المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السنة هي الأصل الثاني من أصول الإسلام - كتابة السنة النبوية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وأثرها في حفظ السنة النبوية

[أحمد عمر هاشم]

الفصل: ‌السنة هي الأصل الثاني من أصول الإسلام

‌منزلة السنة في الدين

‌السنة هي الأصل الثاني من أصول الإسلام

أجمع فقهاء المسلمين قديماً وحديثاً من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا إلا من شذَّ من بعض الطوائف على الاحتجاج بها وعدِّها المصدر الثاني للدين بعد القرآن الكريم، فيجب اتباعها، وتحرم مخالفتها. وقد تضافرت الأدلة القطعية على ذلك، فأوجب الله سبحانه على الناس طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وبيَّنَ أنه صلى الله عليه وسلم هو المبيِّن لما أنزل من القرآن، وذلك بعد أن عصمه من الخطأ والهوى في كل أمر من الأمور {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3-5] . كما عصمه من الناس حين أمره بتبليغ ما أنزل إليه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة الآية:67] .

فهو إذاً قد مَهَّد لرسوله صلى الله عليه وسلم طريق الدعوة، وذلَّلَ له مهمة تبليغها، فبَيَّنَ سبحانه وتعالى للناس ما يأتي:

أولاً: وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يبين للناس كتابَ ربهم سبحانه وتعالى. وهذان الأمران متلازمان في إثبات حجية السنة؛ لأن الله تعالى

ص: 8

أوجب طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مبيِّن للناس ما أنزل إليهم، قال الشاطبي:"فإذا عمل المكلف وفق البيان أطاع الله فيما أراد وأطاع رسولَه في مقتضى بيانه، ولو عمل على مخالفة البيان عصى الله تعالى في عمله على مخالفة البيان، إذ صار عمله على خلاف ما أراد بكلامه وعصى رسوله في مقتضى بيانه"(1) .

وسأتناول الحديث عن هذين الأمرين وهما وجوب طاعةِ الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي بيَّن للناس ما نُزِّل إليهم.

(1)

وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم:

فرض الله سبحانه وتعالى طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وورد الأمر بها في القرآن الكريم على وجوه كثيرة تختلف باختلاف أحوال المخاطبين ومشاربهم ونياتهم، فمنهم اليهودي الذي يحتاج إلى كثرة الأدلة، والمنافق الذي يحتاج إلى أسلوب التهديد، والمؤمن الذي يقبل الأمر ويعرف هداية الله من أقرب طريق. وقد سلكت آيات القرآن الكريم في بيان ذلك مسلكاً مناسباً ونهجت منهجاً حكيماً:

1-

فقد دلت مرة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، بالأمر بالإيمان بالرسل "وهذا يستلزم وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، من ذلك قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ

(1) الموافقات (19:4) .

ص: 9

وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء:171] . فالأمر بالإيمان بالرسل مع الإيمان بالله لا يكون إلا إذا كان مع الإيمان تصديق لما يبلغه الرسل عن الله وإذعان وطاعة لهديهم على هذا فرسولنا صلى الله عليه وسلم يجب الإيمان به للأمر بالإيمان بالرسل، وطاعته واجبة كطاعتهم التي استلزمها الأمر بالإيمان بهم.

2-

ودلت الآيات أيضاً على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم باقتران الأمر بالإيمان به مع الأمر بالإيمان بالله سبحانه قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] . وقال الله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن:8] . وقد أظهر الله تعالى في هذه الآيات وغيرها مكانة نبيه صلى الله عليه وسلم، فنَصَّ على الإيمان به ولم يكتفِ بالأمر العام السابق رغم دخوله فيه؛ وذلك لأن رسالته خاتمة، وبعثته عامة، فاقتضت الحكمة أن يُخَصَّ بمزيد عنايته ويفهم من ذلك الأمر بطاعته، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: "وضع الله رسوله من دينه وفرضه وكتابه الموضع الذي أبان جل شأنه أن جعله علماً لدينه لما افترض من طاعته وحرم من معصيته وأبان من فضيلته بما قرن من الإيمان برسوله مع الإيمان به فقال تبارك وتعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:171] . وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ

ص: 10

وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62] . فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي ما سواه تبع له الإيمان بالله ثم برسوله" (1) . أ. هـ.

3-

كذلك دلت الآيات على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بإيجاب الله تعالى طاعة الرسل، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64] . فطاعة الرسل إذاً هي الهدف من إرسالهم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم كواحد من الرسل داخل في مضمون الحكم العام فينطبق عليه الحكم بوجوب طاعته ولا سيما أن الرسل قبله كانت شرائعهم خاصة بطائفة معينة، أما رسولنا صلى الله عليه وسلم فشريعته عامة وخاتمة، لذا كانت طاعته آكد وألزم.

