف له ولا فعل، وهم جعلوه كالجماد الذي لزمه وعلق به ما لا يمكنه دفعه عنه ولا قدرة له على التصرف فيه، فوافقتموهم على بعض باطلهم.
ونحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته، وأنه قادر على الفعل بنفسه [وعلى التكلم بنفسه] كيف شاء ـ، وقلنا إنه لم يزل موصوفاً بصفات الكمال متكلماً إذا شاء، فلا نقول: إن كلامه مخلوق منفصل عنه.
وقد اشتمل كلام شيخ الإسلام على أمور:
1-
ان إثبات صفة للرب وهي مباينة له لا يقول به عاقل.
2-
بين من يقول بإثبات الفعل من غير ان يقوم بالرب.
3-
بين أن الذين قالوا بقيام الفعل تفرقوا مذاهب شتى والصواب هو قول أهل الحديث.
4-
قيام الحوادث بالرب دل عليه الشرع والعقل (1) .
5-
بين قول المتكلمين الذين قالوا ان الله قادر والمقدور ممتنع.
6-
بين الفرق بين قول الفلاسفة وقول أهل الحديث وسيأتي ذلك في مبحث خاص أن شاء الله.
7-
ذكر الأدلة على دوام فاعلية الرب وسيأتي ذلك مفصلاً إن شاء الله.
(1)
…
بل قال الرازي في المطالب انه لازم لجميع الطوائف.
أدلة المتكلمين على مذهبهم:
استدل المتكلمون على قولهم بالكتاب والسنة والمعقول
أولاً: الكتاب في قوله تعالى {وأحصى كل شيء عدداً} فلو كانت الحوادث متسلسلة إلى غير أول لم يتصور حشر ما لا نهاية له على محدود (1) .
والجواب أن يقال:
ليس المراد بالتسلسل عدم الحد ولكن المراد منه عدم إمكان الحصر الذي لا يتنافى مع الحد فالأعداد الكسرية ما بين الصفر والواحد لا حصر لها ولها حدان من أسفل ومن أعلى وهذا هو الفارق بين عدم إمكان الحصر مع وجود الحد وبين ما لا حد له أصلاً فعلم من ذلك ان المخلوقات لكونها محدودة بالعدم ابتداء وانتهاء فليس المراد في تسلسلها عدم الحد كما هو بين قطعاً، والذي لا حد له كالأعداد تتسلسل إلى ما لا نهاية له من غير حصر ولا حد، ومن هنا كان بالإمكان حشر الخلق في مكان لكونهم تحت الحد، وما أعجزنا حصره من المحدودات فإنه لا يعجز الله.
(1)
التنبيه والرد ص9
ثانياً: السنة وقد استدلوا بحديثين:
1-
قوله صلى الله عليه وسلم (إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فجرى بما هو كائن إلى الأبد) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب.
ووجه الدلالة ان الحديث صرح بأن هناك أول مخلوق خلقه الله وأنه ليس قبل القلم مخلوق.
والجواب عن هذا الحديث هو أنه لا يخلو قوله: " أول ما خلق الله القلم "
…
. الخ إما أن يكون جملة أو جملتين. فإن كان جملة، وهو الصحيح، كان معناه: أنه عند أول خلقه قال له::" اكتب "، كما في اللفظ:" أول ما خلق الله القلم قال له " اكتب " بنصب " أول " " والقلم "، وإن كان جملتين، وهو مروي برفع " أول " و " القلم "، فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم، فيتفق الحديثان، إذ حديث عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير، والتقدير مقارن لخلق القلم، وفي اللفظ الآخر: " لما خلق الله القلم قال له: اكتب "
وحديث عبد الله بن عمرو ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء " فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أول خلق القلم، بحديث عبادة هذا.
قال المباركفوري في شرح الترمذي (6/369) : -
فالأولية إضافية.
فائدة:
قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له ا0هـ
2-
الحديث الثاني هو قوله صلى الله عليه وسلم (كان الله ولا شيء معه) .
ووجه الدلالة من الحديث أن الشيء يشمل الجسم والفعل والنوع والآحاد، قاله السبكي في السيف الصقيل ص86.
والجواب:
1-
ان قوله (لا شيء معه) محمول على المعية المقارنة لله من أعيان المخلوقات والقائل به كافر بالله كما هو قول الفلاسفة ولهذا قال ابن حبان في صحيحه (14/10] : ولا شيء معه لأنه خالقها ا0هـ. أما نوع الفعل فلا شك أنه معه بمعنى تعاقب الفعل شيئاً بعد شيء ولهذا قال شيخ الإسلام كما سيأتي: وإن قدر أن نوعها لم يزل معه فهذه المعية لم ينفها شرع ولا عقل بل هي من كماله.
والإشكال الذي وقع فيه السبكي وغيره هو ما فهموه من أن قدم الشيء يلزم منه قدم فرد من أفراده الأمر الذي جعل الشيخ هراس يقول: إنه يحتاج في تصوره إلى جهد كبير، وقد بين شيخ الإسلام كما سيأتي أن قدم النوع مع حدوث جميع الأفراد لا محذور فيه سواء كان قدم نوع الفعل أم قدم نوع المفعول فكلاهما بمعنى التعاقب ولا يوجد فرد منهما قديم وقد بينا ذلك فيما سبق.
وقال القسطلاني في شرح البخاري (5/449) :
ومن ثم جاء قوله: ولم يكن شيء غيره لنفي توهم المعية، وفيه رد على من
توهم من قوله: كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ان العرش لم يزل مع الله ا 0 هـ بتصرف.
وقال الكرماني (25/139) :
لا يلزم من قوله (وكان عرشه على الماء) المعية إذ اللازم من الواو هو الاجتماع في أصل الثبوت وإن كان بينهما تقديم وتأخير، وأقره عليه العيني (25/119) .
قال هراس في شرح النونية (1/174) :
وليس وجود الأشياء مقارناً بوجوده، بل وجوده سابق عليها جميعاً كما في الحديث (كان الله ولا شيء معه) أي مساوق عنه في الوجود متأخر عنه.
2-
ان (لا شيء) في الحديث ليس من باب العام الذي ذهب إليه
…
السبكي بل هو من باب الظاهر وسبب هذا الحمل هو ما ثبت من دوام الفاعلية فنوع الفعل معه كما ذكرنا.
3-
ما أجاب به شيخ الإسلام في شرحه للحديث حيث قال:
إن الناس في هذا الحديث على قولين: منهم من قال: ان مقصود الحديث إخباره بأن الله كان موجوداً وحده. ثم انه ابتدأ إحداث جميع الحوادث وإخباره بأن الحوادث لها ابتداء بجنسها، وأعيانها مسبوقة بالعدم، وان جنس الزمان حادث لافي زمان، وجنس الحركات والمتحركات حادث. وإن الله صار فاعلاً بعد ان لم يكن يفعل شيئاً من الأزل إلى حين ابتدأ الفعل؛ ولا كان الفعل ممكناً.
ثم هؤلاء على قولين: منهم من يقول: وكذلك صار متكلماً بعد إن لم يكن
يتكلم بشيء، بل ولا كان الكلام ممكناً له. ومنهم من يقول: الكلام أمر يوصف به بأنه يقدر عليه، لا أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، بل هو أمر لازم لذاته بدون قدرته ومشيئته.
ثم هؤلاء منهم من يقول: هو المعنى دون اللفظ المقروء، عبر عنه بكل
من التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. ومنهم من يقول: بل هو حروف
وأصوات لازمة لذاته لم تزل ولا تزال، وكل ألفاظ الكتب التي أنزلها وغير ذلك.
والقول الثاني في معنى الحديث: انه ليس مراد الرسول هذا: بل ان الحديث يناقض هذا، ولكن مراده إخباره عن خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام ثم استوى على العرش، كما أخبر القرآن العظيم بذلك في غير موضع، فقال تعالى:{وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) ، فأخبر صلى الله عليه وسلم ان تقدير خلق هذا العالم المخلوق في ستة أيام، وكان حينئذ عرشه على الماء. كما أخبر بذلك القرآن والحديث المتقدم الذي رواه البخاري في صحيحه؛ عن عمران رضي الله عنه.
ومن هذا: الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:(أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب! قال: وما أكتب؟ قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة) ، فهذا القلم خلقه لما أمره بالتقدير المكتوب قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان
مخلوقاً قبل خلق السموات والأرض، وهو أول ما خلق من هذا العالم، وخلقه بعد العرش كما دلت عليه النصوص، وهو قول جمهور السلف، كما ذكرت أقوال السلف في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا: بيان ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.
والدليل على هذا القول الثاني وجوه:
(أحدها) ان قول أهل اليمن: " جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر "، إما أن يكون الأمر المشار إليه هذا العالم، أو جنس المخلوقات، فإن كان المراد هو الأول كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أجابهم؛ لأنه أخبرهم عن أول خلق هذا العالم، وإن كان المراد الثاني لم يكن قد أجابهم؛ لأنه لم يذكر أول الخلق مطلقاً؛ بل قال:" كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض "، فلم يذكر إلا خلق السموات والأرض، لم يذكر خلق العرش، مع أن العرش مخلوق أيضاً، فإنه يقول:" وهو رب العرش العظيم " وهو خالق كل شيء: العرش وغيره، ورب كل شيء: العرش وغيره. وفي حديث أبي رزين قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخلق العرش. وأما في حديث عمران فلم يخبر بخلقه، بل أخبر بخلق السموات والأرض، فعلم أنه أخبر بأول خلق هذا العالم لا بأول الخلق مطلقاً.
وإذا كان إنما أجابهم بهذا علم انهم إنما سألوه عن هذا، لم يسألوه عن أول الخلق مطلقاً، فإنه لا يجوز أن يكون أجابهم عما لم يسألوه عنه ولم يجبهم عما سألوا عنه، بل هو صلى الله عليه وسلم منزه عن ذلك، مع أن لفظه إنما يدل على هذا؛ لا يدل على ذكره أول الخلق وإخباره بخلق السموات والأرض بعد أن كان عرشه على الماء
يقصد به الإخبار عن ترتيب بعض المخلوقات على بعض، فإنهم لم يسألوه عن مجرد الترتيب. وإنما سألوه عن أول هذا الأمر، فعلم أنهم سألوه عن مبدأ خلق هذا العالم فأخبرهم بذلك، كما نطق في أولها في أول الأمر "خلق الله السموات والأرض "وبعضهم يشرحها في البدء أو في الابتداء خلق الله السموات والأرض.
