المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوجه الثامن والستون:أن يقال: هذه الحجة من أفسد الحجج عند التأمل - التسعينية - جـ ٣

[ابن تيمية]

الفصل: ‌الوجه الثامن والستون:أن يقال: هذه الحجة من أفسد الحجج عند التأمل

فهذا كلام المستدل بهذه الحجة في بيان فسادها بطلانها، وذلك كاف.

‌الوجه الثامن والستون:

أن يقال: هذه الحجة من أفسد الحجج عند التأمل

، وذلك أن [هذا](1) المثل المضروب أكثر ما فيه جواز أن يكون اللفظ الواحد مشتركًا بين معاني أمر ونهي وخبر، كما قد قيل في قول القائل: ويل لك إنه دعاء وخبر، ولا ريب أن الصيغة الواحدة يراد بها الأمر [تارة](2) والخبر أخرى، كقول القائل غفر الله لفلان ورحمه (3)، وأحسن إليه، وأدخله الجنة، وأجاره من النار، وأنعم عليه نعمًا عظيمة، فإن هذا في الأصل خبر، وهو كثير مستعمل في الدعاء الذي هو طلب، وكذلك صيغة "افعل" هي أمر في الأصل، وقد تضمن معنى النهي والتهديد، كما قد قيل في قوله:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (4)، لكن هل يجوز أن يراد باللفظ الواحد المشترك بين معنيين إما الأمر والخبر، أو الأمر والنهي، أو غير ذلك كلا المعنيين على سبيل الجمع؟ هذا فيه نزاع مشهور بين أهل الفقه والأصول وغيرهم، والنزاع مشهور في مذهب أحمد والشافعي ومالك وغيرهم، وبين المعتزلة بعضهم مع (5) بعض، وبين الأشعرية (6) -أيضًا- والرازي يختار أن ذلك لا يجوز موافقة لأبي

(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(3)

في س: ورحمه الله.

(4)

سورة فصلت، الآية:40.

(5)

في الأصل: من. والكلام يستقيم بما أثبته من: س، ط.

(6)

النزاع في هذه المسألة مشهور ذكره أبو عبد الله الرازي في "المحصول في علم أصول الفقه" 1/ 1 / 371 - 373 - فقال: =

ص: 831

الحسين البصري، ولم يجعل المانع من ذلك أمرًا يرجع إلى القصد [فإن

= "المسألة الرابعة: في أنه لا يجوز استعمال المثشرك المفرد في معانيه على الجمع.

وذهب الشافعي، والقاضي أبو بكر رضي الله عنهما إلى جوازه، وهو قول الجبائي، والقاضي عبد الجبار بن أحمد.

وذهب آخرون: إلى امتناعه، وهو قول أبي هاشم وأبي الحسين البصري والكرخي.

ثم اختلفوا: فمنهم من منع منه لأمر يرجع إلى القصد. ومنهم من منع منه لأمر يرجع إلى الوضع، وهو المختار".

ثم قال بعد ذكره المقدمة في المصدر السابق ص: 373، 374: فالدليل على ما قلنا: أن الواضع إذا وضع لفظًا لمفهومين على الانفراد، فإما أن يكون قد وضعه مع ذلك لمجموعهما، أو ما وضعه لهما.

فإن قلنا: إنه ما وضعه للمجموع، فاستعماله لإفادة المجموع استعمال اللفظ في غير ما وضع له، وإنه غير جائز.

وإن قلنا: إنه وضعه للمجموع، فلا يخلو إما أن يستعمل لإفادة المجموع -وحده- أو لإفادته مع إفادة الأفراد. فإن كان الأول: لم يكن اللفظ إلا لأحد مفهوماته، لأن الواضع إن كان وضعه بإزاء أمور ثلاثة -على البدل- وأحدها ذلك المجموع، فاستعمال اللفظ فيه -وحده- لا يكون استعمالًا للفظ في كل واحد من مفهوماته.

فإن قلت: إنه يستعمل في إفادة المجموع والأفراد على الجمع، فهو محال، لأن إفادته للمجموع معناه: أن الاكتفاء لا يحصل إلا بهما، وإفادته للمفرد معناه: أنه يحصل الاكتفاء بكل واحد منهما وحده، وذلك جمع بين النقيضين وهو محال.

فثبت أن اللفظ المشترك -من حيث أنه مشترك- لا يمكن استعماله في إفادة مفهوماته على سبيل الجمع".

ثم أورد أبو عبد الله الرازي في المصدر السابق ص: 375 - 394 حجج المجوزين وأجاب عنها بما يوافق اختياره.

وانظر هذه المسألة مفصلة في: إحكام الأحكام -للآمدي- 1/ 19 - 22، 2/ 342 - 346. والمعتمد في أصول الفقه -لأبي الحسين البصري 1/ 17، 18.

ص: 832

قصد] (1) المعنيين جائز، ولكن المانع (2) أمر يرجع إلى الوضع، وهو أن أهل (3) اللغة إنما وضعوه لهذا وحده، ولهذا وحده، فاستعماله فيهما (4) جميعًا استعمال في غير ما وضع له، ولهذا كان المرجح قول المسوغين، لأن استعماله (5) فيهما غايته أن يكون استعمالًا له في غير ما وضع له، وذلك يجوز (6) بطريق المجاز، ولا مانع لأهل اللغة من أن يستعملوا اللفظ في غير موضعه بطريق المجاز، على أن إطلاق القول بأن هذا استعمال له في غير موضعه فيه نزاع، كإطلاق القول في اللفظ العام المخصوص أنه استعمال له في غير موضوعه، ومنه استعمال صيغة الأمر في الندب ونحو ذلك، فإن طوائف من الناس يقولون: بعض المعنى ليس هو غيره فلا يكون ذلك استعمالًا له في غير موضعه، ولا يجعلون اللفظ بذلك مجازًا، وهذا قول أئمة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الطيب وغيرهما، واستعمال اللفظ المشترك في معنييه ضد استعمال العام في بعض معناه، فإنه موضوع لهذا مفردًا، ولهذا مفردًا (7) فجمع بين معنييه. [بخلاف استعمال العام في بعض معناه](8).

(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(2)

في الأصل: المراجع. ولا معنى لها. والمثبت من: س، ط.

(3)

أقول: ساقطة من: س.

(4)

في الأصل: فيها. والمثبت من: س، ط.

(5)

في الأصل: المسوخين لاستعماله. والمثبت من: س، ط.

(6)

في س، ط: يسوغ.

(7)

في س: مفرد.

(8)

ما بين المعقوفتين بياض في الأصل بمقدار ثلاث كلمات في منتصف السطر. ويبدو أن الكلام مستمر في: س. رغم وجود بياض بقدر ثلاث كلمات في بداية السطر. في أعلى صفحة جديدة بدليل التعقيب الموجود في نهاية كل صفحة. والكلام متصل في: ط. ولعل ما أثبته يناسب السياق ويستقيم به المعنى.

ص: 833

ومثل هذا لا يقر مثل هؤلاء بأنه عين معناه، إذ هو معناه مفردًا ومعه غيره، وكما أن بعض الشيء ليس بغير له عندهم، فلا يصير الشيء غيرًا لنفسه بالزيادة عليه، لا سيما إذا كان المزيد نظيره، وليس المقصود هنا تكميل القول في هذه المسألة، ولكن نبين حقيقة ما يحتج به هؤلاء، فإن هذا المثل الذي ضربوه مضمونه أن يجعل اللفظ موضوعًا لأمر ونهي وخبر، ويقصد بالخطاب به إفهام كل معنى لمخاطب غير المخاطب الأول، وهذا جائز في المعقول، لكن ليس هذا مما ادعوه في الكلام بشيء، وذلك أن النزاع ليس هو في أن اللفظ الواحد يدل على حقائق مختلفة، فإن هذا لا ينازع فيه أحد، ولا حاجة فيه إلى ضرب المثل، بل دلالة الألفاظ الموضوعة على حقائق مختلفة [كثير جدًّا وإن كان اللفظ خبرًا أو أمرًا، لكن يدل على حقائق مختلفة](1)، وإنما النزاع في المعاني المختلفة التي هي مدلول جميع الألفاظ التي أنزلها الله، هل هي معنى واحد (2)؟ فالنزاع في المعاني المعقولة من الألفاظ وهي أمر الله بكذا أو أمره (3) بكذا ونهيه (4) عن كذا، ونهيه عن كذا (5)، وخبره (6) بكذا، وخبره بكذا (7)، هل هي شيء واحد؟ والمعاني لا تتبع وضع واضع، ومن العجب أن هؤلاء إذا احتجوا على أن الكلام هو معنى في النفس قالوا: إن مدلول العبارات والإشارات لا يختلف باختلاف اللغات

(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(2)

في س: واحدًا.

(3)

في ط: وأمره.

(4)

في ط: أو نهيه.

(5)

ونهيه عن كذا: ساقطة من: س.

(6)

في ط: أو خبره.

(7)

وخبره بكذا: ساقطة من: س.

ص: 834

ولا يقصد (1) الواضعين المتكلمين، ثم يحتجون على أنه واحد يجوز أن يجعل الواضع اللفظ الواحد موضوعًا لمعان (2) متعددة، وأين هذا من هذا؟! فإن دلالة [اللفظ على](3) المعنى يتبع قصد المتكلم والإرادة، فإنه بالقصد والإرادة كان هذا اللفظ يدل على هذا المعنى، وهذا اللفظ (4) يدل على هذا المعنى، لا أن (5) اللفظ صار كذلك بناته أو بطبعه، لكن تنازع الناس هل بين اللفظ والمعنى مناسبة لأجلها خصص الواضعون هذا اللفظ بهذا المعنى؟ على قولين: أصحهما أنه لا بد من المناسبة وليست موجبة بالطبع حتى يقال (6)، فذلك يختلف باختلاف الأمم، بل هي مناسبة داعية، والمناسبة تتنوع بتنوع الأمم كتنوع الأفعال الإرادية، ولو قيل: إنه بالطبع، فطباع الأمم تختلف سواء في ذلك طبعهم الاختياري وغير الاختياري.

فتبين أن هذا المثل الذي ضربوه في غاية البعد عما قصدوه، إذ ما ذكروه هو اللفظ الدال على معان (7)، وهذا لا نزاع فيه، ومقصودهم أن المعاني التي هي نفسها لكل معنى حقيقة هل هي في نفسها شيء واحد؟ وذلك لا يكون بقصد (8) واضع ولا إرادة (9) ولا وضعه، والإمكان هنا ليس هو إمكان أن يجعل هذا هذا، بل المسؤول عنه الإمكان الذهني،

(1) في الأصل: يقصد. والمثبت من: س، ط.

(2)

في الأصل: لمعاني. والمثبت من: س، ط.

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(4)

في الأصل: المعنى. ولا يستقيم الكلام بها. والمثبت من: س، ط.

(5)

في س، ط: لأن.

(6)

لعل مقول القول المقدر يعود إلى ما تقدم من أن بين اللفظ والمعنى مناسبة. .

(7)

في الأصل، س: معاني. والمثبت من: ط.

(8)

في الأصل: إلا بقصد. ولعل الكلام يستقيم بدون: إلا. كما في: س، ط.

(9)

في س، ط: وإرادته.

ص: 835

وهو أنه (1) هل يمكن في العقل أن يكون المعنى المعقول من صيغ الأمر هو المعنى المعقول من صيغ الخبر، وأن يكون نفس ما يقوم بالنفس من الأمر بهذا والخبر عنه هو بعينه ما يقوم بالنفس من الأمر بغيره والخبر عنه؟

الوجه التاسع والستون:

أن يقال: هو قال إذا كان الباري عالمًا بالعلم الواحد لجملة المعلومات غير المتناهية، فلم لا يجوز أن يكون مخبرًا بالخبر الواحد عن المخبرات غير المتناهيات؟

فيقال له: هب أن (2) هذا ثبت في كون الخبر واحدًا فلم قلت: إنه يجب أن يكون خبره عن المخبرات الغير المتناهية هو بعينه الأمر بالمأمورات والتكوين للمكونات الغير المتناهية؟ فهب أن الخبر يقاس بالعلم فهل يمكن أن يكون الخبر هو نفس الأمر؟

الوجه السبعون:

أن الأصل الذي يقاس عليه وشبه [به](3) من الإمكان -هو العلم- أصل غير مدلول عليه فمن أين لهم أن الباري ليس له إلا علم واحد لا يتبعض ولا يتعدد؟ وهذا لم ينطق به كتاب ولا سنة ولا قاله إمام من أئمة المسلمين، فضلًا عن أن يكون ثابتًا بإجماع، ولا قام به (4) دليل عقلي، وقد قال الله في كتابه:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلا بِمَا شَاءَ} (5) فأخبر أنه يحاط ببعض من (6) علمه لا بكله، وقال في كتابه:

(1) في الأصل: أن. والمثبت من: س، ط.

(2)

في الأصل: أنه. وهو خطأ. والمثبت من: س، ط.

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(4)

في س، ط: عليه.

(5)

سورة البقرة، الآية:255.

(6)

من: ساقطة من: س، ط.

ص: 836

{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (1).

وقد احتج الإمام أحمد (2) وغيره بهذه الآية وغيرها (3) على أن القرآن من علم الله، فجعلوه بعض علم الله، فمن الذي يقول: إن علم الله ليس له بعض وجزء؟

واعلم أنه ليس في المسألة عمدة إلا ما اعتمد عليه إمام القوم القاضي أبو بكر بن الباقلاني، فإنه اعتمد فيها إجماعًا ادعاه (4)، وهو في غير هذا الموضع (5) يدعي إجماعات لا حقيقة لها، كدعواه إجماع

(1) سورة آل عمران، الآية:61.

(2)

يقول عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتابه "السنة" ص: 4: "سمعت أبي يقول: من قال: القرآن مخلوق فهو عندنا كافر، لأن القرآن من علم الله، قال الله تعالى {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم. .} الآية.

وانظر: مسائل الإمام أحمد بن حنبل -رواية إسحاق بن إبراهيم 2/ 153، 154.

(3)

كقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} 120 / البقرة.

وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} 145 / البقرة.

يقول إسحاق بن إبراهيم: سمعت أبا عبد الله يقول: "أربعة مواضع في القرآن- الآيتان 120، 145 من سورة البقرة، والآية 61 من سورة آل عمران، والآية 37 من سورة الرعد- {من بعد ما جاءك من العلم} فمن زعم أن القرآن مخلوق، فهو كافر".

انظر: مسائل الإمام أحمد برواية إسحاق بن إبراهيم 2/ 154.

(4)

سوف يذكر الشيخ رحمه الله بعد أسطر قليلة هذا الإجماع فيما نقله عن أبي عبد الله الرازي في نهاية العقول.

(5)

في س، ط: غير موضع.

ص: 837

السلف (1) على صحة الصلاة في الدار المغصوبة (2) بكونهم لم (3) يأمروا الظلمة بالإعادة، ولعله لا يقدر أن ينقل عن أربعة من السلف أنهم استفتوا في إعادة الظلمة ما صلوه في مكان مغصوب فأفتوهم بإجزاء الصلاة، لكن أهل الكلام كثيروا الاحتجاج من المعقول والمنقول بالحجج الداحضة، ولهذا كثر ذم السلف لهم، قال أبو عبد الله الرازي، لما تكلم على وحدة علم الله وقدرته فقال (4):

"الفصل الأول: في وحدة علم الله وقدرته، نقل إمام الحرمين في الشامل (5) عن أبي سهل الصعلوكي منا أنه تعالى عالم بعلوم غير متناهية،

(1) انظر دعواه على هذا الإجماع في البرهان في أصول الفقه للجويني 1/ 288.

(2)

الصلاة في الموضع المغصوب لا تصح في أظهر الروايتين وأحد قولي الشافعي.

والرواية الثانية: تصح، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والقول الثاني للشافعي، لأن النهي لا يعود إلى الصلاة فلم يمنع صحتها.

يقول ابن قدامة رحمه الله مرجحًا الرواية الأولى: "ولنا: أن الصلاة عبادة أتى بها على الوجه المنهي عنه، فلم تصح كصلاة الحائض وصومها، وذلك لأن النهي يقتضي تحريم الفعل واجتنابه والتأثيم بفعله، فكيف يكون مطيعًا بما هو عاص به ممتثلًا بما هو محرم عليه؟ متقربًا بما يبعد به؟ فإن حركاته وسكناته من القيام والركوع والسجود أفعال اختيارية، هو عاص بها منهي عنها".

أما صلاة الجمعة في الموضع المغصوب فقال أحمد رحمه الله: "تصلى الجمعة في الموضع الغصب، يعني إذا كان الجامع أو بعضه مغصوبًا صحت الصلاة، لأن الجمعة تختص ببقعة فإذا صلاها الإمام في الموضع المغصوب فامتنع الناس من الصلاة فيه فاتتهم الجمعة".

انظر: المغني -لابن قدامة- 2/ 74، 75. والمقنع -لابن قدامة- مع حاشيته- 1/ 127، 128. وكشف القناع -للبهوتي- 1/ 343، 344.

(3)

في الأصل: لا. والمثبت من: س، ط. وهو الصواب.

(4)

نهاية العقول في دراية الأصول -للرازي- مخطوط- اللوحة: 157.

(5)

في الأصل: الشاملي. وهو خطأ.

وهو: كتاب في الكلام على مذهب الأشاعرة -يقع في خمسة مجلدات.

راجع: كشف الظنون -لحاجي خليفة- 2/ 1024. ومعجم المؤلفين =

ص: 838

وذهب جمهور الأصحاب إلى أنه تعالى عالم بعلم واحد، قادر بقدرة واحدة، مريد بإرادة واحدة".

