الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال المعترض في جوابه: "فلما رأينا ناساً في هذا الزمان جعلوا همتهم وسعيهم في تكفير المسلمين، وإيذائهم، وتفسيقهم، وضيعوا أوقاتهم، ونَفّروا المسلمين عن الصراط المستقيم".
والجواب أن نقول لهذا المعترض: قد كان من المعلوم، عند ذوي المعارف والعلوم، أن من جعل عمته وسعيه في تكفير الجهمية الخارجين عن شريعة الإسلام، وإيذائهم أنه قد اتبع سبيل المؤمنين، وسار على الصراط المستقيم، وجانب طرق أصحاب الجحيم، بدليل ما تقدم من كلام العلماء أئمة الإسلام، وهداة الأنام، فما الدليل على أن الجهمية هم المسلمون، وأن من كفرهم وبذل جهده في عداوتهم والتنفير عن طريقتهم أنه لم يكن على صراط مستقيم، ولم يكن له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ولم يكن على منهج أهل السنة والجماعة، أفكان رسوله الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يعادون المشركين والمنافقين، ولا يكفرونهم، هذا لا يقوله إلا مكابر في
الحسيات، مباهت في الضروريات، لكن كان عليه الصلاة والسلام في حالة ضعف الإسلام وأهله، قد أُمر باللين والرفق، وترك أذى الكافرين والمنافقين، كما قال تعالى:{وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُم} [الأحزاب: من الآية48] فلما قويت شوكة الإسلام، وأهله أنزل الله عليه:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} [التحريم: من الآية9] وقد قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: من الآية29] فكان في حال جهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم يبذل النصيحة لعموم الخلق، ويرحمهم، ويشفق عليهم، لكن رحمته ولطفه وشفقته بالمؤمنين كما قال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فأخبر أن رأفته ورحمته بالمؤمنين لا بالكفار والمنافقين، بل كان عليهم غليظاً شديداً، بل كان المقصود من إقامة الحدود هو رحمتهم وردعهم من الوقوع في المحرمات والمنهيات.
فهذا التلطف والشفقة والرحمة لا يجوز أن يعامل بها من ينكر علو الله على خلقه، ويعطل أسماءه1 وصفاته، بل يعامل بالغلظة والشدة والمعاداة الظاهرة، وكذلك لا يعامل بها من أشرك بالله وعدل به سواه.
1 في الأصل "أسمائه".
وأما قول هذا المعترض: "ولا يقول يا كافر ويا مشرك ويا جهمي ويا فاسق ويا مبتدع" ونحو ذلك.
فأقول: أما في حالة الدعوة إلى الله فلا ينبغي أن يكافحهم بهذه الألفاظ ابتداء، بل الواجب أن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأما كون المسلم دائماً مع أعداء الله ورسوله في لين وتلطف فهذا لا يقوله من عرف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه، كما قدمنا أن ذلك منهم قد كان مبدأ1 الأمر، وحال الضعف، وأما مع قوة شوكة المسلمين ودولتهم، وبعد قيام الحجة، وبلوغ الدعوة فحاشا وكلا بل قد قال صلى الله عليه وسلم لليهود:"يا إخوان القردة والخنازير" وكيف يكون اللين والتلطف دائماً مستمراً وقد قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ *لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون2:1] إلى آخر السورة وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: من الآية104] الآية وقال تعالى عن خليله إبراهيم إمام الحنفاء الذي قال الله فيه: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَه} [البقرة: من الآية130] وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي
1 في الأصل: "مبدء".
فَطَرَنِي} [الزخرف: من الآية27:26] وقال تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ *فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] وقال تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: من الآية48] وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: من الآية4] قال ابن جرير رحمه الله تعالى ما ملخصه: فكذلك أنتم أيها المؤمنون بالله فتبرؤوا من أعداء الله المشركين، ولا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا بالله وحده، ويتبرؤوا من عبادة ما سواه، وأظَهِروا لهم العداوة والبغضاء.
وقوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} على كفركم بالله، وعبادتكم ما سواه، ولا صلح بيننا، ولا مودة1 حتى تؤمنوا بالله وحده.
فصرح الإمام ابن جرير أن الله خاطب المؤمنين بأن يتبرؤوا من أعداء الله المشركين، وأن يظهروا لهم العداوة والبغضاء، وأن يبادوهم بذلك، وإظهار العداوة والبغضاء والبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله هو الإنكار باللسان، بدليل قوله {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ} لأن عداوة القلب وبغضه لا
1 في تفسير ابن جرير 28/62 و"ولا هوادة". وقد نقل الشيخ كلام ابن جرير بتصرف يسير.
تسمى إظهاراً لأنها أعمال قلبية، فلا بد من إظهار ما في القلوب من العداوة والبغضاء والبراءة من الشرك وأهله بالقول والعمل.
وقال البغوي رحمه الله على هذه الآية في آخر الكلام عليها: قال مقاتل: فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار، عادى المؤمنون أقرباءهم1 المشركين، فأظهروا لهم العداوة والبراءة، فلما علم الله شدة وجد المؤمنين بذلك أنزل الله عز وجل {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة: من الآية7] انتهى.
وقال شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في رده على ابن منصور: والهجرة إلى الحبشة، ومقام أبي بكر الصديق يتلوا القرآن، ويظهر دينه كل هذا يؤيد كلام الشيخ وينصره في وجوب التصريح بالعداوة، وأنه لا رخصة مع الاستطاعة، ولولا ذلك لم يحتاجوا إلى الهجرة، ولو تركوها في بلد النجاشي لم يحتاجوا إلى نصرته، وأن يقول: أنتم سيوم بأرضي، ولكان كل مسلم يخفي إيمانه ولا يبادر المشركين بشيء من العداوة، فلا يحتاج حينئذ إلى هجرة، بل تمشي الحال على أي حال كما هي طريقة من لا يعرف ما أوجب الله من عداوة المشركين، وإظهار دين المرسلين، ولولا التصريح بالعداوة من المهاجرين الأولين، ومباداة قومهم بإظهار الإسلام، وعيب ما هم عليهم
1 في الأصل:أقربائهم" وما أثبته من تفسير البغوي –حاشية ابن كثير- 8/318.
من الشرك وتكذيب الرسول، وجحد ما جاء به من البينات والهدى، لما حصل من قومهم من الأذية والابتلاء والامتحان ما يوجب الهجرة، واختيار بلد النجاشي، وأمثالها من البلاد التي تؤمن فيها الفتنة والأذية.
فالسبب المقتضي لهذا كله ما أوجبه الله من إظهار الإسلام ومباداة أهل الشرك بالعداوة والبراءة، بل هذا مقتضى كلمة الإخلاص، فإن نفي الآلهة عما سوى الله صريح في البراءة منه، والكفر بالطاغوت، وعيب عبادتهم، وعداوتهم ومقتهم، ولو سكت المسلم ولم ينكر كما يظنه هذا الرجل لألقت الحرب عصاها، ولم تدر بينهم رحاها كما هو الواقع ممن يدعي الإسلام وهو مصاحب معاشر عباد الصالحين والأوثان والأصنام، فسحقاً للقوم الظالمين، انتهى.
وإذا كان أعداء الله الجهمية، وعباد القبور قد قامت عليهم الحجة، وبلغتهم الدعوة، منذ أعصار متطاولة، لا ينكر هذا إلا مكابر، فكيف يزعم هؤلاء الجهلة أنه لا يقال لأحدهم: يا كافر، ويا مشرك، ويا فاسق، ويا متعور، ويا جهمي، ويا مبتدع وقد قام به الوصف الذي صار به كافراً، أو مشركاً، أو فاسقاً، أو مبتدعاً وقد بلغته الحجة، وقامت عليه، مع أن الذي صدر من القبورية الجهمية هؤلاء لم يكن من المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على الإنسان فَيُتَوقَّف في حال أحدهم، لكن قد علم بالضرورة من دين الإسلام أن من
جحد علوا الله على خلقه، وأنكر صفاته ونعوت جلاله أنه كافر معطل لا يشك في ذلك مسلم، فكيف يظن بالإخوان أنهم يقولون للمسلم يا سني: يا جهمي، وليس كذلك، أو يا كافر أو يا مبتدع.
وقد قال الإمام مالك لما سأله1 رجل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً، وأمر به فأخرج عن مجلسه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه وهو في السجن لما طلب منه أعداؤه أن يوافقهم على أمر كتبوه في ورقة، وقالوا: المطلوب منه أن يعتقد هذا، فأبى عليهم، فأعادوا عليه الجواب، فأبى وأغلظ لهم في الجواب قال: فرفعت صوتي وقلت: يا زنادقة يا كفار يا مرتدين أو كلاماً نحو هذا ذكره في التسعينية.
وأما قوله: "وفي هذا الزمان مع أنهم لا يقول لهم أحد شيئاً، بل يتعوذون منه شرهم، ولكن لم يتركوا أحداً، بل قالوا لبعضهم: يا كافر، ولبعضهم يا مشرك، ولبعضهم يا مبتدع، ويا جهمي، ويا متعور، وبعضهم لا يُسَلِّمون عليه، وبضعهم لا يردون عليه السلام".
فأقول: هذا جواب جاهل مُتَمَعْلِم، لا يدري، ولا يدري أنه
1 في الأصل "سئله".
