الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ثم ذكر هذا المعترض فصلاً في بيان رفع اليدين للدعاء بعد صلاة المكتوبة، ثم ذكر الأدعية الواردة في ذلك على العموم منها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف ومنها ما هوي موضوع على مؤلفه.
وأما تخصيص رفع اليدين بعد الصلوات المكتوبة فلم يذكر فيه إلا ما ليس بصحيح لا يعتمد عليه في العبادات وجميع الأدعية التي ذكرها في الأحاديث التي أوردها إنما هي في الأدعية العامة، وأما بعد الصلوات فليس فيها إلا ما ذكره عن أنس والحديث الذي ذكره بعده وكلاهما ضعيف.
وأما قوله: "لكنه يعمل به في الفضائل إلى آخر ما قال" فقال شيخ الإسلام رحمه الله وقول أحمد إذا جاء الترغيب تساهلنا في الإسناد، إنما أراد به إذا كان الأمر مشروعاً، أو منهياً عنه بأصل معتمد، ثم جاء حديث فيه ترغيب في المشروع، أو ترهيب في المنهي لا يعلم أنه كذب، وما فيه من الثواب والعقاب قد يكون حقاً ولو قدر أنه ليس كذلك
فلا بد فيه من ثواب وعقاب وما يرويه مع علمه أنه كذب فمعاذ الله لا يجوز ذلك إلا مع بيان حاله، ولا يستند إليه في تريب ولا غيره، وكذلك لا يجوز أن يثبت به حكم شرعي من ندب أو كراهة أو فضيلة، ولا عمل مقدر في وقت معين بحديث لم يعلم حاله أنه ثابت، فلا بد من دليل ثابت في الحكم الشرعي وإلا كان قولاً على الله بغير علم عياذاً بالله، انتهى.
فهذا الحديث الذي ذكره عن أنس وما بعده في وقت معين، ولا نعلم حاله أنه ثابت فالاعتماد عليه قول على الله بغير علم.
قال ابن مفلح في الآداب: قال أحمد بن الحسن الترمذي: سمعت أبا عبد الله فذكر أحاديثاً. ثم قال: وقال أيضاً: من شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها، ولا يعتمد عليها.
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون غريب الحديث، ذكره الخلال.
وقال ابن المبارك: لنا في صحيح الحديث شغل عن سقيمه.
وقال ابن مهدي: لا ينبغي للرجل أن يشغل نفسه بكتابة الحديث الضعيف فأقل ما في ذلك أن يفوته من الصحيح بقدره، انتهى.
ثم قال المعترض: "وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:- فصل وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين فلم يكون ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم أصلا، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن" ثم قال المعترض إلى آخر ما قال وأسقط من كلام ابن القيم رحمه الله قوله: "وأما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر فلم يفعل ذلك هو، ولا أحد من خلفائه، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه1 من رآه1 عوضاً من السنة بعدهما والله أعلم".
فلا أدري ما الحامل له على حذف هذا الكلام، وأظن ذلك أنه لما وقع بينه وبين من أنكر عليه رفع اليدين بعد الصلاة المكتوبة أن ذلك كان بعد صلاة الفجر والعصر فلذلك أسقط هذا الكلام، أو لأن الحديث الذي أورده برفع اليدين بعد صلاة الفجر كما ذكره عن الحافظ أبي بكر بن أبي شيبة2 في مصنفه مما لا يصح رفعه، ولا يثبت كما نفاه ابن القيم رحمه الله.
ثم ذكر كلام ابن القيم رحمه الله ولم ينسبه إليه بل أبهم فقال: وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها وهذا هو اللائق بحال المصلي، فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة، فإذا سلم منها انقطعت تلك
1 في الأصل "راءه".
2 في الأصل "ابن أبي بكر بن أبي شيبة".
المناجاة، وزال ذلك الموقف بين يديه، والقرب منه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته، والقرب منه، والإقبال عليه، ثم يسأل إذا انصرف عنه، ولا ريب أن عكس هذا الحال هو الأولى بالمصلي، إلا أن ههنا نكتة لطيفة وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته وذكر الله وهلله وسبحه وحمده، وكبره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة، استحب له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ويدعو بما شاء، ويكون دعاؤه1 عقب هذه العبادة الثانية لا لكونه دبر الصلاة فإن كل من ذكر الله وحمده، وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم استحب له الدعاء عقب ذلك كما في حديث فضالة بن عبيد "إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله، والثناء عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بما شاء".قال الترمذي حديث صحيح.
والجواب أن نقول ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى حق وصواب، ولكن الشأن كل الشأن في فهم كلامه ووضعه في موضعه، ومن تأمل كلام ابن القيم رحمه الله تعالى علم أن كلامه قطعاً إنما هو جائز أحياناً على الانفراد من غير رفع اليدين، وأما بعد المكتوبة فقد ذكر أنه لم يكن ذلك من هديه أصلاً، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، وأن من خص ذلك بصلاتي الفجر والعصر فإنما هو استحسان ورأي رآه من أتباع الأئمة، ولا مستند له في ذلك، وإنما يجوز ذلك في
1 في الأصل "دعائه".