قال (1): واعلم أن القاضي أبا بكر عول في هذه المسألة على الإجماع، فقال: القائل قائلان: قائل يقول (2): الله تعالى عالم بالعلم، قادر بالقدرة. وقائل يقول: ليس الله عالمًا بالعلم، ولا قادرًا بالقدرة، وكل من قال بالقول الأول قال: إنه عالم بعلم واحد، قادر بقدرة واحدة، فلو قلنا: إنه -سبحانه (3) - عالم بعلمين أو أكثر، كان ذلك قولًا ثالثًا خارقًا للإجماع (4)، وإنه باطل.

قال (5): وأما الصعلوكي فهو مسبوق بهذا الإجماع، فيكون حجة عليه".

قلت: هذا الإجماع مركب من جنس الإجماع الذي احتج به الرازي (6) على قدم المعنى الذي ادعوه، فإنه (7) هو الكلام وليس في ذلك إجماع أصلًا، وإنما هو إجماع المعتزلة والأشعرية لو صح، فكيف وقد حكى أبو حاتم التوحيد (8)، عن الأشعري نفسه أنه كان يثبت [علومًا](9)

= -لكحالة- 6/ 184.

(1)

قال: إضافة من الشيخ، والكلام متصل بما قبله في: نهاية العقول.

(2)

في الأصل: يقول. وهو خطأ. والمثبت من: س، ط، ونهاية العقول.

(3)

في الأصل: واحد سبحانه. والمثبت من: س، ط، ونهاية العقول.

(4)

في نهاية العقول: خارجًا عن الإجماع.

(5)

قال: إضافة من الشيخ. والكلام متصل بما قبله في: نهاية العقول.

(6)

انظر هذا الإجماع الذي احتج به: الفخر الرازي، على قدم الكلام في:"نهاية العقول في دراية الأصول" الفصل الثاني من الأصل التاسع- اللوحة رقم: 130.

(7)

في س، ط: إنه.

(8)

ولعل ما في س الصواب. إذ لم أجد ترجمة لهذا الاسم فيما وقع تحت يدي من مراجع.

(9)

ما بين المعقوفتين زيادة من: ط. يقتضيها السياق.

ص: 839

لا نهاية لها، والسلف الذين أثبتوا (1) علم الله وقدرته ليس مقصودهم بذلك ما يقصده هؤلاء من أنه لا بعض له، بل قد صرحوا بأنه يعلم بعض علم الله ولا يعلم بعضه، وكل من لم يوافقهم على ما ادعوه من نفي التبعيض الذي اختصموا (2) بنفيه، كالذين خالفوهم من المرجئة (3) والشيعة والكرامية وغيرهم، فإنهم يخالفونهم في ذلك، وكذلك جماعة أهل الحديث والفقهاء والصوفية.

وهذا الذي اعتمده إمام الطائفة ولسانها القاضي أبو بكر من أنه لا يمكن إثبات وحدة العلم إلا بالإجماع الذي ادعاه، يبين لك أنه ليس في العقل ما يمنع تعدد علمه وقدرته وكلامه وسائر صفاته، وكذلك أقر بذلك أبو المعالي والرازي وغيرهم من حذاق القوم، فإن كلام ابن فورك قد يشعر بأن العقل يوجب اتحاد ذلك، وقد بينا فساد ذلك.

الوجه الحادي والسبعون:

إن إمامهم المتأخر وهو أبو عبد الله الرازي اعترف في أجل كتبه (4) أن القول بكون (5) الطلب هو الخبر باطل على القول بنفي الحال (6)، ونفي الحال هو مذهب الأشعري نفسه ومحققيهم (7)،. . . . . . . . . . .

(1) في الأصل: نفوا. وهو خطأ من الناسخ. والمثبت من: س، ط.

(2)

في س، ط: اختصوا.

(3)

في الأصل: المرجئية. والمثبت من: س، ط.

(4)

وهو نهاية العقول في دراية الأصول -مخطوط- اللوحة: 157.

(5)

في س: يكون. وهو تصحيف.

(6)

تقدم تعريف الحال، ومن قال بها ومن نفاها ص:609.

(7)

يقول الآمدي في "أبكار الأفكار" -مخطوط- القسم الثاني- اللوحة: 206: "والذي عليه اتفاق أكثر الأئمة من أصحابنا، وقدماء المعتزلة القول بنفي الأحوال. . . ".

ص: 840

وإليه رجع أبو المعالي في آخر عمره (1).

وأما على القول بثبوت الحال فتوقف في ذلك ولم يجزم بإمكانه ولا امتناعه (2)، وقد تقدم حكاية لفظه في ذلك، وهذا اعتراف (3) منه بأن هذا القول الذي قالوه ممتنع في العقل عند محققيهم وهم نفاة الحال وأما عند مثبتي الحال منهم (4) فلا نعلم أنه ممكن أو ممتنع [وعلى التقديرين فلا نعلم أن ذلك ممكن.

فتبين أن لا حجة لهم في إمكان صحة] (5) ما ادعوه من أن كلام الله معنى واحد (6)، فضلًا عن أن يكون ذلك هو الواقع، إذ ليس كل ما أمكن في الذهن كان هو الواقع، فإنه إذا جاز في العقل أن يكون الكلام صفة واحدة، وجاز أن يكون صفات متعددة، فلا بد من دليل يبين ثبوت أحدهما دون الآخر، فكيف إذا قال الناس لهم: إنه ممتنع؟ لم يذكروا دليلًا على إمكانه.

(1) ذكر الشهرستاني في "نهاية الإقدام" ص: 131 أن أبا المعالي الجويني كان يقول بثبوت الأحوال لكنه نفاها أخيرًا.

وانظر قوله بثبوت الأحوال في "الإرشاد" ص: 80 - 84. وقوله بنفيها في "الشامل" ص: 108، 109، 296، 297.

(2)

فقال: في نهاية العقول في دراية الأصول -مخطوط- اللوحة: 157: ". . وأنا إلى الآن لم يتضح في فيه دليل لا نفيًا ولا إثباتًا". وقد تقدم هذا النص بكامله.

وسوف يورده الشيخ رحمه الله بعد أسطر قليلة- أيضًا.

(3)

في الأصل: اعترف. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.

(4)

في س، ط: عندهم.

(5)

ما بين المعقوفتين ساقط من: س.

(6)

في س: واحدًا. وهو خطأ.

ص: 841

الوجه الثاني والسبعون:

إنا نبين أن هذا القول ممتنع على القول بثبوت الحال، وعلى القول بنفيه.

أما على القول بنفيه، فقد تقدم كلامه في ذلك.

وأما على القول بثبوته، فإن الرازي إنما توقف لأنه قال (1):

"وأما إن تكلمنا على القول بالحال، فيجب أن ينظر في الحقائق الكثيرة هل يجوز أن تتصف (2) بوجود واحد أم لا؟ فإن قلنا: بجواز ذلك (3) فحينئذ يجوز أن تكون الصفة الواحدة حقائق مختلفة، وإلّا بطل القول بذلك (4).

قال (5): وأنا إلى الآن لم يتضح في فيه دليل لا نفيًا ولا إثباتًا.

فيقال لهذا: هذه غلوطة (6)، وذلك أنه هب أن وجود كل شيء زائد على حقيقته في الخارج، وهب أنا سلمنا له ما شك فيه وهو اتصاف الحقائق المختلفة بوجود واحد، فهذا لا يثبت محل النزاع، وذلك لأن هذا إنما يفيد أن تكون الحقائق المختلفة لها صفة واحدة، فتكون الحقائق المختلفة موصوفة بصفة واحدة هي الحال التي هي الموجود، وذلك لا يستلزم أن تكون الحقائق المختلفة شيئًا واحدًا، وأن تكون الصفة الواحدة في نفسها حقائق مختلفة، وبهذا يتبين لك ضعف قوله: فإن قلنا

(1) في نهاية العقول في دراية الأصول -مخطوط- اللوحة: 157.

(2)

في الأصل، س: يتصف. والمثبت من: ط.

(3)

في نهاية العقول: فإن قلت: جاز ذلك.

(4)

في نهاية العقول: به.

(5)

قال: إضافة من الشيخ، والكلام متصل بما قبله في: نهاية العقول.

(6)

في ط: أغلوطة.

والغلوطة، والأغْلُوطة، والمَغْلَطة: الكلام يغلط فيه ويغالط به.

انظر: القاموس المحيط -للفيروزآبادي 3/ 410 (غلط).

ص: 842

بجواز (1) ذلك -أي بجواز اتصاف الحقائق المختلفة بوجود واحد- فحينئذ يجوز أن تكون الصفة الواحدة حقائق مختلفة، وإلا بطل القول بذلك.

وإنما قلنا: إن هذا ضعيف، لأن اتصاف الحقائق المختلفة بوجود واحد غير كون الصفة الواحدة هي في نفسها حقائق مختلفة، فإن الفرق بين كونها صفة الحقائق مختلفة وبين كونها في نفسها حقائق مختلفة أمر واضح بين، وإنما يصح له ما قال، لو ثبت أن الحقائق المختلفة تتصف بوجود واحد، فإن ذلك الوجود الثابت في الخارج هو في نفسه حقائق مختلفة، وهذا لا يقوله عاقل، وهؤلاء يقولون: إن نفس الطلب هو نفس الخبر، فيجعلون الحقيقتين المختلفين شيئًا واحدًا وذلك ممتنع.

وإن قيل: إن (2) لها وجودًا واحدًا زائدًا على حقيقتها، فإن فساد كون الحقيقتين شيئًا واحدًا معلوم بالبديهة.

ومما يوضح هذا: أن الحقائق المختلفة كالأعراض المختلفة، وإن قيل: إن وجودها زائد (3) على حقيقتها، وإنه يجوز أن يكون وجودها واحدًا، فلا يقول عاقل بها في نفسها واحدة.

الوجه الثالث والسبعون:

أن يقال: ما شك فيه يقطع فيه بالامتناع (4) فيقال: من الممتنع أن يكون الحقيقتان المختلفتان لهما وجود واحد قائم بهما، كما يمتنع أن يكون لهما عرض واحد يقوم بها، وذلك لأن الحال -الذي هو الوجود- الذي يقال: إنه قائم بالحقائق، وإنه زائد على حقائقها تابع لتلك

(1) في الأصل: يجوز. والمثبت من: س، ط. وهو المناسب للكلام.

(2)

إن: ساقطة من: س.

(3)

في الأصل، س: زائدًا. وهو خطأ. والمثبت من: ط.

(4)

في س: الامتناع.

ص: 843

الحقائق، فوجود كل حقيقة تابع لها لا يجوز أن يوجد (1) بغيرها، كما لا يوجد بغيرها سائر ما يقوم به من الأعراض فكما لا يجوز أن يكون العرض القائم بهذه الحقيقة هو بعينه العرض القائم بالحقيقة الأخرى المخالفة لها، فالوجود (2) الذي لهذه الحقيقة أولى أن لا يكون الوجود القائم بالحقيقة الأخرى بعينه، وهذا ظاهر.

الوجه الرابع والسبعون:

إن هذا الذي شك فيه لو صح وجزم به، لكان غايته أن يكون الكلام متعددًا متحدًا، فيكون حقيقتين وهو واحد، أما رفع التعدد عنه من كل وجه فلا يمكن، لأن الوجود واحد، إذا كان لحقيقتين -وقيل: إن الصفة تكون حقائق مختلفة- فلا ريب أن ذلك يوجب كونها حقائق مختلفة وكونها شيئًا واحدًا، وهؤلاء يمنعون أن يكون المعنى الواحد القائم بالنفس حقائق مختلفة، فعلم أن قولهم معلوم الفساد على كل تقدير، وهذا كله تنزل معهم على تقدير ثبوت الحال، وإن وجود الشيء في الخارج زائد على حقائقها الموجودة، وإلّا فهذا القول من أفسد الأقوال، وإنما ابتدعه بعض المعتزلة الذي يقولون: المعدوم شيء في الخارج، فالبناء عليه فاسد.

الوجه الخامس والسبعون:

إنه يقال: هب أنه أمكن أن يكون الكلام معنى واحدًا (3)، كما قلتم: إنه يمكن أن يكون العلم واحدًا، فما الدليل (4) على أنه ليس لله

(1) في الأصل، س: توجد. والمثبت من: ط، وهو المناسب للسياق.

(2)

في الأصل: فوجود. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.

(3)

في الأصل: واحد. وهو خطأ. والمثبت من: س، ط.

(4)

في س: لدليل.

ص: 844

كلام إلا معنى واحدًا؟ وما الدليل على أنه يمتنع أن يكون كلامه، إلا معنى واحدًا (1)؟ وقد اعترفوا بأنه لا دليل على ذلك، كما قال الرازي بعد أن بين أنه إما ممتنع أو متوقف في إمكانه، فقال (2):

"وأما الذي يدل على أن الأمر كذلك فلا يمكن أن يعول فيه على الإجماع للحكاية التي (3) ذكرها أبو إسحاق الإسفرائيني، ولم نجد لهم نصًّا، ولا يمكن أن يقال (4): فيه دلالة عقلية، فبقيت المسألة بلا دليل".

الوجه السادس والسبعون:

إن الجهمية كثيرًا ما يزعمون أن أهل الإثبات يضاهئون النصارى، وهذا يقولونه: تارة لإثباتهم الصفات (5)، وتارة لقولهم: إن كلام الله أنزله، وهو في القلوب والمصاحف، والجهمية هم المضاهئون للنصارى (6) فيما كفرهم الله به، لا أهل الإثبات الذين ثبتهم الله بالقول

(1) في الأصل: واحد. وهو خطأ. والمثبت من: س، ط.

(2)

في نهاية العقول في دراية الأصول -مخطوط- اللوحة 157.

(3)

في س: الذي.

(4)

ولا يمكن أن يقال: ساقط من: نهاية العقول.

(5)

في الأصل: النصارى. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.

(6)

يقول الشيخ رحمه الله في الجواب الصحيح 2/ 301: "وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الرد على الجهمية -وذكر غيره- أن النصارى الحلولية، والجهمية المعطلة اعترضوا على أهل السنة.

فقالت النصارى: القرآن كلام الله غير مخلوق. والمسيح كلمة الله فهو غير مخلوق. وقالت الجهمية: المسيح كلمة الله وهو مخلوق. والقرآن كلام الله فيكون مخلوقًا. وأجاب أحمد وغيره: بأن المسيح نفسه ليس هو كلامًا، فإن المسيح إنسان وبشر مولود من امرأة، وكلام الله ليس بإنسان ولا بشر، ولا مولود من امرأة، ولكن المسيح خلق بالكلام، وأما القرآن فهو نفسه كلام الله، فأين هذا من هذا؟ =

ص: 845

الثابت، فأما، الوجه الأول: في إثبات الصفات فليس هذا موضعه وإنما الغرض الوجه الثاني: الذي يختص بالكلام، فإنهم تارة يقولون: إذا قلتم: إن كلام الله غير مخلوق، فهو نظير قول النصارى: إن المسيح كلمة الله، وهو غير مخلوق، وتارة يقولون: إذا قلتم: إن كلام الله في الصدور والمصاحف فقد قلتم يقول النصارى الذين يقولون: إن الكلمة حلت في المسيح وتدرعته، وهذا الوجه هو الذي يقوله من يزعم أن كلام الله ليس إلا معنى في النفس، ومن يزعم أن الله لم ينزل إلى الأرض كلامًا له في الحقيقة، والغرض هنا الكلام على هؤلاء.

[فيقال لهم](1): أما أنتم فضاهيتم النصارى في نفس ما هو ضلال مما خالفوا فيه صريح العقل وكفرهم الله بذلك، بخلاف أهل الإثبات، وذلك يتبين بما ذمه الله تعالى من مذهب النصارى، فإنه سبحانه قال:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (2).

وهذا المعنى -هو جعلهم ولدًا لله وتنزيه الله نفسه عن ذلك- مذكور في مواضع من القرآن، كما ذكر قصة مريم ثم قال في آخرها:{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3)، وقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ

= انظر: الرد على الجهمية -للإمام أحمد- ص: 124.

وسوف ينقل الشيخ -رحمه الله تعالى- عن ابن الزغواني وغيره ما يبين مضاهاة الجهمية للنصارى من بعض الوجوه في ص: 706 فما بعدها.

(1)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(2)

سورة التوبة، الآية:30.

(3)

سورة مريم، الآية: 34، 35.

في س: (الله) بدلًا من (لله) وهو سهو من الناسخ.

ص: 846

وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (1) وقال في موضع آخر: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2) الآية، وقال تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3). . . . الآيات. وقال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (4). . . . الآية.

(1) سورة مريم، الآيات: 88 - 95.

(2)

سورة المائدة، الآية:17.

(3)

سورة المائدة، الآيتان: 72، 73.

في س: فقدم. بدلًا من: فقد حرم. وهو سهو من الناسخ.

(4)

سورة النساء، الآيتان: 171، 172.

وقد ورد في س: بعد قوله (المقربون) قوله: {ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر. . .} الآية.

ص: 847

فقد ذكر كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة [في آية](1) ونهى أهل الكتاب عن ذلك في آية أخرى، فهذان موضعان ذكر فيهما التثليث عنهم، وفي موضعين ذكر كفرهم بقولهم: إن الله هو المسيح بن مريم، وأما ذكر الولد عنهم فكثير.

واعلم أن من الناس من يزعم أن هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها الله عن النصارى، هي قول الأصناف الثلاثة: اليعقوبية (2)، وهم شرهم، وهم السودان من الحبشة والقبط، ثم الملكية (3)، وهم أهل الشمال من

(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(2)

اليعقوبية: فرقة من فرق النصارى، وهم أصحاب يعقوب البرذعاني، راهب بالقسطنطينية، قالوا: بالأقانيم الثلاثة: الوجود، والعلم، والحياة.

ثم يعبرون عن الوجود بالأب، وعن العلم بالكلمة، وعن الحياة بروح القدس، لكنهم قالوا: انقلبت الكلمة -أقنوم العلم عندهم- لحمًا ودمًا، فصار الإله هو المسيح، وهو الظاهر بجسده، بل هو هو.