لا يدري، فإنه لا يتوقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومباداة أعداء الله ورسوله وأعداء دينه بالعداوة والبغضاء على كون أعداء الله ورسوله لا يقولون لأحد شيئاً، بل يتعوذون من شرهم لأن مباداة أعداء الله بالعداوة والبغضاء هو الواجب، وترك ذلك من المداهنة، وللشيطان وأعوانه غرض في الطائفتين قال تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] .
وثمود لو لم يدهنوا في ربهم
…
لم تدم ناقتهم بسف قدار
وليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرٌّ كما يقوله هذا الجاهل.
فإن كان الكلام مع جهمي ينكر علوا الله على خلقه، ويعطل أسمائه1 وصفاته، كان هذا الفعل خيراً محضاً لا شر فيه وتسميته شراً يوقع في الفتنة التي توبق صاحبها، وتحلق بأهل الوعيد، نعوذ بالله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وكذلك لو كان هذا مع إباضي، أو مع عباد القبور، والأمر أشد من ذلك وأعظم.
فإن كان مع من يواليهم، ويجالسهم فقوله لأحدهم: يا كافر أو يا جهمي خطأ2، فإنه لا يقال هذا إلا لكافر أو جهمي
1 في الأصل "أسمائه".
2 في الأصل "خطاء".
قد قامت عليه الحجة وبعد ذلك كابر وعاند، ومن والاهم وجادل عنهم بعدما تبين له الحق، واتضح له كلام العلماء في تكفيرهم، وتحققوا أنه قد بلغتهم الحجة، وقامت عليهم بإنكار أهل الإسلام عليهم، وإن لم يفهموا الحجة، ثم كابر وعاند فإن كان عن تأويل فلا أدري ما حاله، وأمره شديد، ووعيده أشد وعيد إن كان غير ذلك، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى، من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً ومن لم يجعل الله نوراً فما له من نور.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: ولنذكر من كلام الله تعالى، وكلام رسوله، وكلام أئمة العلم جملاً في جهاد القلب واللسان، ومعاداة أعداء الله، وموالاة أوليائه، وأن الدين لا يصح ولا يدخل الإنسان فيه إلا بذلك.
فنقول: باب وجوب عداوة أعداء الله من الكفار المرتدين والمنافقين، وقول الله تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُم} [النساء: من الآية140] وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: من الآية51] إلى قوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] .
وقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] وقال الإمام الحافظ محمد بن وضاح أخبرني غير واحد أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات: اعلم أخي أنا ما حملني على الكتب1 إليك إلا2 ما ذكر أهل بلدك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك للناس، وحسن حالك مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشد بك ظهر أهل السنة، وقواك3 بإظهار عيبهم، والطعن عليهم، فأذلهم الله بك، وصاروا ببدعتهم مستترين، فأبشر يا أخي بثواب ذلك، واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله تعالى، وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من أحيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وضم بين أصبعيه".
وقال: "أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة" فمتى يدرك أجر هذا شيء من عمله؟
1 في البدع والنهي عنها ص 5 "على الكتاب".
2 "إلا" ليست في كتاب البدع والنهي عنها.
3 في كتاب البدع "وقواك عليهم".
وذكر أيضاً "أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً لله يذب عنها وينطق بعلامتها".
فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وأوصاه قال:"لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من كذا وكذا" وأعظم القول فيه، فاغتنم ذلك، وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك إلفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث، فيكونون أئمة بعدك، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة، كما جاء في الأثر، فاعمل على بصيرة، ونية، وحسبة، فيرد الله بك المبتدع المفتون، الزائغ الحائر، فتكون خلفاً من نبيك صلى الله عليه وسلم، فإنك لن تلق الله بعمل يشبهه.
وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ، أو جليس، أو صاحب فإنه جاء الأثر "من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام".
وجاء "ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى" وقد وقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع، وأن الله لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، ولا فريضة ولا تطوعاً، وكلما زادوا اجتهاداً أو صوماً وصلاة ازدادوا من الله بعداً، فارفض مجالسهم، وأذلهم وأبعدهم، كما أبعدهم الله، وأذلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأئمة الهدى بعده، انتهى كلامه رحمه الله.
واعلم رحمك الله أن كلامه وما يأتي من أمثاله من السلفة في معاداة أهل البدع والضلالة ضلالة لا تخرج عن الملة، لكنهم شددوا في ذلك وحذروا منه لأمرين:
الأول: غلظ البدعة في الدين في نفسها، فهي عندهم أجل من الكبائر، ويعاملون أهلها بأغلظ مما يعاملون أهل الكبائر، كما تجد في قلوب الناس اليوم أن الرافضي عندهم ولو كان عالماًً عابداً أبغض وأشد ذنباً من السني المجاهر بالكبائر.
والأمر الثاني: أن البدعة تجر إلى الردة الصريحة، كما وجد في كثير من أهل البدع.
فمثال البدعة التي شددوا فيها مثل تشديد النبي صلى الله عليه وسلم فيمن عَبَدَ الله عند قبر رجل صالح، خوفاً مما وقع من الشرك الذي يصير به المسلم مرتداً.
فمن فهم هذا فهم الفرق بين البدع وبين ما نحن فيه من الكلام في الردة ومجاهدة أهلها، والنفاق الأكبر، ومجاهدة أهله، وهذا هو الذي نزل فيه الآيات المحكمات مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة: 73-74] .
قلت: فتأمل أيها المنصف ما ذكره هذا المعترض من قوله: "فلما رأينا ناساً في هذا الزمان جعلوا همتهم وسعيهم في تكفير المسلمين وإيذائهم وتفسيقهم، وضيعوا أوقاتهم، ونفروا المسلمين عن الصراط المستقيم" وهؤلاء المسلمون عندهم كالجهمية، والإباضية، وعباد القبور، كما ذكره الإخوان عنهم، ويدل على ذلك قوله:"بل قالوا لبعضهم: يا كافر ولبعضهم يا مشرك، ولبعضهم يا مبتدع، ويا جهمي".
ثم تأمل ما ذكره الإمام أسد بن موسى فيما كتبه إلى أسد ابن الفرات وقوله: "مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشد بك ظهر أهل السنة، وقواك عليهم بإظهار عيبهم، والطعن عليهم، فأذلهم الله بك، وصاروا ببدعتهم مستترين".
وهذا الجاهل المعترض، وأصحابه الذين وازروه، وقاموا معه فإنهم ينكرون على من أظهر عداوة الجهمية، والإباضية، وعباد القبور، ويشنعون عليهم ويصنفون في الرد عليهم، والذب عن هؤلاء الكفرة ويسمونهم المسلمون، ويعيبون على أهل الإسلام بأنهم جعلوا عمتهم وسعيهم في تكفير من أنكر علوا الله على خلقه، وعطل أسماءه1 وصفاته، وأنهم بهذا نفروا المسلمين عن الصراط المستقيم. والصراط الم
م عند هؤلاء هو: التلطف بهم، والنصيحة لهم،
1 في الأصل "أسمائه".
واللين عليهم، لأن هذا بزعمهم هو دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرته. وما علم هؤلاء أن هذا كان في بدء1 الأمر قبل أن تنزل آية السيف والجهاد، ثم نسخ هذا كله، وأمر أن يجاهدهم حتى يكون الدين كله لله.
وتأمل أيضاً ما ذكره أسد بن موسى من قوله: "وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ، أو جليس، أو صاحب فإنه جاء في الأثر" من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام".
ثم تأمل قيام هؤلاء في نحر طلبة العلم الذين يحذرون عن مجالسة الجهمية، ومواكلتهم، وأكل ذبائحهم، والركون إليهم.
ثم انظر إلى كلام الشيخ محمد رحمه الله تعالى من أن هذا الكلام، وما يأتي من الكلام بعده من كلام السلف أنه في معاداة أهل البدع والضلال الضلالة التي لا تخرج عن الملة، فكيف الكلام في الجهمية الذين كفرهم السلف كما قال ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية:
ولقد تقلد كُفرَهُم خمسون في
…
عشر من العلماء في البلدان
1 في الأصل "بداء".
واللالكائي الإمام حكاه عنهم
…
بل قد حكاه قبله الطبراني
وذكر أيضاً أن كل أهل السنة أثنوا على خالدٍ بقتل جعداً قال رحمه الله:
شكر الضحية كل ناصر سنة
…
لله درك من أخي قربان
وكذلك عباد القبور فإنهم ليسول من أهل الأهواء والبدع، بل يسميهم السلف: الغلاة، لمشابهتهم النصارى في الغلو في الأنبياء، والصالحين.
ثم قال الشيخ رحمه الله: قال ابن وضاح في البدع والحوادث بعد حديث ذكره سيقع في هذه الأمة الكفر وفتنة الضلالة قال رحمه الله: إن فتنة الكفر هي الردة، يحل فيها السبي والأموال، وفتنة الضلالة لا يحل فيها السبي والأموال.
وقال رحمه الله أيضا أخبرنا أسد أخبرنا رجل عن ابن المبارك1 قال: قال ابن مسعود: إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً من أوليائه، يذب عنها وينطق بعلامتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن، وتوكلوا على الله وكفى بالله وكيلاً.
1 في كتاب البدع والنهي عنها "ويوسف بن أسباط".
ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال: "لأن أرد رجلاً عن رأي سيئ أحب إلي من اعتكاف شهر" أخبرنا أسد عن أبي إسحاق الحذاء عن الأوزاعي قال: "كان بعض أهل العلم يقولون: لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ولا صياماً ولا صدقة ولا جهاداً ولا صرفاً ولا عدلاً، وكانت أسلافكم تشتد عليهم ألسنتهم، وتشمئز منهم قلوبهم، ويحذرون الناس بدعتهم. قال: ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس، ما كان لأحد أن يهتك ستراً عليهم، أو يظهر منهم عورة، الله أولى بالأخذ بها، وبالتوبة عليها، فأما إذا جهروا فنشر العلم1 حياة، والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة يعتصم بها على مصر ملحد.
ثم روى بإسناده قال: جاء رجل إلى حذيفة وأبو موسى الأشعري قاعد فقال: أرأيت رجلاً ضرب بسيفه غضباً لله حتى قتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة. فقال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول – حتى فعل ذلك ثلاث مرات – فلما كان من الثالثة قال: والله لا استفهمه، فدعا به حذيفة فقال: رويدك إن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع، فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يصب الحق، ولم يوفقه الله للحق فهو في
1 في كتاب البدع "فأما إذا جهروا به، وكثرت دعواتهم، ودعاتهم إليها، فنشر العلم
…
" الخ ص 5.
النار. ثم قال: والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا1.
ثم ذكر بإسناده عن الحسن قال: لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك.
ثم ذكر بإسناده عن سفيان الثوري قال: من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخل النار، وإما أن يقول والله ما أبالي ما تكلموا2، وإني واثق بنفسي فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه.
وبإسناده عن بعض السلف قال: من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام.
أخبرنا أسد بن موسى قال أخبرنا حماد بن زيد عن أيوب قال: قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإن لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليك ما تعرفون. قال أيوب: وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب.
أخبرنا أسد بن موسى قال أخبرنا زيد عن محمد بن طلحة
1 الناقل تصرف في نقل هذه الصفة. انظر كتاب ابن وضاح ص 38-39.
2 في الأصل "ما تكلمون" وما أثبته من كتاب ابن وضاح ص 47.
قال: قال إبراهيم: لا تجالسوا أهل البدع، ولا تكلموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم. وذكر الشيخ كلاماً طويلاً في هذا المعنى في إفادة المستفيد.
وروى الحاكم والبيهقي عن أنس رضي الله عنه تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، والقوهم بوجوه مكفهرة، والتمسوا رضي الله عنكم بسخطهم.
قال المناوي رحمه الله في شرح الجامع الصغير على هذا الحديث: تقربوا إلى الله أي اطلبوا رضاه ببغض أهل المعاصي من حيث إنهم أهل المعاصي لا لذواتهم، فالمأمور ببغضه في الحقيقة إنما هو تلك الأفعال المنهية، والقوهم بوجوه مُكفَهِرَّة أي عابسة قاطبة فعسى أن ينجح ذلك فيهم، فينزجروا، والتمسوا أي اطلبوا ببذل الجهد رضي الله عنكم بسخطهم فإنهم أعداء الدين، وتقربوا إلى الله بالتباعد منهم، فإن مخالطتهم سم قاتل، وفيه شمول للعالم العاصي. ورواه ابن شاهين في كتاب الأفراد عن ابن مسعود بإسناد ضعيف. قال المناوي: وإسناد الأول واهٍ.
والمقصود ما قاله المناوي رحمه الله من أن مخالطتهم سم قاتل، وأن أهل المعاصي أعداء الدين، فكيف بمخالطة
أهل الكفر بالله من دعاة الأنبياء والأولياء والصالحين، والجهمية، والإباضية أعداء الدين، الخارجين عن طريقه المسلمين، والمجادلة عنهم والذب، وتضليل من نفر عن مجالستهم، وتجهيلهم وآل به الجهل بطبع مقالته، ونشرها في البلاد والعباد، سبحان من طبع على قلوب أكثر الناس.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: القسم الرابع من مخالطته الهلكة، ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإن اتفق لآكله1 ترياق، وإلا فأحسن الله فيه العزاء.
وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله، وهم أهل البدع والضلالة، الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الداعون إلى خلافها، فيجعلون السنة بدعة، والبدعة سنة، إن جَرَّدت التوحيد قالوا تنقصت الأولياء والصالحين، وإن جردت المتابعة للرسول قالوا أهدرت الأئمة المتبوعين، وإن وصفت الله بما وصف به نفسه، وبما وصف به رسوله، من غير غلو، ولا تقصير قالوا أنت من المشبهين، وإن أمرت بما أمر [الله به] 2 رسوله من المعروف، ونهيت عن المنكر قالوا أنت من المفتنين، وإن اتبعت السنة، وتركت ما خالفهم3 قالوا أنت
1 في الأصل "لا أكل" وما أثبته من آخر الجزء الثاني من بدائع الفوائد لابن القيم. وقد ذكر ابن القيم في هذا الموضع كلاما أغلى من الدرر، فانظره لزاما.
2 ما بين المعكوفين من البدائع.
3 في الأصل "ما خالفه".
من الملبسين1، وإن تركت ما أنت عليه، واتبعت أهواءهم2 فأنت عند الله من الخاسرين، وعندهم من المنافقين، فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله ورسوله بإغضابهم3، وأن لا تبالي بذمهم وغضبهم فإنه عين كمالك انتهى.
قلتُ: ما أشبه الليله بالبارحه، فانظر إلى مقالة هؤلاء في دعواهم على طلبة العم أنهم نفروا المسلمين عن الصراط المستقيم، ثم انظر كلام ابن القيم رحمه الله ترى العجب العجاب.
وأما قول المعترض: "وبعضهم لا يسلمون عليه، وبعضهم لا يردون السلام".
فالجواب أن يقال: فرض هذا من الإخوان فيمن دون الجهمية، والإباضية، وعباد القبور، ممن يواليهم أو يجادل عنهم، وحينئذ فيقال: إن ترك السلام ابتداء ورداً على من أحدث حدثاً حتى يتوب منه كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل به الصحابة، والتابعون، والأئمة المجتهدون، ولنا في رسول الله أسوة حسنة فإنه صلى الله عليه وسلم هجر كعب بن مالك رضي الله
1 في البدائع: "قالوا أنت من أهل البدع المضلين، وإن انقطعت إلى الله تعالى، وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا قالوا: أنت من الملبسين".
2 في الأصل "أهوائهم".
3 في البدائع "وأن لا تشتغل بأعتابهم، ولا باستعتابهم
…
".
عنه وصاحبيه وكانا من أهل بدر، لما تخلفوا عن الغزو معه عام تبوك، من الكلام والسلام، والحديث بذلك في صحيح البخاري، وقد كان هؤلاء المهجورين من الأفاضل الكرام، وذوي الهيئات والاحترام، فهجرهم عن السلام والكلام، لما أحدثوا حدثاً أوجب لهم التعزير والتأديب والاهتضام، حتى تاب الله عليهم فتابوا ورجعوا إليه، وأنابوا.
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة: وكان يهجر بعض المؤمنين، كما هجر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، لأن المقصود دعوة الخلق إلى طاعة الله بأقوم طريق، فيستعمل الرغبة حيث تكون أصلح، والرهبة حيث تكون أصلح.
فبين رحمه الله أن المقصود دعوة الخلق إلى طاعة الله، فكان في الهجر إذا كان فيه مصلحة من الدعوة إلى الله، ومن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته فحسن.
وكذلك لما سلم عليه عمار بن ياسر رضي الله عنه، وقد خلقه أهله بزعفران فلم يرد عليه السلام وقال: اذهب فاغسل عنك هذا.
وكذلك لم يرد السلام على من أعلى بنيان بيته، حتى هدمه. ومن لبس بُرداً أحمر مصمتاً كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: مر بالنبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه بردان أحمران فسلم، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الأدب المفرد للبخاري رحمه الله عن علي رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم فيهم رجل متخلق بخَلُوق، فنظر إليهم، وسلم عليهم، وأعرض عن الرجل، فقال الرجل أعرضت عني؟ قال:"بين عينيك جمرة".
وفيه أيضاً عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "ولا تسلموا على شراب الخمر".
وفيه عن قتادة عن الحسن "ليس بينك وبين الفاسق حرمة".
وقال ابن شهاب رحمه الله: أقام أخي أبو الخطاب معي في الدار عشرين سنة ما كلمته، وأشار أنه كان ينسب إلى الرفض.
وكان أبو حفص لا يكلم رافضياً إلى عشرة.
وقال القاضي أبو حسين: قرأت في بعض كتب أصحابنا أن ابن رجاء كان إذا مات بعكبر رجل من الرافضة فبلغه أن بزازاً باع له كفناً، أو غاسلاً غسله، أو حمالاً حمله، هجره على ذلك.
وقال المهلب: ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية. وقال في الفتح: وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من
يتعاطى خوارم المروءة1 ككثرة المزاح، واللهو، وفحش القول، والجلوس في الأسواق لرؤية من يمر من النساء، ونحو ذلك.
ولو ذهبنا نذكر أقوال العلماء لطال الكلام، والمقصود التنبيه على أن هذا من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدى أصحابه والتابعين لهم بإحسان هجر أهل المعاصي والبدع، ودرج على ذلك أفاضل العلماء من الأئمة الأعلام، فمن أخذ بهديهم، وسار بسيرتهم فقد سار على الصراط المستقيم.