والمقصود أن فيها الإخبار بابتداء خلق السموات والأرض. وأنه كان الماء غامراً للأرض، وكانت الريح تهب على الماء، فأخبر أنه حينئذ كان هذا ماء وهواء وترابا، وأخبر في القرآن العظيم أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، وفي الآية الأخرى:{ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض: ائتيا طوعاً أو كرهاً، قالتا: أتينا طائعين} ، وقد جاءت الآثار عن السلف بأن السماء خلقت من بخار الماء وهو الدخان.
والمقصود هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابهم عما سألوه عنه ولم يذكر إلا ابتداء خلق السموات والأرض، فدل على أن قولهم:" جئنا لنسألك عن أول هذا الأمر " كان مرادهم خلق هذا العالم، والله أعلم.
(الوجه الثاني) : أن قولهم: " هذا الأمر " إشارة إلى حاضر موجود، والأمر يراد به المصدر، ويراد به المفعول به وهو المأمور الذي كونه الله بأمره، وهذا مرادهم، فإن الذي هو قوله: كن ليس مشهوداً مشاراً إليه، بل المشهود المشار إليه هذا المأمور به، قال تعالى:{وكان أمر الله قدراً مقدوراً} ، وقال تعالى:{أتي أمر الله} ، ونظائره متعددة، ولو سألوه عن أول الخلق مطلقاً لم يشيروا إليه بهذا؛ فإن ذاك لم يشهدوه فلا يشيرون إليه بهذا، بل لم يعلموه أيضاً؛ فإن
ذاك لا يعلم إلا بخبر الأنبياء، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم بذلك، ولو كان قد أخبرهم به لما سألوه عنه، فعلم أن سؤالهم كان عن أول هذا العالم المشهود.
(الوجه الثالث) : أنه قال: " كان الله ولم يكن شيء قبله "
وقد روي: " معه"، وروي:" غيره "، والألفاظ الثلاثة في البخاري (1) .
(1)
…
نسب هنا شيخ الإسلام رواية (ولا شيء معه) إلى البخاري وكذا فعل
في الصفدية (1/15) و (2/224) وفي الفتاوى (2/275) عزاه إلى أصحاب الصحيح من غير نسبة إلى البخاري، وفي تفسير ابن كثير (3/226) عزا هذه الرواية إلى البخاري (أيضا) وتابعهم ابن أبي العز، وقال الحافظ في الفتح (13/421) ، وفي رواية (كان الله قبل كل شيء) وهو بمعنى (كان الله ولا شيء معه) ا 0 هـ.
وعزا محمد الخضر الشنقيطي في كتابه استحالة المعية بالذات ص 327 هذه الرواية إلى صحيح مسلم وهي ليست فيه أيضاً.
وقد عزا الكوثري في حاشية السيف الصقيل ص86 هذه الرواية إلى ابن حبان والحاكم وابن أبي شيبة وهي ليست فيها بل برواية ولم يكن شيء غيره
وقد وجدت الحافظ في الفتح (6/333) يقول: إنها في رواية غير البخاري ا 0 هـ.
وبعد البحث في كتب السنة لم أجد هذه الرواية وإنما وجدت روايتين فقط هما:
ألا شيء غيره، وهي التي رواها الحاكم في المستدرك (2/372) ، وابن حبان في صحيحه (14/7] وابن أبي شيبة في العرش ص 294، والدارمي في رده على بشر (1/461) ، والطبراني في المعجم الكبير في ثلاثة مواضع في (18/203، 204، 205) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/3) .
ب ولا شيء قبله، وهي التي رواها أحمد في مسنده (4/431) وابن حبان في صحيحه (14/11) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/2) ، وفي الأسماء والصفات (1/564) ، والذهبي في العلو ص 66، والروايتان في البخاري أيضاً.
والمجلس كان واحداً، وسؤالهم وجوابه كان في ذلك المجلس، وعمران الذي روى الحديث لم يقم منه حين انقضى المجلس؛ بل قام لما أخبر بذهاب راحلته قبل فراغ المجلس، وهو المخبر بلفظ الرسول، فدل على أنه إنما قال أحد "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء "، وهذا موافق ومفسر لقوله تعالى:{هو الأول والآخر، والظاهر والباطن} وإذا ثبت في هذا الحديث [القبل] فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما أبداً، وكان أكثر أهل الحديث إنما يروونه بلفظ القبل:" كان الله ولا شيء قبله "، مثل: الحميدي (1) والبغوي (2) وابن الأثير (3) وغيرهم. (4) .
وإذا كان إنما قال: " كان الله ولم يكن شيء قبله " لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث ولا لأول مخلوق.
(الوجه الرابع) : أنه قال فيه: " كان الله ولم يكن شيء قبله، أو معه، أو غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء " فأخبر عن هذه الثلاثة بلفظ الواو، لم يذكر في شيء منها ثم، وإنما جاء ثم في قوله:" خلق السموات والأرض " وبعض الرواة ذكر فيه خلق السموات والأرض بثم، وبعضهم ذكرها بالواو.
(1) في الجمع بين الصحيحين (1/353) .
(2)
في مصابيح السنة (4/16) .
(3)
في جامع الأصول (4/15) .
(4)
كأبي حفص الموصلي في الجمع بين الصحيحين (1/261) .
فأما الجمل الثلاث المتقدمة فالرواة متفقون على انه ذكرها بلفظ الواو، ومعلوم ان لفظ الواو لا يفيد الترتيب على الصحيح الذي عليه الجمهور، فلا يفيد الإخبار بتقديم بعض ذلك على بعض، وإن قدر أن الترتيب مقصود، إما من ترتيب الذكر لكونه قدم بعض ذلك على بعض، واما من الواو عند من يقول به، فإنما فيه تقديم كونه على كون العرش على الماء، وتقديم كون العرش على الماء على كتابته في الذكر كل شيء، وتقديم كتابته في الذكر كل شيء على تقديم خلق السموات والأرض، وليس في هذا ذكر أول المخلوقات مطلقاً، بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش والماء، وإن كان ذلك كله مخلوقاً كما أخبر به في مواضع أخر، لكن في جواب أهل اليمن إنما كان مقصوده إخباره إياهم عن بدء خلق السموات والأرض وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام لا بابتداء ما خلقه الله قبل ذلك.
(الوجه الخامس) أنه ذكر تلك الأشياء بما يدل على كونها ووجودها ولم يتعرض لابتداء خلقها، وذكر السموات والأرض بما يدل على خلقها، وسواء كان قوله:" وخلق السموات والأرض " أو " ثم خلق السموات والأرض " فعلى التقديرين أخبر بخلق ذلك، وكل مخلوق محدث كائن بعد ان لم يكن، وإن كان قد خلق من مادة، كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:" خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم ".
فإن كان لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم " ثم خلق " فقد دل على ان خلق السموات والأرض بعد ما تقدم ذكره من كون عرشه على الماء ومن كتابته في الذكر، وهذا اللفظ
أولى بلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما فيه من تمام البيان وحصول المقصود بلفظة الترتيب، وإن كان لفظه الواو فقد دل سياق الكلام على أن مقصوده انه خلق السموات والأرض بعد ذلك؛ وكما دل على ذلك سائر النصوص؛ فإنه قد علم أنه لم يكن مقصوده الإخبار بخلق العرش ولا الماء؛ فضلاً عن أن يقصد أن خلق ذلك كان مقارناً لخلق السموات والأرض، وإذا لم يكن في اللفظ ما يدل على خلق ذلك إلا مقارنة خلقه لخلق السموات والأرض، - وقد أخبر عن خلق السموات مع كون ذلك - علم ان مقصوده خلق السموات والأرض حين كان العرش على الماء، كما أخبر بذلك في القرآن، وحينئذ يجب أن يكون العرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض، كما أخبر بذلك في الحديث الصحيح حيث قال:" قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء "، فأخبر أن هذا التقدير السابق لخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة حين كان عرشه على الماء.
(الوجه السادس) أن النبي صلى الله عليه وسلم: إما أن يكون قد قال: " كان ولم يكن قبله شيء "؛ واما أن يكون قد قال: " ولا شيء معه "؛ " او غيره ". فإن كان إنما قال اللفظ الأول لم يكن فيه تعرض لوجوده تعالى قبل جميع الحوادث، وإن كان قد قال الثاني أو الثالث فقوله:" ولم يكن شيء معه وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر ": اما أن يكون مراده انه حين كان لا شيء معه كان عرشه على الماء؛ أو كان بعد ذلك كان عرشه على الماء. فإن أراد الأول كان معناه لم يكن معه شيء من هذا الأمر المسؤول عنه وهو هذا العالم، ويكون المراد أنه كان الله قبل هذا العالم المشهود وكان عرشه على الماء.
وأما القسم الثالث: وهو أن يكون المراد به كان لا شيء معه وبعد ذلك كان عرشه على الماء وكتب في الذكر ثم خلق السموات والأرض، فليس في هذا إخبار بأول ما خلقه الله مطلقاً، بل ولا فيه إخباره بخلق العرش والماء، بل إنما فيه إخباره بخلق السموات والأرض، ولا صرح فيه بأن كون عرشه على الماء كان بعد ذلك، بل ذكره بحرف الواو، والواو للجمع المطلق والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه. وإذا كان لم يبين الحديث أول المخلوقات ولا ذكر متى كان خلق العرش الذي أخبر انه كان على الماء مقروناً بقوله:" كان الله ولا شيء معه "، دل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد الإخبار بوجود الله وحده قبل كل شيء، وبابتداء المخلوقات بعد ذلك؛ إذ لم يكن لفظه دالاً على ذلك، وإنما قصد الإخبار بابتداء خلق السموات والأرض.
(الوجه السابع) أن يقال: لا يجوز أن يجزم بالمعنى الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بدليل يدل على مراده، فلو قدر أن لفظه يحتمل هذا المعنى وهذا المعنى لم يجز الجزم بأحدهما إلا بدليل، فيكون إذا كان الراجح هو أحدهما فمن جزم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد ذلك المعنى الآخر فهو مخطىء.