وقال بعضهم: ظهر اللاهوت بالناسوت، فصار ناسوت المسيح مظهر الجوهر لا على طريق حلول جزء فيه، ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة، بل صار هو هو.

وزعم أكثرهم: أن المسيح جوهر واحد، أقنوم واحد، إلَّا أنه من جوهرين، وربما قالوا: طبيعة واحدة من طبيعتين. فجوهر الإله القديم، وجوهر الإنسان المحدث تركبا تركيبًا، كما تركبت النفس والبدن، فصارا جوهرًا واحدًا، أقنومًا واحدًا.

وقالوا: إن مريم ولدت إلهًا، وقالوا في القتل: إنه وقع على الجوهر الذي هو من جوهرين، ولو وقع على أحدهما لبطل الاتحاد، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.

انظر: الملل والنحل -للشهرستاني- 1/ 225، 226. والفصل في الملل والأهواء والنحل -لابن حزم- 1/ 49، 50. واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي، مع هامشه المرشد الأمين إلى اعتقادات فرق المسلمين والمشركين -لطه عبد الرؤوف ومصطفى الهواري- ص: 131، 132.

(3)

في س، ط: الملكانية.

ص: 848

الشام والروم، ثم النسطورية (1). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الملكية أو الملكانية: إحدى فرق النصارى، وهم أصحاب "ملكا" الذي ظهر بأرض الروم، واستولى عليها، ويقوم مذهبهم على: أن الكلمة -أقنوم العلم عندهم- اتحدت بالمسيح، وتدرعت بناسوته، ولا يسمون العلم قبل تدرعه ابنًا، بل المسيح مع ما تدرع به ابن، فقال بعضهم: إن الكلمة مازجت لأجسد المسيح كما يمازج الخمر أو الماء اللبن.

وصرحت الملكانية بأن الجوهر غير الأقانيم، وأنها كالموصوف والصفة. فقالوا: بإثبات التثليث، وقالوا: إن المسيح ناسوت كلي لا جزئي، وهو قديم أزلي من قديم أزلي، وقد ولدت مريم عليها السلام إلهًا أزليًّا، والقتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معًا.

وأطلقوا لفظ "النبوة" والأبوة على الله -تعالى الله عما يقوله الظالمون علوًا كبيرًا- وعلى المسيح.

ولهم ضلالات وترهات فصلها أصحاب المقالات، انظر مثلًا: الملل والنحل -للشهرستاني- 1/ 22، 224. والفصل -لابن حزم- 1/ 48، 49. واعتقادات فرق المسلمين والمشركين -للرازي- ومع المرشد الأمين ص: 131، 132.

(1)

النسطورية: فرقة من فرق النصارى تنسب إلى نسطور الحكيم الذي ظهر في زمن المأمون، وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه، وهذه الفرقة غالبة على الموصل والعراق وفارس وخراسان.

قالوا: إن الله واحد ذو أقانيم ثلاثة -المتقدمة في اليعقوبية- وهذه الأقانيم ليست زائدة على الذات، ولا هي هو، واتحدت الكلمة بجسد المسيح، لا على طريق الامتزاج -كما قالت "الملكانية"- ولا على طريق الظهور -كما قالت "اليعقوبية"، ولكن كإشراق الشمس في كوة على بلورة- أي: جسم مشف- وكظهور النقش في الشمع إذا طبع بالخاتم.

وأما قولهم في القتل والصلب: فيخالف -أيضًا- قول "الملكانية" و "اليعقوبية" فقالوا: إن ذلك وقع على المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته، لأن الإله لا تحله الآلام.

إلى غير ذلك من أقوالهم الباطلة -تعالى الله وتقدس عنها- التي ذكرها أصحاب المقالات، انظر: الملل والنحل -للشهرستاني- 1/ 224، 225. والفصل -لابن حزم- 1/ 49. واعتقادات فرق المسلمين والمشركين -للرازي=

ص: 849

وهم نشؤوا في دولة المسلمين من زمن المأمون، وهم قليل.

فإن اليعقوبية: تزعم أن اللاهوت والناسوت (1) اتحدا وامتزجا كامتزاج الماء واللبن والخمر، فهما جوهر واحد (2)، وأقنوم واحد، وطبيعة واحدة، فصار عين الناسوت عين اللاهوت، وأن المصلوب (3) هو عين اللاهوت.

والملكية (4) تزعم أنهما صارا جوهرًا (5) واحدًا له أقنومان، وقيل: أقنوم واحد له جوهران.

والنسطورية يقولون (6): هما جوهران أقنومان، وإنما اتحدا في المشيئة، وهذان قول من يقول بالاتحاد (7).

وأما القول بالحلول: فمن المتكلمين كأبي المعالي (8) من يذكر

= - ص: 132. وانظر ما أجمعت عليه هذه الفرق وما اختلفت فيه، في: الملل والنحل -للشهرستاني- 1/ 226 - 228. وللرد عليها ودحضها يراجع: الفصل -لابن حزم- 1/ 50 - 65. والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح -لابن تيمية.

(1)

ذكر أبو البقاء في كلياته 4/ 173 عدة إطلاقات على اللاهوت والناسوت فقال: "اللاهوت: الخالق، والناسوت: المخلوق، وربما يطلق الأول على الروح، والثاني على البدن، وربما يطلق الأول -أيضًا- على العالم العلوي والثاني على العالم السفلي. وعلى السبب والمسبب. وعلى الجن والإنس".

وانظر: المعجم الفلسفي -لجميل صليبا- 2/ 277.

(2)

في الأصل: واحد جوهر. والمثبت من: س، ط، والملل والنحل 1/ 226.

(3)

في ط: المطلوب. وهو خطأ.

(4)

في س، ط: الملكانية.

(5)

في الأصل: جواهر. والمثبت من: س، ط.

(6)

في الأصل: والنسطور يقول. وفي س: والنسطورية يقول. والمثبت من: ط، والجواب الصحيح 2/ 310، ومنحة القريب المجيب ص:134.

(7)

في الأصل: بالاتحادية. والمثبت من: س، ط. وهو الموافق للسياق.

(8)

في الإرشاد: ص: 48.

ص: 850

الخلاف في فرقهم الثلاث، منهم من يقول بالاتحاد بالمسيح، ومنهم من يقول بالحلول فيه، فيقول هؤلاء: من الطوائف الثلاثة من يقول (1) بالحلول، وأن اللاهوت (2) حل في الناسوت، وقالوا: هذا قول الأكثر منهم، فهما جوهران وطبيعتان وأقنومان، كالجسد والروح، وأما من فسر ذلك بظهور اللاهوت في الناسوت، فهذا ليس من هؤلاء.

وذكر طوائف من المتكلمين كابن الزاغوني عنهم أنهم جميعًا يقولون بالاتحاد والحلول لكن الاتحاد في المسيح والحلول في مريم، فقالوا: اتفقت طوائف النصارى على أن الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم (3)، وأن كل واحد من الأقانيم جوهر خاص يجمعها الجوهر العام، وذكروا اختلافًا بينهم (4).

ثم قالوا: وزعموا أن الجوهر هو الأب، والأقانيم الحياة وهي روح القدس، والعلم القدرة، وأن الله اتحد بأحد الأقانيم (الذي)(5)

(1) في ط: ومنهم من يقول. فأضاف كلمة "منهم". ولا يقتضيها السياق.

(2)

في الأصل: الناهوت. وهو خطأ. والمثبت من: س، ط.

(3)

أقول: وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه القيم "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" 3/ 141 - الذي تولى فيه الرد على النصارى، وتشنيع أقوالهم:"إنه ليس في كلام الأنبياء -لا المسيح ولا غيره- ذكر أقانيم لله، لا ثلاثة ولا أكثر، ولا إثبات ثلاث صفات، ولا تسمية شيء من صفات الله، ابنا لله، لا ربًّا، ولا تسمية حياته روحًا، ولا أن لله ابنًا هو إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وإنه خالق، كما أن الله خالق، إلى غير ذلك من الأقوال المتضمنة لأنواع من الكفر، لم تنقل عن نبي من الأنبياء".

(4)

الاختلاف ذكره الشيخ رحمه الله في المصدر السابق 2/ 309، 310 فقال: "ثم اختلفوا، فقال بعضهم: إن الأقانيم مختلفة في الأقنومية، متفقة في الجوهر.

وقال آخرون: ليست مختلفة في الأقنومية، بل متغايرة. وقال فريق منهم: إن كل واحد منها لا هو الآخر، ولا هو غيره، وليست متغايرة ولا مختلفة".

(5)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والجواب الصحيح 2/ 310.

ص: 851

هو الابن بعيسى بن مريم، وكان مسيحًا عند الاتحاد لاهوتيًّا وناسوتيًّا، حمل وولد ونشأ وقتل وصلب ودفن.

ثم ذكروا (1) اليعقوبية، والنسطورية، والملكية.

قال الناقلون عنهم: واختلفوا في الكلمة الملقاة إلى مريم عليها السلام فقال طائفة منهم: إن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة، كما (2) يحل الماء في اللبن فيمازجه ويخالطه، وقالت طائفة منهم: إنها حلت في مريم من غير ممازجة، [كما أن شخص الإنسان يحل في المرآة وفي الأجسام الصقيلة من غير ممازجة](3) وزعمت طائفة من النصارى أن اللاهوت مع الناسوت، كمثل الخاتم مع الشمع يؤثر فيه بالنقش ثم لا يبقى منه شيء إلا أثر فيه.

ثم ذكر هؤلاء (4) عنهم في الاتحاد نحو ما حكى الأولون فقالوا: قد اختلف قولهم في الاتحاد اختلافًا (5) متباينًا، فزعم قوم منهم أن الاتحاد هو: أن الكلمة التي هي الابن حلت جسد المسيح، قيل (6): وهذا قول الأكثرين منهم، وزعم قوم منهم أن الاتحاد هو: الاختلاط والامتزاج. وقال قوم من اليعقوبية: هو أن كلمة الله انقلبت لحمًا ودمًا بالاتحاد. وقال كثير من اليعقوبية النسطورية: الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت

(1) أي: أبو الحسن بن الزاغوني ومن معه من طوائف المتكلمين.

وقد ذكر الشيخ -رحمه الله تعالى- أقوالهم في هذه الفرق، وما بينها من اختلاف في "الجواب الصحيح" 2/ 310.

(2)

كما: كررت في: ط.

(3)

ما بين المعقوفتين ساقط من: س، ط.

(4)

ابن الزاغواني ومن معه.

(5)

في س، ط: اتحادًا. وهو خطأ.

وانظر اختلافهم وتباينهم في الاتحاد وما نقله الشيخ عنهم من أقوال في: "التمهيد" -للباقلاني- ص: 87، 88.

(6)

في جميع النسخ: قبل. والمثبت من: الجواب الصحيح- 2/ 311.

ص: 852

اختلطا فامتزجا، كاختلاط الماء بالخمر، والخمر باللبن. وقال قوم منهم: إن الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اتحدا فصارا هيكلًا ومحلًا. وقال قوم منهم: إن (1) الاتحاد مثل ظهور صورة الإنسان في المرآة، والطابع (2) في المطبوع، مثل الخاتم في الشمع (3). وقال قوم منهم: الكلمة اتحدت بجسد المسيح على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة، كما تقول: إن الله في السماء وعلى العرش من غير مماسة ولا ممازجة. وقال الملكية: الاتحاد هو: أن الاثنين صارا واحدًا، وصارت الكثرة قلة (4).

فزعم بعض الناس أن الذين قالوا: هو المسيح بن مريم [هم](5) الذين قالوا: اتحدا (6) حتى صارا شيئًا واحدًا، والذين قالوا: هما جوهر واحد له طبيعتان، فيقولون: هو ولده بمنزلة الشعاع المتولد عن الشمس، والذين قالوا بجوهرين وطبيعتين وأقنومين مع الرب، قالوا: ثالث ثلاثة، وهذا الذي قاله هؤلاء ليس بشيء، فإن الله أخبر أن النصارى يقولون: إنه ثالث ثلاثة [وإنهم يقولون: إنه الله](7) وإنهم يقولون: إنه ابن الله، وقال لهم: لا تقولوا (8): ثلاثة، مع إخباره أن النصارى افترقوا وألقى بينهم العداوة والبغضاء بقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ

(1) إن: ساقطة من: س، ط.

(2)

أي: كظهور الطابع في المطبوع.

(3)

في س: السمع. وهو خطأ.

(4)

الباقلاني بعد أن ذكر الأقوال السابقة عنهم ناقشها في كتابه "التمهيد" ص: 88 - 92.

(5)

ما بين المعقوفتين زيادة من كتاب "منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب" لابن معمر ص: 135.

(6)

في الأصل: اتحد. والمثبت من: س، ط.

(7)

ما بين المعقوفتين ساقط من: س، ط.

(8)

في الأصل: لا تقولون. والمثبت من: س، ط.

ص: 853

وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (1)، وقد ذكر [المفسرون أن](2) هذا إخبار بتفرقهم إلى هذه الأصناف الثلاثة وغير ذلك (3).

وقد أخبر سبحانه (4) عقب قوله {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} بما يقتضي أن هؤلاء اتخذوه ولدًا بقوله (5): {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} (6).

وقد (7) ذكر -أيضًا- ما يقتضي أن قولهم: إن الله هو المسيح بن مريم من الشرك، فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ

(1) سورة المائدة، الآية:14.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(3)

يقول ابن جرير الطبري في تفسيره 6/ 159 بعد أن ذكر القولين في صفة إغراء الله بينهم العداوة والبغضاء: "وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالحق، تأويل من قال: أغرى بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم، كما قال إبراهيم النخعي، لأن عداوة النصارى بينهم إنما هي باختلافهم في قولهم في المسيح، وذلك أهواء لا وحي من الله".

ونقل القرطبي في تفسيره 6/ 118 عن الربيع بن أنس أن المقصود افتراق النصارى خاصة، لأنهم أقرب مذكور، وذلك أنهم افترقوا إلى اليعاقبة والنسطورية والملكانية، أي: كفر بعضهم بعضًا.

ويقول ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 2/ 33، أي: فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضًا، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، ولذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضًا، فكل فرقة تَحْرِم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها، فالملكية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية والآريوسية كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد".

(4)

في س: الله سبحانه.

(5)

في الأصل، س: فقوله. والمثبت من: ط، وهو المناسب للسياق.

(6)

سورة النساء، الآية:171.

وقد ورد في الأصل: خير. وهو سهو من الناسخ.

(7)

قد: ساقطة من: س، ط.

ص: 854

الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (1).

فهذا يقتضي أن هذا القول من الشرك، وذلك لأنهم مع قولهم: إن الله هو المسيح بن مريم فلا يخصونه بالمسيح، بل يثبتون أن له وجودًا وهو الأب، ليس هو الكلمة التي في المسيح، فإن عبادتهم إياه معه إشراك، وذلك مضموم إلى قولهم (2): إنه هو، وقولهم: إنه ولده، وقد نزه الله نفسه عن هذا وهذا في غير موضع من القرآن، نزه نفسه عن الشريك والولد، كما في قوله:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} (3) وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (4)، وقال تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (5) وأيضًا -فهذه الأقوال لا تنطبق على ما ذكر، فإن الذين (6) يقولون: إنهما اتحدا وصارا (7) شيئًا واحدًا يقولون -أيضًا-: إنما اتحد به (8) الكلمة التي هي الابن، والذين يقولون: هما جوهر واحد له

(1) سورة المائدة، الآية:72.

وقد ورد في ط: المسيح مريم. وهو خطأ.

(2)

في جميع النسخ: قوله. وما أثبته يستقيم به الكلام.

(3)

سورة الإسراء، الآية:111.

(4)

سورة الفرقان، الآيتان:2.

(5)

سورة الأنعام، الآية:100.

(6)

في س: لذين. وهو تصحيف.

(7)

في س: اتخذوا صارا. وهو تصحيف.

(8)

به: ساقطة من: س، ط.

ص: 855

طبيعتان يقولون: إن المسيح إله، وإنه الله، والذين يقولون: إنه حل فيه يقولون: حلت فيه الكلمة التي هي الابن، وهي الله -أيضًا- بوجه آخر، كما سنذكره.

وأيضًا -فقوله: {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (1) ليس المراد به الله، واللاهوت الذي في المسيح، وجسد المسيح، فإن أحدًا من النصارى لا يجعل لاهوت المسيح وناسوته إلهين، ويفصل الناسوت عن اللاهوت، بل سواء قال بالاتحاد أو بالحلول فهو تابع للاهوت.

وأيضًا -فقوله عن النصارى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} (2) و {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (3).

وقد قيل (4): إن المراد به قول النصارى باسم الأب والابن وروح

(1) سورة المائدة، الآية:73.

(2)

سورة النساء، الآية:171.

(3)

سورة المائدة، الآية:73.

(4)

ذكر بعض المفسرين أن هذا القول اشتهر عن النصارى.

يقول ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره 6/ 313: "كانوا فيما بلغنا يقولون: الإله القديم جوهر واحد، يعم ثلاثة أقانيم أبًا والدًا غير مولود وابنًا مولودًا غير واحد، وزوجًا متتبعة بينهما".

وقد نقل ابن كثير في تفسيره 2/ 81، عن ابن جرير وغيره أن الطوائف الثلاثة -الملكية واليعقوبية والنسطورية- تقول بهذه الأقانيم.

قال: "وهم مختلفون فيها اختلافًا متباينًا.

وذكر القرطبي رحمه الله في "الجامع لأحكام القرآن" 6/ 249، أن هذه الطوائف تقول: إن الأب والابن وروح القدس إله واحد، ولا يقولون ثلاثة آلهة، وهو معنى مذهبهم، وإنما يمتنعون من العبارة وهي لازمة لهم.