وقد ذكر المعترض في أول رسالته أن يجب على كل من نصح نفسه، وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه نصح نفسه، وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، فإذا تبين لك أن2 ما ذكرناه من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدى أصحابه، ومن سيرته وشأنه، ومع هذا كله قام في نحر من قام به، واتبع هديه صلى الله عليه وسلم في ذلك، وسار بسيرته، وجهلهم وضللهم، وزعم أنهم نفروا المسلمين عن الصراط المستقيم، تبين لكل منصف أنه هو ممن نكب عن هذه الطريقة، ولم يسر على منهاج هذه الحقيقة، وأنه من
1 في الأصل "المرؤة".
2 في الأصل حرف غير واضح. وسياق الكلام يقتضي ما أثبته.
المحرومين لا من المقلين ولا من المستكثرين، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
وأما قوله: "بالله عليك أيها المنصف هكذا تكون الدعوة إلى الله، وهكذا سيرة محمد صلى الله عليه وسلم "إلى آخر كلامه. فأقول: نعم هكذا تكون الدعوة إلى الله، وهكذا سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن كان له إطلاع، ومعرفة بكلام الله، ورسوله، وكلام العلماء يعرف ما ذكرناه أنه من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه، وسيرة السلف الصالح، وأما من جهل ذلك ولم يكن لديه معرفة ولا إلمام فإنه ينكر هذا، ويظن أنه خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته ودعوته.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الهدي النبوي: وفي نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر من تخلف دليل على صدقهم، وتكذيب الباقين، فأراد هجر الصادقين، وتأديبهم على هذا الذنب، وأما المنافقون فجرمهم أعظم من أن يقابل بالهجر، فدواء هذا المرض لا يعمل في مرض النفاق، ولا فائدة فيه، هكذا يفعل الرب بعباده في عقوبات جرائمهم، فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده بأدنى زلة وهفوة، فلا يزال مستيقظاً حذراً، وأما من سقط من عينه، وهان عليه فإنه يخلي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنباً أحدث الله له نعمة، والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه، ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة، وأنه يريد به العذاب
الشديد، والعقوبة، التي لا عافية معها، كما في الحديث المشهور:"إذا أراد الله بعبده خيراً عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده شراً أمسك عنه عقوبته في الدنيا فيرد القيامة1 بذنوبه "، إلى آخر كلامه. فانظر إلى كلام ابن القيم رحمه الله وإلى ما قدمناه من كلام أهل العلم مما ذكره الحافظ محمد بن وضاح من سيرتهم، ومعاداتهم أهل البدع، ومقتهم، وعيبهم لهم والتحذير عن مجالستهم، إذا تأمله المنصف الخالي عن ثوبي الجهل والتعصب عرف سيرة السلف الصالح، والصدر الأول، وتحقق ما هم عليه من الغير لله، ولدينه، وتبين له جهل هؤلاء المتعارضين.
والمقصود أن الإخوان كانوا على طريق مستقيم من هديه صلى الله عليه وسلم وسيرته، وسيرة أصحابه فكفروا من كفره الله ورسوله، وأجمع على تكفيره أهل العلم، وهجروا من السلام من لم يكفرهم، ووالاهم، وذب عنهم، لأنهم حملوهم على الجهل وعدم المعرفة، وأنه قد قام معهم من الشبهة والتأويل ما أوجبهم الجدال عنهم، لأن هذا عندهم من الدعوة إلى الله، فلذلك ما عاملوهم إلا بالهجر من السلام ابتداءً ورداً، فإذا كان هذا هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الصادقين المخلصين لما اقترفوا هذا الذنب اليسير، وتركه هجر المنافقين لأن2 جرمهم
1 في الأصل "القيمة".
2 في الأصل "ولأن".
لا ينجع فيه التأديب بالهجر، فقبل عذرهم، ووكل أمرهم إلى الله، وإنما تركهم عليه الصلاة والسلام من المعاقبة لأنه خاف أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، لا لأن جرمهم لا يحتمل هذا الأمر، وقد بسط الكلام على هذا شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه في الصارم المسلول على شاتم الرسول، فالاعتراض والتشنيع على طلبة العلم بهجر أهل المعاصي فضلاً عن هجر أعداء الله ورسوله النافين لعلو الله على خلقه والجاعلين معه آلهة أخرى من دونه خطأ عظيم، واعتراض ذميم وخيم، وجهل مفرط جسيم.
وأما قوله: "ومن أجل هؤلاء ساء الظنون بالناصحين، فإذا قال بعض الناس لمن يريدوا نصيحتهم يقولون: لا تقبلوا نصيحتهم إنهم يكفرون الناس، لا تقبلوا لهم نصيحة، وسبب ذلك جهل جهال بعض البله أن ما لنا في أسمائهم حاجة، الحر تكفيه الإشارة، يزعمون أنهم دعاة إلى الله، ومن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وإفسادهم أكثر من إصلاحهم".
فأقول سبحان الله ما أعظم شأنه، وأعز سلطانه، كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون، كيف استرسل من يترشح للعلم مع الشيطان إلى أن بلغ به إلى هذه الغاية، فإن الشيطان قد فتح لكثير من الناس أبواباً من الشُّبَه في إسقاط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألقى على ألسنتهم هذه
الشبهة ليتوصل بذلك إلى أن يترك الناس الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن في ذلك تنفيراً للناس عن قبول النصيحة، ويظنون أن هذا من جهل الآمر والناهي، وأن العقل لا يسوغ هذا، وهذا العقل هو حظ كثير من الناس، بل أكثرهم وهو عين الهلاك، وثمرة النفاق، فإن أربابه يرون أن العقل إرضاء الناس جميعهم، وعدم مخالفتهم في أغراضهم، وشهواتهم، واستجلاب مودتهم ويقولون أصلح نفسك بالدخول مع الناس، والتسلك معهم، ولا تبغض نفسك عندهم، فلا يقبلوا لك نصحاً، وهذا هو إفساد النفس وإهلاكها، وفاعل ذلك قد التمس رضا الناس بسخط الله وصار الخلق في نفسه أجل من الله، ومن التمس رضى الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، فمن نصح نفسه وأراد نجاتها فليلتمس رضا الله بمعاداة أعداء الله ورسوله، ويعلم أن أصل الأصول لا استقامة له، ولا ثبات إلا بمقاطعة أعداء الله، وجهادهم، والبراءة منهم والتقرب إلى الله بمقتهم، وعيبهم، وقد قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ
وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:78-81] . وأكثر الناس إنما يتعبد بما يحسن في العادة، ويثنى عليه به، وما فيه مقاطعة ومجاهدة وهجر في ذات الله ومراغمة لأعدائه فذاك ليس منه على شيء، بل ربما ثبَّط عنه، وقدح في فاعله، وهذا كثير في المنتسبين إلى العادة، والمنتسبين إلى العلم والدين، والشيطان أحرض شيء على ذلك منهم، لأنهم يرونه غالباً ديناً وحسن خلق فلا يتاب منه ولا يستغفر، ولأن غيرهم يقتدي بهم، ويسلك سبيلهم فيكونون فتنةً لغيرهم، ولهذا حذر الشارع من فتنة من فسد من العلماء والعباد وخاف على أمته، فالمؤمن إذا حصل له ظهر بحقائق الإيمان، وصار على نصيب من مرضاة الملك الرحمن، فقد حصل له الحظ الأوفى، والسعادة الكبرى، وإن قيل ما قيل.
إذا رضي الحبيب فلا أبالي
…
أقام الحي أم جد الرحيل
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: أصل الدين وقاعدته أمران:
الأول: الأمر بالعبادة لله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه.
الأمر الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله تعالى، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله. انتهى. فلا بد من تكفير من فعل الشرك، والإنذار عنه والتغليظ
في ذلك، والمعاداة فيه، وكذلك موالاة من أمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، وتكفير من ترك عبادة الله. ونسأل1 الله أن يهدينا، وإخواننا المسلمين لسلوك صراطه المستقيم.
وقوله: "ينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عليماً فقيهاً حليماً صبوراً".
فأقول: هذا حق وهو الواجب، ولكن لا يدفع هذا في نحر من أظهر عداوة أعداء الله الجهمية، والأباضية، والمرتدين، وإن كان المعادي لهم ليس بعالم ولا فقيه ولا حليم، بل على المسلم أن يعادي أعداء الله بحسب علمه وفهمه، وأن لا يتجاوز المشروع، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكراً فليغره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
وأما قوله: "أما تكفيكم هذه الآية: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] آي بالترغيب والترهيب، وجادلهم بالتي هي أحسن، أي جادلهم بالبراهين المسلمة التي يُقِرُّ بها كل واحد، هكذا في الحسبة لشيخ الإسلام".
1 في الأصل "ونسئل".
فأقول: هذا حق لا مرية فيه، وليس فيه أنه إذا دعاهم1 إلى الله بما ذكر من الموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، ولم يرتدعوا، ولم ينتهوا أنه لا يقاطعهم، وينابذهم، ولا يبرأ2 إلى الله منهم.