(الوجه الثامن) : أن يقال: هذا المطلوب لو كان حقاً لكان أجل من أن يحتج عليه بلفظ محتمل في خبر لم يروه إلا واحد، ولكان ذكر هذا في القرآن والسنة من أهم الأمور؛ لحاجة الناس إلى معرفة ذلك؛ لما وقع من الاشتباه والنزاع واختلاف الناس. فلما لم يكن في السنة ما يدل على هذا المطلوب؛ لم يجز إثباته بما يظن أنه معنى الحديث بسياقه، وإنما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" كان الله ولا شيء معه " فظنوه لفظاً ثابتاً مع تجرده عن سائر الكلام الصادر عن النبي صلى الله عليه وسلم،
وظنوا معناه الإخبار بتقديمه تعالى على كل شيء، وبنوا على هذين الظنين نسبة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس عندهم بواحدة من المقدمتين علم، بل ولا ظن يستند إلى إمارة.
وهب أنهم لم يجزموا بأن مراده المعنى الآخر، فليس عندهم ما يوجب الجزم بهذا المعنى وجاء بينهم الشك، وهم ينسبون إلى الرسول ما لا علم عندهم بأنه قاله، وقد قال تعالى:{ولا تقف ما ليس لك به علم} ، وقال تعالى:{قل: إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ والإثم والبغي بغير الحق؛ وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً؛ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} وهذا كله لا يجوز.
(الوجه العاشر) أنه قد زاد فيه بعض الناس: " وهو الآن على ما عليه كان "، وهذه الزيادة إنما زادها بعض الناس من عنده، وليست في شيء من الروايات. ثم إن منهم من يتأولها على أنه ليس معه الآن موجود، بل وجوده عين وجود المخلوقات! كما يقوله أهل وحدة الوجود الذين يقولون: عين وجود الخالق هو عين وجود المخلوق. كما يقوله ابن عربي؛ وابن سبعين؛ والقونوي؛ والتلمساني؛ وابن الفارض؛ ونحوهم. وهذا القول مما يعلم بالاضطرار شرعاً وعقلاً أنه باطل.
(الوجه الحادي عشر) أن كثيراً من الناس يجعلون هذا عمدتهم من جهة السمع: أن الحوادث لها ابتداء، وإن جنس الحوادث مسبوق بالعدم إذ لم يجدوا في الكتاب والسنة ما ينطبق به؛ مع أنهم يحكون هذا عن المسلمين واليهود والنصارى، كما يوجد مثل هذا في كتب أكثر أهل الكلام المبتدع في الإسلام
الذي ذمه السلف؛ وخالفوا به الشرع والعقل. وبعضهم يحكيه إجماعاً للمسلمين، وليس معهم بذلك نقل، لا عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن الكتاب والسنة فضلاً عن أن يكون هو قول جميع المسلمين.
وبعضهم يظن أن من خالف ذلك فقد قال بقدم العالم، ووافق الفلاسفة الدهرية؛ لأنه نظر في كثير من كتب الكلام فلم يجد فيها إلا قولين: قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم إما صورته وإما مادته، سواء قيل: هو موجود بنفسه؛ أو معلول لغيره. وقول من رد على هؤلاء من أهل الكلام: الجهمية؛ والمعتزلة؛ والكرامية؛ الذين يقولون: إن الرب لم يزل لا يفعل شيئاً ولا يتكلم بشيء، ثم أحدث الكلام والفعل بلا سبب أصلاً.
وطائفة أخرى كالكلابية ومن وافقهم يقولون: بل الكلام قديم العين إما معنى واحد، وأما أحرف وأصوات قديمة أزلية قديمة الأعيان، ويقول هؤلاء: ان الرب لم يزل لا يفعل شيئاً، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم حدث ما يحدث بقدرته ومشيئته، إما قائماً بذاته أو منفصلاً عنه عند من يجوز ذلك، وإما منفصلاً عنه عند من لم يجوز قيام ذلك بذاته.
ومعلوم أن هذا القول أشبه بما أخبرت به الرسل من أن الله خالق كل شيء، وأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، فمن ظن أنه ليس للناس إلا هذان القولان وكان مؤمناً بأن الرسل لا يقولون إلا حقاً يظن أن هذا قول الرسل ومن اتبعهم. ثم إذا طولب بنقل هذا القول عن الرسل لم يمكنه ذلك ولم يمكن لأحد أن يأتي بآية ولا حديث يدل على ذلك، لا نصاً ولا ظاهراً، بل ولا يمكنه أن ينقل ذلك عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان.
وقد جعلوا ذلك معنى حدوث العالم الذي هو أول مسائل أصول الدين عندهم فيبقى أصل الدين الذي هو دين الرسل عندهم، ليس عندهم ما يعلمون به ان الرسول قاله ولا في العقل ما يدل عليه، بل العقل والسمع يدل على خلافه ومن كان أصل دينه الذي هو عنده دين الله ورسوله لا يعلم أن الرسول جاء به كان من أضل الناس في دينه.
(الوجه الثاني عشر) أنهم لما اعتقدوا أن هذا هو دين الإسلام أخذوا يحتجون عليه بالحجج العقلية المعروفة لهم، وعمدتهم التي هي أعظم الحجج، مبناها على امتناع حوادث لا أول لها، وبها أثبتوا حدوث كل موصوف بصفة، وسموا ذلك إثباتا لحدوث الأجسام، فلزمهم على ذلك نفي صفات الرب عز وجل، وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا كلام يقوم به، بل كلامه مخلوق منفصل عنه، وكذلك رضاه وغضبه، والتزموا على ذلك أن الله لا يرى في الآخرة، وأنه ليس فوق العرش، إلى غير ذلك من اللوازم التي نفوا بها ما أثبته الله ورسوله، وكان حقيقة قولهم تكذيباً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسلط أهل العقول على تلك الحجج التي لهم فبينوا فسادها.
وكان ذلك مما سلط الدهرية القائلين بقدم العالم لما علموا حقيقة قولهم وأدلتهم وبينوا فساده. ثم لما ظنوا أن هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أنه باطل، قالوا: ان الرسول لم يبين الحقائق سواء علمها أو لم يعلمها، وإنما خاطب الجمهور بما يخيل لهم ما ينتفعون به. فصار أولئك المتكلمون النفاة مخطئين في السمعيات والعقليات، وصار خطؤهم من أكبر أسباب تسلط الفلاسفة، لما ظن أولئك الفلاسفة الدهرية أنه ليس في هذا المطلوب إلا قولان: قول أولئك المتكلمين
وقولهم. وقد رأوا أن قول أولئك باطل، فجعلوا ذلك حجة في تصحيح قولهم، مع أنه ليس للفلاسفة الدهرية على قولهم بقدم الأفلاك حجة عقلية أصلاً، وكان من أعظم أسباب هذا أنهم لم يحققوا معرفة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.
(الوجه الثالث عشر) : ان الغلط في معنى هذا الحديث هو من عدم المعرفة بنصوص الكتاب والسنة، بل والمعقول الصريح؛ فإنه أوقع كثيراً من النظار واتباعهم في الحيرة والضلال، فإنهم لم يعرفوا إلا قولين: قول الدهرية القائلين بالقدم، وقول الجهمية لقائلين بأنه لم يزل معطلاً عن أن يفعل أو يتكلم بقدرته ومشيئته، ورأوا لوازم كل قول تقتضي فساده وتناقضه، فبقوا حائرين مرتابين جاهلين، وهذه حال من لا يحصى منهم، ومنهم من صرح بذلك عن نفسه كما صرح به الرازي وغيره.
ومن أعظم أسباب ذلك أنهم نظروا في حقيقة قول الفلاسفة فوجدوا أنه لم يزل المفعول المعين مقارناً للفاعل أزلاً وأبداً. وصريح العقل يقتضي بأنه لابد أن يتقدم الفاعل على فعله، وأن تقدير مفعول الفاعل مع تقدير أنه لم يزل مقارناً له لم يتقدم الفاعل عليه؛ بل هو معه أزلاً وأبداً: أمر يناقض صريح العقل. وقد استقر في الفطر أن كون الشيء المفعول مخلوقاً يقتضي أنه كان بعد أن لم يكن. ولهذا كان ما أخبر الله به في كتابه من أنه خلق السموات والأرض مما يفهم جميع الخلائق أنهما حدثتا بعد أن لم تكونا، وأما تقدير كونهما لم يزالا معه مع كونهما مخلوقين له فهذا تنكره الفطر، ولم يقله إلا شر ذمه قليلة من الدهرية كابن سينا وأمثاله.
وأما جمهور الفلاسفة الدهرية كأرسطو وأتباعه فلا يقولون: أن الأفلاك معلولة لعلة فاعلة كما يقوله هؤلاء؛ بل قولهم وإن كان أشد فساداً من قول متأخريهم فلم يخالفوا صريح المعقول في هذا المقام الذي خالفه هؤلاء، وإن كانوا خالفوه من جهات أخرى ونظروا في حقيقة قول أهل الكلام الجهمية والقدرية ومن اتبعهم، فوجدوا أن الفاعل صار فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً من غير حدوث شيء أوجب كونه فاعلاً، ورأوا صريح العقل يقتضي بأنه إذا صار فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً، فلابد من حدوث شيء وأنه يمتنع في العقل أن يصير ممكناً بعد أن كان ممتنعاً بلا حدوث، وأنه لا سبب يوجب حصول وقت حدث وقت الحدوث؛ وأن حدوث جنس الوقت ممتنع، فصاروا يظنون إذا جمعوا بين هؤلاء أنه يلزم الجمع بين النقيضين، وهو أن يكون الفاعل قبل الفعل وأنه يمتنع أن يصير فاعلاً بعد ان لم يكن فيكون الفعل معه، فيكون الفعل مقارناً غير مقارن بأن كان بعد ان لم يكن حادثاً مسبوقاً بالعدم، فامتنع على هذا التقدير أن يكون فعل الفاعل مسبوقاً بالعدم، ووجب على التقدير الأول أن يكون فعل الفاعل مسبوقاً بالعدم، ووجدوا عقولهم تقصر عما يوجب هذا الإثبات وما يوجب هذا النفي، والجمع بين النقيضين ممتنع، فأوقعهم ذلك في الحيرة والشك.