ويقول محمد جمال الدين القاسمي، في "محاسن التأويل" 5/ 677، 680: ". . وفي تعاليمهم المدرسية المطبوعة الآن ما نصه: أخص أسرار المسيحية سر الثالوث، وهو إله واحد في ثلاثة أقانيم: الأب، والابن، وروح القدس. والأب هو الله، والابن هو الله، وروح القدس هو الله، وليسوا ثلاثة =

ص: 856

القدس إله واحد، وهو قولهم بالجوهر الواحد الذي له الأقانيم [الثلاثة التي يجعلونها ثلاثة جواهر وثلاثة أقانيم](1)، أي: ثلاث صفات وخواص، وقولهم: إنه هو الله، وابن الله، هو الاتحاد والحلول، فيكون على هذا تلك الآية على قولهم تثليث الأقانيم، وهاتان في قولهم بالحلول والاتحاد، فالقرآن على هذا القول رد في كل آية بعض قولهم، كما أنه على القول الأول في كل آية على صنف منهم.

والقول الثاني (2): وهو الذي عليه [يدل القرآن](3) أن المراد

= آلهة، بل إله واحد موجود في ثلاثة أقانيم متساوين في الجوهر، ومتميزين فيما بينهم بالأقنومية، وذلك لأن لهم جوهرًا واحدًا ولاهوتًا واحدًا وذاتًا واحدة، وليس أحد هذه الأقانيم الثلاثة أعظم أو أقدم أو أقدر من الآخرين، لكون الثلاثة متساوية في العظمة والأزلية والقدرة وفي كل شيء. ما عدا الأقنومية. ولا نقدر أن نفهم جيدًا هذه الحقائق، لأنها أسرار فائقة العقل والإدراك البشري.

قال: فانظر إلى هذا التناقض والتمويه، يعترفون بأن الثلاثة آلهة، ثم يناقضون قولهم ينكرون ذلك".

وقد نقل رحمه الله عن الشيخ: رحمة الله الهندي، في كتابه "إظهار الحق" والماوردي في "أعلام النبوة" ما يبين تناقض هذه الطوائف، وأن مقالتهم هذه مغالطة صرفة لا تقبلها العقول.

(1)

في الأصل: أبو. والمثبت من: س، ط، والمجموع.

(2)

ذكره ابن جرير في تفسيره 6/ 314، وابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 403. ونقل ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" 2/ 81 أن قوله تعالى:{لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} الآية، نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار، قال السدي: وهي كقوله تعالى في آخر السورة {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} الآية.

قال ابن كثير: وهذا القول هو الأظهر.

(3)

ما بين المعقوفتين بياض في الأصل بقدر كلمتين في بداية السطر. وبقدر أربع كلمات في: س، وبقدر كلمتين في: ط. ولعل ما أثبته يستقيم به الكلام ويناسب السياق. وقد ورد في "منحة القريب المجيب في الرد على عباد =

ص: 857

بذلك جعلهم المسيح إلهًا ولأمه إلهًا مع الله، كما ذكر ذلك في قوله:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} إلى قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} (1). . . الآية، ويدل على ذلك قوله:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} (2) فقوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} ، عقيب (3) قوله:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (4)، يدل على أن التثليث الذي ذكره الله عنهم اتخاذ المسيح ابن مريم [وأمه](5) إلهين، وهذا واضح (6) على قول (7) من حكى عن النصارى أنهم يقولون بالحلول في مريم والاتحاد بالمسيح، وهو أقرب إلى تحقيق مذهبهم وعلى هذا فيكون (8) كل آية مما ذكره الله من الأقوال تعم جميع طوائفهم، وتعم -أيضًا- قولهم بتثليث الأقانيم وبالاتحاد والحلول، فتعم أصنافهم وأصناف كفرهم، ليس يختص كل آية

= الصليب" للشيخ عبد العزيز آل معمر: "على صنف منهم، وقيل: إن المراد بذلك جعلهم. . . ".

(1)

سورة المائدة، الآيتان: 116، 117.

(2)

سورة المائدة، الآيات 73 - 75.

(3)

في س، ط: عقب.

(4)

سورة المائدة، الآية:73.

(5)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(6)

في الأصل: وضح. والمثبت من: س، ط.

(7)

في س: قوله؛ وهو خطأ.

(8)

في ط: فتكون.

ص: 858

بصنف، كما قال من يزعم ذلك، ولا تختص آية بتثليث الأقانيم، وآية بالحلول والاتحاد، بل هو -سبحانه- ذكر في كل آية كفرهم المشترك، ولكن وصف كفرهم بثلاث صفات، وكل صفة تستلزم الأخرى، إثهم يقولون: المسيح هو الله، ويقولون: هو ابن الله، ويقولون: إن الله ثالث ثلاثة، حيث اتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله، هذا بالاتحاد، وهذا بالحلول، ويبين (1) بذلك إثبات ثلاثة آلهة منفصلة (2) غير الأقانيم، وهذا يتضمن جميع كفر النصارى، وذلك أنهم يقولون: الإله جوهر واحد له ثلاثة أقانيم، وهذه الأقانيم يجعلونها تارة جواهر وأشخاصًا، وتارة صفات وخواصًا (3)، فيقولون: الوجود الذي هو الأب، والابن الذي هو العلم، وروح القدس التي هي الحياة عند متقدميهم، والقدرة عند متأخريهم، فيقولون: موجود هي عالم أو ناطق أو موجود عالم قادر، لكن يقولون -أيضًا-: إن الكلمة التي هي الابن جوهر، وروح القدس -أيضًا- جوهر، وإن المتحد بالمسيح هو جوهر الكلمة دون جوهر الأب وروح القدس، وهذا مما لا نزاع بينهم فيه.

ومن هنا قالوا كلهم: المسيح هو الله، وقالوا كلهم: هو ابن الله، لأنه من حيث أن الأب والابن وروح القدس إله واحد [وجوهر واحد](4) وقد اتحد بالمسيح كان المسيح هو الله، ومن حيث أن الأب جوهر، والابن جوهر وروح القدس جوهر، والذي اتحد به هو جوهر الابن الذي

(1) في س: وبين. وفي ط: فتبين.

(2)

في الأصل، س: ثلاث منفصلة آلهة. والمثبت من: ط، وهو الأقرب للفهم.

(3)

تفرق النصارى واختلافهم في الأقانيم، ذكره الشيخ رحمه الله في كتابه "الجواب الصحيح" 2/ 94، 100، 311، 3/ 163، 164. وانظره: في "التمهيد"- للباقلاني ص: 85، 86.

(4)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

ص: 859

هو الكلمة، كان المسيح هو ابن الله عندهم، ولا ريب أن هذين القولين وإن كان كل منهما متضمنًا لكفرهم، كما ذكره الله، فإنهما متناقضان، إذ كونه هو، ينافي كونه ابنه، لكن النصارى يقولون هذا كلهم، ويقولون هذا كلهم، كما ذكر الله ذلك عنهم، ولهذا كان قولهم معلوم التناقض في بديهة العقول عند كل من تصوره، فإن هذه الأقانيم إذا كانت صفات أو خواصًا، وقدر (1) أن الموصوف له بكل صفة اسم، كما مثلوه بقولهم: زيد الطبيب (2)، وزيد الحاسب، وزيد الكاتب، لكن لا (3) يمكن أن بعض هذه الصفات يتحد بشيء دون الجوهر، ولا أن بعض هذه الصفات يفارق بعضًا، فلا يتصور مفارقة بعضها بعضًا، ولا مفارقة شيء منها للموصوف، حتى يقال: المتحد بالمسيح بعض هذه الصفات، وهم لا يقولون ذلك -أيضًا- بل هم متفقون على أنه المتحد به جوهر قائم بنفسه، فإن لم يكن جوهر إلا جوهر الأب، كان جوهر الأب هو المتحد، وإن كان جوهر الابن غيره، فهما جوهران منفصلان، وهم لا يقولون بذلك، والموصوف -أيضًا- لا يفارق صفاته، كما لا تفارقه، فلا يمكن أن يقال: اتحد الجوهر بالمسيح بأقنوم العلم دون الحياة، إذ العلم والحياة لا زمان للذات، لا يتصور أن تفارقهما الذات ولا يفارقهما واحد منهما.

ومن هنا قيل: النصارى غلطوا في أول مسألة من الحساب الذي يعلمه كل أحد، وهو قولهم: الواحد ثلاثة، وأما قول بعضهم: أحديّ

(1) في س: وقد. وهو تصحيف.

(2)

في الأصل: الطيب. والمثبت من: س، ط.

وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن هذا القول قال به يحيى بن عدي وغيره، من النصارى اعتذارًا لهم.

انظر: الجواب الصحيح -لابن تيمية- 2/ 118.

(3)

لا: ساقطة من: س.

ص: 860

الذات ثلاثي الصفات (1)، فهم لا يكتفون بذلك كما تقدم، بل يقولون: الثلاثة جواهر والمتحد بالمسيح واحد منها (2) دون الآخر (3)، وبهذا يتبين أن كل من أراد أن يذكر قولهم على وجه يعقل فقد قال الباطل، كقول المتكايسين (4) منهم: هذا كما تقول: زيد الطبيب (5)، وزيد الحاسب، وزيد الكاتب، فهم ثلاثة رجال باعتبار الصفات، وهم رجل واحد باعتبار الذات فإنه يقال: من يقول هذا لا يقول: بأن زيدًا الطبيب (6) فعل

(1) شيخ الإسلام رحمه الله ناقش قولهم هذا في كتابه: "الجواب الصحيح" 3/ 167، فقال: "لو اقتصرتم على قولكم: إنه واحد وله صفات متعددة، لم ينكر ذلك عليكم جمهور المسلمين، بل ينكرون تخصيص الصفات بثلاث، فإن هذا باطل من وجوه:

منها: أن الأب عندكم هو الجوهر ليس هو صفة، فلا يكون له صفة إلا الحياة والعلم، فيكون جوهرًا واحدًا له أقنومان، وأنتم جعلتم ثلاثة أقانيم.

ومنها: أن صفات الرب لا تنحصر في العلم والحياة، بل هو موصوف بالقدرة وغيرها.

ومنها: أنكم تارة تفسرون روح القدس بالحياة، وتارة بالقدرة، وتارة بالوجود. وتفسرون الكلمة تارة بالعلم، وتارة بالحكمة، وتارة بالكلام، فبطلان قولكم في إثبات ثلاث صفات كثير، وأنتم -مع هذا- تجعلون كل واحدة منها إلهًا.

فتجعلون الحياة إلها، والعلم إلهًا، وهذا باطل".

(2)

في الأصل: منهما. والمثبت من: س، ط. ولعله المناسب للسياق.

(3)

في ط: الآخر.

(4)

الكيس: العقل. والكيس: العاقل. والمعنى: العقلاء منهم.

انظر: لسان العرب -لابن منظور- 6/ 201 (كيس).

والمقصود: يحيى بن عدي وغيره من النصارى ممن أراد أن يعتذر عنهم ويظهر قولهم على وجه يعقل.

وتقدمت الإشارة إليه قريبًا.

(5)

في الأصل: الطيب. والمثبت من: س، ط.

(6)

في الأصل: زيد الطيب. وفي س: زيد الطبيب. والمثبت من: ط. وهو=

ص: 861

كذا، أو اتحد بكذا، أو حل به دون زيد الحاسب والكاتب، بل أي شيء فعله أو وصف به زيدًا الطبيب (1) في هذا المثال هو الموصوف به زيد الكاتب الحاسب (2).

والنصارى يثبتون هذا المثلث في الأقانيم مع قولهم: إن المتحد هو الواحد، فيجعلون المسيح هو الله، لأنهم يقولون:[الموصوف اتحد به، ويجعلونه (3) هو ابن الله، لأنهم يقولون:](4) إنما اتحد به الجوهر الذي هو الكلمة، أو إنما اتحد به الكلمة دون الأب الذي هو الوجود، و (5) دون روح القدس، وهما -أيضًا- جوهران، فقد تبين أن قول النصارى بهذا وبهذا جمع بين النقيضين، وهو من أفسد شيء في بدائه (6) العقول، وكل منها كفر كما كفرهم الله، وأما قولهم: ثالث ثلاثة، فإنهم ذلك يعبدون الأم التي هي والدة الإله عندهم، وهذا كفر

= الصواب.

(1)

في الأصل: الطيب. والمثبت من: س، ط.

(2)

علق الشيخ الفاضل عبد العزيز بن حمد آل معمر رحمه الله في كتابه "منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب" ص: 141، بعد نقله لكلام الشيخ السابق بقوله:

"قلت: ونظير هذا المثل ما قاله بعضهم: إنك إذا فرضت مثلثًا متساوي الأضلاع كانت الأضلاع ثلاثة، والمثلث واحد، وكان للمثلث الواحد ثلاثة أضلاع، وهذا من نمط ما قبله في الفساد، وذلك أن كل واحد من الأضلاع على انفراده ليس هو المثلث المفروض، بل إن اعتبرت الأضلاع الثلاثة شيئًا واحدًا انتفى التثليث، لأن الواحد لا يكون ثلاثة، وإن اعتبر أحد الأضلاع على انفراده انتفت الوحدة، فالجمع بينهما جمع بين النقيضين".

(3)

في الأصل: يجعلون. والمثبت من: ط. ولعله المناسب للسياق.

(4)

ما بين المعقوفتين ساقط من: س.

(5)

الواو ساقطة من: س.

(6)

في الأصل، ط: بداية. والمثبت من: س. ولعله الصواب.

ص: 862

آخر مستقل بنفسه غير تثليث الأقانيم والاتحاد (1) بالمسيح، فالقرآن يتناول جميع أصناف كفرهم في هذا الباب تناولًا تامًّا.

والمقصود هنا التنبيه على مضاهاة (2) الجهمية لهم دون تفصيل الكلام عليهم، والجهمية الغلاط يضاهئونهم (3) مضاهاة عظيمة، لكن المقصود هنا ذكر مضاهاة هؤلاء الذين يقولون: الكلام معنى واحد قائم بذات الرب، فيقال: أنتم قلتم: الكلام معنى واحد لا ينقسم ولا يختلف، وهذا المعنى الواحد هو بعينه أمر ونهي وخبر، فجعلتهم الواحد ثلاثة، وجعلتم الواحد الذي لا اختلاف فيه ثلاث حقائق مختلفة، وهذا مضاهاة قوية لقول النصارى: الرب إله واحد جوهر واحد، وهو مع ذلك ثلاثة (4) جواهر، فجعلوه واحدًا، وجعلوه (5) ثلاثة، ثم قلتم هذا الكلام الذي هو واحد، وهو أمر ونهي وخبر، ينزل تارة فيكون أمرًا، وتارة فيكون خبرًا، وتارة فيكون نهيًا، وإذا نزل فكان أمرًا لم يكن خبرًا، وإذا نزل فكان خبرًا لم يكن أمرًا، فإنه إذا أنزله الله فكان آية الكرسي، وهي خبر، لم يكن آية الدين التي هي أمر، وهذا لعله من أعظم المضاهاة لقول (6) النصارى: إن الجوهر الواحد الذي هو ثلاثة جواهر ثلاثة أقانيم، إذا اتحد فإنما يكون كلمة وابنًا، لا يكون أبًا ولا روح قدس، فإن هؤلاء كما جعلوا الشيء الذي هو واحد، يتحد ولا يتحد، يتحد من جهة كونه كلمة، ولا يتحد من كونه وجودًا،

(1) في الأصل: الإلحاد. والمثبت من: س، ط. وهو المناسب للسياق.

(2)

في س: مضاة. وهو تحريف.

(3)

في س، ط: يضاهونهم.

(4)

في الأصل: ثلاث. والمثبت من: س، ط. وهو الصواب.

(5)

في ط: أو جعلوه. وهو خطأ.

(6)

في س، ط: كقول.

ص: 863

جعل (1) أولئك الذي هو كلام واحد، ينزل لا ينزل، ينزل من جهة كونه أمرًا، لا ينزل من جهة كونه خبرًا.

وأيضًا -فإنهم ضاهوا النصارى في تحريف مسمى الكلمة والكلام، فإن المسيح سمي كلمة الله، لأن الله خلقه بكلمته "كن فيكون" كما يسمى متعلق الصفات بأسمائها، فيسمى المقدور قدرة، والمعلوم علمًا، وما يرحم به رحمة، والمأمور به أمرًا، وهذا كثير قد بسطناه في غير هذا الموضع (2)، لكن هذه الكلمة تارة يجعلونها صفة لله، ويقولون: هي العلم، وتارة يجعلونها جوهرًا قائمًا بنفسه، وهي المتحد بالمسيح، وهؤلاء حرفوا مسمى الكلام، فزعموا أنه ليس إلّا مجرد المعنى، وأن ذلك المعنى ليس هو العلم، ولا الإرادة، ولا ما هو من جنس ذلك، ولكن هو شيء واحد، وهو حقائق مختلفة، لكن ليس في المسلمين من يقول: الكلام جوهر قائم بنفسه، إلّا ما يذكر عن النظام (3) أنه قال: الكلام الذي هو الصوت جسم من الأجسام.

وأيضًا -فهم في لفظ القرآن الذي هو (4) حروف (5) واشتماله على المعنى، لهم مضاهاة قوية بالنصارى في جسد المسيح، الذي هو متدرع للاهوت، فإن هؤلاء متفقون على أن حروف القرآن ليست من كلام الله، بل هي مخلوقة، كما أن النصارى متفقون على أن جسد المسيح لم يكن

(1) في جميع النسخ: اجعل. ولعل ما أثبته يستقيم به الكلام.

(2)

الشيخ رحمه الله بسط الكلام على هذه المسألة في بعض رسائله فقال: ". . فبينت في بعض رسائلي: أن الأمر وغيره من الصفات يطلق على الصفة تارة وعلى متعلقها أخرى. . ". مجموع الفتاوى 6/ 18.