وإذا كان ذلك كذلك فلا يخلو أمر هؤلاء الجهمية والإباضية والمرتدين من عباد القبور من إحدى ثلاث أمور:
إما أن يكونوا قد دعوتموهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلتموهم بالبراهين التي يُقِرُّ بها ويسلمها كل أحد، فقبلوا ما دعوتموهم إليه من الهدى، ودين الحق، فرجعوا عن ضلالتهم، وتابوا وأنابوا والتزموا بما كان عليه أهل السنة والجماعة، وحينئذ يكون المعادي لهم والمعترض عليكم وعليهم مخطاً ظالما ً متعدياً.
وإما أن يكونوا لم يقبلوا ما دعوتموهم إليه من الهدى، ودين الحق، وطريقة أهل السنة والجماعة، بل كابروا3، وعاندوا، وتمردوا، وشَرَدُوا على الله شِراد البعير على أهله، فتكون الحجة قد قامت عليهم، وحينئذ فلا مانع من تكفيرهم، وإظهار عداوتهم، والبراءة منهم، وبغضهم، والتنفير عنهم
1 في الأصل "أنه إذا عادهم".
2 في الأصل "يبراء".
3 في الأصل "بل كابروا عاندوا".
ومباعدتهم، ومقاطعتهم، لأن الحجة قد بلغتهم، وقامت عليهم.
وإما أن يكونوا لم تدعوهم أنتم، ولم تناصحوهم، فتكونوا أنتم حينئذ من أنصارهم، وأعوانهم، والذابين عنهم قبل دعوتهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإقامة الحجة عليهم:{هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [النساء:109] وجعلتم أنفسكم دونهم هدفاً، تصنفون في الرد على من عاداهم، وغلبهم، ومقتهم، ونشر عورتهم، وخزيهم وضلالهم، أفلا تتقون يوماً ترجعون فيه إلى الله.
وأما قوله: "فإذا كان هذا الأمر لسيد الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بل لكل نبي، وأمرهم الله بالصبر في مواضع القرآن، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة".
فأقول: هذا حق، لكن هذا كان في أول الإسلام وقد قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في المواضع التي نقلها من السيرة، وتكلم عليها قال: الموضع الثاني أنه صلى الله عليه وسلم لما قام ينذرهم عن الشرك، ويأمرهم بضده وهو التوحيد، لم يكرهوا ذلك، واستحسنوه، وحدثوا أنفسهم بالدخول فيه، إلى أن صرح بِسَبِّ1 دينهم، وتجهيل
1 في الأصل "بسبب".
علمائهم، وتسفيه آرائهم، فحينئذ شمروا له، ولأصحابه عن ساق العداوة، وقالوا: سفه أحلامنا، وعاب ديننا، وشتم آلهتنا، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يشتم عيسى، وأمه ولا الملائكة، والصالحين، لكن لما ذكر أنهم لا يُدْعَوْنَ، وأنهم لا ينفعون، ولا يضرون جعلوا ذلك شتماً.
فإذا عرفت هذا عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام ولو وحّد الله، وترك الشرك إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة، والبغضاء كما قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الآية فإذا فهمت هذا فهماً جيداً عرفت أن كثيراً من الذين يدعون الدين لا عَرَفَهَا ولا فَهِمَهَا، وإلا فما الذي حمل المسلمين على الصبر على ذلك العذاب، والأسر، والضرب، والهجرة إلى الحبشة، مع أنه صلى الله عليه وسلم أرحم الناس، ولو وجد لهم رخصةً لأرخص لهم، كيف وقد أُنْزِلَ عليه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10] فإذا كانت هذه الآية فيمن وافقهم بلسانه ذا أو ذي فكيف بغير ذلك، انتهى.
فتبين أن هذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، فلما أُنْزِلَ عليه:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] بادأهم بسب دينهم، وتسفيه آرائهم، شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة، إذاً فإن من عادى أعداء الله
ورسوله، وصرح بتكفيرهم، والبراءة منهم عادوه وآذوه ولا بد، فهذه كانت حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرته، ودعوته إلى الله، ومع ذلك فهو أرحم الناس، وأحسنهم تلطفاً، ودعوة إلى الله، ولنا في رسول الله أسوة حسنة كما قد بيناه فيما مضى.
وأما قوله: "فأمرهم بالصبر في مواضع من القرآن والأحاديث".
فأقول: هذا حق وهو خلاف ما تدعون، فإنه أمرهم بالصبر على الأذى، وعلى الدعوة إلى الله، وتحمل المشاق، ولم يأمرهم بالصبر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى التسلك مع الناس، والتطلف لهم، مع الإصرار على معاصي الله، لأن في نهيهم، وأمرهم بما أمر الله به ورسوله تنفيراً لهم عند هؤلاء الجهال، وقد تقدم من كلام الأئمة ما يكفي ويشفي لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ومن المعلوم أن الصبر من صفات عباد الله المخلصين، كما شاع وذاع، وفي صفى الإمام أحمد رحمه الله "عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته البدع فنفاها، والدنيا فأباها "وهذه حال أئمة المتقين الذين وصفهم الله في كتابه بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ1 أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فبالصبر تترك الشهوات،
1 في الأصل "وجعلناهم أئمة" وهو خطأ.
وباليقين تدفع الشبهات، كما قال تعالى:{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] وقوله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [صّ:45] وفي بعض المراسيل "إن الله يحب البصير الناقد عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات".
فمن جادل عن أهل البدع فضلاً عن أهل الكفر بالله فقد خالف طريقة السلف الذين أمرهم الله بالصبر على أذى1 أعداء الله ورسوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] وليس الصبر المحمود المأمور به أن يكون الإنسان مع أعداء الله، وأعداء رسله، ودينه دائماً في تطلف وتملق، مع الإغضاء على ركوب المحارم، والإصرار عليها، والعلم اليقين أنهم على ما كانوا عليه في المعتقد، ثم يتلطف الشيطان له بأن يزين له أنه إذا ناصحه عما كان عليه تعذيراً لهم، أنه قد صبر على الأذى، وعلى الدعوة إلى الله، ثم إذا كان من الغدِ2 آكله وشاربه وانبسط إليه ففي المسند والسنن عن أبي عبيدة عن3 عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من كان قبلكم إذا عمل العامل بالخطيئة جاءه الناهي تعذيراً فإذا كان الغد جالسه، وواكله،
1 في الأصل "على أذاء".
2 في الأصل "من الغد وآكله".
3 في الأصل "عن أبي عبيدة ابن مسعود" وهو خطأ.
وشاربه كأن لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتَنْهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بضعكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم".
فالتسلك مع الناس، وإرضاؤهم بسخط الله، والتلطف لهم، وترك أذاهم عند مخالفة أمر الله ورسوله، ودعوى أن هذا من الصبر على الدعوة إلى الله، هذا الذي يحوم حوله هؤلاء الجهال وهو عين مخالفة أمر الله ورسوله، مع أن هذا لو سلم لهم كان فرضه في أهل المعاصي والذنوب من أهل الإسلام مع مجاهدتهم وهجرهم، فأما الجهمية، والإباضية، وعباد القبور، فالرفق بهم، والشفقة عليهم، والإحسان، والتلطف، والصبر، والرحمة، والتبشير لهم، مما ينافي الإيمان، ويوقع في سخط الرحمن، لأن الحجة بلغتهم منذ أزمان، وقال الله {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الآية وهذا يكفي في جواب ما بقي من كلامه بما هو داخل في هذا المعنى.
وأما ما ذكره عن بعض الجهال أنهم إذا رأوا أحداً يأمر بسنة النبي صلى الله عليه وسلم أو يفعلها أنكروا عليه، مثل أن يفعل جلسة الاستراحة، والتسبيح بيده اليمنى، أو صلى في بعض الأوقات
في نعاله ما رأينا مشايخنا يفعلون ذلك.
فأقول هذا لا يصدر إلا من جاهل ليس عنده علم بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما سنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله مما ليس من خصائصه، أو أمر به فهو الحق، وعلى كل مسلم أن يقبل ذلك، ولا يعارضه بقول أحد كائناً من كان، وقد أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحدٍ كائناً من كان، وليس هذا خاصاً بالسنن المذكورة فقط، بل هذا في كل سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بها أو فعلها ليقتدى به فيها، لكن جلسة الاستراحة مما تنازع فيها العلماء، هل هي من سنن الصلاة، أو سنة للحاجة إليها كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
والنزاع في هذا أسهل في جنب ما أسلفناه، فقد أوضحنا فيما تقدم وجوب معاداة أعداء الله، وأعداء رسوله، فإن هذا من الواجبات الدينية، وأما جلسة الاستراحة والصلاة في النعلين، وغيرهما من السنن فليس هي من الواجبات، بل من فعلها فقد أحسن، ومَن لا فلا حرج عليه، وقد ذكرنا فيما تقدم أقوال أئمة الإسلام من السلف والخلق في تكفير الجهمية، وعباد القبور، وأنه قد بلغتهم الدعوة، وقامت عليهم الحجة، وذكرنا أقوالهم في التحذير عن سائر أهل الأهواء والبدع، وعدم مجالستهم، والسلام عليهم ووجوب هجرهم، والبعد عنهم، فمن أوهم العامة الذين لا معرفة لهم بمقالات الطوائف
بأن هؤلاء الجهمية، وعباد القبور، والإباضية حكمهم وما يقال فيهم حكم أهل الفترات، ومن ليس عندهم من آثار الرسالة والنبوات ما يعرفون به الهدى، ممن لم تقم عليه الحجة ببلوغ الدعوة، وحكم من أخطأ في المسائل التي تنازع فيها أهل القبلة مما قد يخفى دليله فقد لبّس الحق بالباطل وفتح باب المغالطة، وأوقع العامة في الشر، فالواجب عليكم أن تقوموا لله مثنى وفرادى، وأن تنظروا بعين البصيرة في كلام أئمة الإسلام، وأن لا تأخذكم العزة بالإثم، وتنظروا وتناظروا، فإن من شأن المسلمين والمؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا سمعنا وأطعنا، فإن أشكل عليكم شيء مما ذكرناه فاطلبوا الدليل وعلينا أن نجيبكم إلى ذلك، والحق ضالة المؤمن.