ومن أسباب ذلك أنهم لم يعرفوا حقيقة السمع والعقل، فلم يعرفوا ما دل عليه الكتاب والسنة، ولم يميزوا في المعقولات بين المشتبهات، وذلك أن العقل يفرق بين كون المتكلم متكلماً بشيء بعد شيء دائماً، وكون الفاعل يفعل شيئاً بعد شيء دائماً، وبين آحاد الفعل والكلام، فيقول: كل واحد من أفعاله لابد أن
يكون مسبوقاً بالفاعل وأن يكون مسبوقاً بالعدم، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلاً وأبداً وأما كون الفاعل لم يزل يفعل فعلاً بعد فعل فهذا من كمال الفاعل، فإذا كان الفاعل حياً، وقيل: إن الحياة مستلزمة الفعل والحركة كما فإذا كان الفاعل حياً، وقيل: إن الحياة مستلزمة الفعل والحركة كما قال ذلك أئمة أهل الحديث كالبخاري والدارمي وغيرهما، وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء وبما شاء ونحو ذلك، كما قاله ابن المبارك وأحمد وغيرهما من أئمة أهل الحديث والسنة: كان كونه متكلماً أو فاعلاً من لوازم حياته، وحياته لازمة له، فلم يزل متكلماً فعالاً، مع العلم بأن الحي يتكلم ويفعل بمشيئته وقدرته، وأن ذلك يوجب وجود كلام بعد كلام وفعل بعد فعل، فالفاعل يتقدم على كل فعل من أفعاله، وذلك يوجب أن كل ما سواه محدث مخلوق، ولا نقول: أنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق [له قدرة] والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولكن نقول: لم يزل الله عالماً قادراً مالكاً، لا شبه له ولا كيف.
فليس مع الله شيء من مفعولاته قديم معه، لا بل هو خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد ان لم يكن وان قدر أنه لم يزل خالقاً فعالاً.
وإذا قيل: أن الخلق صفة كمال؛ لقوله تعالى {افمن يخلق كمن لا يخلق؟} أمكن أن تكون خالقيته دائمة وكل مخلوق له محدث مسبوق بالعدم، وليس مع الله شيء قديم؟ وهذا أبلغ في الكمال من أن يكون معطلاً غير قادر على الفعل ثم يصير قادراً والفعل ممكناً له بلا سبب. وأما جعل المفعول المعين مقارناً له أزلاً وأبداً فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله، فإن كون الفاعل مقارناً لمفعوله أزلاً وأبداً مخالف لصريح المعقول.
فهؤلاء الفلاسفة الدهرية وان ادعوا أنهم يثبتون دوام الفاعليه فهم في الحقيقة معطلون للفاعلية، وهي الصفة التي هي أظهر صفات الرب تعالى، ولهذا وقع الإخبار بها في أول ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فإن أوله:{اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم} . فأطلق الخلق ثم خص الإنسان، وأطلق التعليم ثم خص التعليم بالقلم، والخلق يتضمن فعله، والتعليم يتضمن قوله، فإنه يعلم بتكليمه وتكليمه بالايحاء؛ وبالتكلم من وراء حجاب، وبإرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء، قال تعالى:{وعلمك ما لم تكن تعلم) ، وقال تعالى: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} ، وقال تعالى {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل: رب زدني علماً} وقال تعالى: {الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان الشمس والقمر بحسبان} .
وهؤلاء الفلاسفة يتضمن قولهم في الحقيقة أنه لم يخلق ولم يعلم، فإن ما يثبتونه من الخلق والتعليم إنما يتضمن التعطيل، فإنه على قولهم لم يزل الفلك مقارناً له
أزلاً وأبداً، فامتنع حينئذ أن يكون مفعولاً له، فإن الفاعل لابد أن يتقدم على فعله 0
(الوجه الرابع عشر) : أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لدعوة الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له، وذلك يتضمن معرفته لما أبدعه من مخلوقاته، وهي المخلوقات المشهودة الموجودة: من السموات والأرض وما بينهما، فأخبر
[في] الكتاب الذي لم يأت من عنده كتاب أهدى منه بأنه خلق أصول هذه المخلوقات الموجودة المشهورة في ستة أيام ثم استوى على العرش.
وشرع لأهل الإيمان أن يجتمعوا كل أسبوع يوماً يعبدون الله فيه ويحتفلون بذلك، ويكون ذلك آية على الأسبوع الأول الذي خلق الله فيه السموات والأرض. ولما لم يعرف الأسبوع إلا بخبر الأنبياء فقد جاء في لغتهم عليهم السلام أسماء أيام الأسبوع فإن التسمية تتبع النصوص فالاسم يعبر عما تصوره، فلما كان تصور اليوم والشهر والحول معروفاً بالعقل تصورت ذلك الاسم وعبرت عن ذلك، واما الأسبوع فلما لم يكن في مجرد العقل ما يوجب معرفته فإنما عرف بالسمع صارت معرفته عند أهل السمع المتلقين عن الأنبياء دون غيرهم، وحينئذ فاخبروا الناس بخلق هذا العالم الموجود المشهود وابتداء خلقه، وأنه خلقه في ستة أيام، وأما ما خلقه قبل ذلك شيئاً بعد شيء فهذا بمنزلة ما سيخلقه بعد قيام القيامة ودخول أهل الجنة وأهل النار منازلهما. وهذا مما لا سبيل للعباد إلى معرفته تفصيلاً.
ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم " رواه البخاري. فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم ببدء الخلق إلى دخول أهل الجنة والنار منازلهما.
وقوله: " بدأ الخلق " مثل قوله في الحديث الآخر: " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " فإن الخلائق هنا المراد بها الخلائق المعروفة المخلوقة بعد خلق العرش وكونه على الماء، ولهذا كان التقدير للمخلوقات هو التقدير لخلق هذا العالم، كما في حديث القلم: ان الله لما خلقه
قال: أكتب! قال: وماذا اكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.
وكذلك في الحديث الصحيح: " ان الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " وقوله في الحديث الآخر الصحيح: " كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض "، يراد به أنه كتب كل ما أراد خلقه من ذلك؛ فإن لفظ كل شيء يعم في كل موضع بحسب ما سيقت له، كما في قوله:{بكل شيء عليم} ، {وعلى كل شيء قدير} ، وقوله:{الله خالق كل شيء} ، {تدمر كل شيء} ، {وأوتيت من كل شيء} ، و {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} ، {ومن كل شيء خلقنا زوجين} ، وأخبرت الرسل بتقديم أسمائه وصفاته كما في قوله:{وكان الله عزيزاً حكيماً} ، {سميعاً بصيراً} ، {غفوراً رحيماً} وأمثال ذلك.
قال ابن عباس: " كان ولا يزال " ولم يقيد كونه بوقت دون وقت ويمتنع أن يحدث له غيره صفة، بل يمتنع توقف شيء من لوازمه على غيره سبحانه، فهو المستحق لغاية الكمال، وذاته هي المستوجبة لذلك. فلا يتوقف شيء من كماله ولوازم كماله على غيره. بل نفسه المقدسة، وهو المحمود على ذلك أزلاً وأبداً، وهو الذي يحمد نفسه ويثني عليها بما يستحقه،. وأما غيره فلا يحصى ثناء عليه، بل هو نفسه كما أثنى على نفسه، كما قال سيد ولد آدم في الحديث الصحيح:" اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك "
وإذا قيل: لم يكن متكلماً ثم تكلم، أو قيل: كان الكلام ممتنعاً ثم صار ممكناً له، كان هذا مع وصفه له بالنقص في الأزل وأنه تجدد له الكمال ومع تشبيه له بالمخلوق الذي ينتقل من النقص إلى الكمال: ممتنعاً؛ من جهة أن الممتنع لا يصير ممكناً بلا سبب، والعدم المحض لا شيء فيه، فامتنع أن يكون الممتنع فيه يصير ممكناً بلا سبب حادث.
وكذلك إذا قيل: كلامه كله معنى واحد لازم لذاته ليس له فيه قدرة ولا مشيئة، كان هذا في الحقيقة تعطيلاً للكلام وجمعاً بين المتناقضين، إذ هو إثبات لموجود حقيقة له، بل يمتنع أن يكون موجوداً مع أنه لا مدح فيه ولا كمال
وكذلك إذا قيل: كلامه كله قديم العين، وهو حروف وأصوات قديمة لازمة لذاته ليس له فيه قدرة ولا مشيئة. كان هذا مع ما يظهر من تناقضه وفساده ففي المعقول لا كمال فيه، إذ لا يتكلم بمشيئته ولا قدرته ولا إذا شاءه.
أما قول من يقول: ليس كلامه إلا ما يخلقه في غيره. فهذا تعطيل للكلام من كل وجه، وحقيقته أنه لا يتكلم كما قال ذلك قدماء الجهمية، وهو سلب للصفات؛ إذ فيه من التناقض والفساد حيث أثبتوا الكلام المعروف ونفوا لوازمه: ما يظهر به أنه من أفسد أقوال العالمين، بأنهم أثبتوا أنه يأمر وينهي؛ ويخبر ويبشر؛ وينذر وينادي؛ من غير أن يقوم به شيء من ذلك، كما قالوا: أنه يريد ويحب ويبغض؛ ويغضب، من غير أن يقول به شيء من ذلك، وفي هذا من مخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول ما هو مذكور في غير هذا الموضع.
وأما القائلون بقدم هذا العالم فهم أبعد عن المعقول والمنقول من جميع الطوائف؛ ولهذا أنكروا الكلام القائم بذاته والذي يخلقه في غيره، ولم يكن
كلامه عندهم إلا ما يحدث في النفوس من المعقولات والتخيلات، وهذا معنى تكليمه لموسى عليه السلام عندهم، فعاد التكليم إلى مجرد علم المكلم، ثم إذا قالوا مع ذلك: أنه لا يعلم الجزئيات، فلا علم ولا أعلام، وهذا غاية التعطيل والنقص، وهم ليس لهم دليل قط على قدم شيء من العالم، بل حججهم إنما تدل على قدم نوع الفعل، وأنه لم يزل الفاعل فاعلاً أو لم يزل لفعله مدة؛ أو أنه لم يزل للمادة مادة. وليس في شيء من أدلتهم ما يل على قدم الفلك، ولا قدم شيء من حركاته؛ ولا قدم الزمان الذي هو مقدار حركة الفلك. والرسل أخبرت بخلق الأفلاك وخلق الزمان الذي هو مقدار حركتها، مع إخبارها بأنها خلقت من مادة قبل ذلك، وفي زمان قبل هذا الزمان؛ فإنه سبحانه أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وسواء قيل: أن تلك الأيام بمقدار هذه الأيام المقدرة بطلوع الشمس وغروبها؛ أو قيل: أنها أكبر منها كما قال بعضهم: إن كل يوم قدره ألف سنة، فلا ريب أن تلك الأيام التي خلقت فيها السموات والأرض غير هذه الأيام، وغير الزمان الذي هو مقدار حركة هذه الأفلاك. وتلك الأيام مقدرة بحركة أجسام موجودة قبل خلق السموات والأرض.