(3)

تقدم التعريف به. وانظر رأيه هذا في "مقالات الإسلاميين" للأشعري 1/ 267، 268.

(4)

هو: ساقطة من: س، ط.

(5)

في س، ط: حروفه.

ص: 864

من اللاهوت، بل هو مخلوق، ثم يقولون: المعنى القديم لما أنزل (1) بهذه الحروف المخلوقة، فمنهم من يسمي الحروف كلام الله حقيقة، كما يسمي المعنى كلام الله حقيقة، ومنهم من يقول: بل هي كلام الله مجازًا، كما أن النصارى منهم من يجعل (2) لاهوتًا حقيقة لاتحاده باللاهوت واختلاطه به، ومنهم من يقول: هو محل اللاهوت ودعاؤه، ثم النصارى تقول: هذا الجسد إنما عبد لكونه مظهر اللاهوت وإن لم يكن هو إياه، ولكن صار هو إياه بطريق الاتحاد، وهو محله بطريق الحلول، فعظم ذلك (3)، وهؤلاء يقولون: هذه الحروف ليست من كلام الله ولا يجوز أن يتكلم الله بها، ولا يكلم بها، بل لا يدخل في قدرته أن يتكلم بها، ولكن خلقها فأظهر بها المعنى القديم ودل بها عليه، فاستحقت الإكرام والتحريم لذلك، حيث يدخل في حكمه، بحيث لا يفصل بينهما، أو يفصل بأن يقال: هذا مظهر هذا [و](4) دليله، وجعلوا ما ليس هو كلام الله، ولا تكلم الله به قط كلامًا لله، معظمًا تعظيم كلام الله كما جعلت النصارى الناسوت الذي ليس هو بإله قط، ولا هو الكلمة، إلها وكلمة، وعظموه تعظيم الإله الذي هو كلمة الإله (5) عندهم، ومنها أن النصارى على ما حكى عنهم المتكلمون، كابن الباقلاني (6) أو غيره (7) ينفون الصفات، ويقولون: إن الأقانيم التي هي الوجود والحياة والعلم، هي خواص، هي صفات نفسية للجوهر،

(1) في س: أنزله.

(2)

كذا في جميع النسخ. ولعل يجعله أنسب للسياق.

(3)

في س، ط: كذلك.

(4)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(5)

في س، ط: الله.

(6)

في التمهيد- ص: 79 - 87.

(7)

كالجويني في "الإرشاد" ص: 47، 48.

ص: 865

ليست صفات زائدة على الذات، ويقولون: إن الكلمة هي العلم، ليس هي كلام الله، فإن كلامه صفة فعل، وهو مخلوق، فقولهم في هذا كقول نفاة الصفات من الجهمية المعتزلة وغيرهم، وهذا يكون قول بعضهم ممن خاطبه متكلموا الجهمية من النسطورية وغيرهم، وممن تفلسف منهم على مذهب نفات الصفات من المتفلسفة ونحو هؤلاء، وإلا فلا ريب أن النصارى مثبتة للصفات، بل غالية في ذلك، كما أن اليهود -أيضًا- فيهم المثبتة والنفاة.

والمقصود هنا أن تسميتهم للعلم كلمة، ودون الكلام الذي هو الكلام، ثم ذلك العلم ليس هو أمرًا (1) معقولًا، كما تعقل الصفات القائمة بالموصوف، ضاهاهم في هؤلاء الذين يقولون: الكلام هو ذلك المعنى القائم بالنفس، دون الكلام الذي هو الكلام [ثم ذلك المعنى ليس هو المعقول من معاني الكلام، فحرفوا اسم الكلام](2) ومعناه، كما حرفت النصارى اسم الكلمة ومعناها، وهذا الذي ذكرته من مضاهاة هؤلاء النصارى من بعض الوجوه رأيت بعد ذلك الناس قد نبهوا على ذلك.

قال أبو الحسن بن الزاغوني (3) في مسألة وحدة الكلام: دليل آخر يقال لهم: ما الفرق بينكم في قولكم: إن الأمر والنهي اثنان وهما واحد، والقول بذلك قول صحيح غير مناف للصحة والإمكان، وبين من قال: إن الكلمة والناسوت واللاهوت ثلاثة واحد؟ فإن هذا مما اتفقنا على قبحه شرعًا وعقلًا، من جهة أن الكلمة (4) غير الناسوت واللاهوت، وكذلك الآخران صفة ومعنى، كما أن الأمر يخالف النهي صفة ومعنى.

(1) في س: أمر. وهو خطأ.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(3)

لم أقف على هذا النقل، وما بعده من نقول عن أبي الزاغوني.

(4)

في الأصل: الكلام. والمثبت من: س، ط. ولعله المناسب.

ص: 866

قال: وهذا مما لا محيد لهم عنه، ولا انفصال لهم منه، إلا بزخارف عاطلة عن صحة لا يصلح مثلها أن يكون شبهة يوقف (1) معها.

وقد قال ابن الزاغوني قبل ذلك: لو جاز أن يقال: إن عين الأمر هو النهي، مع كون الأمر يخالف النهي في وضعه ومعناه، فإن الأمر استدعاء الفعل، والنهي استدعاء الترك، وموضوع الأمر إنما يراد منه [تحصيل ما يراد بطريق الوجوب أو الندب، وموضوع النهي براد منه](2) مجانبة ما يكره، إما بطريق التحريم أو الكراهة والتنزيه، وما يدخل تحت الأمر يقتضي الصحة، وما يدخل تحت النهي يقتضي الفساد، إما بنفسه، أو بدليل يتصل به [أو ينفصل عنه، وكذلك من المحال أن يقتضي النهي الصحة، إما بنفسه، أو بدليل يتصل به](3) ولو قال قائل: إن المنهي (4) عنه نهي عنه لكونه محبوبًا عند الناهي عنه، والمأمور به أمر به لكونه مبغوضًا (5) عند الآمر به، لكان هذا قولًا باطلًا يشهد العقل بفساده، ويعرف جري العادة على خلافه، وهذا يوجب أن يكون الأمر في نفسه وغيره (6)، غير النهي بنفسه وعينه، ولو ادعى مدع أن ذلك مقطوع به غير مسوغ حصوله لكان ذلك جائزًا ممكنًا.

قلت: ما ذكره من فساد هذا القول هو كما ذكره، لكن يقال له ولمن وافقه: وأنتم أيضًا-[قد](7) قلتم في مقابلة هؤلاء ما هو في الفساد ظاهر كذلك.

(1) في س، ط: توقف.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(4)

في الأصل، س: النهي. والمثبت من: ط. ولعله المناسب.

(5)

في الأصل: مقبوضًا. وهو تحريف. والمثبت من: س، ط.

(6)

في الأصل، س: وتعينه. والمثبت من: ط. ولعله المناسب.

(7)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

ص: 867

قال ابن الزاغوني (1) في مسألة الحرف (2) والصوت قالوا: إذا قلتم: إن القرآن صوت ندركه بأسماعنا، والذي ندركه بأسماعنا عند تلاوة التالي، إنما هو صوته الذي يحدث عنه، وهو عرض وجد بعد عدمه (3)، وعدم بعد وجوده، وهو مما (4) يقوم به، ويتقدر بقدر حركاته، فإن قلتم: هذا هو القديم، فنقول لكم: هذا هو صوت الله، فإن قلتم: نعم، فهذا محال (5)، لأنا نعلمه ونتحقق صوت القارئ، وإن قلتم: إنه صوت القارئ، فقد أقررتم بأنه محدث، وهو خلاف قولكم.

قال: قلنا: قولكم إن الصوت الذي ندركه بأسماعنا عند تلاوة التالي للقرآن، إنما هو صوته الذي يحدث عنه على ما ذكرتم، هو دعوى مسألة الخلاف، بل نقول: إن هذا الذي ندركه بأسماعنا عند تلاوة التالي، هو الكلام القديم، فلا نسلم لكم ما قلتم، وما ذكرتموه من العدم، والوجود بعد العدم، والفناء بعد الوجود، ليس الأمر كذلك، بل نقول: إنه ظهر عند حركات التالي بآلاته (6) في محل قدرته، فأما عدمه قبل وبعد فلا، وأما قولكم: إنه يتقدر بحركاته، فقد أسلفنا الجواب عنه، وأما سؤالكم لنا: هل هذا الذي نسمعه صوت الله تعالى أم

(1) في هامش س: قوله: "كلام ابن الزاغوني -رحمه الله تعالى- في الصوت المسموع من القارئ".

(2)

في س، ط: الحروف.

يقول الذهبي رحمه الله في "سير أعلام النبلاء- 19/ 607: "ورأيت لأبي الحسن بخطه مقالة في الحرف والصوت عليه فيها مآخذ، والله يغفر له، فيا ليته سكت".

(3)

في الأصل: بعدمه. وهو خطأ. والمثبت من: س، ط.

(4)

في الأصل: كما. والمثبت من: س، ط. ولعله المناسب لسياق الكلام.

(5)

في الأصل: محالًا. وهو خطأ. والمثبت من: س، ط.

(6)

في الأصل: بالآية. وهو خطأ والمثبت من: س، ط.

ص: 868

صوت الآدمي؟ فقد ذكر أصحابنا في هذا جوابين:

أحدهما: لما قلنا: إن [ما](1) يظهر عند حركات آلات الآدمي في محل قدرته من الأصوات، فإنما هو القرآن الذي هو كلام الله، وليس هو بالعبد، ولا منه، ولا مضاف (2) إليه على طريق التولد والانفعال ونتائج العقل، وإنما يضاف إلى الله تعالى بقدر ما توجبه (3) الإضافة، والذي توجبه الإضافة أن يكون قرآنًا وكلامًا لله، وقد اتفقنا أن القرآن الذي هو كلام الله قديم غير مخلوق، فوجب لذلك أن نقول (4): إن ما يصل إلى السمع هو صوت الله تعالى، لأنه لا فعل للعبد فيه، وهو جواب حسن مبني على هذا الأصل الذي ثبت بالأدلة الجلية القاطعة.

والجواب الثاني: أنهم قالوا: لما جرت العادة أن زيادة الأصوات تكثر عند كثرة الاعتمادات، وقد يختلف الناس في الأداء، فمنهم من يقول: القرآن على وجه لا زيادة فيه، بل هو كاف في إيصاله إلى السمع على وجه، فإن نقص لم يصل، وإن زاد أكثر منه وصل عما يحتاج إليه، إما في رفع الصوت، وإما في الأداء من المد والهمز والتشديد، إلى غير ذلك من حلية التلاوة، وتصفية الأداء بالقوة والتحسين، فما لا غنى عنه في تحصيل الاستماع وتكملة الفهم فذلك (5) هو القديم، وما قارنه مما اقتضى الزيادة في ذلك مما لو أسقط لما أثر في شيء مما يحتاج إليه من الاستماع والفهم، فذلك مضاف إلى العبد، فهذا يبين أنه اقترن القديم

(1) ما بين المعقوفتين زيادة غير واردة في النسخ لعل الكلام يستقيم بها. وقد ورد في ط: ما قلنا: إنه ظهر. .

(2)

في س، ط: ولا هو مضاف.

(3)

في الأصل، س: يوجبه. والمثبت من: ط.

(4)

في الأصل، س: يقول. والمثبت من: ط.

(5)

في الأصل: وذلك. والمثبت من: س، ط.

ص: 869

بالمحدث على وجه يعسر تمييزه إلا (1) بعد التلفظ والتأني (2) في التدبر، ليصل بذلك إلى مقام الفهم والتبيين (3) لما ذكرناه، وهو عند الوصول إليه مضى (4) العقل بتحصيل مطلوبه.

قلت: دعوى أن هذا الصوت المسموع من العبد أو بعضه، هو صوت الله، أو هو قديم، بدعة منكرة (5)، مخالفة لضرورة العقل، لم يقلها أحد من أئمة الدين، بل أنكرها جمهور المسلمين، من أصحاب الإمام أحمد وغيره، وإنما قال ذلك شرذمة قليلة من الطوائف وهي (6) أقبح وأنكر من قول الذين قالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، فإن أولئك لم يقولوا: صوتنا، ولا قالوا: قديم، ومع هذا فقد اشتد نكير الإمام

(1) في الأصل: إلى. وهو خطأ. والمثبت من: س، ط.

(2)

في الأصل: الثاني. وهو خطأ. والمثبت من: س، ط.

(3)

في س، ط: التبين.

(4)

في ط: يمضي.

(5)

بين الشيخ رحمه الله في مجموع الفتاوى 6/ 526، 527 أن القول بأن أصوات العباد بالقرآن أو ألفاظهم، قديمة أزلية من البدع المحدثة التي هي أظهر فسادًا من غيرها، والسلف رحمهم الله من أبعد الناس عن هذا القول، والعقل الصريح يعلم أن من جعل أصوات العباد قديمة أزلية، كان قوله معلوم الفساد بالضرورة.

ثم بين رحمه الله أن أصل هذا تنازعهم في مسألة اللفظ، وأن المنصوص عن الإمام أحمد وغيره أن من قال: إن اللفظ بالقرآن والتلاوة مخلوقة فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق فهو مبتدع، لأن اللفظ والتلاوة يراد به "الملفوظ والمتلو" وذلك هو كلام الله، فمن جعل كلام الله الذي أنزله على نبيه مخلوقًا فهو جهمي.

ويراد بذلك "المصدر وصفات العباد" فمن جعل أفعال العباد وأصواتهم غير مخلوقة، فهو مبتدع ضال.

(6)

في س: من: وهو خطأ.

ص: 870

أحمد عليهم، وتبديعه لهم (1)، وقد صنف الإمام أبو بكر المروذي -صاحبه- في ذلك مصنفًا (2)، جمع فيه مقالات علماء الوقت، من أهل الحديث والسنة من أصحاب أحمد وغيرهم على إنكار ذلك، وقد ذكر ذلك أبو بكر الخلال في كتاب السنة (3)، وهذا الذي ذكره ابن الزاغوني

(1) انظر إنكار الإمام أحمد رحمه الله وتبديعه للفظية في: السنة -لعبد الله بن أحمد بن حنبل- ص: 28 - 30.

(2)

ذكر الشيخ رحمه الله في الفتاوى 12/ 238: أن أبا بكر المروذي -أخص أصحاب الإمام أحمد به- صنف في ذلك رسالة كبيرة مبسوطة، ونقلها عنه أبو بكر الخلال في كتاب "السنة" الذي جمع فيه كلام الإمام وغيره من أئمة السنة في أبواب الاعتقاد، وكان بعض أهل الحديث إذ ذاك أطلق القول: بأن لفظي بالقرآن غير مخلوق، معارضة لمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فبلغ ذلك الإمام أحمد رحمه الله فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا.

وانظر نحوه في "درء تعارض العقل والنقل" لابن تيمية- 2/ 312، 313.

(3)

انظر: المسند من مسائل أبي عبد الله أحمد بن حنبل، رواية أبي بكر الخلال "السنة"- مخطوط- اللوحة- 190 - 202.

فقد ضمن رحمه الله هذه الورقات ما أخبر به أبو بكر المروذي وغيره عن عدد من العلماء من أصحاب أحمد وغيره- ممن أنكر على من قال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق.

من ذلك أنه قال رحمه الله في اللوحة رقم 200: "أخبرنا أبو بكر المروذي قال: سمعت عبد الله بن أيوب المخرمي يقول: القرآن كلام غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق فقد أبطل الصوم والحج والجهاد وفرائض الله، ومن أبطل واحدة من هذه الفرائض فهو كافر بالله العظيم، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو ضال مبتدع، أدركت ابن عيينة، يحيى بن سليم، ووكيع بن الجراح، وعبد الله بن نمير، وجماعة من علماء الحجاز والبصرة والكوفة، ما سمعت أحدًا منهم قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ولا غير مخلوق، وقد صح عندنا أن أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نهى أن يقال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فمن خالف ما قال أبو عبد الله فقد صحت بدعته".

وفي اللوحة رقم 201 قال: "أخبرنا أبو بكر المروزي قال: سمعت أبا بكر =

ص: 871

عن أصحابه، إنما هم أتباع القاضي أبي يعلى في ذلك، فإن هذا تصرف القاضي والله يغفر له، وقد كان ابن حامد يقول: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق على ما ذكره (1) عنه، والقاضي أنكر هذا، كما ثبت إنكاره عن أحمد وذهب في إنكار ذلك إلى ما ذهب إليه الأشعري (2) وابن الباقلاني (3) وغيرهم، أنهم كرهوا أن يقال: لفظت بالقرآن، وأن القرآن لا يلفظ، قالوا: لأن القديم لا يلفظ، إذ اللفظ هو الطرح والرمي، ولكن يتلى ويقرأ (4)، فإن الأشعري لما ذكر في مقالة أهل السنة أنهم منعوا أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق (5)، وكان هو وأئمة أصحابه منتسبين إلى الإمام أحمد خصوصًا، وإلى غيره من أهل الحديث عمومًا في السنة والإنكار على الطائفتين كما اشتهر عن الإمام أحمد، وطائفة من (6) الأئمة في زمانه وافقوه (7) على ذلك وفسروه بكراهة لفظ القرآن [و](8) وافقهم القاضي أبو يعلى في ذلك، ثم إن القاضي وأتباعه يقولون أبلغ من قول من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأولئك يقولون أبلغ من قول من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، مع دعوى

= محمد بن إسحاق الصاغاني يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن قال: إنه مخلوق فهو كافر، ومن قال: لفظى بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع، ما لقول إلا قول أبي عبد الله، فمن خالفه فنحن نهجره ولا نكلمه".

(1)

في س، ط: ذكر.

(2)

في مقالات الإسلاميين 1/ 346.