وأما الإباضية فهم فيما نعلم أنهم من جنس الخوارج أو طائفة منهم أتباع عبد الله بن أباض، وأتباع حفص بي أبي المقدام، وأتباع يزيد بن نسية، وأتباع أبي الحارث، فعقيدتنا فيهم ما ذكره الإمام أحمد في كتاب السنة.
وأما هؤلاء فأظن أنهم ليسوا على مذهب أوائلهم وأسلافهم، بل قد بلغنا عنهم أفعال في الصلاة وغيرها لا يفعلها يؤمن بالله واليوم الآخر، وهم مع ذلك فيما بلغنا أنهم ممن يعتقد بالأولياء والصالحين فيكونون من جملة عباد القبور، وهم يكفرون بالذنوب، وينفون الحوض، والشفاعة، ويفسقون الصدر الأول من الصحابة، ويعتقدون
عقيدة المعتزلة في نفي الصفات، ومن كان بهذه المثابة فلا شك في كفره وهجره وعدم موالاته، ومن والاهم، وذب عنهم فقد جهل طريق الحق وسبيل السلف.
وأما ما ذكر في الفصل الأول من النصيحة فحق لا مرية فيه، والذي ظهر لنا أنما يفعله الإخوان من طلبة العلم في عُمان أنه1 من النصح لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم في معاداتهم للجهمية، وعباد القبور، والإباضية، وتحذير الناس عنهم، وعن مجالستهم، وترك السلام عليهم، وعلى من والاهم، وجالسهم.
وكذلك ما ذكره في الفصل الثاني من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الواجبات، وما فعله الإخوان فهو من الواجب عليهم، واللين والرفق والتلطف فرض، وتقديره فيما هو دون تعطيل الصانع سبحانه عن أسمائه وصفاته ونعوت جلاله، وجحد علوه على خلقه، وأنه لا قدرة له، ولا مشيئة، ولا حياة، ولا علم، ولا يقوم بفعل البتة، وفيما دون الشرك الأكبر من عبادة غير الله، وصرفها لمن أشركوا به مع الله من الأنبياء والأولياء والصالحين، فإن هذا لا يعذر أحد في الجهل به، بل معرفته والإيمان به من ضروريات الإسلام، فعلى كل مسلم معاداة أهله، ومقتهم، وعيبهم، والطعن عليهم، ومصلحة إنكاره راجحة على مفسدة ترك ذلك من كل
1 في الأصل "أنهم".
وجه، فلا يدخل تحت ما دونه من المحرمات والذنوب والمعاصي، ولا يُلَبِّس بذلك إلا رجل مفتون مغموص بالنفاق، أو جاهل جهله مركب لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، أو رجل يبيع دينه بعرض من الدنيا.
وأما قول المعترض: "الفصل الثالث في الذب عن تكفير المسلمين".
فنقول: أولا: من تعني بهؤلاء المسلمين الذين تذب عن تكفيرهم، فإن كانوا الجهمية، وعباد القبور، فما أولئك بالمسلمين الذي يجب على المسلم أن يذب عنهم، بل هم أعداء الله وأعداء رسله، وشرعه ودينه، وقد بينا فيما مضى من كلام أئمة الإسلام ما يكفي ويشفي لمن كان له قلب أو أذن أو واعية.
ومن ذلك ما أجاب به الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في جواب السؤال الذي ورد عليه من ساحل عُمان، وقد تقدم لكن نعيده هاهنا لأن هؤلاء يزعمون أنه ما قامت عليهم الحجة، ولم تبلغهم الدعوة، إما مكابرة وعناداً، أو لغرض من الأغراض الدنيوية قال فيه:
ووصل إلينا السؤال الذي يورده بعض الملحدين وهو أنه ينسب عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه ذكر عن الإمام أحمد أنه كان يصلي خلف الجهمية.
وجواب هذا السؤال لو سلم من أوضح الواضحات
عند طلبة العلم، وأهل الأثر وذلك أن الإمام وأمثاله من أهل العلم والحديث لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة، وقد ذكر من صنف في السنة في تكفيرهم1 عن عامة أهل العلم والأثر وعد اللالكائي رحمه الله منهم عدداً يتعذر ذكره هنا في هذه الرسالة، وكذا ابن الإمام أحمد2 في كتاب السنة، والخلال في كتاب السنة، وابن أبي مليكة في كتاب السنة له، وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم ونقله عن أساطين الأئمة، وقد حكة كفرهم شمس الدين ابن القيم في كافيته عن خمسمائةٍ من أئمة المسلمين وعلمائهم، والصلاة خلفهم لا سيما صلاة الجمعة لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة حيث لا تمكن الصلاة غيره، والرواية المشهورة عن الإمام أحمد هي المنع من الصلاة خلفهم، وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها وبين ملا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، وعلى هذا القول فالجهمية في هذه الأزمنة قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة، واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهوراً ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذا حقيقة الكفر والإلحاد كيف لا وقولهم يقتضي من تعطيل الذات والصفات والكفر بما اتفقت عليه
1 في الأصل "وتكفيرهم".
2 في الأصل "وكذا ابن الإمام عبد الله بن أحمد".
الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات، ما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والإلهية، ولا وجود للذات المقدسة المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدماً لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون على الخيالات والشبه ما يعلم فساده بضرورة العقل، وبالضرورة من دين الإسلام عند من عرفه، وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات، ولبشر المريسي وأمثاله من الشبه والكلام من نفي الصفات ما هو من جنس هذا المذكور عن الجهمية المتأخرين، بل كلامه أخف إلحاداً من بعض كلام هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره، وعلى أن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي، أو غيره، وقد صرّح الإمام أحمد فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره أنه كان يعيد صلاة الجمعة وغيرها، وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين إذا كانت لهم شوكة ودولة، والنصوص في ذلك معروفة مشهورة، نحيل طالب العلم على أماكنها ومظانها، وبهذا ظهر الجواب عن السؤال الذي وصل منكم، انتهى.
فإن كان هؤلاء هم المسلمون عندكم فهذا كلام الأئمة في تكفيرهم، وإن كانوا غير هؤلاء سيأتي الجواب عنه.
وأما قوله: "قال تقي الدين ابن تيمية في الفتاوى بعد أن سئل عن رجلين تكلما في مسألة1 التكفير فأجاب: إنما أصل التكفير
1 في الأصل "مأله".
للمسلمين من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين، لما يعتقدون أنهم أخطئوا1 فيه من الدين، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد2 الخطأ3 المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل من يترك قوله بخطأ أخطأه4 يكفر، ولا يفسق، ولا يؤثم، فإن الله قال في دعاء المؤمنين:{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله: "قد فعلت" إلى أن قال: "ومن المعلوم أن المنع عن تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذه الباب، بل رفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشرعية، حتى لو فرض أن القائل رفع التكفير عمن يعتقد أنه ليس بكافر حماية لأخيه المسلم لكان غرضاً شرعياً، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب له أجران، وإن اجتهد فأخطأ5 فله أجر واحد، فبكل حال هذا القائل محمود على ما فعل، مأجور على ذلك مثاب إذا كانت له فيه نية حسنة، والمنكر له أحق بالتعزير منه "، انتهى.
1 "أخطاؤوا" كذا في الأصل.
2 في الأصل "مجرد".
3 في الأصل "الخطاء".
4 في الأصل بخطاء أخطاءه".
5 في الأصل "فأخطأ".
فالجواب أن يقال كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حق وصواب لا يمتري فيه عاقل فضلاً عن العالم، وهذا هو الدين الذي ندين الله به ونعتقده، فإن كان الكلام في الجهمية وعباد القبور والأباضية وأنهم داخلون تحت كلام الشيخ فقد تقدم الجواب عن هذا، فإنهم عند أهل السنة والجماعة كفار، ولكن قد كان من المعلوم بالضرورة أن إدخالهم في كلام الشيخ من الإفك الفاضح، والبهتان الواضح، الذي لا يشك فيه من عرف يمينه من شماله، فمن كفرهم لا يكون في عداد الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين لما يعتقدون أنهم أخطئوا فيه، فإن الجهمية، وعباد القبور، والأباضية، ليسوا من أئمة المسلمين، بل قد ذكر شيخ الإسلام عن الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه لما سئل عن الجهمية فقال: ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الشيخ أيضاً: من دعا علي بن أبي طالب فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر، قاله في الإقناع وشرحه. بل من كفرهم، وأظهر عداوتهم، وعيبهم، ومقتهم، يكون من جملة أهل السنة والجماعة الذين ينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر.
