الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ثم نقل نقلاً آخر فقال: قال رحمه الله في موضع آخر بعد كلام ذكره: وحقيقة الأمر في ذلك أن القول يكون كفراً فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال من قال هذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قال لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، فهذا كما في نصوص الوعيد أن الله تعالى قال:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] .فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، يعني لا يقال هذا من أهل النار، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد يكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع، وكذلك الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد يكون بلغه ولم
يثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق فإن الله تعالى يغفر له خطأه1 كائناً من كان، سواء كان في المسائل النظرية والعملية، هذا الذي عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة المسلمين من أهل السنة، انتهى كلام شيخ الإسلام باختصار.
والجواب أن يقال أما كلام شيخ الإسلام في عدم تكفير المعين فالمقصود به في مسائل مخصوصة قي يخفى دليلها على بعض الناس كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أموراً كفرية من أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفراً، ولا يحكم على قائله بالكفر لاحتمال وجود مانع كالجهل، وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها، ولذلك ذكر هذا في الكلام على بدع أهل الأهواء، وقد نص على هذا فقال في تكفير أناس من أعيان المتكلمين بعد أن قرر هذه المسألة2 قال: وهذا إذا كان في المسائل الخفية فقد يقال بعدم التكفير، وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله.
1 في الأصل "خطاؤه".
2 في الأصل "المسئلة".
وبهذا تعلم غلظ هؤلاء المشبهين بكلام شيخ الإسلام، وجهلهم، وعدم معرفتهم، ولبسهم الحق بالباطل لدى العامة أو شبيهاً بالعامة، فإن هاتين البلدتين قد بلغتهم الحجة، والحجة القرآن والحديث وعقائد الأئمة الأربعة، وناظروهم مرات عديدة علماؤنا1 ولم يزدادوا إلا تمرداً وعناداً، إلى الإصرار على التجهم، ودعوة غير الله، والذبح لغير الله كما هو مشهور منهم من أعوام متطاولة.
قال شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في رده شبهات داود ابن جرجيس: والجواب أن شيخنا رحمه الله قال في مثل هذه الشبه التي يوردها المبطلون من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: إن من تأمل كلامه رحمه الله وجده يصله بما يفصل النزاع ويبين المراد، وقد بين في هذا النقل بياناً يقطع النزاع بقوله: إلا إذا علم أنه قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى.
وهذا البيان كاف فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لا يكفر أحداً قبل قيام الحجة، وهذا يأتي على جميع ما ساقه العراقي بالرد والدفع، فسياق هذه العبارات المتحدة المعاني والتشبيه بها وكثرة عددها مجرد تخيل وهوس.
قلت تأمل رحمك الله أيها المصنف ما قاله الشيخ رحمه الله أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى
1 في الأصل "علمائنا".
قال في إدخال هذه الشبهة التي يوردها المبطلون من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية إلى آخره: إن من شبه بها كان مبطلاً، لأنه ما عرف كلام شيخ الإسلام حيث وضعه في غير موضعه، وشيخ الإسلام قد وصله بما يفصل النزاع، ثم تأمل ما يأتي بعد هذا من كلام تلميذه ابن القيم رحمه الله.
قال الشيخ: وقال في موضع آخر: قال ابن القيم رحمه الله في طبقات المكلفين بعد أن ذكر الطبقة السادسة عشر وأطال الكلام فيها، ثم ذكر الطبقة السابعة عشر فقال: الطبقة السابعة عشر طبقة المقلدين، وجهال الكفرة، وأتباعهم، وحميرهم الذين معهم تبع ما يقولون إنا وجدنا آباءنا1 على أمة، ولنا أسوة بهم، ومع هذا فهم مسالمون لأهل الإسلام غير محاربين لهم كنساء المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أولئك أنفسهم من السعي في إطفاء نور الله وعدم دينه، وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب، وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار، وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار، وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين ولا الصحابة، ولا التابعون، ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام. إلى أن قال:
1 في الأصل "أبائنا".
والإسلام هو توحيد الله، وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسوله، وإتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً، فإن الكافر من جحد توحيد الله تعالى، وكذب رسوله إما عناداً، وإما جهلاً وتقليداً لأهل العناد، فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند فهو متبع لأهل العناد، وقد أخبر الله تعالى في القرآن في غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار وأن الأتباع مع متبوعيهم، فإنهم يتحاجون في النار، وإن الأتباع يقولون:{رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [لأعراف: 38] . وذكر آيات نحو هذه ثم قال:
نعم لا بد في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال، وهو الفرق بين مقلد تمكن من العلم، ومعرفة الحق فأعرض عنه، ومقلد ل يتمكن من ذلك، والقسمان واقعان في الوجود، فالمتمكن المعرض تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان: -
أحدهما: مريد للهدى، مؤثر له، محب له، غير قادر عليه، ولا على طلبه لعدم مرشد، فهذا حكمه أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة.