(3)

في الإنصاف ص: 106.

(4)

في س، ط: أو يقرأ.

(5)

مقالات الإسلاميين -للأشعري- 1/ 346.

(6)

في الأصل، س: عليه. والمثبت من: ط. ولعله المناسب لسياق الكلام.

(7)

في الأصل، س: وافقوهم. والمثبت من: ط. ولعله المناسب للسياق.

(8)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

ص: 872

الطائفتين اتباع أحمد، وقد صنف الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر (1) المشهور وكان في عصر أبي الحسن بن الزاغوني الفقيه، وفي بلده -مصنفًا يتضمن إنكار قول من يقول: إن المسموع صوت الله، وأبطل ذلك بوجوه (2) متعددة وكان ما قام به في ذلك المكان والزمان قيامًا بغرض رد هذه البدعة وإنكارها وهو من أعيان أصحاب الإمام أحمد وعلمائهم، ومن أعلم علماء وقته بالحديث والآثار.

الوجه السابع والسبعون:

أنه قد اشتهر بين علماء الأمة وعامتها أن حقيقة قول هؤلاء: إن القرآن ليس كلام الله، وهو كما اشتهر بين الأمة، وذلك أنهم يصرحون بأن حروف القرآن لم يتكلم الله بها بحال، فهذا إقرار منهم بأن نصف مسمى القرآن، وهو لفظه ونظمه وحروفه لم يتكلم الله بها، فلا يكون كلامه، وإن كان قد قال بعض متأخريهم: إنها تسمى كلامًا (3) حقيقة، فهم بين أمرين، إن أقروا بأنها كلام الله حقيقة، مع كونها مخلوقة في غيره، بطل أصلهم الذي أفسدوا به قول المعتزلة: إن الكلام إذا قام

(1) هو: أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي بن عمر البغدادي، الحنبلي، المعروف بالسلامي، محدث العراق في عصره، روى عنه خلق كثير، كابن عساكر، وابن السمعاني، وابن الجوزي وغيرهم. توفي سنة 550 هـ.

يقول ابن رجب: له جزء في الرد على من يقول: إن صوت العبد بالقرآن غير مخلوق.

انظر: المنتظم لابن الجوزي- 10/ 162، 163. ووفيات الأعيان -لابن خلكان- 4/ 293، 294. والذيل على طبقات الحنابلة -لابن رجب- 1/ 225 - 229. وهدية العارفين -للبغدادي- 2/ 92. ومعجم المؤلفين -لكحالة- 12/ 72.

(2)

في الأصل: وجوه. وهو تصحيف، والمثبت من: س، ط.

(3)

في الأصل، س: كلام. والمثبت من: ط. وهو الصواب.

ص: 873

بمحل، كان كلامًا لذلك المحل، لا (1) لمن أحدثه وأما المعاني فإنهم يزعمون أن ليس كلام الله إلّا معنى واحدًا (2)، هو الأمر بكل شيء، والنهي عن كل شيء، والخبر عن كل شيء، وهذا معلوم الفساد بالضرورة بعد تصوره، وهو مستلزم بأن يكون (3) معاني القرآن ليست كلام الله -أيضًا- إذا (4) كان هذا الذي ادعوه لا يجوز أن يكون له حقيقة، فضلًا عن أن يكون صفة لموصوف، أو يكون كلامًا.

فتبين أن الله لم يتكلم عندهم بالقرآن لا بحروفه ولا بمعانيه، وهذا أمر قاطع لا مندوحة لهم عنه. وينضم إليه -أيضًا- أن القرآن المنزل حروفه ومعانيه هم يصرحون -أيضًا- بأنها ليست كلام الله، فظهر أنهم يقولون: إن القرآن ليس كلام الله.

وأما الجهمية المحضة كالمعتزلة، فهم وإن كانوا يقولون: إن القرآن مخلوق، فأكثرهم يطلقون القول: بأن القرآن كلام الله، لكن حقيقة قولهم يعود إلى أنه ليس بكلام الله، كما يعترف بذلك حذاقهم عند التحقيق، من أن الله لم يتكلم ولا يتكلم، أو يقولون: الإخبار عنه بأنه متكلم مجازًا لا حقيقة (5)، فهؤلاء المعطلة لتكلم الله في الحقيقة أعظم من أولئك (6)، لكن تظاهر هؤلاء بأن القرآن كلام الله أعظم من تظاهر أولئك.

وبذلك يتبين أن نفي الكلام عن الله على قول هؤلاء المعتزلة أوكد

(1) في الأصل: إلا. والمثبت من: س، ط. ولعله المناسب للكلام.

(2)

في ط: واحد.

(3)

في ط: لأن تكون.

(4)

في س، ط: إذا.

(5)

انظر: شرح الأصول الخمسة -للقاضي عبد الجبار- ص: 528 - 563. ومقالات الإسلاميين -للأشعري- 2/ 256، 257.

(6)

الكلابية والأشاعرة.

ص: 874

وأقوى، ونفي كون القرآن كلام الله على قول أولئك هو أظهر وأبين، لكن (1) عند التحقيق فأولئك -أيضًا- يقولون ذلك -أيضًا- فهم أعظم إلحادًا في الحقيقة في أسماء الله وآياته، وأولئك أسخف (2) قولًا.

الوجه الثامن والسبعون:

إنه ما زال أئمة الطوائف، طوائف الفقهاء وأهل الحديث، وأهل الكلام يقولون: إن هذا القول الذي قاله ابن كلاب والأشعري في القرآن والكلام، من أنه معنى قائم بالذات، وأن الحروف ليست من الكلام، قول مبتدع، مخالف لأقوال سلف الأمة وأئمتها، مسبوق بالإجماع على خلافه، حتى الذين يحبون الأشعري ويمدحونه بما كان منه من الرد على أهل البدع والكبار، من المعتزلة والرافضة ونحوهم، ويذبون عنه عند من يذمه ويلعنه، ويناصحون عنه من أئمة الطوائف، يعترفون بذلك، ويقولون: إنا نخالفه في ذلك، ويجعلون ذلك من أقواله المتروكة، إذ لكل عالم خطأ من قوله يترك، أو يمسكون عن نصر هذا القول والدعاء إليه، لعلمهم بما فيه من التناقض والاضطراب واعتبر ذلك بما ذكره أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني والد أبي المعالي (3) في آخر كتاب صنفه (4) سماه (عقيدة أصحاب الإمام المطلبي الشافعي وكافة أهل السنة

(1) في ط: لك.

(2)

في الأصل: إسحق. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.

(3)

هو: أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيوية الجويني -نسبة إلى "جوين" من نواحي نيسابور، من علماء التفسير واللغة والفقه، قال السبكي: كان يلقب بركن الإسلام، توفي سنة 438 هـ.

انظر: تبيين كذب المفتري -لابن عساكر- ص: 257، 258. ووفيات الأعيان -لابن خلكان- 3/ 47، 48. وطبقات الشافعية -للسبكي- 5/ 73 - 93.

(4)

في س، ط: صفة. وهو تصحيف.

ص: 875

والجماعة) (1) وقد نقل هذا منه الحافظ أبو القاسم بن عساكر (2) في مناقبه الذي سماه (تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري)(3) وجمع فيه ما أمكنه من مناقبه، وأدخل في ذلك أمورًا أخرى يقوي بها ذلك.

قال أبو محمد الجويني: "ونعتقد أن المصيب من المجتهدين في الأصول والفروع واحد، ويجب التعيين [في الأصول، فأما في الفروع فربما يتأتى التعيين](4) وربما لا يتأتى، ومذهب الشيخ أبي (5) الحسن رحمه الله تصويب المجتهدين في الفروع، وليس ذلك مذهب الشافعي رضي الله عنه وأبو الحسن أحد أصحاب الشافعي رضي الله عنه (6) فإذا خالفه في شيء أعرضنا عنه [فيه] (7) ومن هذا القبيل قوله: أن لا صيغة للألفاظ، ويقل ويعز (8) مخالفته أصول الشافعي - رضي الله

(1) لم أقف على كتابه هذا فيما وقع تحت يدي من مصادر، وقد وردت هذه التسمية للكتاب -والإشارة إلى أنه آخر مصنف له- في: تبيين كذب المفتري -لابن عساكر- ص: 115.

(2)

هو: أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن عساكر الدمشقي، المؤرخ الحافظ الرحالة، محدث الشام، وصاحب التصانيف الكثيرة. توفي سنة 571 هـ.

انظر: تذكرة الحفاظ -للذهبي- 4/ 1328 - 1334. وطبقات الشافعية -للسبكي- 7/ 215 - 223. والبداية والنهاية -لابن كثير- 12/ 312.

(3)

تبيين كذب المفتري -لابن عساكر- ص: 115.

(4)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، وتبيين كذب المفتري.

(5)

في الأصل: أبو. والمثبت من: س، ط، وتبيين كذب المفتري. وهو الصواب.

(6)

في تبيين كذب المفتري: عنهم.

(7)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، وتبيين كذب المفتري.

(8)

في تبيين كذب المفتري: وتقل وتعز.

ص: 876

عنه، ونصوصه وربما نصب المبتدعون إليه [ما هو بريء منه (1) كما نسبوا إليه] (2) أنه يقول: ليس في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، وكذلك الاستثناء في الإيمان، ونفي القدرة على الخلق (3) في الأزل، وتكفير العوام، وإيجاب علم الدليل عليهم.

[قال](4): وقد تصفحت ما تصفحت من كتبه، فوجدتها (5) كلها خلاف ما نسب إليه ولا عجب أن اعترضوا عليه وافترضوا (6) فإنه رحمه الله فاضح القدرية وعامة المبتدعة، وكاشف عوراتهم، ولا خير في من لا يعرف حاسده" (7).

وقال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني في كتابه في أصول (8) الفقه الذي شرح فيه رسالة الشافعي وسماه: "مسألة في أن الأمر أمر لصيغته أو لقرينة تقترن به: اختلف الناس في الأمر هل له صيغة تدل على كونه أمرًا

(1) في س، ط: عنه.

(2)

ما بين المعقوفتين ساقط من: تبيين كذب المفتري.

(3)

في تبيين كذب المفتري: ونفي قدرة الخلق.

(4)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والكلام متصل بما قبله في: تبيين كذب المفتري.

(5)

في تبيين كذب المفتري: "من كتبه وتأملت نصوحه في هذه المسائل فوجدتها".

(6)

في تبيين كذب المفتري: واخترصوا.

(7)

علق الشيخ رحمه الله على هذا بقوله: ". . ولكن المقصود هنا: أنه جعل من القبيل الذي خالف فيه الشافعي وأعرض عنه فيه أصحابه: مسألة صيغ الألفاظ وهذه هي مسألة الكلام، وقوله فيها هو قول ابن كلاب: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفس الله تعالى، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلًا، وإن القرآن العربي لم يتكلم الله به، بل وليس هو كلام الله، وإنما خلقه في بعض الأجسام".

درء تعارض العقل والنقل- 2/ 110.

(8)

في س: كتاب أصول. . وتقدم التعريف بأبي حامد، والنقل التالي عنه في "درء تعارض العقل والنقل" 2/ 106 - 108.

ص: 877

[أم](1) ليس له ذلك؟ على ثلاثة مذاهب:

فذهب أئمة الفقهاء إلى أن ذلك (2) الأمر له صيغة تدل بمجردها على كونه أمرًا إذا تعرت (3) عن القرائن، وذلك مثل قول القائل: افعل كذا وكذا (4)، وإذا وجد ذلك عاريًا عن القرائن كان أمرًا، ولا يحتاج في كونه أمرًا إلى قرينة، هذا مذهب [مالك و](5) الشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي، وجماعة أهل العلم، وهو قول البلخي (6) من المعتزلة.

وذهبت المعتزلة بأسرها -غير البلخي- إلى أن الأمر لا صيغة له، ولا يدل اللفظ بمجرده على كونه أمرًا، وإنما يكون أمرًا بقرينة تقترن به وهي الإرادة". إلى أن قال (7):

"وذهب الأشعري ومن تابعه إلى أن الأمر هو معنى قائم بنفس الآمر، ولا يفارق الذات ولا يزايلها، وكذلك عنده سائر أقسام الكلام من النهي والخبر والاستخبار وغير ذلك، كل هذه معان (8) قائمة بالذات لا يزايلها (9)، كالقدرة والعلم وغير ذلك، وسواء هذا في (10) أمر الله وأمر الآدميين، إلّا أن أمر الله تعالى مختص بكونه قديمًا، وأمر الآدمي

(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: الدرء. السياق يقتضيها. وفي ط: أو.

(2)

ذلك: ساقط من: الدرء.

(3)

في س: إذ انفردت. وفي ط: إذا انفردت. وفي الدرء: إذا عريت.

(4)

في الأصل: كذا أو كذا. والمثبت من: س، ط، والدرء.

(5)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والدرء. وقد ورد فيه: مذهب الشافعي رحمه الله ومالك.

(6)

أبو القاسم البلخي الكعبي. تقدمت ترجمته ص: 345.

(7)

يمكن الاطلاع على بقية كلام أبي حامد الإسفرائيني في "درء تعارض العقل والنقل" 2/ 107.

(8)

في الدرء: المعاني.

(9)

في الدرء: تزايلها.

(10)

في الدرء: وسواء في هذا.

ص: 878

محدث، وهذه الألفاظ والأصوات ليست عندهم أمرًا ولا نهيًا، وإنما هي عبارة عنه".

قال: وكان ابن كلاب عبد الله بن سعيد القطان يقول: هي حكاية عن الأمر، وخالفه أبو الحسن الأشعري رحمه الله في ذلك، فقال: لا يجوز أن يقال: إنها حكاية، لأن الحكاية تحتاج أن تكون (1) مثل المحكي ولكن هو عبارة عن الأمر القائم بالنفس، وتقرر مذهبهم على هذا، فإذا كان [هذا](2) حقيقة مذهبهم، فليس يتصور بيننا وبينهم خلاف في أن الأمر هل له صيغة أم لا؟ فإنه إذا كان الأمر عندهم هو المعنى القائم بالنفس، فذلك المعنى لا يقال: إن له صيغة، أو ليست له صيغة، وإنما يقال ذلك في الألفاظ" إلى آخر كلامه (3).

[و](4) قال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي (5) الشافعي في كتابه الذي سماه (الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزامًا لذوي البدع والفضول): (وذكر اثني عشر (6) إمامًا وهم (7): الشافعي ومالك والثوري وأحمد والبخاري وابن عيينة (8) وابن المبارك والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق بن راهوية وأبو زرعة (9) وأبو حاتم.

(1) في الدرء: إلى أن تكون.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والدرء.

(3)

ويمكن الاطلاع عليه في: الدرء 2/ 108.

(4)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(5)

في س، ط: الكرخي. وهو خطأ.

وتقدم التعريف به وبكتابه "الفصول في الأصول. . . " ص:. والنقل التالي عنه في "درء تعارض العقل والنقل" 2/ 95 - 98.

(6)

في جميع النسخ: اثنا عشر. والمثبت من: الدرء. ولعله الصواب.

(7)

وهم: ساقطة من: الدرء.

(8)

في الدرء: وأحمد وابن عيينة.

(9)

في الدرء: وإسحاق بن راهوية والبخاري وأبو زرعة.

ص: 879

قال فيه: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرائيني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار: أن [القرآن](1) كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبرئيل عليه السلام مسموعًا من الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبرئيل، والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلوه [نحن](2) بألسنتنا، وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا، مسموعًا ومكتوبًا ومحفوظًا ومنقوشًا، وكل حرف منه -كالباء والتاء- كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر، عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين).

قال الشيخ أبو الحسن: (وكان الشيخ أبو حامد (3) شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام).

قال أبو الحسن: (ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون (4) أن ينسبوا إلى الأشعري، ويتبرؤون مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه، على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة -منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن علي الساجي- يقولون: سمعنا جماعة من المشايخ الثقات، قالوا: كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفرائيني إمام الأئمة، الذي طبق الأرض علمًا وأصحابًا، إذا سعى إلى الجمعة من قطيعة (5) الكرخ إلى جامع

(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: الدرء.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والدرء.

(3)

في الدرء: أبو حامد الإسفرائيني.

(4)

في س: ويستنكفوا.

(5)

في س: قطيفة. . وهو خطأ.

والقطيعة: الهجران، وهي محال أقطعها المنصور أناسًا من أعيان دولته =

ص: 880

المنصور، يدخل الرباط المعروف بالروزي (1) المحاذي للجامع، ويقبل على من حضر، ويقول: اشهدوا عليّ بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما قاله أحمد بن حنبل (2)، لا كما يقوله الباقلاني، وتكرر ذلك منه في جمعات، فقيل له في ذلك، فقال: حتى ينتشر (3) في الناس وفي أهل الصلاح، ويشيع الخبر في البلاد (4) أني بريء ممّا هم عليه -يعني الأشعرية- وبريء من مذهب أبي بكر الباقلاني (5)، فإن جماعة من المتفقهة الغرباء، يدخلون على الباقلاني خفية، فيقرؤون (6) عليه فيفتنون (7) بمذهبه، فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة، فيظن ظان أنهم مني تعلموه وأنا قلته (8)، وأنا بريء من مذهب الباقلاني وعقيدته).

قال الشيخ أبو الحسن (9): (وسمعت شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني يقول: سمعت شيخنا الإمام أبا بكر الزاذقاني يقول: كنت في درس الشيخ أبي حامد الإسفرائيني، وكان ينهى أصحابه عن

= ليعمروها ويسكنونها. وهذه بالكرخ ببغداد.

راجع: القاموس المحيط -للفيروزآبادي- 3/ 648 (قطع). ومعجم البلدان -لياقوت الحموي- 4/ 376. ولم ترد "قطيعة الكرخ" بعينها. وانظر: ما كتبته عن "الكرخ" ص: 379.