وإن كان الكلام فيمن يذب عنهم، ويجادل بالباطل دونهم خطأ1 فالذي بلغنا عن الإخوان من أهل عمان أنهم
1 في الأصل "خطاء".
يبرؤون إلى الله من تكفير هؤلاء الذابين والمجادلين، وعن أنهم لا يكفرون بالعموم كما يزعم الخصوم، ولا عندكم عليهم شهود بنثر القول ومنظوم، كما عندهم عليكم من الحجة المشهورة ما بين طبعٍ ونظمٍ، ويقولون إنما الكلم في الجهمية، وعباد القبور، والأباضية، ويقولون لم يصدر من على من جادل عنهم إلا الإنكار عليهم، وهجرهم، وترك السلام عليهم، فإذا كان ذلك كذلك كان الرد والتشنيع بالباطل على الإخوان من الصد عن سبيل الله، ومن الإتباع للهوى والعصبية.
وغاية مرامهم أن تمشي الحال مع من هب ودرج، وأن لا يكون في ذلك من عار ولا حرج، هذا إن أحسنا الظن بهؤلاء الذابين عمن خرج عن سبيل المؤمنين، وأنه صدر ذلك منهم عن شبهة عرضت لهم أن هؤلاء الجهمية وعباد القبور والأباضية داخلون في كلام الشيخ – أعني شيخ الإسلام ابن تيمية – وأنه لم تبلغهم الدعوة، ولم تقم عليهم الحجة، مع أن هذا إن كان هو الشبهة العارضة لهم فهو من أبطل الباطل، فإنه لا يشك أحد عرف الإسلام، وما يجب لله فيه على المسلمين، وما حرمه الله تعالى من موالاة أعداء الله المشركين، والمعطلين لأسماء الله وصفاته ونعوت جلاله أن هؤلاء الجهمية قد قامت عليهم الحجة، وبلغتهم الدعوة منذ أعصار متطاولة، وأنه قد جرى بينهم وبين أهل الإسلام
مخاصمة ومجادلة عديدة، كما قدمناه من سؤالهم مشايخ الإسلام وجوابهم، وعندنا جملة رسائل، وأجوبة مسائل في الرد عليهم وتبين ضلالهم وزيغهم وإدحاض حججهم بالبراهين والدلائل من الكتاب والسنة وأقوال أئمة الأمة، فليس لهم بعد هذا من عذر، ولا حجة يحتجون بها إلا المكابرة والعناد، نعوذ بالله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
ثم قال المعترض: "فائدة منقولة من كلام شيخ الإسلام رحمة الله عليه في جواب له في الطائفة القدرية. قال: كل من كان من المتنسكة، والمتعبدة، والمتفقهة، والمتقعرة، والأغنياء، والكتاب، والحساب، والأطباء، والعامة خارجاً عن دين الهدى، ودين الحق الذي بعث الله به رسوله، لا يقر بجميع ما أخبر الله به على لسان رسوله، ولا يوجب ما أوجبه الله ورسوله، ولا يحرم ما حرمه الله ورسوله، أو يدين بدين يخالف الدين الذي بعث الله به رسوله ظاهراً أو باطناً، مثل أن يعتقد أن شيخه يرزقه، أو ينصره، أو يهديه، أو يعينه، أو كان يعبد شيخه ويدعوه ويسجد له، لو كان يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلاً مطلقاً، أو مقيداً في شيء من الفصل الذي يقرب إلى الله، أو كان يرى أنه هو وشيخه مستغن عن متابعة الرسول، فكل هؤلاء كفار إن أظهروا ذلك، ومنافقون إن لم يظهروه، وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان فلقلة دعاة
العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من1 آثار الرسالة وآثار النبوة ما يعرفون به الهدى ، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويعفوا الله فيه لمن لم تقم عليه الحجة، ما لم يغفره لمن قامت عليه الحجة، كما جاء في الحديث المعروف:"يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاةً ولا صياماً ولا حجاً ولا عمرة ً إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولون أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله، فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم لا إله إلا الله، قال تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار". وأصل ذلك أن المقالات التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال هي كفر مطلقاً، كما دل على ذلك الدليل الشرعي، فإن الإيمان والكفر من أحكام المتعلقات عن دين الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفي موانعه مثل إن قال: إن الزنا والخمر حلال لقرب عهده بالإسلام والنشأة ببادية بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن، ولا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده
1 في الأصل "لمن".
أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، أو كما كان الصحابة رضي الله عنهم يشكون في شيء مثل رؤية الله تعالى فيسألون1 عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل الذي قال: إذا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحد من العالمين، فأمر الله البرّ برد ما أخذ منه، والبحر برد ما أخذ منه، وقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشية منك يا رب، فغفر له.
فهذا يشك في قدرة الله في المعادة، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر عليه إذا فعل ذلك، فغفر له، وهذه مسائل مبسوطة في غير هذا الموضع، وهذا الحديث في الصحيح فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة الرسالية، كما قال تعالى:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وقد أشبعنا الكلام في القواعد، انتهى.
والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب كثير من الناس حتى قلبوا الحقائق، فإن من زعم أن حكم من نشأ2بين أهل الإسلام كجهمية دبي وأبي ظبي الذين بلغتهم دعوة أهل الإسلام يبينون لهم، ويجادلونهم ومع هذا كله
1 في الأصل "فيسئلون".
2 في الأصل "نشاء".
يكابرون، ولا يرعوون عما كانوا عليه من الضلال، حكمهم وما يقال فيهم حكم من كان قريب العهد بالإسلام، ومن نشأ1 ببادية بعيدة، فهل لأهل هذا القول حظ من النظر والدليل، أو هو سفسطة وضلال عن سواء السبيل، وكلام شيخ الإسلام الذي أورده هؤلاء الجهلة في القلندرية لا في القدرية، وهذا الكلام قد أورده داود بن جرجيس طاغية العراق فيما اعترض به على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومراد هؤلاء الجهال أن هؤلاء القلندرية، ومن حذى حذوهم ممن ذكره شيخ الإسلام، ممن هو خارج عن دين الهدى، ودين الحق الذي بعث الله به رسوله، الذين لا يقرون بجميع ما أخبر الله على لسان رسوله، ولا يوجبون ما أوجبه الله ورسوله، ولا يحرمون ما حرمه الله ورسوله، أو يدينون بدين يخالف الدين إلى آخر كلامه، أنه إذا وجد أحد من هؤلاء ممن لم تقم عليه الحجة. ولم تبلغه الدعوة، لا يكفر حتى تقام عليه الحجة. أن حكم الجهمية، وعباد القبور والإباضية وغيرهم من طوائف الكفر ممن قد نشأ في الإسلام، وبين أظهر المسلمين، ويسمعون كتاب الله وسنة رسوله ويقرؤون فيهما. وكتب أهل الفقه وأهل الحديث قد انتشرت اليوم في جميع الأقطار أشد الانتشار، ويعرفون ما عليه أهل الإسلام، ثم يخالفونهم عمداً على علم ومعرفة إلى
1 في الأصل "نشاء".
ما عليه أسلافهم الماضين من الملاحدة والمشركين، حكم أحد هؤلاء القلندرية، ومن حذى حذوهم، ممن لم تبلغه الدعوة، ولم تقم عليه الحجة، وقد أجاب على هذه الشبهة شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله تعالى، ثم اعلم أن لكل قوم وارث.
واعرف مواردهم تعرف مصادرهم
…
وخذ قياسك تعليلاً وتشبيهاً
قال الشيخ رحمه الله: والجواب أن يقال: هذا العراقي يتكثر بما ليس له ويخرج عن محل النزاع، ويوهم الجهال أنه قد أفاد وأجاد، وهو في ظلمات لا تنقشع ولا تكاد، وهذا الكلام الذي حكاه عن الشيخ صريح في تكفير من خرج عن الهدى، ودين الحق الذي بعث الله به رسوله، أو لا يقر بجميع ما أخبر الله به على لسان رسوله، أو لا يوجب ما أوجبه الله ورسوله، أو لا يحرم ما حرمه الله ورسوله، أو كان يدين1 بدين يخالف ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ظاهراً أو باطناً مثل أن يعتقد أن شيخه يرزقه أو ينصره أو يهديه أو يعينه، أو كان يعبد شيخه، أو يسجد له، أو يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلاً مطلقاً أو مقيداً، أو كان يرى أنه هو أو شيخه مستغن عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: فكل هؤلاء كفار إن أظهروا، منافقون إن أبطنوا.
1 في الأصل "أو كان بدين".
فجزم بكفرهم، وقرره، وهذا عين كلامنا، ولم نزد على الشيخ حرفاً واحداً، بل كلامه أبلغ، ويدخل تحته من التكفير بالجزئيات ما هو دون مسألة النزاع بكثير.
وأما قوله: "وإن كانوا قد كثروا في هذه الأزمنة، فلقلة دعاة العلم، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة، وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغه ذلك وفي أوقات الفترات. وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من العلم، ويغفر له ما لم تقم الحجة عليه ما لا يغفر لمن قامت عليه الحجة، إلى آخر كلامه".
فهذا هو الذي تمسك به العراقي أعني هذا الكلام الأخير فظن أنه له لا عليه، وهذا غلط ظاهر، وجهل مستبين، فإن النزاع فيمن قامت عليه الحجة، وعرف التوحيد، ثم تبين في عداوته1 ومسبته ورده، كما فعل هذا العراقي، أو أعرض عنه فلم يرفع به رأساً كحال جمهور عباد القبور، أو لم يعلم لكن تمكن من العلم ومعرفة الهدى فأخلد إلى الأرض واتبع هواه، ولم يلتفت إلى ما جاءت به الرسل ولا اهتم به.