الثاني: معرض لا إرادة له، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه.
فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به، وتركت ما أنا عليه، ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه، ولا أقدر على غيره فهو غاية جهدي، ونهاية معرفتي.
والثاني راض بما هو عليه لا يؤثر غيره، ولا تطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما عاجز، ولهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق.
فالأول كم طلب الدين في الفترة فلم يظفر به فعدل عنه بعد استغراقه الوسع في طلبه عجزاً أو جهلاً.
والثاني كمن لم يطلبه، بل مات على شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب، وعجز المعرض فتأمل هذا الموضوع والله يقضي بين عباده يوم القيامة بعدله وحكمته، ولا يعذب إلا من قامت عليه الحجة بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق، وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليهما الحجة أم لا فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وعباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله تعالى، وحكم هذا في أحكام الثواب والعقاب،
وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم1.
وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة2 وهو مبني على أربعة أصول:
أحدها: أن الله سبحانه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] وقال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 9:8] وقال: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11] وقال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام:130] وهذا كثيرا في القرآن يخبر تعالى أنه إنما يعذب من جاءه الرسول أو قامت عليه الحجة، وهو المذنب الذي يعترف بذنبه، وقد قال تعالى:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76] والظالم من عرف ما جاء به الرسول، أو تمكن
1 في الأصل "أولياءهم".
2 في الأًصل "مسئلة".
من معرفته ثم خالفه، وأعرض عنه، وأما من لم يكن عنده الرسول خبر أصلاً، ولا تمكن من معرفته بوجه، وعجز عن ذلك فكيف يقال إن ظالم.
الأصل الثاني: أن العذاب يُسْتَحَقّ بشيئين: أحدهما الإعراض عن الحجة وعدم إرادته لها وبموجبها. الثاني العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا هو الذي نفى الله التعذيب عليه، حتى تقوم حجته بالرسل.
الأصل الثالث: أن تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه لكونه لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً، ولا يتمكن من التفهم وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة كما تقدم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما.
الأصل الرابع: أن أفعال الله سبحانه تابعة لحكمته التي لا يخل بها، وأنها مقصودة لذاتها المحمودة، وعواقبها الحميدة، تبنى مع تلقي أحكامها من نصوص الكتاب والسنة، لا من آراء الرجال وعقولهم، ولا يدري قدر الكلام في هذه الطبقة
إلا من عرف ما في كتب الناس، ووقف على أقوال الطوائف في هذا الباب، وانتهى إلى غاية مرامهم ونهاية إقدامهم والله تعالى الموفق للسداد الهادي إلى الرشاد إلى آخر كلامه رحمه الله.
قال شيخنا فقف هنا وتأمل هذا التفصيل البديع فإنه رحمه الله لم يستثن إلا من عجز عن إدراك الحق مع شدة طلبه وإرادته له، فهذا الصنف هو المراد في كلام شيخ الإسلام وابن القيم وأمثالهما من المحققين.
وأما العراقي وإخوانه المبطلون فشبهوا بأن الشيخ لا يكفر الجاهل، وأنه يقول هو معذور، وأجملوا القول ولم يفصلوا، وجعلوا هذه الشبهة ترساً يدفع بها الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وصاحوا على عباد الله الموحدين كما جرى لأسلافهم من عباد القبور والمشركين وإلى الله المصير وهو الحاكم بعلمه بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، انتهى.
فتبين أن فرض كلام الشيخ شيخ الإسلام فيما نقله هؤلاء الجهال أنه في غير ما يعلم من الدين بالضرورة، وفي غير المفرط في طلب العلم والهدى وكما تقدم فيما نقلناه من طبقات المكلفين، وأنه في المسائل التي قد يخفى دليلها، فإذا عرفت هذا تبين لك أنه لا حجة لهم في كلام الشيخ بل هو عليهم لا لهم، وإيرادهم إياه مجرد هوس وتلبيس وتمويه وسفسطة على عامة ساكني ساحل عمان. والله الهادي إلى الرشاد والموفق للسداد.