الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رواية السنة وكتابتها:
العهد النبوي:
اصطفى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ليبلغ الرسالة الإلهية إلى الناس جميعاً، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وأعدَّ الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إعداداً كاملاً فربَّاه بعنايته، وكلأه برعايته وعصمه من الناس وعلَّمه ما لم يكن يعلم، قال تعالى:{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113] .
وقام الرسول صلى الله عليه وسلم بأداء الرسالة خير قيام، وأدى الأمانة الإلهية على أكمل وجه، وتحمَّل في سبيلها ما تحمَّل، وصبر واستعذب الأذى حتى أرسى دعائم الدعوة وأقام دين الله تعالى.
العوامل التي دفعت الصحابة إلى العناية بالسنة:
تضافرت عوامل ثلاثة حفزت همم المسلمين إلى الإقبال الشديد على السنة الشريفة ومدارستها:
أولاً: القدوة الحسنة التي تمثلت في الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] .
ثانياً: ما تضمنته آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة من الحث على العلم والعمل، بل كانت أولى آيات الوحي الإلهي من القرآن دعوة صريحة إلى العلم، توجه أنظار البشرية إليه، وتحض عليه، قال تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5]، وقال تعالى:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] ، كما حض الرسول صلى الله عليه وسلم على طلب العلم وتبليغه، عن ابن شهاب قال: قال حميد بن عبد الرحمن: سمعت معاوية خطيباً يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله"(1) . وقال صلى الله عليه وسلم: "نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها فربَّ حامل فقه غير فقيه وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه"(2) .
ثالثاً: الاستعداد الفطري، والذوق العربي الأصيل والذاكرة الواعية الأمينة التي كانوا عليها، مع ما استقر في نفوسهم من أهمية السنة النبوية
(1) رواه البخاري في الصحيح (مع فتح الباري) ج1 ص: 150-151 وأحمد في المسند عن أبي هريرة ج12 ص180 ورواه ابن ماجة ج1 ص49 وانظر مجمع الزوائد (1/121) .
(2)
رواه ابو داود في سننه (3/321) برقم 3660 والترمذي في جامعه (5/33-34) برقم 2656، وابن ماجة (1/84) برقم 230 وحسنه الترمذي
وأنها من مصادر التشريع الإسلامي، وقد حركت هذه العوامل قلوب المسلمين للالتفاف حول رسولهم صلى الله عليه وسلم، لينهلوا من معين سنته المطهرة التي وجدوا فيها مادة خصبة لدنياهم وأخراهم، تكفل لهم سعادة الدارين؛ لأنَّ أحكامها الكريمة وآدابها الفاضلة تتعلق بالعقيدة وبالشريعة والأخلاق وتتعلق بجميع آدابهم وأحوالهم.
ونهج النبي صلى الله عليه وسلم معهم منهج القرآن، يتدرج في انتزاع الشر والباطل، ويعمل على غرس الخير والحق، ويفتيهم في مسائلهم في كل مكان حسبما اتفق في الحل والترحال، وكان "المسجد" هو المكان المتعارف الذي تعاهدوا على حضور المجالس العلمية فيه، تلك المجالس التي يعقدها لهم رسولهم صلى الله عليه وسلم تشرق بنور الله، وتنبثق منها الروحانية الصافية، فيتعلمون ويتفقهون ويعبدون فيها ربهم ويسبحون بالغدو والآصال. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتبع معهم أسمى الطرق في التعليم: ويتوخى مخاطبتهم بلغاتهم ولهجاتهم وعلى قدر عقولهم، متواضعاً حليماً، ولم يحرم النساء من حقوقهن في العلم وإنما خصص لهن وقتاً يتلقين فيه العلم.
وقد بلغ من حرصه صلى الله عليه وسلم على تعليم المسلمين أنه كان يكرر القول ثلاثاً، حتى يفهم عنه. وربما طرح المسألة على أصحابه (1) ؛ ليختبر أفهامهم، ويجذب انتباههم، ويتحرَّى أن يكون التدريس والموعظة في الوقت الملائم والظروف المناسبة التي يتسنَّى لهم الحضور فيها، وتكون
(1) فتح الباري ج1 ص136.