وكان شيخنا محمد بن عبد الوهاب يقرر في مجالسه ورسائله أنه لا يكفر إلا من قامت الحجة الرسالية، ومن
1 في الأصل "عداوه".
عرف دين الرسول بعد معرفته تبين في عداوته ومسبته، وتارة يقول: وإن كنا لا نكفر من يعبد قبة الكوافر، ونحوه لعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يهاجر إلينا.
ويقول في بعضها: وأما من أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فلا أدري ما حاله.
وإذا كان هذا شيخنا – رحمه الله، وهذه طريقته، فكيف يلزمه العراقي، وينسب إليه التكفير بالعموم، ويحتج عليه بقول الشيخ: إن أهل الفترات، ومن لم تبلغهم الدعوة ليغفر لهم ما لا يغفر لغيرهم، والعراقي لبّس الحق بالباطل، وافترى على الشيخ، ونسب إليه ما ليس من مذهبه، وما لم يقل وألزمه ما هو بريء منه، انتهى.
والمقصود أن هؤلاء أوردوا كلام الشيخ ابن تيمية رحمه الله في القلندرية، وأشباههم الذين ليس عندهم من آثار الرسالة، وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، كما أورد ذلك داود وشبّه به، فما أشبه الليلة بالبارحة.
والإخوان من طلبة العلم في عُمان إنما كلامهم في الجهمية، وعباد القبور، وفي الإباضية، وهؤلاء بين أظهر المسلمين، وفي أوطانهم، ويتظاهرون بالإسلام، ويناظرون على مذاهبهم، ويجادلون أهل الإسلام فقد قامت عليهم الحجة، وبلغتهم الدعوة، ولم يكونوا في أماكن بعيدة عن
أماكن أهل الإسلام، ولا في أوقات فترات، ولا نشؤوا1 ببادية بعيدة عن أهل الإسلام، وعندهم من آثار النبوة، وكتب الحديث ما لا يمكن جحده، ومع ذلك كله قاموا في عداوة الدين، وأهله، ولم يرفعوا بهذا الدين رأساً ولم يلتفتوا إلى ما كان عليه أهل السنة والجماعة، بل كابروا، وعاندوا، وأصروا على مذاهبهم، واعتقاداتهم الخبيثة، وأخلدوا إلى الأرض، واتبعوا أهواءهم2.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله في جواب له: فمسألة تكفير أهل الأهواء والبدع متفرعة على هذا الأصل، ثم ذكر مذاهب الأئمة في ذلك، وذكر تكفير الإمام أحمد للجهمية، وذكر كلام السلف في تكفيرهم، وإخراجهم من الثلاث والسبعين فرقة، وغلّظ القول فيهم، وذكر الروايتين في تكفير من لم يكفرهم، وذكر أن أصول هذه الفرق هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية، ثم أطال الكلام في عدم تكفير هذه الأصناف، واحتج بحديث أبي هريرة قال: وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض المسائل إما أن يلحق بالكفار من المشركين وأهل الكتاب مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة هو من أعظم أصول الإيمان،
1 في الأصل "نشاؤا".
2 في الأصل "أهوائهم".
وقواعد الدين، وإذا كان لابد من إلحاقه – أي المخطئ – بأحد الصنفين، فإلحاقه بالمؤمنين المخطئين أشد شبهاً1 من إلحاقه بالمشركين وأهل الكتاب، مع العلم بأن كثيراً ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون، وأولئك في الدرك الأسفل من النار.
فتبين بهذا مراد الشيخ، وأن كلامه في طوائف مخصوصة وأن الجهمية غير داخلين فيه، وكذلك المشركون، وأهل الكتاب لم يدخلوا في هذه القاعدة، فإنه منع إلحاق المخطئ بهذه الأصناف، مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان.
قال شيخنا رحمه الله: وهذا هو قولنا بعينه، فإنه إذا بقيت معه أصول الإيمان، ولم يقع منه شرك أكبر، وإنما وقع في نوع من البدع فهذا لا نكفره، ولا نخرجه من الملة، وهذا البيان ينفعك فيما يأتي من التشبيه بأن الشيخ لا يكفر المخطئ والمجتهد، وأنه مسائل مخصوصة.
وبين أن الإيمان يزول بزوال أركانه وقواعده الكبار، كالحج يفسد بترك أركانه، وهذا عين قولنا، بل هو أبلغ من مسألة2 النزاع.
1 في الأصل "شبيها".
2 في الأصل "مسئله".
قال: وحديث الرجل الذي أمر أهله بتحريقه كان موحداً، ليس من أهل الشرك، فقد ثبت من طريق أبي كامل عن حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة "لم يعمل خيراً قط إلا التوحيد "فبطل الاحتجاج به على مسألة1 النزاع.
وأما الخطأ في الفروع والمسائل الاجتهادية إذا اتقى المجتهد ما استطاع فلم نقل بتكفير أحد بذلك ولا بتأثيمه، والمسألة1 ليست من محل النزاع فإيراد العراقي لها هنا تكثراً بما ليس له، وتكبيراً لحجم الكتاب بما ليس يغني عنه فتيلاً.
قلت: وإيراد المعترض لكلام شيخ الإسلام ليس هو في محل النزاع أيضاًَ، فإن الإخوان لم ينازعوا في هذه المسائل ولم يكفروا بها أحداً حتى يستدل عليهم بكلام شيخ الإسلام، لأن كلام الشيخ إنما هو في مسائل مخصوصة، وفيما قد يخفى دليله في المسائل النظرية الخفية الاجتهادية، كما سنبينه إن شاء الله2 تعالى.
وأما جحد علو الله على خلقه، واستوائه على رعشه بذاته المقدسة على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه مباين لمخلوقاته، وكذلك نفي صفات كماله، ونعوت جلاله فهذا لا يشك مسلم في كفر من نفى ذلك، لأنه من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، ومما فطر الله عليه جميع خلقه إلا من اجتالته
1 في الأصل "مسئله".
2 في الأصل "إنشاء الله".
الشياطين عن فطرته، وأدلة ذلك من الكتاب والسنة معلومة مشهورة مقررة لا يخفى ذلك إلا على من أخلد إلى الأرض وابتع هواه، وأضله الله على علم، وختم على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله.
ثم قال الشيخ: وهل أوقع الاتحادية والحلولية فيما هم عليه من الكفر البواح، والشرك العظيم، والتعطيل لحقيقة وجود رب العالمين إلا خطأهم1 في هذه الباب الذي اجتهدوا فيه فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وهل قَتل الحلاج باتفاق أهل الفتوى على قتله إلا بضلال اجتهاده، وهل كفر القرامطة، وانتحلوا ما انتحلوه من الفضائح الشنيعة، وخلع ربقة الشريعة إلا اجتهادهم فيما زعموا، وهل قالت الرافضة ما قالت، واستباحت ما استباحت من الكفر والشرك وعبادة الأئمة الإثني عشر وغيرهم، ومسبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم المؤمنين إلا باجتهادهم فيما زعموا هؤلاء، هؤلاء سلف العراقي في قوله: إن كل خطأ مغفور، وهذا لازم لهم لا محيص عنه، فقف هنا واستصحب ما ذكر هنا في رد ما يأتي.
والمقصود أن هؤلاء الجهال أوردوا كلام شيخ الإسلام ظناً منهم أن كل اجتهاد وكل خطأ2 مغفور، وأن الجهمية المنكرين لعلوا الله على خلقه، وعباد القبور المتخذين الأنداد
1 في الأصل "خطاوهم".
2 في الأصل "خطاء".
والآلهة من دونه داخلون في هذا الكلام، وأنه مغفور لهم خطؤهم1.سبحانك هذا بهتان عظيم.
واعلم أن هذا المعترض قد حذف من كلام شيخ الإسلام أوله فقال: فائدة منقولة من كلام شيخ الإسلام رحمه الله في جواب له في الطائفة القدرية، وكلام شيخ الإسلام ليس في الطائفة القدرية بل في القلندرية، فلم يفرق الناقل بين اللفظين، والطائفتين فإن مذهب هؤلاء غير مذهب هؤلاء.
والكلام المحذوف من جواب شيخ الإسلام هو قوله: "وأما قول هؤلاء القلندرية المحلقين اللحى فمن أهل الضلالة، وأكثرهم كافر بالله ورسوله لا يرون وجوب الصلاة، ولا الصيام، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، بل كثير منهم أكفر من اليهود والنصارى، وليسوا من أهل الملة، ولا من أهل السنة، وقد يكون فيه من هو مسلم لكنه مبتدع ضال، أو فاجر فاسق إلى أن قال: تجب عقوبة جميعهم ومنعهم من هذا الشعار الملعون، كما يجب ذلك في كل معلن ببدعة وفجور، وليس ذلك مختصاً بهم، بل كان من كان من المتفقهة والمتعبدة والمتكلمة "، فانظر ماذا أراد بحذف هذا، وما ملخصه فيه فإن من كان من المتنسكة والمتفقهة إلى آخر كلامه ليسوا من الطائفة القلندرية.
1 في الأصل "خطاوهم".