(1)

في الدرء: الزوزي.

(2)

في الدرء: كما قاله الإمام ابن حنبل.

(3)

في س: ينشر.

(4)

في الدرء: أهل البلاد.

(5)

في الدرء: أبي بكر بن الباقلاني.

(6)

في الدرء: ويقرؤون.

(7)

في س: فيفتتنون.

(8)

في الدرء: تعلموه قبله وأنا ما قلته.

(9)

في الدرء: أبو الحسن الكرجي.

ص: 881

الكلام، وعن الدخول على الباقلاني، فبلغه أن نفرًا من أصحابه يدخلون عليه خفية لقراءة الكلام، فظن أني معهم ومنهم، وذكر قصة قال في آخرها: إن الشيخ أبا حامد قال لي: يا بني بلغني أنك تدخل على هذا الرجل -يعني الباقلاني- فإياك وإياه، فإنه مبتدع يدعو الناس إلى الضلالة، وإلا فلا تحضر مجلسي، فقلت: أنا عائذ بالله مما قيل، وتائب إليه، واشهدوا علي أني لا أدخل عليه (1)).

قال (2): وسمعت الفقيه [الإمام](3) أبا منصور سعد بن علي العجلي يقول: سمعت عدة من المشايخ والأئمة ببغداد -أظن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أحدهم- قالوا: كان أبو بكر الباقلاني يخرج إلى الحمام متبرقعًا، خوفًا من الشيخ أبي حامد (4) الإسفرائيني).

قال (5): وأخبرني جماعة من الثقات كتابة، منهم القاضي أبو منصور اليعقوبي عن الإمام عبد الله بن محمد بن علي، هو شيخ الإسلام الأنصاري قال: سمعت أبا عبد الرحمن محمد (6) بن الحسين -وهو السلمي- يقول: وجدت أبا حامد الإسفرائيني، وأبا الطيب الصعلوكي، وأبا بكر القفال المروزي وأبا منصور الحاكم على الإنكار على الكلام وأهله".

(1) في الدرء: إليه.

(2)

في الدرء: قال الشيخ أبو الحسن.

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والدرء.

(4)

في الأصل: أبا حامد. والمثبت من: س، ط، والدرء.

(5)

هذا النقل في الدرء 2/ 83.

وانظره في "ذم الكلام" لأبي إسماعيل الهروي -مخطوط- الجزء السابع -الطبقة التاسعة- اللوحة 3.

(6)

في جميع النسخ: سمعت عبد الرحمن بن محمد. والمثبت من: الدرء. وهو الصواب، وتقدم ذكره في ص:783.

ص: 882

قال (1): "وسمعت (2) أحمد بن أبي رافع وخلقًا يذكرون شدة أبي حامد الإسفرائيني (3) على الباقلاني (4) ".

قال الشيخ أبو الحسن الكرجي (5): (ومعروف شدة الشيخ أبي حامد على أهل الكلام، حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول الأشعري، وعلقه عنه (6) الإمام (7) أبو بكر (8) الزاذقاني، وهو عندي، وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابيه اللمع والتبصرة، حتى لو وافق قول الأشعري وجهًا لأصحابنا ميزه، وقال: هو قول بعض أصحابنا، وبه قالت الأشعرية، ولم يعدهم من أصحاب الشافعي، استنكفوا منهم ومن (9) مذهبهم في أصول الفقه، فضلًا عن أصول الدين).

قلت: أبو محمد الجويني، وشيخه أبو بكر القفال المروزي (10)،

(1) القائل: أبو إسماعيل الأنصاري في "ذم الكلام" -مخطوط- الجزء السابع -الطبقة التاسعة- اللوحة 3.

وانظره في: الدرء 2/ 101.

(2)

في الدرء، ط: سمعت. بدون واو.

(3)

في الدرء: يعني الإسفرائيني.

(4)

في الدرء: على ابن الباقلاني.

(5)

الكرجي: ساقطة من: الدرء، والنقل فيه 2/ 98.

(6)

في الأصل: عند. والمثبت من: س، ط، والدرء. وهو المناسب للسياق.

(7)

الإمام: ساقطة من: الدرء.

(8)

في الأصل: أبي بكر. وفي س: أبا بكر. والمثبت من: ط، والدرء. وهو الصواب.

(9)

من: ساقطة من: س.

(10)

في س، المروذي. وهو تصحيف.

هو: أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي الخراساني، يعرف بالقفال الصغير، شيخ الخراسانيين، كان ثقة صادقًا حافظًا عارفًا، له في فقه الشافعي ما ليس لغيره من أهل عصره، توفي سنة 417 هـ. =

ص: 883

وشيخه أبو زيد المروزي (1)، هم أهل الطريقة المروزية الخراسانية (2)، وأئمتها من أصحاب الشافعي، والشيخ أبو حامد الإسفرائيني وأتباعه، كالقاضي أبي الطيب (3) وصاحبه أبي إسحاق الشيرازي (4) وغيره، هم

= انظر: البداية والنهاية -لابن كثير- 12/ 24. وطبقات الشافعية -لابن قاضي شهبة- 1/ 175، 176. وشذرات الذهب -لابن العماد- 3/ 207، 208.

(1)

هو: محمد بن أحمد بن عبد الله الفاشاني المروزي، كان حافظًا للمذهب الشافعي حسن النظر، مشهورًا بالزهد والورع، وعنه أخذ أبو بكر القفال، وفقهاء مرو، توفي سنة 371 هـ.

انظر: تبيين كذب المفتري -لابن عساكر- ص: 188 - 190. وطبقات الفقهاء -للشيرازي- ص: 123. وطبقات الشافعية -لابن قاضي شهبة - 1/ 124، 125.

(2)

يقول السبكي، في "طبقات الشافعية" 5/ 54:"وقد صار معتمد المذهب على طريقة العراق، وحامل لوائها أبو حامد الإسفرائيني، وطريقة خراسان والقائم بأعبائها القفال المروزي، هما -رحمهما الله- شيخا الطريقتين، إليهما المرجع، وعليهما المعول".

وانظر: سلسلة من تفقه على هاتين الطريقتين من أصحاب الإمام الشافعي في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي- 1/ 18 - 20.

(3)

هو: طاهر بن عبد الله بن عمر الطبري، الإمام الجليل، وأحد حملة المذهب الشافعي، وعنه أخذ العراقيون العلم، كان ثقة صادقًا ورعًا عارفًا بأصول الفقه وفروعه، محققًا في علمه، ولي القضاء بربع الكرخ بعد موت أبي عبد الله الصيمري. وتوفي سنة 450 هـ.

انظر: تاريخ بغداد -للبغدادي- 9/ 358 - 360. ووفيات الأعيان -لابن خلكان- 2/ 512 - 515. وطبقات الشافعية -للسبكي- 5/ 12 - 90.

(4)

هو: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي، الفقيه الزاهد، والناسك العابد، سكن بغداد، وسمع الحديث بها، وتفقه على جماعة منهم القاضي أبو الطيب الطبري. توفي سنة 476 هـ.

انظر: تبيين كذب المفتري -لابن عساكر- 8/ 276 - 278. وتهذيب الأسماء واللغات -للنووي- 2/ 172 - 174. وطبقات الشافعية -للسبكي- 4/ 215 - 256.

ص: 884

أئمة الطريقة العراقية (1) من أصحاب الشافعي.

وقد ذكر أبو القاسم بن عساكر (2) في ترجمة أبي محمد الجويني ما ذكره عبد الغافر الفارسي (3) في تاريخ نيسابور في ترجمة الشيخ أبي محمد الجويني في مناقبه وقال: "سمعت خالي الإمام أبا سعيد (4) -يعني عبد الواحد بن عبد الكريم القشيري- يقول: كان أئمتنا في عصره، والمحققون من أصحابنا يعتقدون فيه من الكمال والفضل والخصال الحميدة، أنه لو جاز أن يبعث الله نبيًّا في عصره لما كان إلا هو، من حسن طريقته وورعه وزهده وديانته في كمال فضله).

وذكر عبد الغافر (5) أنه كان أوحد زمانه، قال:(وله في الفقه تصانيف كثيرة الفوائد، مثل التبصرة، والتذكرة، ومختصر المختصر (6)،

(1) راجع الصفحة السابقة. ت: (2).

(2)

تبيين كذب المفتري -لابن عساكر- ص: 258.

(3)

هو: أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي ثم النيسابوري كان إمامًا في الحديث، واللغة، والأدب، فقيهًا شافعيًّا، تفقه على إمام الحرمين ولزمه مدة، له تصانيف منها:"تاريخ نيسابور". توفي سنة 529 هـ.

انظر: تذكرة الحفاظ -للذهبي- 4/ 1275، 1276. وطبقات الشافعية -للسبكي- 7/ 171 - 173. وشذرات الذهب -لابن العماد- 4/ 93.

(4)

في الأصل، س: أبا سعد. والمثبت من: ط، ومصادر الترجمة التالية.

وهو: أبو سعيد عبد الواحد بن عبد الكريم بن هوازن النيسابوري القشيري.

يقول السبكي: "وسعيد في كنيته بالياء، أما أبو سعد بإسكان العين فذاك أخوه عبد الله، وكلاهما ولد الأستاذ أبي القاسم. كان صالحًا عالمًا كثير الفضل، توفي سنة 494 هـ.

انظر: العبر -للذهبي- 3/ 369. وطبقات الشافعية -للسبكي- 5/ 225 - 228. وشذرات الذهب -لابن العماد- 3/ 401.

(5)

فيما نقله ابن عساكر في ترجمة أبي محمد الجويني -المصدر السابق- ص: 257.

(6)

هو مختصر مختصر المزني. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . =

ص: 885

وله التفسير الكبير المشتمل على عشرة أنواع في كل آية).

وأما الشيخ أبو حامد فهو الشافعي الثالث، فإنه ليس بعد الشافعي مثل أبي العباس بن سريج (1)، ولا بعد أبي العباس مثل الشيخ أبي حامد، حتى ذكر أبو إسحاق في طبقات الفقهاء (2)، عن أبي الحسين القدوري، أنه كان يقول في الشيخ أبي حامد: إنه أنظر من الشافعي.

وهذا الكلام -وإن كان قد ردت زيادته، لكن لولا براعة أبي حامد ما قال فيه مثل الشيخ أبي الحسين هذا القول.

قال الشيخ أبو الحسن الكرجي (3): "ولا شك أنه كان أعرف الأصحاب بمناصيص الشافعي، وأعظمهم بركة في مذهبه، وهو أول من كثر شرح المزني (4) وشحنه بالمختلف والمؤتلف، ونصر فيه مذاهب الأئمة (5)، وجعله مساغًا لاجتهاد الفقهاء".

وقد ذكر أبو القاسم بن عساكر (6) فيما ذكره من أصحاب الأشعري

= انظر: طبقات الشافعية -لابن قاضي شهبة- 1/ 213.

(1)

في الأصل، س: سريح. وهو تصحيف. وتقدم التعريف به ص: 197.

(2)

طبقات الفقهاء -لأبي إسحاق الشيرازي- ص: 132. وجاء فيه عن أبي الحسين القدوري أنه قال: الشيخ أبو حامد عندي أفقه وأنظر من الشافعي.

وقد علق الشيرازي على ذلك بقوله: "هذا القول من أبي الحسين حمله عليه اعتقاده في الشيخ أبي حامد وتعصبه للحنفية على الشافعي -رحمه الله تعالى- ولا يلتفت إليه فإن أبا حامد ومن هو أقدم منه وأعلم على بعد من تلك الطبقة. . ".

(3)

في س: الكرخي. وهو تصحيف. وتقدم التعريف به ص: 785.

(4)

علق على شرح المزني في نحو من خمسين مجلدًا، ذكر فيها مذاهب العلماء وبسط أدلتها والجواب عليها.

راجع كشف الظنون -لحاجي خليفة- 5/ 71. ومعجم المؤلفين -لكحالة- 2/ 65.

(5)

في س، ط: العلماء.

(6)

تبيين كذب المفتري- ص: 277.

ص: 886

جماعة كثيرة ليسوا منهم، بل منهم من هو مشهور بالمناقضة والمعارضة لهم، وذكر منهم (1) الشيخ أبا إسحاق الشيرازي. قال:(وكان يظن به من لا يفهم (2) أنه مخالف للأشعري، لقوله في كتابه (3) في أصول الفقه: وقالت الأشعرية: إن الأمر لا صيغة له، وليس ذلك لأنه لا يعتقد اعتقاده، وإنما قال ذلك لأنه خالفه في هذه المسألة مما انفرد بها (4) أبو الحسن.

قال (5): وقد ذكرنا في كتابنا هذا (6) عنه (7) فتواه فيمن خالف الأشعرية واعتقد بتبديعهم (8)، وذلك أوفى (9) دليل على أنه منهم).

وقد ذكر هذه الفتوى (10) ونسختها: "ما قول السادة الجلة (11)، الأئمة الفقهاء، أحسن الله توفيقهم، ورضي عنهم، في قوم اجتمعوا على لعن فرقة الأشعرية (12) وتكفيرهم، ما الذي يجب عليهم في هذا

(1) في الأصل: لهم. والمثبت من: س، ط. وهو المناسب للكلام.

(2)

في تبيين كذب المفتري: "يظن به بعض من لا يفهم".

(3)

لعله كتاب "اللمع" في أصول الفقه.

انظر: تبيين كذب المفتري- ص: 277.

(4)

في تبيين كذب المفتري: "المسألة بعينها، كما خالفه غيره من الفقهاء فيها، فأراد أن يبين فيها أن هذه المسألة مما انفرد بها. . . ".

(5)

القائل: أبو القاسم ابن عساكر.

(6)

وهو كتاب تبيين كذب المفتري، ونص فتوى الشيرازي وغيره من الفقهاء فيمن خالف الأشعري، ستأتي بعد سطرين تقريبًا.

(7)

في ط: عند.

(8)

في س: بدعتهم.

(9)

قبل كلمة (أوفى) بياض في الأصل، س، بقدر كلمة لا يخل بالمعنى.

والكلام متصل في: ط، وتبيين كذب المفتري.

(10)

ابن عساكر في تبيين كذب المفتري- ص: 332.

(11)

في ط: الحلبة. وهو تصحيف.

(12)

في تبيين كذب المفتري: الأشعري.

ص: 887

القول؟ تفتونا (1) في ذلك منعمين مثابين (2).

الجواب -وبالله التوفيق-: أن كل من أقدم على لعن فرقة من المسلمين وتكفيرهم، فقد ابتدع وارتكب ما لا يجوز الإقدام عليه، وعلى الناظر في الأمور -أعز الله أنصاره- الإنكار عليه، وتأديبه بما يرتدع هو وأمثاله عن ارتكاب مثله. وكتب محمد بن علي الدامغاني (3)، وبعده الجواب وبالله التوفيق: أن الأشعرية أعيان أهل (4) السنة، وأنصار (5) الشريعة، انتصبوا للرد على المبتدعة -من القدرية والرافضة وغيرهم- فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنة، وإذا رفع أمر من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين، وجب عليه تأديبه بما يرتدع به كل أحد، وكتب إبراهيم بن علي الفيروزآبادي (6) وبعده (7) جوابي مثله، وكتب محمد بن أحمد الشاشي (8).

(1) في تبيين كذب المفتري: يفتونا.

(2)

في تبيين كذب المفتري: مثابين إن شاء الله.

(3)

هو: أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد الدامغاني الحنفي، شيخ زمانه، كان يلقب بقاضي القضاة، سكن بغداد ودرس بها فقه أبي حنيفة، وولي القضاء بها بعد موت ابن ماكولا، وبقي فيه نحو ثلاثين سنة. توفي سنة 478 هـ.

انظر: تاريخ بغداد -للخطيب- 3/ 109. والوافي بالوفيات -للصفدي- 4/ 139. والجواهر المضيئة -لأبي الوفاء القرشي- 3/ 269 - 271.

(4)

أهل: ساقطة من: تبيين كذب المفتري.

(5)

في تبيين كذب المفتري: ونصار.

(6)

أبو إسحاق الشيرازي. وتقدم التعريف به.

(7)

في ط: بعده. بدون واو.

(8)

هو: أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي، الفقيه الشافعي، يعرف بالمستظهري، الملقب بفخر الإسلام، ولي التدريس بالمدرسة النظامية.

توفي سنة 507 هـ.

يقول السبكي: كان إمامًا جليلًا حافظًا لمعاقد المذهب وشوارده.

انظر: المنتظم -لابن الجوزي- 9/ 179. ووفيات الأعيان -لابن خلكان =

ص: 888

قال: فهذه أجوبة هؤلاء الأئمة، الذين كانوا في عصرهم علماء الأمة، فأما قاضي القضاء الحنفي (1) الدامغاني، فكان يقال له في عصره: أبو حنيفة الثاني، وأما الشيخ الإمام [أبو إسحاق، فقد طبق ذكر فضله الآفاق، وأما الشيخ](2) أبو بكر (3) الشاشي، فلا يخفى محله على منته في العلم، ولا ناشئ).

قلت: هذه الفتيا كتبت هي وجوابها في فتنة ابن القشيري (4) لما قدم بغداد، فإن ملك خراسان محمود بن سبكتكين كان قد أمر (5) في مملكته بلعن أهل البدع على المنابر، فلعنوا وذكر فيهم الأشعرية (6)،

= - 4/ 219 - 221. وطبقات الشافعية -للسبكي- 6/ 70 - 78.

(1)

في تبيين كذب المفتري: أبو عبد الله الحنيفي. وتقدم التعريف به.

(2)

ما بين المعقوفتين ساقط من: ط.

(3)

في ط، وتبيين كذب المفتري. الإمام أبو بكر.