4-

اقتران الأمر بطاعة الرسول بالأمر بطاعة الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59] والناظر إلى الآيات الواردة في وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يرى أن منها ما جاء بالأمر بطاعة الله مقروناً بالأمر بطاعة الرسول بالعطف بالواو كالآية الأولى، إذ يفيد ذلك مطلق الاشتراك

(1) الرسالة للإمام الشافعي ص73.

ص: 11

والجمع بينهما، أو بطريق العطف بها مع إعادة العامل إذ يفيد ذلك تأكيد عموم الطاعة في كل ما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها ما جاء بتكرار العامل في شيئين مع العطف على الأخير بدون تكرار العامل كقوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} بدون تكرار العامل في عطف أولي الأمر. وهذا يدل على أن أولي الأمر ليس لهم طاعة مستقلة، وليس لهم تشريع خاص يصدر عنهم يخالف الإسلام "وإنما يطاعون فيما شأنه أن يتلوه ويباشروه في إطار من الدين الذي شرعه الله قرآناً كان أو سنة"(1) فطاعة الرسول إذاً واجبة في كل ما أتى به سواء كان في الكتاب الكريم أو ليس فيه.

5-

أمر الله بطاعة الرسول على الإنفراد، قال الله تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما} [النساء:65] . وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56] . وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] . ففي هذه الآيات نص صريح على وجوب طاعة الرسول والتسليم لحكمه واتباعه، وهذه الطاعة في حال حياته وبعد وفاته، ففي حال حياته كان الصحابة يتلقون أحكام

(1) السنة النبوية ومكانتها في التشريع ص58.

ص: 12

الشرع من القرآن الذي أخذوه عن رسولهم صلى الله عليه وسلم إذ كان يبين لهم ما أنزل إليهم، كما كان يبين لهم كثيراً من الأحكام حين تقع لهم الحوادث التي لم ينص عليها في القرآن، فهو إذاً يطبق لهم الأحكام من حلال أو حرام، مما كان مصدره القرآن أو الوحي الذي يوحيه الله له {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] . وقد حثَّ الله عز وجل على الاستجابة لما يدعو له الرسول صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] ، ولم يبح الله تعالى لمؤمن ولا مؤمنة مخالفة حكم الرسول أو أمره، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] ، وقد كان المسلمون ملتزمين حدود أمره ونهيه ومتبعين له في عبادتهم ومعاملاتهم وقد بلغ من طاعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم واقتدائهم به أنهم كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك ولم يجز واحد منهم لنفسه مراجعة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا إذا كان هناك أمر غريب عن عقولهم فيناقشونه ليعرفوا الحكمة فيه فقط كما لم يجز واحد منهم مراجعته في أمر "إلا إذا كان فعله أو قوله اجتهاداً منه في أمر دنيوي

ص: 13

كما في غزوة بدر حين راجعه الحباب بن المنذر في مكان النزول" (1) ومثل هذا إنما حدث تطبيقاً لمبدأ الشورى في الإسلام.

وإذا كان الحال هكذا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه أيضاً تجب طاعته واتباع سنته بعد وفاته، لأنه صلى الله عليه وسلم حثَّ المسلمين أن يطيعوه ويتبعوه بعد وفاته تمسكاً بالكتاب والسنة وسيراً على هديهما فقال صلى الله عليه وسلم:"تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي"(2) ، وكما وجب على الصحابة بنص القرآن اتباع الرسول وطاعته في حياته وبعد مماته كما في الحديث السابق وجب على من بعدهم من المسلمين اتباع سنته بعد وفاته؛ لأن النصوص التي أوجبت طاعته عامة لم تقيد في ذلك بزمن حياته ولا بصحابته دون غيرهم؛ ولأن العلة جامعة بينهم وبين من بعدهم، وهي أنهم أتباع لرسول أَمَرَ اللهُ باتِّباعه وطاعته (3) ، لهذا كله تلقى الصحابة السنة النبوية وبلغوها إلى من بعدهم.

(1) السنة ومكانتها في التشريع. ص:66.

(2)

أخرجه مالك في الموطأ (2/899) برقم3، والحاكم في المستدرك (3/ 109، 148، 533) وصححه، ووافقه الذهبي، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/180) .

(3)

السنة ومكانتها في التشريع. ص:67.

ص: 14