وقد أخبر سبحانه أنه {استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض: ائتيا طوعاً أو كرهاً! قالتا: أتينا طائعين} فخلقت من الدخان وقد جاءت الآثار عن السلف أنها خلقت من بخار الماء؛ وهو الماء الذي كان العرش عليه، المذكور في قوله:{وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} ، فقد أخبر أنه خلق السموات والأرض في مدة ومن مادة،
ولم يذكر القرآن خلق شيء من لا شئ، بل ذكر أنه خلق المخلوق بعد أن لم يكن شيئاً، كما قال:{وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً} ، مع إخباره أنه خلقه من نطفة.
وقوله: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟} فيها قولان.
فالاكثرون على ان المراد أم خلقوا من غير خالق بل من العدم المحض؟ كما قال تعالى: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} ، وكما قال تعالى:{وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} ، وقال تعالى:{وما بكم من نعمة فمن الله} .
وقيل: أم خلقوا من غير مادة؟ وهذا ضعيف، لقوله بعد ذلك:{أم هم الخالقون؟} ، فدل ذلك على أن التقسيم أم خلقوا من غير خالق، أو هم الخالقون؟ ولو كان المراد من غير مادة لقال: أم خلقوا من غير شيء، أو من ماء مهين؟ فدل على أن المراد أنا خالقهم لا مادتهم.
ولأن كونهم خلقوا من غير مادة ليس فيه تعطيل وجود الخالق، فلو ظنوا ذلك لم يقدح في ايمانهم بالخالق بل دل على جهلهم، ولأنهم لم يظنوا ذلك ولا يوسوس الشيطان لابن آدم بذلك، بل كلهم يعرفون أنهم خلقوا من آبائهم وأمهاتهم، ولأن اعترافهم بذلك لا يوجب إيمانهم ولا يمنع كفرهم، والاستفهام استفهام انكار مقصوده تقريرهم أنهم لم يخلقوا من غير شيء، فإذا أقروا بأن خالقاً خلقهم نفعهم ذلك، وأما إذا أقروا بأنهم خلقوا من مادة لم يغن
ذلك عنهم من الله شيئاً.
(الوجه الخامس عشر) : أن الإقرار بأن الله لم يزل يفعل ما يشاء ويتكلم بما
يشاء هو وصف الكمال الذي يليق به؛ وما سوى ذلك نقص يجب نفيه عنه، فإن كونه لم يكن قادراً ثم صار قادراً على الكلام أو الفعل مع أنه وصف له؛ فإنه يقتضي أنه كان ناقصاً عن صفة القدرة التي هي من لوازم ذاته، والتي هي من أظهر صفات الكمال، فهو ممتنع في العقل بالبرهان اليقيني، فإنه إذا لم يكن قادراً ثم صار قادراً فلابد من أمر جعله قادراً بعد أن لم يكن. فإذا لم يكن هناك إلا العدم المحض امتنع أن يصير قادراً بعد أن لم يكن. وكذلك يمتنع أن يصير عالماً بعد ان لم يكن قبل هذا، بخلاف الإنسان فإنه كان غير عالم ولا قادر ثم جعله غيره عالماً قادراً، وكذلك إذا قالوا: كان غير متكلم ثم صار متكلماً.
وهذا مما أورده الإمام أحمد على الجهمية؛ إذ جعلوه كان غير متكلم ثم صار متكلما، قالوا: كالإنسان، قال: فقد جمعتم بين تشبيه وكفر. وقد حكيت ألفاظه في غير هذا الموضع.
وإذا قال القائل: كان في الأزل قادراً على أن يخلق فيما لا يزال، كان هذا كلاماً متناقضاً، لأنه في الأزل عندهم لم يكن يمكنه أن يفعل، ومن لم يمكنه الفعل في الأزل امتنع أن يكون قادراً في الأزل؛ فإن الجمع بين كونه قادراً وبين كون المقدور ممتنعاً جمع بين الضدين، فإنه في حال امتناع الفعل لم يكن قادراً.
وأيضاً يكون الفعل ينتقل من كونه ممتنعاً إلى كونه ممكناً بغير سبب موجب يحدد ذلك وعدم ممتنع.
وأيضاً فما من حال يقدرها العقل إلا والفعل فيها ممكن وهو قادر، وإذا
قدر قبل ذلك شيئاً شاءه الله فالأمر كذلك، فلم يزل قادراً والفعل ممكن؛
وليس لقدرته وتمكنه من الفعل أول، فلم يزل قادراً يمكنه أن يفعل، فلم يكن الفعل ممتنعاً عليه قط.
وأيضاً فانهم يزعمون أنه يمتنع في الأزل والأزل. ليس شيئاً محدوداً يقف عنده العقل، بل ما من غاية ينتهي إليها تقدير الفعل إلا والأزل قبل ذلك بلا غاية محدودة، حتى لو فرض وجود مدائن أضعاف مدائن الأرض في كل مدينة من الخردل ما يملؤها؛ وقدر أنه كلما مضت ألف ألف سنة فنيت خردلة فني الخردل كله والأزل لم ينته، ولو قدر أضعاف ذلك أضعافاً لا ينتهي. فما من وقت يقدر إلا والأزل قبل ذلك. وما من وقت صدر فيه الفعل إلا وقد كان قبل ذلك ممكناً وإذا كان ممكناً فما الموجب لتخصيص حال الفعل بالخلق دون ما قبل ذلك فيما لا يتناهى؟
وأيضاً فالأزل معناه: عدم الأولية، ليس الأزل شيئاً محدوداً، فقولنا: لم يزل قادراً بمنزلة قولنا: هو قادر دائماً، وكونه قادراً وصف دائم لا ابتداء له، فكذلك إذا قيل: لم يزل متكلماً إذا شاء ولم يزل يفعل ما شاء، يقتضي دوام كونه متكلماً وفاعلاً بمشيئته وقدرته، وإذا ظن الظان ان هذا يقتضي قدم شيء معه كان من فساد تصوره، فإنه إذا كان خالق كل شيء فكل ما سواه مسبوق بالعدم، فليس معه شيء قديم بقدمه. وإذا قيل: لم يزل يخلق كان معناه لم يزل يخلق مخلوقاً بعد مخلوق، كما لا يزال في الأبد يخلق مخلوقاً يعد مخلوق، ننفي ما ننفيه من الحوادث والحركات شيئاً بعد شيء، وليس في ذلك إلا وصفه بدوام الفعل، لا بأن معه مفعولاً من المفعولات بعينه.
وإن قدر أن نوعها لم يزل معه فهذه المعية لم ينفها شرع ولا عقل، بل هي من
كماله، قال تعالى:{أفمن يخلق كمن لا يخلق؟ أفلا تذكرون؟} والخلق لا يزالون معه، وليس في كونهم لا يزالون معه في المستقبل ما ينافي كماله، وبين الأزل في المستقبل مع أنه في الماضي حدث بعد أن لم يكن إذ كان كل مخلوق فله ابتداء، ولا نجزم أن يكون له انتهاء.
وهذا فرق في أعيان المخلوقات، وهو فرق صحيح لكن يشتبه على كثير من الناس النوع بالعين، كما اشتبه ذلك على كثير من الناس في الكلام فلم يفرقوا بين كونه كلامه قديماً بمعنى أنه لم يزل متكلماً إذا شاء، وبين كون الكلام المعين قديماً.
وكذلك لم يفرقوا بين كون الفعل المعين [قديماً وبين كون نوع الفعل] المعين قديماً كالفلك محدث مخلوق مسبوق بالعدم، وكذلك كل ما سواه، وهذا الذي دل عليه الكتاب والسنة والآثار، وهو الذي تدل عليه المعقولات الصريحة الخالصة من الشبه، كما قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع، وبينا مطابقة العقل الصريح للنقل الصحيح.
وإن غلط أهل الفلسفة والكلام أو غيرهم فيهما أو في أحدهما، وإلا فالقول الصدق المعلوم بعقل أو سمع يصدق بعضه بعضاً ولا يكذب بعضه بعضاً، قال تعالى:{والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} ، بعد قوله:{ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه} ، وإنما مدح من جاء بالصدق وصدق بالحق الذي جاءه وهذه حال من لم يقبل إلا الصدق ولم يرد ما يجيئه به غيره من الصدق، بل قبله ولم يعارض بينهما ولم يدفع
أحدهما بالآخر.
وحال من كذب على الله ونسب إليه بالسمع أو العقل مالا يصح نسبته إليه، أو كذب بالحق لما جاءه، فكذب من جاء بحق معلوم من سمع أو عقل، وقال تعالى عن أهل النار:{لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} فأخبر أنه لو حصل لهم سمع أو عقل ما دخلوا النار. وقال تعالى: {أو لم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها؟ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} ، وقال تعالى:{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} أي: ان القرآن حق، فأخبر أنه سيرى عباده الآيات المشهودة المخلوقة حتى يتبين أن الآيات المتلوة المسموعة حق.
ومما يعرف به منشأ غلط هاتين الطائفتين غلطهم في الحركة والحدوث ومسمى ذلك.
فطائفة - كأرسطو وأتباعه - قالت: لا يعقل أن يكون جنس الحركة والزمان والحوادث حادثاً؛ وأن يكون مبدأ كل حركة وحادث صار فاعلاً لذلك بعد أن لم يكن، وأن يكون الزمان حادثاً بعد أن لم يكن حادثاً، مع أن قبل وبعد لا يكون إلا في زمان، وهذه القضايا كلها إنما تصدق كلية لا تصدق معينة، ثم ظنوا أن الحركة المعينة وهي حركة الفلك هي القديمة الأزلية وزمانها قديم، فضلوا ضلالاً مبيناً مخالفاً لصحيح المنقول المتواتر عن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، مع مخالفته لصريح المعقول الذي عليه جمهور العقلاء من الأولين والآخرين.
