الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال المعترض: "الفصل الأول في بيان جواز المسبحة، ثم قال بعد الخطبة: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري ، قال ابن رجب رحمه الله في عرض كلامه على هذا الحديث: فمن تقرب إلى الله عز وجل بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة فعمله باطل مردود عليه، انتهى باختصار. قلت: فالقربة كل عمل يرجو عامله عليه من الله الثواب، وترك ما يرجو تاركه من الله الأجر، ويخشى على فعله العقاب، والمسباح ليس من ذلك إنما يتخذ آلة لحفظ العدد المحصور في الحديث المشهور "من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" وما أشبه ذلك من الأذكار الواردة على مثل ذلك، فالمسباح آلة لا قربة، فكيف يصير متخذه مبتدعاً، والآلات ليست من القربات، ولم يردع الشرع بتحريمها إذا لم يستعين بها على المعاصي، وقد علمت أن الجهاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين
ومن بعدهم من الصحابة رضي الله عنهم كان بالرمح والسيف والنبل، فلما حدثت المدافع والبنادق اتخذها المسلمون آلة في الجهاد يقاتلون في سبيل الله ولم ينكرها أحد من علماء الملة المحمدية، وكذلك الساعات" إلى آخر كلامه.
فالجواب أن يقال: أمر المسباح والكلام فيه أمر جزئي في جنب ما تقدم من المسائل، والكلام فيه من أسهل ما يكون لقلة الفائدة، لأن مسألة المسباح مسألة خلافية بين العلماء المتأخرين، وللعلماء فيه كلام منهم من أجازه خفيةً على الوجه المباح كما سنبينه، ومنهم من منع ذلك وقال: إن السبحة بدعة محدثة ورياء وسمعة، ولو لم يكن في المنع منها إلا سد الذريعة عن محظورات الشريعة، وسد الذريعة أصل أصيل، ومذهب جليل، فمن اتخذ المسباح فقد خالف ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر به ولم يشرعه لأمته لوم يفعله، ولو أمر به، وسنه لأمته، وشرعه، وكان فيه فضل لكان أسبق الناس إلى فعله واتخاذه، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأفاضل الصحابة رضي الله عنهم لا سيما عبد الله بن عمر فإنه كان يتحرى ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه كان يصلي في المكان الذي يصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبول في المكان الذي كان يبول فيه، وكان عمر رضي الله عنه وسائر الصحابة يخالفون في ذلك، وينهون عن
تتبع آثار الأنبياء، فإذا وضح لك هذا فمن أجازه فإنما أجازه على سبيل القياس، والقياس يخطئ ويصيب، وقد علمت أن منه ما هو صحيح، ومنه ما هو سقيم، ومنه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، وأيضاً فقد نقل هذا المعترض عن ابن رجب رحمه الله على هذا الحديث قوله:"فمن تقرب إلى الله عز وجل بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة فعمله باطل مردود عليه" فأين في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله الأمر باتخاذ المسابيح المحدثة سبحانك هذا بهتان عظيم، فليس في الحديث الصحيح ما يدل على ذلك بوجه من الوجوه، ولا في كلام ابن رجب ما يدل على ذلك بل يناقضه أشد المناقضة، ويخالفه أشد المخالفة، راجع شرحه لهذا الحديث في كتابه تجد غلط هؤلاء، وتصحيفهم عليه، فالحديث حجة عليهم لا لهم.
وأما قول القائل: إنها ليست بقربة إنما هي آلة لحفظ العدد المحصور في الحديث المشهور، والمسباح آلة فكيف يصير متخذه مبتدعاً إلى آخر كلامه.
فأقول اعلم وفقك الله لطاعته أن هذا القياس من أبطل القياس، وأوهنه بلا التباس،وهو منقوض عليه فإن المدافع والبنادق والصمع من جنس السلاح، فالبندق من جنس النبل يرمى بها كما يرمى بالنبل بل هي أشد نكاية في العدو، والمدفع من جنس المنجنيق يرمى به كما يرمى بالمنجنيق بل هو أشد نكاية وأعظم إرهاباً للعدو، والكل آلة للجهاد، ولا
يشك في ذلك من كان له أدنى ممارسة وانتقاد، وكذلك الخيل والركاب والدروع آلاتٌ يستعان بها في جهاد الكفار، واقتناؤها وشراؤها واستعمالها في الجهاد من أفضل القربات وقد حَبَسَ الصحابة وأوقفوا من ذلك في الجهاد، وفي سبيل الله ما هو معلوم مشهور، مقرر في محاله ومظانه، ولا يتغير الحكم لكون هذه نبلاً وهذا سيف ورمح أو منجنيق إذا حدث من جنسه ما هو أنكأ في العدو منه كالمدفع والبندق والصمع، فلو أوقف مسلم في جهاد الكفار مدافع وبنادق لكان هذا قربة إلى الله، وعمل صالح لا يشك في ذلك مسلم، كمن وقف خيلاً وركاباًً ودروعاً في سبيل الله لا فرق، ومن فرق فعليه الدليل، فإنه لا يقول من له أدنى معرفة إن هذه الآلات ليست من القربات، ومن قال ذلك فقد كابر المنقول والمعقول.
قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة على قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنكم تظلمون خالداً وقد احتبس أدراعه وعتاده في سبيل الله" قال: العتاد ما أعد الرجل منه السلاح والدواب وآلات الحرب، انتهى، وهذا لا إشكال فيه.
وأما الساعات والجداول والروزنامات فليس لها جنس معهود في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا اعتماد عليها، والمعتمد في ذلك ما شرعه الله ورسوله من معرفة ما حدّ في المواقيت، فلا اعتداد بالساعات والجداول، فلا يقاس بها ولا عليها، وليست من القرب في شيء، وإذا كان المسباح قد أقررتم أنه ليس
بقربة كما هو كذلك وقد وضح لك أن قياسه على ما ذكر هذا المعترض ممنوع عقلاً ونقلاً فكان بدعةً محدثةً لأنه ليس بمشروع، ولا قيس على فعل مشروع فيكون باطلاً بل قياسه على النوى والحصى والخيط المعقود لو كان مشروعاً أولى من قياسه على ما ذكره من النبل والرمح والسيف، وعلى ما حدث بعد هذا من آلات الحرب، لكن التسبيح بالنوى والحصى ليس بمشروع، ومن أجازه اشترط الإخفاء به، فاتخاذ السبحة على هذا الوجه الذي يفعله الناس اليوم بدعة لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا اتخذه، ولا رآه بأبي هو وأمي، ولا اتخذه أحد من أصحابه لا ظاهراً ولا باطناً فليس من الدين في شيء لقوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي لفظ "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" أي مردود عليه.
ولا يخل ناقل المسباح من أحد أمرين: إما أن يتخذ ذلك زاعماً أنه يسبح به فيكون قد رآء الناس بهذا العمل، ومن رآء الناس بعمله فقد أشرك، أو لا يريد به التسبيح وإنما يتخذه ملهاً يلهو به، ويلعب به كما هو الواقع المشاهد من كثير من الناس اليوم، أو ينزلها منزلة العصى فيكون مخالفاً للسنة، ومن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الله تعالى لم يأذن في اللهو واللعب، ولم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، ولا كان ذلك ديناً ينسب إليه، وإلى رسله ودينه وشرعه، إلا ما خصه الدليل من اللهو بالقوس والفرس والمرأة، ولو كان مشروعاً لكان
أسبق الناس إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يكون المسباح أمراً مشروعاً محبوباً لله ويفوز بقصب السبق إليه هؤلاء الخلوف ويُحرمه أفاضل الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أصحابه _ رضي الله عنهم _ هذا ما لا يكون أبداً، ومع كونه محدثة في الدين، لم يتخذه ويستعمله من الناس في الغالب إلا أهل الغفلة، والمرائين بأعمالهم، وفساق الناس الذين لا يذكرون الله إلا قليلاً، فإذا جاء أحدهم إلى مجامع الناس أو مساجدهم ومجالسهم أو أسواق المسلمين رأيت المسباح في يده.
وقد قال شيخ الإسلام قدس الله روحه بعد كلام له: وإنما مثلهم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلاً، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع، ويصحبها من الرياء والكبر ومخالفة الشرع ما يفسد حال صاحبها إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
إذا عرفت هذا وعرفت أن اتخاذه على هذا الوجه ليس من الدين في شيء، وأنه بدعة ورياء محدثة، ومن جوزه من العلماء فإنما قاسه على الحصى ونحوها.
وبلا نزاع أن التسبيح بالأصابع وعقدها في كاعة الله هو السنة المحمدية الثابتة من قوله وفعله، وفعل خلفائه وصحابته، وفي هديهم كفاية لكل مقتدي، ولكن شرط من أجازه من
متأخري العلماء بأن يتخذه الإنسان في محل ورده ومصلاه الذي يخلو العبد فيه بربه حيث لا يراه أحد ولا ينظرون إليه، وأما ما يفعله الناس اليوم فحاشا وكلا بل هو إلى الريا والسمعة أقرب منه إلى السنة، وكونه بهذا الوجه بدعة محدثة أوضح من الشمس في رابعة النهار، وإذا كان ذلك كذلك فما وجه الاعتراض والتشنيع على من نهي عنه، وسماه بدعة، بل الذي أجازه مطلقاً قد فتح للناس باباً من الريا والسمعة.