الصلوات المكتوبة فيها، وبعدها أحياناً بعد الذكر المشروع، وأما المداومة على ذلك فليس بمشروع بل مكروه كما سيأتي كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فالتمويه بأن ابن القيم أجاز ذلك بعد الصلوات المكتوبة من غير تفصيل لبسٌ للحق بالباطل.
وتوضيح ما ذكرناه قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لما سئل عما يفعله الناس بعد الصلوات الخمس. فقال: الجواب الحمد لله، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو هو، ولا المأمون عقيب الصلوات الخمس كما يفعله الناس عقيب الفجر والعصر، ولا نقل ذلك عنه أحد، ولا استحب ذلك أحد من الأئمة، ومن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك فقد غلظ عليه، ولفظه الموجود في كتبه ينافي ذلك، لكن طائفة من أصحاب أحمد، وأبي حنيفة، وغيرهما استحبوا الدعاء بعد الفجر والعصر قالوا: لأن هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما فتعوض بالدعاء عن الصلاة، واستحب طائفة من أصحاب الشافعي، وغيره الدعاء عقيب الصلوات الخمس، وكلهم متفقون على أن من ترك الدعاء لم ينكر عليه، ومن أنكر عليه فهو مخطئ باتفاق العلماء، فإن هذا ليس مأموراً به لا أمر إيجاب، ولا أمر استحباب في هذا الموطن، بل الفاعل أحق بالإنكار، فإن المداومة على ما لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يداوم عليه في الصلوات الخمس ليس مشروعاً، بل مكروه، كما لو داوم
على الدعاء عقب الدخول في الصلوات، أو داوم على القنوت في الركعة الأولى في الصلوات الخمس، أو داوم على الجهر بالاستفتاح في كل صلاة، ونحو ذلك، فإنه مكروه، وإذا كان القنوت في الصلوات الخمس قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً، وكان عمر بن الخطاب يجهر بالاستفتاح أحياناً، وجهر رجل خلف النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك فأقره عليه، فليس كلما شرع فعله أحياناً تشرع المدوامة عليه، ولو دعا الإمام والمأموم أحياناً عقيب الصلاة لأمر عارض لم يعدّ هذا مخالفة للسنة، كالذي يداوم على ذلك، والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو دبر الصلاة قبل السلام، ويأمر بذلك كما قد بسطنا الكلام على ذلك، وذكرنا ما في ذلك من الأحاديث، وما يظن أن فيه حجة للمنازل في غير هذا الموضع، وذلك لأن الداعي يناجي ربه، فإذا انصرف مُسَلَماً انصرف عن مناجاته، ومعلوم أن سؤال السائل لربه حال مناجاته هو الذي يناسب دون سؤاله بعد انصرافه، كما أن من يخاطب ملكاً أو غيره فإن سؤاله له وهو مقبل على مخاطبته أولى من سؤاله بعد انصرافه عنه، انتهى.
فتبين من كلام شيخ الإسلام أن هذا في الصلوات الخمس، وأن فعل ذلك أحياناً عقيب الصلاة لأمر عارض لا يعد فاعله مخالفاً للسنة، فأما المداومة على ذلك، أو لغير عارض فهو مكروه، وهو أحق بالإنكار لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
يكن فاعل ذلك إلا لعارض، ولم يكن يداوم على ذلك، فكلام شيخ الإسلام يفسر الأخير من كلام ابن القيم، ويزيل الإشكال عمن لا تمييز عند بمدارك الأحكام، فيستدل فيما هو مشروع في العموم بالتنصيص على موطن لم يكن يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، ولا نقل جوازه عن أحد من الأئمة.
بقي مسألة وهي: ما إذا فعل الإنسان ذلك أحياناً لعارض هل يرفع يديه بالدعاء في الموطن أو لا؟ والصحيح أنه في هذا الموطن لا يرفع يديه، فإن الأحاديث التي وردت بالأدعية دبر الصلاة سواء كان ذلك قبل التشهد، أو بعد السلام بعد الأذكار المشروعة لم يذكر فيها رفع اليدين لا بلفظ الأمر ولا بحكاية الفعل، وإنما ذلك في الأدعية العامة، فأما في هذا الموطن فلم ينقل ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، والذي اختاره شيخ الإسلام أن عامة الأدعية المأثورة كانت قبل السلام: ولا يجوز أن تشرع سنة بلفظ مجمل يخالف السنة المتواترة، أو بحديث ضعيف، أو مكذوب بالألفاظ1 الصريحة والله أعلم.
1 في الأصل "بألفاظ".