وطائفة ظنوا أنه لا يمكن أن يكون جنس الحركة والحوادث والفعل إلا بعد أن
لم يكن شيء من ذلك، أو أنه يجب أن يكون فاعل الجميع لم يزل معطلاً، ثم حدثت الحوادث بلا سبب أصلاً، وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان بلا سبب، وصار قادراً بعد أن لم يكن بلا سبب، وكان الشيء بعد ما لم يكن في غير زمان، وأمثال ذلك مما يخالف صريح العقل.
وهم يظنون مع ذلك أن هذا قول أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، وليس هذا القول منقولاً عن موسى؛ ولا عيسى؛ ولا محمد صلوات الله عليهم وسلامه؛ ولا عن أحد من أصحابهم، إنما هو مما أحدثه بعض أهل البدع وانتشر عند الجهال بحقيقة أقوال الرسل وأصحابهم، فظنوا أن هذا قول الرسل صلى الله عليه وسلم الله عليهم وسلم، وصار نسبة هذا القول إلى الرسل وأتباعهم يوجب القدح فيهم: إما بعدم المعرفة بالحق في هذه المطالب العالية، وإما بعدم بيان الحق. وكل منهما يوجب عند هؤلاء أن يعزلوا الكتاب والسنة وآثار السلف عن الاهتداء وإنما ضلوا لعدم علمهم بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان. فإن الله تعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً.
ثالثاً: المعقول من وجوه:
1-
برهان التطبيق والموازنة والمسامتة:
وهو أشهر الأدلة وأجلاها، بل هو عمدتها، عند المتكلمين، وحاصله، أننا لو فرضنا، سلسلتين غير متناهيتين، احداهما تزيد عن الأخرى، بأن نفرض أن الأولى تبدأ من أكتوبر سنة 1985، إلى غير بداية في الماضي، وأن الثانية تبدأ من أكتوبر سنة 1984، إلى غير بداية في الماضي، أيضاً، ثم تطابق بين هاتين
السلسلتين، بأن نأخذ الحلقة الأولى، ونطبقها على الحلقة الأولى، من السلسة الثانية، ثم نأخذ الحلقة الثانية، من السلسلة الأولى، ونطبقها على الحلقة الثانية، من السلسلة الثانية، وهكذا، تنطبق الثالثة بالثالثة، والرابعة بالرابعة، والخامسة بالخامسة، وهلم جرا، ذاهبين بالتطبيق نحو الماضي، فلا يخلو الأمر: اما أن يستمر التطبيق، إلى غير نهاية فيترتب مع ذلك مساواة الزائد للناقص وهذا ظاهر البطلان، أو تنتهي الناقصة، فيلزم أيضاً انتهاء الزائدة، لأنها قد زادت عليها، بقدر متناهي، والزائد بالمتناهي متناهي، وبذلك ينقطع التسلسل، وهو المطلوب إثباته (1) .
والرد على هذا الدليل من وجوه: -
أإن التطبيق بين المتفاضلين غير وارد وإنما يرد في المتماثلين - ولو سلم فيرد عليه أمر آخر وهو:
ب وهو قولهم: إنه " إذا لم تفرغ السلسلتان لزم مساواة الناقص للزائد " غير صحيح، لأن الاشتراك في عدم التناهي لا يقتضي التساوي في المقدار، وهذا يتضح بمثال وهو:
إذا ضاعف شخص: الواحد تضعيفاً لا يتناهى هكذا:
21، 31، 41، 51، 61، 71
(1)
…
انظر علم التوحيد د 0 عبد الحميد ص 104، حاشية الأمير على اللقاني ص61، شرح جوهرة اللقاني للبيجوري ص52، والمواقف للإيجى ص90 وشرحه للجرجاني (4/168)
ثم ضاعف الاثنين كذلك تضعيفاً لا يتناهي هكذا:
22، 32، 42، 52، 62، 72
فإن الواحد والاثنين اشتركا في عدم التناهي في التضعيف، وهما قطعاً لا يتساويان لأن حاصل تضعيف الواحد دائماً يساوي واحداً فالمسألة هكذا:
21 = 1، 31=1، 41 =1
أما الرقم اثنان فإنه يزاداد مقداره بتضعيفه هكذا
22 = 4، 32 =8، 42 = 16، 52 = 32،
فظهر من هذا أن الاشتراك في عدم التناهي لا يقتضي التساوي في المقدار.
جـ-
…
وأما قولهم " لتحقق الزيادة في أحدهما " فغير وارد لأن هذه الزيادة في الجهة المتناهية وهي المستقبل، فلا يلزم إذاً المساواة بينهما في الماضي، وغاية ما في الأمر أنه لم يمكنهم حصر الأعداد في الماضي بحسب الواقع بل بحكم العقل.
ولهذا فإن التفتازاني لما وجد صعوبة في بيان برهان التطبيق لإبطال حوادث لا أول لها قال: " والحق أن تحصيل الجملتين من سلسلة واحدة ثم مقابلة جزء من هذه بجزء من تلك إنما هو بحسب العقل دون الخارج، فإن كفى في تمام الدليل حكم العقل بأنه لابد أن يقع بإزاء كل جزء جزء أو لا يقع، فالدليل جار في الأعداد وفي الموجودات المتعاقبة والمجتمعة والمترتبة وغير المترتبة، لأن للعقل أن يفرض ذلك في الكل، وإن لم يكف ذلك بل اشترط ملاحظة أجزاء الجملتين على التفصيل لم
يتم الدليل في الموجودات المترتبة فضلاً عما عداها، لأنه لا سبيل إلى ذلك إلا فيما لا يتناهى من الزمان " وقال الظواهري بعد نقل كلام التفتازاني " وبعد ما تقدم صار التطبيق غير متفق عليه في إبطال التسلسل وإن قيل إنه العمدة!! " اهـ. (1)
(2)
…
أن الدليل القطعي قد قام على حدوث العالم بجميع أجزائه والقول بتسلسل الحوادث في جانب الأزل بلا بداية معناه القول بقدم العالم، والقدم والحدوث نقيضان لا يجتمعان فيلزم من التسلسل قدم المفعول.
والجواب على ذلك أنه: لا يلزم من ذلك قدم العالم، لأن كل ما سوى الله محدث ممكن الوجود، موجود بإيجاد الله تعالى له، ليس له من نفسه إلا العدم، والفقر والإحتياج وصف ذاتي لازم لكل ما سوى الله تعالى، والله تعالى واجب الوجود لذاته، غني لذاته، والغنى وصف ذاتي لازم له سبحانه وتعالى بل القول بأن الحوادث لها أول يلزم منه التعطيل قبل ذلك وإن الله لم يزل غير فاعل ثم صار فاعلاً.
(3)
…
ما أورد أبو المعالي في " إرشاده "(2) وغيره من النظار على التسلسل
في الماضي، فقالوا: لأنك لو قلت: لا أعطيك درهماً إلا أعطيك بعده درهماً، كان هذا ممكناً، ولو قلت: لا أعطيك درهماً حتى أعطيك قبله درهماً، كان هذا ممتنعاً.
(1) انظر درء التعارض (1/304) ، ومنهاج السنة (1/434) ، ومنهج أهل السنة والأشاعرة لخالد نور (1/363)
(2)
ص47
فهو قد فرق بمثاله بين الماضي والمستقبل، وذكر أن المستقبل بمنزلة ما إذا قال قائل: لا أعطيك درهماً، إلا أعطيتك بعده درهماً، وهذا كلام صحيح، والماضي بمنزلة أن يقول: لا أعطيك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً، وهذا كلام متناقض.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن هذا المثال ليس بمطابق؛ " لأن قوله: لا أعطيك: نفي للحاضر والمستقبل، ليس نفياً للماضي، فإذا قال: لا أعطيك هذه الساعة، أو بعدها شيئاً، إلا أعطيتك قبله شيئاً؛ اقتضى أن لا يحدث فعلاً الآن، حتى يحدث فعلاً في الزمن الماضي وهذا ممتنع أو بمنزلة أن يقول: لا أفعل حتى أفعل: وهذا جمع بين النقيضين وإنما مثاله أن يقول: ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً؛ فكلاهما ماض.
فإذا قال القائل: ما يحدث شيء إلا ويحدث بعده شيء: كان مثاله أن يقول: ما حدث شيء إلا حدث قبله شيء لا يقول لا يحدث في المستقبل شيء إلا حدث قبله شيء. وكل ما له ابتداء وانتهاء؛ كعمر العبد: يمتنع أن يكون فيه عطاء لا انتهاء له، أو عطاء لا ابتداء له. وإنما الكلام فيما لم يزل ولا يزال "
فهذا المثال الذي ذكره الجويني على الفرق بين الماضي والمستقبل، ليس مطابقاً فلا يصح لأن يكون دليلاً على التفريق بينهما.
وقد قلبه شيخ الإسلام رحمه الله؛ فجعله حجة على قائله، وبين أن مطابقته لحوادث الماضي أبين. (1)
(1) درء التعارض (2/359) ، (9/186) .
(4)
ومن شبههم أيضاً (1) أنه إذا كان كل فرد من أفراد الفعل حادثاً، فكيف يكون نوعه قديماً مع أن النوع ليس إلا مجموعة الأفراد، فإذا كان كل فرد حادثاً مسبوقاً بالعدم، كان الكل كذلك، إذ لا يصح أن توصف الجملة بحكم غير حكم الأفراد، فإذا قلت مثلاً كل زنجي أسود، كان الكل أسود بالضرورة ويقول الشيخ هراس في كتاب ابن تيمية السلفي ص127:
ولكن كيف يقول ابن تيمية بقدم جنس الصفات والأفعال مع حدوث آحادها، وهل الجنس شيء آخر غير الإفراد مجتمعة، وهل للكلي وجود إلا في ضمن جزئياته فإذا كان كل جزئي من جزئياته حادثاً فكيف يكون الكلي قديماً.
ويقول ص 123:
وقد رأيت سعد الدين التفتازاني في رده على الفلاسفة القائلين بقدم الحركة بالنوع مع حدوث أشخاصها يقول بأن ماهية الحركة لو كانت قديمة أي موجودة في الأزل لزم أن يكون شيء من جزئياتها أزلياً إذ لا تحقق للكلي إلا في ضمن جزئياته ويذكر أيضاً عند بيان امتناع تعاقب الحوادث لا إلى بداية أنه لما كان كل حادث مسبوقاً بالعدم كان الكل كذلك فإذا كان كل زنجي أسود كان الكل أسود ضرورة.