ومما يوضح لك ما نقلناه أن العمل إذا كان على غير الوجه المشروع يكون بابَ ضلالة ما رواه الدارمي قال أخبرنا الحكم عن ابن المبارك قال أخبرنا عمرو بن يحيى قال سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كما نجلس على باب ابن مسعود قبل صلاة الغداة1 فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاء أبو موسى فقال: أَخَرَجَ عليك أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا. فجلس معنا فلما خرج قال: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت آنفاً شيئاً في المسجد أنكرته والحمد لله، ولم أر إلا خيراً. قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه. قال: رأيت في المسجد حلق خيرٍ جلوس ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول لهم: كبروا مائة، فيكبرون مائة فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة،.فيقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاًَ انتظر رأيك.
1 في الأصل "الغدات" ما أثبته من "سنن الدارمي" 1/60.
فقال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يفوت من حسانتهم من شيء، ثم مضى حتى أتى حلقة منهم فقال: ما هذا؟ قالوا: حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يفوت من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بينكم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى ملة محمد، أو مفتحوا باب ضلالة؟ قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد الخير لن يصبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا:"إن قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم" وأيم الله لا أدري لعل أكثرهم يكون منكم.
قال عمرو بن سلمة: رأيت عامة أولئك يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوراج.
وذكر محمد بن وضاح في كتابه ما هو هذا وزيادة كنحو قوله لهم: "لقد ركبتم بدعة ظلماء، أو فضلتم أصحاب محمد علماً".
وثم ذكر ابن وضاح أن أبان بن عياش سأل الحسن عن العد بالحصى والنوى فقال: "لم يفعل العد أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولا المهاجرات".
قال محمد بن وضاح حدثنا أسد عن جرير بن حازم عن الصلت بن بهرام قال مرّ ابن مسعود رضي الله عنه بامرأة معها
تسبيح تسبح به، فقطعه وألقاه، ثم مرّ برجل يسبح بحصى فضربه برجله ثم قال: لقد ركبتم بدعة ظلماء، أو لقد غلبتم أصحاب محمد علماً. اهـ من كتابه.
فانظر رحمك الله إلى هذا العمل المشروع المطلوب المحبوب لله المندوب إليه لمّا كان على غير عمل الصحابة، ولم يكونوا يفعلون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعله أحد من الصحابة بعد وفاته، أنكره علماء الصحابة وأفاضلهم كعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري حتى قال عبد الله بن مسعود:"والذين نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، مفتحوا باب ضلالة".
فتبين بهذا أن هذا بدعة وضلالة وأنه ليس من هدى الرسول وملته، وهم إنما يعدون التكبير والتهليل والتسبيح بالحصى، وأنهم إنما يتخذونه آلة لحفظ العدد المحصور في الحديث المشهور، فاتبع هؤلاء في الابتداع من كان من سلفهم على عهد الصحابة في استحسان البدع الذين كان آخر أمرهم يطاعنون الصحابة يوم النهروان، والمنكرون لهذا الابتداع اتبعوا سلفهم في إنكار ما هو محدث في الدين، كعبد الله بن مسعود، وأبي موسى، وحذيفة، والحسن البصري ولكل قوم وارث.
فإذا علمت أن هذا العمل الصالح لما كان يفعله بعض الناس ظاهراً في المسجد أو المجلس ونحوه، بالحصى أو
المسباح أنه على غير عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه كان فاعله مفتتحاً باب ضلاله، وعلى غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم في العمل، وأن الصحابة رضي الله عنهم لم يتخذوا المسابيح لا ظاهراً ولا خفاءً، تبين لك أن هذا العمل محدث.
فإن قيل: قد فعل العد بالحصى ونحوه بعض السلف والخلف، ومستندهم حديث سعد بن أبي وقاص أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة، وإنما دلها على ما هو أفضل وأيسر عليها، وهذا يدل على الجواز.
قيل: نعم صدر ذلك عن بعض منهم بوجه الخفاء، والمرأة رجعت لما هو أيسر وأفضل متابعة لما دلّها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما أبو هريرة رضي الله عنه فكان لا يستعمله إلا في داره عند نومه، وتلك حالة لا يشاهده فيها أحد ولا يراه الناس، وفعل الصحابي الواحد ليس بحجة عند أهل الحديث ونحوهم، ومن فعل منهم فإنما يفعله في مصلاه، وكان السلف أحرص الناس على إخفاء العمل كما هو معروف مشهور عنهم.
فإذا فهمت هذا علمت أن الذي يفعله الناس على خلاف مذهب من أجازه من العلماء.