وقد تعقبه الجلال الدواني في شرحه للعقائد العضدية وعد ذلك سخافة منه وبين أن مراد الفلاسفة بقدم الحركة هو قدم نوعها بمعنى أن لا يزال فرد من أفراد ذلك النوع موجوداً بحيث لا ينقطع بالكلية ثم قال ومن البين أن حدوث كل فرد لا ينافي ذلك أصلاً وضرب لذلك مثلاً بالورد الذي لا يبقى منه فرد أكثر من يوم أو يومين مع أن الورد باق أكثر من شهر أو شهرين.
(1) انظر حاشية الشرقاوي على أم البراهين ص103
ونحن نقول له هذا قياس باطل فإن الكلام ليس فيما لا نهاية له من الحوادث في جانب المستقبل كما يقول به كثير من المتكلمين في نعيم أهل الجنة ونحو ذلك حتى يعترض ببقاء الورد مع فناء كل فرد من أفراده وإنما كلامنا فيما لا بداية له من الحوادث في جانب الماضي بمعنى أنه ما من حادث إلا وهو مسبوق بحادث لا إلى أول بحيث يكون جنس هذه الحوادث قديماً، وكل فرد منها حادثاً هل هو معقول أو لا الحق أنه يحتاج في تصوره إلى جهد كبيرا0هـ.
وأجاب شيخ الإسلام عن هذه الشبهة في منهاج السنة (1/426) بقوله (1) :
لا يلزم من حدوث كل فرد فرد مع كون الحوادث متعاقبة [حدوث النوع] ، فلا يلزم من ذلك أنه لم يزل الفاعل المتكلم معطلاً عن الفعل والكلام، ثم حدث ذلك بلا سبب، كما لم يلزم [مثل] ذلك في المستقبل، فإن كل فرد فرد من المستقبلات المنقضية فان، وليس النوع فانياً كما قال تعالى:{أكلها دائم وظلها} [سورة الرعد: 35] وقال {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} [سورة ص: 54] فالدائم الذي لا ينفد - أي لا ينقضي - هو النوع، وإلا فكل فرد من أفراده نافد منقض ليس بدائم.
وذلك أن الحكم الذي توصف به الأفراد إذا كان لمعنى موجود في الجملة [وصفت به الجملة، مثل وصف كل فرد بوجود أو إمكان أو بعدم، فإنه يستلزم وصف الجملة] بالوجود والإمكان والعدم، لأن طبيعة الجميع هي طبيعة كل واحد واحد، وليس المجموع إلا الآحاد الممكنة أو الموجودة أو المعدومة.
(1)
…
وانظر درء التعارض (9/137-158)
وأما إذا كان ما وصف به الأفراد لا يكون صفة للجملة، لم يلزم أن يكون حكم الجملة حكم الأفراد، كما في أجزاء البيت والإنسان [والشجرة] ، فإنه ليس كل منها بيتاً ولا إنساناً [ولا شجرة] ، وأجزاء الطويل والعريض والدائم والممتد، لا يلزم أن يكون كل مكنها طويلاً وعريضاً ودائماً وممتداً.
وكذلك إذا وصف كل واحد واحد من المتعاقبات بفناء أو حدوث، لم يلزم أن يكون النوع منقطعاً أو حادثاً، بعد أن لم يكن، لأن حدوثه معناه أنه وجد بعد أن لم يكن كما أن فناءه معناه أنه عدم بعد وجوده. وكونه عدم بعد وجوده أو وجد بعد عدمه، أمر يرجع إلى وجوده وعدمه، لا إلى نفس الطبيعة الثابتة للمجموع، كما في الأفراد الموجودة أو المعدومة أو الممكنة، فليس إذا كان هذا المعين لا يدوم، يلزم أن يكون نوعه لا يدوم،، لأن الدوام تعاقب الأفراد، وهذا أمر يختص به المجموع لا يوصف به الواحد، وإذا حصل للمجموع بالاجتماع حكم يخالف به حكم الأفراد، لم يجب مساواة المجموع للأفراد في أحكامه وبالجملة فما يوصف به الأفراد قد توصف به الجملة وقد لا توصف به، فلا يلزم من حدوث الفرد حدوث النوع، إلا إذا ثبت أن هذه الجملة موصوفة بصفة هذه الأفراد.
وضابط ذلك أنه إن كان بانضمام هذا الفرد إلى هذا الفرد يتغير ذلك الحكم الذي لذلك الفرد، لم يكن حكم المجموع حكم الأفراد، وإن لم يتغير ذلك الحكم الذي لذلك الفرد، كان حكم المجموع حكم أفراده.
مثال الأول: إنا إذا ضممنا هذا الجزء إلى هذا الجزء، صار المجموع أكثر وأطول وأعظم من كل فرد، فلا يكون في مثل هذا حكم المجموع حكم الأفراد،
فإذا قيل: إن هذا اليوم طويل، لم يلزم أن يكون جزؤه طويلاً وكذلك إذا قيل: هذا الشخص أو الجسم طويل أو ممتد، أو قيل: إن هذه الصلاة طويلة، أو قيل [إن] هذا النعيم دائم؛ لم يلزم أن يكون كل جزء منه دائماً.
قال الله تعالى {أكلها دائم وظلها} [سورة الرعد: 35] ، وليس كل جزء من أجزاء الأكل دائماً، وكذلك في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم:" أحب العمل إلى الله أدومه " وقول عائشة [رضي الله عنها] : وكان عمله ديمة فإذا كان عمل المرء دائماً، لم يلزم أن يكون كل جزء منه دائماً وكذلك إذا قيل: هذا المجموع عشر أوقية أو نش أو إستار، لم يلزم أن يكون كل جزء من أجزائه عُشر أوقية ولا نشا ولا إستارا، لأن المجموع حصل بانضمام الأجزاء بعضها إلى بعض، والاجتماع ليس موجوداً للأفراد.
وهذا بخلاف ما إذا قيل كل جزء من الأجزاء معدوم أو موجود أو ممكن أو واجب أو ممتنع، فإنه يجب في المجموع أن يكون معدوماً أو موجوداً أو ممكناً أو واجباً أو ممتنعاً، وكذلك إذا قلت: كل واحد من الزنج أسود، فإنه يجب أن يكون المجموع سوداً، لأن اقتران الموجود بالموجود لا يخرجه عن كونه موجوداً، واقتران المعدوم بالمعدوم لا يخرجه عن العدم، واقتران الممكن لذاته والممتنع لذاته بنظيره لا يخرجه عن كونه ممكناً لذاته وممتنعاً لذاته بخلاف ما لا يكون ممتنعاً لذاته إلا إذا انفرد وهو بالاقتران يصير ممكناً، كالعلم مع الحياة، فإنه وحده ممتنع ومع الحياة ممكن، وكذلك أحد الضدين هو وحده ممكن ومع الآخر ممتنع اجتماعهما، فالمتلازمان يمتنع انفراد أحدهما، والمتضادان يمتنع اجتماعهما.
وبهذا يتبين الفرق بين دوام الآثار الحادثة الفانية واتصالها، وبين وجود علل ومعلولات ممكنة لا نهاية لها. فإن من الناس من سوى بين القسمين في الامتناع، كما يقوله كثير من أهل الكلام، ومن الناس من توهم أن التأثير واحد في الإمكان والامتناع، ثم لم يتبين له امتناع علل ومعلولات لا تتناهى، وظن أن هذا موضع مشكل لا يقوم على امتناعه حجة، وإن لم يكتب قولاً لأحد، كما ذكر ذلك الآمدى في " رموز الكنوز " والأبهري [ومن اتبعهما]
والفرق بين النوعين حاصل، فإن الحادث المعين إذا ضم إلى الحادث المعين، حصل من الدوام والامتداد وبقاء النوع ما لم يكن حاصلاً للأفراد، فإذا كان المجموع طويلاً ومديداً ودائماً وكثيراً وعظيماً، لم يلزم أن يكون كل فرد طويلاً ومديداً ودائماً وكثيراً وعظيماً ا0هـ. وانظر الصفدية ايضاً (1/24-27) .
وقال الرازي في المباحث المشرقية (1/781) :
أنه لا يلزم من ثبوت الأول لكل واحد ثُبوت الأول للكل إذ من الجائز أن يكون حكم الكل مخالفاً لحكم الآحاد لأن كل واحد من آحاد العشرة ليس بعشرة والكل عشرة. فكل واحد من الأجزاء ليس بكل مع أن كلها كل وكل واحد من الحوادث اليومية غير مستغرق لكل اليوم مع أن مجموعها مستغرق لكل اليوم. بل نقول إن الكل من حيث هو كل يستحيل أن يكون مساوياً لجزئه من حيث هو جزء وإلا لم يكن أحدهما كلاً والآخر جزءاً وأما المثال الواحد فلا يكفي لأنا لا ندعي أن حكم الجملة يجب أن يكون مساوياً لحكم الآحاد حتى يضرنا المثال الواحد بل نقول ذلك التساوي قد يكون وقد لا يكون والأمر فيه موقوف على البرهان.
وقال في المطالب (4/275) :
والدليل على أنه قد لا يحصل التساوي: وجوه.
الأول: إن كل شيء وجزؤه، لا يتساويان في كونه كلا وجزءاً. وذلك لأن الكل يصدق عليه: أنه كل، ويكذب عليه أنه جزء. وأما الجزء فيصدق عليه: أنه جزء، ويكذب عليه أنه كل. فثبت أن الكل والجزء لا يتساويان في كل الأحكام، وكذلك كل واحد من أجزاء العشرة ليس بعشرة، مع أن مجموع العشرة موصوف بأنه عشرة.
والثاني: إن لكل من الناس رأس [واحد] وليس للكل رأس واحد.
والثالث: إن الجسم يجوز خلوه عن الحركة بعينها، وعن السكون بعينه، مع أنه لا يجوز خلوه عنهما معاً.
والرابع: إن كل واحدة من المقدمتين لا توجب النتيجة، ومجموعهما يوجبها.
الخامس: إن كل واحد من أهل التواتر، يجوز الكذب عليه، وأما مجموعهم فإنه لا يجوز الكذب عليهم. وأيضاً: الخطأ على كل واحد من الأمة جائز، وعلى مجموعهم غير جائز، عند من يقول:" اجتماع الأمة حجة ".
السادس: إن دخول كل واحد من المقدورات التي لا نهاية لها في الوجود: ممكن. وإما دخولها بأسرها في الوجود، فإنه غير ممكن. لأن دخول ما لا نهاية له: محال.
واعلم أن نظائر هذا الباب كثيرة. فقد ظهر أنه لا يجب أن يكون حكم المجموع مساوياً لحكم كل واحد من آحاد المجموع.
وأما المثال الذي ذكروه فضعيف. وذلك لأنهم إما أن يقولوا: حكم الكل
يجب أن يكون مساوياً لحكم الجزء في جميع المواضع، أو يقولوا: إن هذه المساواة قد تحصل في بعض الصور. فإن قالوا: بالوجه الأول كان المثال الذي ذكروه لا يفيد. لأن ثبوت الحكم في بعض الصور، لا يدل على حقيقة القضية. وإن قالوا: بالوجه الثاني، فذاك حق. لكن لم قالوا: إن الحال في هذه المسألة، يجب أن يكون على هذا الوجه؟
واعلم أن ذكر الصور الجزئية لا يدل على حقيقة المقدمة الكلية [أما ورود الحكم على بعض الصور على نقيض المدعي، يدل على أن تلك المقدمة الكلية] باطلة. ثم نقول: الفرق بين قولنا: لما كان كل واحد من الزنج أسود، وجب أن يكون الكل أسود. وبين قولنا: لما كان كل واحد من الحوادث له أول، وجب أن يكون للكل أول: وهو أن علمنا بأن كل واحد من الزنج أسود، يوجب العلم الضروري؛ بأن الكل أسود. أما علمنا بأن كل واحد من الحوادث له أول، فإنه لا يفيد العلم الضروري: بأنه يجب أن يكون للكل أول
(5)
من أدلة المتكلمين أيضاً أنه لو تسلسلت العلل إلى غير النهاية لزم زيادة عدد المعلولات على عدد العلل لكن التالي باطل فما أدى إليه وهو التسلسل باطل.
أما وجه لزوم التالي للمقدم فهو أننا لو فرضنا سلسلة من المعلول الأخير إلى غير النهاية لكانت جميع الأفراد قد تحققت فيها للعلية والمعلولية إلا المعلول الأخير فإنه يكون معلولاً ولا يكون علة وبذلك يزيد عدد المعلومات على عدد العلل.
وهذا نشأ من التسلسل ولو كانت العلل متناهية لا يلزم ذلك لأن كل فرد يكون علة ومعلولاً ما عدا الأول فإنه يكون علة وما عدا الأخير فإنه معلول
فتتساوى العلل والمعلولات.
أما وجه بطلان التالي فهو أن العلة مع المعلول أمران متضايفان تضايفاً حقيقياً، ومن لوازمها التكافؤ في الوجود والتساوي في العدد لأنه لا يمكن وجود أحد
المتضايفين بدون الآخر (1) .
والجواب ان هذا تسلسل في العلل وكلامنا ليس فيه بل في الأفعال والآثار.
(6)
برهان العلة:
لو فرض أن سلسلة من الممكنات، تمتد في الماضي، إلى غير بداية، ثم تسائلنا فقلنا: أن هذه السلسلة، يمكن اعتبارها كلا، مؤلفا من أجزاء ممكنة، فيكون الكل - أيضاً ممكناً ولكل ممكن لابد له من علة، ترجح وجوده على عدمه، فما هي علة ذلك المجموع؟
الفروض العقلية، للإجابة على هذا التساؤل، تنحصر في واحد، من ثلاثة، هي:
1-
إما أن تكون علة هذه السلسلة، هي السلسلة نفسها.
2-
أو تكون علتها، جزءاً من أجزائها.
3-
أو تكون علتها، أمراً خارجاً عن تلك السلسلة.
لا جائز، أن تكون علة هذه السلسلة: نفسها، لما يلزم عليه، من كون الشيء
علة لنفسه، وهو يقتضي، كونه سابقاً على نفسه، في الوجود، من حيث هو علة، ومتأخراً على نفسه، من حيث هو معلول، وهذا ظاهر التناقض.
(1)
…
مذكرة التوحيد لحسن متولي ص9.
ولا جائز، أن تكون علة هذه السلسلة: جزءها، وذلك لأن علة المركب، يجب أن تكون علة لكل جزء، من أجزائه، فلو كانت علته، هي أحد أجزائه، لكان هذا الجزء، علة لنفسه، ولعلته، إذ المفروض، أن هذا الجزء، هو حلقة في هذه السلسلة غير المتناهية، فله علة سابقة عليه، فلو كان هو، علة جميع السلسلة، لكان علة لنفسه، ولعلته، وذلك - أيضاً - باطل.
وإذا بطل هذان الفرضان، تعين الفرض الثالث، وهو أن تكون علة هذه السلسة، أمرا خارجاً عنها، فهو واجب الوجود، ثم يقال: أن الواجب، قد أوجد ممكناً، هو أول الممكنات، وبه تنقطع السلسلة، وهو المطلوب إثباته (1) .
والجواب أن هذا ليس تسلسلاً في الأفعال بل في العلل وهو ممتنع.
(7)
دليل التربيع:
وهو ان الذين يقولون بحوادث لا أول لها كلامهم متناقض لأن كونها حوادث يقتضي أن لها أولاً، وكونها لا أول لها يقتضي أنها ليست حوادث وهذا هو دليل التربيع. (2)
والجواب ان الحوادث إما أن يراد بها أفعال الرب فلا أول لها، أو أنها المخلوقات فهذه لا أول لها من حيث أفرادها وآحادها لأنها مسبوقة بعدم، أما من حيث جنسها فهي قديمة وقد سبق بيان ذلك.
(1) انظر المباحث المشرقية للرازي (1/591) وكتاب علم التوحيد ص139، ومذكرة التوحيد المعاصر لصفوان جودة (2/13) .
(2)
…
انظر حاشية الشرقاوي على الهدهدي ص103
(8)
…
لو كانت الحوادث الماضية غير متناهية لتوقف حدوث الحادث اليومي على انقضاء ما لا نهاية له وما يتوقف على انقضاء ما لا نهاية له استحال وجوده فكان يلزم أن لا يوجد الحادث اليومي فلما وجد علمنا أن الحوادث الماضية متناهية (1) .
والجواب على ذلك ما قاله الرازي في المباحث المشرقية (1/781) : (2) .
والجواب: أنه إما أن يعني بالتوقف المذكور أن يكون أمران معدومان في
وقت وشرط وجود أحدهما في المستقبل أن يوجد المعدوم الثاني قبله فإن كان الأمر على هذا فقد وجدنا أمراً معدوماً ومن شرط وجوده أن توجد أمور بغير نهاية في ترتيبها وكلها معدومة فيبتدي في الوجود من وقت ما اعتبر هذا الاشتراط فالذي يكون كذلك كان ممتنع الحدوث في الوجود وأما إن عنى بهذا التوقف أنه لا يوجد هذا الحادث إلا وقد وجد قبله ما لا نهاية له ثم ادعى أن التوقف بهذا المعنى محال فهذا هو نفس المطلوب فإن النزاع ما وقع إلا فيه.
وقال شيخ الإسلام في موافقة صحيح المنقول (2/79) :
قال الرازي: السادس: لو كانت الأدوار الماضية غير متناهية كان وجود اليوم موقوفاً على انقضاء ما لا نهاية له، والموقوف على المحال محال.
قال الأرموي: ولقائل أن يقول: انقضاء ما لا نهاية له محال، وأما انقضاء ما لا بداية له ففيه نزاع.
(1)
…
المباحث المشرقيه (1/780) ، والأربعين للرازي ص34.
(2)
…
وانظر المطالب (4/275) .
قلت: هنا نزاع لفظي ونزاع معنوي، أما اللفظي، فهو أنه إذا قدر تسلسل الحوادث في الماضي وعدم انقطاعها وأنها لا أول لها، فهل يعبر عن هذا بأن يقال: لا نهاية لها، أو يقال: لا بداية لها، ولا يقال لا نهاية لها؟ فالمستدل عبر بأنه لا نهاية لها، والمعترض أنكر ذلك، وهذا نزاع لفظي. وذلك أنه يقال: هذا غير متناه، بمعنى أنه ليس له حد محدود، وقال يقال " غير متناه " بمعنى أنه لا آخر له، ويقال " هذا له نهاية " أي: له آخر، وهذا لا نهاية له " أي: لا آخر له، والحوادث الماضية إذا قدر أنها لم تزل، فإنه يقال " لا نهاية لها " بالمعنى الأول، وأما بالمعنى الثاني: فقد انقضت وانصرمت ولها آخر.
حجة أخرى للرازي واعترض الأموري عليها: وهذه الحجة اعتمد عليها أكثر المتكلمين كأبي المعالي ومن قبله وبعده من المعتزلة والأشعرية، وذكروا أنه اعتمد عليها يحيي النحوي وغيره من المتقدمين وظنوا أن ما لا يتناهى يمتنع أن يكون منقضياً منصرماً، فإن ما انقضى وانصرم فقد تناهى، فكيف يقال: إنه لا نهاية له؟ واشتبه عليهم لفظ " النهاية " لما فيه من الإجمال والاشتباه، فإن الماضي له آخر انتهى إليه، فهو منتهاه بهذا الاعتبار، فلا نزاع، وبهذا المعنى يقال: إنه انصرم وانقضى، وفرغ ونفد، وأما بالمعنى المتنازع فيه فهو انه لا بداية له: أي لم تزل آحاده متعاقبة.
وأما النزاع المعنوي فهو أنه: هل يعقل انقضاء ما يقدر أنه لا بداية له ولا ينتهي من جهة مبدئه أولا؟ المستدل لم يذكر دليلا على امتناع انقضاء ذلك، لكن أخذ لفظ " ما لا يتناهى " وفيه إجمال، فقد يعني به ما لا يتناهى في المستقبل من جهة آخره، فإذا قيل:" إن هذا ينقضي " كان ذلك جمعاً بين النقيضين،
وقد يعني به ما لا بداية له، وهو ينازع في إمكان ذلك، لأنه حينئذ يكون له نهاية بلا بداية، وكأنه يقول: ما لا نهاية فلابد له من بداية، ومنازعوه يقولون: هذا مسلم في الأشخاص، فكل شخص ينتهي فلابد له من مبدأ، إذ لو لم يكن له مبدأ لكان قديماً، وما وجب قدمه امتنع عدمه كما سيأتي ينازعونه في النوع، ويقولون: يمكن أن يقال: الله لم يزل يفعل شيئاً بعد شيء.