(4)

يقول ابن عساكر: "ومن جملة أحواله ما خص به من المحنة في الدين والاعتقاد، وظهور التعصب بين الفريقين في عشر سنة أربعين إلى خمس وخمسين وأربعمائة وميل بعض الولاة إلى الأهواء، وسعي بعض الرؤساء والقضاة إليه بالتخليط، حتى أدى ذلك إلى رفع المجالس، وتفرق شمل الأصحاب، وكان هو المقصود من بينهم حسدًا، حتى اضطرته الحال مفارقة الأوطان، وامتد في أثناء ذلك إلى بغداد، وورد على أمير المؤمنين القائم بأمر الله، ولقي فيها قبولًا، وعقد له المجلس في منازلة الخاصة به، وكان ذلك بمحضر ومرأى منه، ووقع كلامه من مجلسه الموقع، وخرج الأمر بإعزازه وإكرامه".

تبيين كذب المفتري- ص: 274، 275.

وانظر: طبقات الشافعية -للسبكي- 5/ 157.

(5)

في الأصل: قدام. وهو تحريف.

(6)

في الأصل: الأشعري. والمثبت من: س، ط. ولعله المناسب.

في سنة 408 هـ استتاب الخليفة القادر بالله فقهاء المعتزلة، فأظهروا الرجوع، وتبرؤوا من الاعتزال، والرفض، والمقالات المخالفة لإسلام، وأخذت خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوا أحل فيهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم، وامتثل يمين الدولة محمود بن سبكتكين أمر الخليفة =

ص: 889

وكذلك جرى في أول مملكة (1) السلجقية (2) الترك، وكان الذين سعوا في

= واستن، بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها، في مقتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم ونفاهم، وأمر بلعنهم على منابر المسلمين، وإبعاد جميع طوائف أهل البدع ونفيهم عن ديارهم.

وكان للكرامية صولات وجولات في عهد يمين الدولة، وكان على مذهبهم، وجرت بينهم وبين الأشاعرة مناظرات في بعض المسائل، كمسألة العرش، فقد ذكر ابن كثير رحمه الله أن من جملة من كان يجالس السلطان محمود بن سبكتكين محمد بن الهيصم، وقد جرى بينه وبين أبي بكر بن فورك مناظرات بين يدي السلطان في هذه المسألة، وانتهت بميل السلطان إلى قول ابن الهيصم ونقم على ابن فورك كلامه، وأمر بطرده وإخراجه لموافقته لرأي الجهمية.

انظر: المنتظم -لابن الجوزي- 7/ 287. والبداية والنهاية -لابن كثير- 12/ 7، 33. وطبقات الشافعية -للسبكي- 4/ 130 - 133. وشذرات الذهب -لابن العماد- 3/ 186.

وانظر ما ذكره أبو إسماعيل الهروي في كتابه "ذم الكلام" -مخطوط- الجزء السابع- الطبقة التاسعة- اللوحة: 8، من أن محمود بن سبكتكين حث على كشف أستار الأشعرية والإفصاح بعيبهم ولعنهم، وأنه قال:"أنا ألعن من لا يلعنهم".

(1)

في الأصل، س: مملكته. والمثبت من: ط.

(2)

وهم: أتباع محمد بن ميكائيل بن سلجوق أبو طالب الملقب ركن الدين طغرل بك أول ملوك الدولة السلجوقية -وهم أتراك- توفي سنة 455 هـ.

انظر: الكامل -لابن الأثير- 9/ 473 وما بعدها. وطبقات الشافعية -للسبكي- 3/ 389. والأعلام -للزركلي- 7/ 342.

وقد أمر السلطان طغرل بك في سنة 445 هـ يلعن المبتدعة على المنابر في الجمع، فقرن وزيره منصور الكندري اسم الأشعرية بأسماء أرباب البدع، وامتحن الأئمة، مما جعل القشيري والجويني يخرجان عن البلد، وألف في ذلك رسالة سماها "شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة" إلى أن مات السلطان ووزيره، وتولى بعده ألب أرسلان، والوزير الحسن بن علي بن إسحاق، فصلح الحال، واستقر الأمر، واسترجع من خرج منهم إلى وطنه مكرمًا.

ص: 890

إدخالهم في اللعنة فيهم من سكان تلك البلاد، من الحنفية الكرامية وغيرهم، ومن أهل الحديث طوائف، وجواب الدامغاني جواب مطلق فيه رضي هؤلاء وهؤلاء، فإنه أجاب (1) بأنه من أقدم على لعنة فرقة من المسلمين وتكفيرهم، فقد ابتدع وفعل ما لا يجوز [وهذا مما لا ينازع فيه أحد، أنه من كان من المسلمين لا يجوز](2) تكفيره، إذ المكفر لشخص أو طائفة لا يقول: إنهم من المسلمين ويكفرهم، بل يقول: ليسوا بمسلمين.

قال (3) أبو المعالي الجويني (4): "ذهب أئمتنا (5) إلى أن اليدين والعينين والوجه صفات ثابتة للرب تعالى، والسبيل إلى إثباتها السمع، دون قضية العقل.

قال (6): والذي يصح عندنا، حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود".

= وعن هذه المحنة وأحداثها يراجع:

تبيين كذب المفتري -لابن عساكر- ص: 108 - 114. طبقات الشافعية -للسبكي- 5/ 389 - 394. الرسالة المسماة "شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة" للقشيري، ذكرها السبكي في -طبقات الشافعية- 5/ 399 - 423. والبداية والنهاية -لابن كثير- 12/ 70.

(1)

في س: وأجاب فإنه أجاب.

(2)

ما بين المعقوفتين ساقط من: س.

(3)

قبل كلمة "قال" بياض في الأصل مع بداية السطر. وفي س: بياض في منتصف السطر. وكلاهما بقدر كلمة ورمز له بنجمة في: ط. وفي نهاية السطر. والذي يظهر أنه نهاية تعليق الشيخ رحمه الله على فتوى الدامغاني وبداية النقل عن أبي المعالي.

(4)

في الإرشاد - ص: 155.

(5)

في الإرشاد: بعض أئمتنا.

(6)

الجويني، والكلام متصل بما قبله في: الإرشاد.

ص: 891

قلت: فاتضح أن أئمة الكلابية والأشعرية يثبتون هذه الصفات، فإنه خالف أئمته ووافق المعتزلة.

قال شارح كلامه أبو القاسم بن الأنصاري (1): "اعلم أن مذهب شيخنا أبي الحسن أن اليدين صفتان ثابتتان زائدتان على وجود الإله -سبحانه- ونحوه. قال عبد الله بن سعيد.

قال: ومال القاضي أبو بكر في الهداية (2) إلى هذا المذهب".

قلت: القاضي قد صرح بذلك في جميع كتبه، كالتمهيد (3) والإبانة (4) وغيرهما.

قال (5): "في كلام أبي إسحاق (6) ما يدل على أن التثنية في اليدين

(1) تقدم الكلام عليه وعلى كتابه "شرح الإرشاد" ص: 643.

(2)

لعله: كتاب "هداية المسترشدين" في الكلام لأبي بكر. . ابن الباقلاني. انظر: كشف الظنون -لحاجي خليفة- 2/ 2042.

(3)

عقد الباقلاني لذلك بابًا في كتابه "التمهيد" ص: 258، 259 قال فيه:"باب في أن لله وجهًا ويدين" واحتج بقوله تعالى في سورة الرحمن {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} الآية: 27. وبقوله في سورة ص {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} الآية: 75. قال: "فأثبت لنفسه وجهًا ويدين". ثم ناقش المنكرين والمؤولين لهاتين الصفتين.

(4)

واسمه: "الإبانة عن إبطال مذهب أهل الكفر والديانة". ذكره سزكين ضمن آثار الباقلاني في "تاريخ التراث العربي" 1/ 4 / 51، ولم يضف أية معلومات عن الكتاب سوى أن ابن تيمية أفاد منه في العقيدة الحموية ص: 422، وابن القمِم في "اجتماع الجيوش الإسلامية" ص: 120 - 121، وابن العماد في "شذرات الذهب" 3/ 169 - 170.

وأشار بروكلمان في "تاريخ الأدب العربي" 4/ 52 إلى أن ابن تيمية ذكره في مجموعة الرسائل الكبرى 1/ 452. ولم أقف عليه.

(5)

القائل: أبو القاسم الأنصاري.

(6)

أبو إسحاق الإسفرائيني. وتقدمت ترجمته.

ص: 892

ترجع (1) إلى اللفظ لا إلى الصفة، وهو مذهب أبي العباس القلانسي.

قال الأستاذ -يعني أبا إسحاق-: "أما العينان فعبارة عن البصر، وكان في العقل ما يدل عليه، وأما اليد والوجه (2)، فقد اختلف أصحابنا في الطريق إليهما.

فقال قائلون: قد كان في العقل ما يدل على ثبوت صفتين، يقع بإحداهما الاصطفاء بالخلق، وبالأخرى الاختيار بالتقريب في التكليم والإفهام، لكن لم يكن في العقل دليل على تسميته، فورد الشرع ببيانها، فسمى الصفة التي يقع بها الاصطفاء بالخلق يدًا، والصفة التي يقع بها التقريب في التكليم وجها، وقالوا: لما صح في العقل التفصيل (3) في الخلق والفعل (4) بالمباشرة والإكرام، والتقريب بالإقبال، وجب (5) إثبات صفة له يصح بها ما قلناه، من غير مباشرة ولا محاذاة، فورد الشرع بتسمية إحداهما يدًا، والأخرى وجهًا، ومن سلك هذه (6) الطريق قال: لم يكن في العقل جواز ورود السمع بأكثر منه، وما جهر [به](7) عليه من جهة الإخبار، فطريقه الآحاد التي لا توجب العلم، ولا يجوز بمثلها إثبات صفة للقديم (8)، وإن ثبت منها شيء بطريق يوجب العلم، كان متأولًا على الفعل.

(1) في س: يرجع.

(2)

في ط: الوجه واليد.

(3)

في ط: التفضيل.

(4)

في الأصل: العقل. والمثبت من: س، ط.

(5)

في الأصل: وجبت. وفي س: ووجبت. والمثبت من: ط. وهو المناسب للسياق.

(6)

في ط: هذا.

(7)

ما بين المعقوفتين زيادة من: ط. لعل الكلام يستقيم بها. وفي الأصل، س: بياض بقدر كلمة.

(8)

في الأصل: القديم. والمثبت من: س، ط. ولعله المناسب.

ص: 893

وقال آخرون: طريق إثباتها السمع المحض، ولم يكن للعقول فيه تأثير، وإذا قيل لهم: لو جاز ورود الشرع بإثبات صفات لا يدل العقل عليها لم يؤمن أن يكون الله على صفات لم يرد الشرع بها، ولا صارت معلومة، ووجب على القائل بذلك جواز ورود السمع بصفات الإنسان أجمع لله -تعالى- إذا لم تكن واحدة منها شبيهة (1) بصفته.

كان جوابهم أن يقولوا: لما أخبر الله المؤمنين بصفاته وحكم لهم بالإيمان بكماله عند المعرفة بها، لم يجز أن يكون له صفة أخرى لا طريق إلى معرفتها، لاستحالة أن يكون المؤمن مؤمنًا مستحق المدح إذا لم يكن عارفًا بالله -يعني- وبصفاته أجمع، فلما وصفهم الله (2) بالإيمان عند معرفتهم بما ورد من الشرع، ثبت أن لا صفة أكثر مما بين الطريق إليه بالعقل (3) والشرع.

قال الأستاذ: والتعويل على الجواب الأول فإن فيه الكشف عن المعنى".

قلت: الجوابان مبنيان على وجوب العلم بجميع صفات الله، لكن [هل](4) كلها معلومة بالعقل، أو منها ما علم بالسمع؟ على القولين (5)، ومحققوا الأشعرية وغيرهم، لا يرضون أن يقولوا: إنا نقطع بأنا علمنا الله بجميع صفاته، أو بأنه لا صفة له وراء ما علمناه.

(1) في الأصل، س: شبيه. والمثبت من: ط.

(2)

لفظ الجلالة لم يرد في: س، ط.

(3)

في س: بالفعل. وهو تصحيف.

(4)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(5)

ذكرهما الشيخ في "درء تعارض العقل والنقل" باختصار 3/ 382.

ص: 894

قال أبو المعالي (1): "فمن (2) أثبت هذه الصفات السمعية، وصار إلى أنها زائدة على ما دلت عليه دلالات العقول (3)، استدل بقوله تعالى (4):{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ) (5).

قالوا: ولا وجه لحمل اليدين على القدرة إذ جملة المخترعات مخلوقة بالقدرة (6)، ففي الحمل على ذلك إبطال فائدة التخصيص.

قال (7): وهذا غير سديد، فإن العقول قضت بأن الخلق لا يقع إلّا بالقدرة، أو بكون (8) القادر قادرًا، فلا وجه لاعتقاد خلق آدم بغير القدرة".

وقال القاضي (9): الآية تدل على إثبات يدين صفتين، والقدرة واحدة، فلا يجوز حملها على القدرة (10).

(1) في الإرشاد ص: 155، 156.

وأبو المعالي أول من اشتهر عنه نفي الصفات الخبرية، وله في تأويلها قولان: ففي "الإرشاد": أولها.

ثم رجع عن ذلك في: "الرسالة النظامية"، وحرم التأويل، وبين إجماع السلف على تحريم التأويل.

انظر: العقيدة النظامية ص: 32.

(2)

في الإرشاد: ومن.

(3)

في س، ط: المعقول.

(4)

في الإرشاد: بقوله تعالى في توبيخ إبليس إذ امتنع عن السجود.

(5)

سورة ص، الآية:75.

(6)

في الإرشاد: جملة المبدعات مخترعة لله تعالى بالقدرة.

(7)

أي: الجويني في الإرشاد. والكلام متصل بما قبله.

(8)

في الأصل، س: يكون. والمثبت من: ط، والإرشاد.

(9)

أبو بكر بن الباقلاني في التمهيد ص: 259، والنقل بالمعنى.

(10)

قال القاضي في المصدر السابق ص: 259: "فلو كان المراد بهما القدرة، لوجب أن يكون له قدرتان، وأنتم لا تزعمون أن للباري -سبحانه- قدرة واحدة -فكيف يجوز أن تثبتوا له قدرتين؟ وقد أجمع المسلمون، من مثبتي الصفات =

ص: 895

قال أبو المعالي: "وقد قال بعض الأصحاب: التثنية راجعة إلى اللفظ لا إلى المعنى، وإنما هي صفة واحدة، كما حكيناه عن القلانسي وعن الأستاذ، على أنه كما يعبر باليد (1) عن الاقتدار، فكذلك يعبر باليدين عن الاقتدار، فقد تقول العرب: ما لي بهذا الأمر يدان، يعنون: ما لي بها قدرة قال عز وجل: {بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (2).

قال أبو الحسن والقاضي: (المراد باليدين في هذه الآية القدرة).

قلت: هذا النقل فيه نظر فكلامهما يقتضي خلافه، بل هو نص في خلاف ذلك (3).

= والنافين لها على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان- فبطل ما قلتم".

(1)

في س: عن اليد. وهو تصحيف.

(2)

سورة المائدة، الآية:64.

(3)

يقول أبو الحسن الأشعري في "الإبانة" ص: 55، 56، أثناء مناقشته لمخالفيه:". . -وأيضًا- فلو كان الله عز وجل عنى بقوله: {لما خلقت بيدي} القدرة، لم يكن لآدم عليه السلام على إبليس في ذلك مزية، والله عز وجل أراد أن يري فضل آدم عليه السلام إذ خلقه بيده دونه، ولو كان خالقا لإبليس بيديه كما خلق آدم عليه السلام بيديه، لم يكن لتفضيله عليه بذلك وجه، وكان إبليس يقول محتجا على ربه: فقد خلقتني بيديك كما خلقت آدم بهما، فلما أراد الله عز وجل تفضيله عليه بذلك قال له موبخًا على استكباره على آدم أن يسجد له: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت} دل على أنه ليس معنى الآية القدرة، إذا كان الله عز وجل خلق الأشياء جميعًا بقدرته، وإنما أراد إثبات يدين، ولم يشارك إبليس آدم عليه السلام في أن خلق بهما".

وتقدم النقل عن القاضي أبو بكر وأنه لا يقول: إن المراد باليدين القدرة لأنه يلزم على هذا أن يكون لله قدرتان، والمخالف لا يثبت قدرة واحدة، فكيف يثبت قدرتين؟.

فالأشعري وأئمة أصحابه كأبي الحسن الطبري، وأبي عبد الله بن مجاهد الباهلي، والقاضي أبي بكر، متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في =

ص: 896

قال (1): (وأجمع أهل التفسير على أن المراد بالأيدي (2) في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} ) (3) القدرة).

قال: (والذي يحقق ما قلناه: أن الذي ذكره شيخنا والقاضي، ليس يوصل إلى القطع بإثبات صفتين زائدتين على ما عداهما من الصفات، ونحن وإن لم ننكر في قضية العقل صفة سمعية، لا يدل مقتضى العقل عليها، وإنما يتوصل إليها سمعًا، فيشترط أن يكون السمع مقطوعًا به، وليس فيما استدل به الأصحاب قطع، والظواهر المحتملة لا توجب العلم، وأجمع المسلمون على منح تقدير صفة مجتهد فيها لله عز وجل لا يتوصل إلى القطع فيها بعقل أو سمع (4)، وليس في اليدين على ما قاله شيخنا رحمه الله نظر لا يحتمل التأويل، ولا إجماع عليه، فيجب تنزيل ذلك على ما قلناه".

قال: "والظاهر من لفظ اليدين حملهما (5) على جارحتين، فإن استحال حملهما (6) على ذلك، ومنع من حملهما على القدرة أو النعمة أو الملك (7)، فالقول بأنهما. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= القرآن كالاستواء والوجه واليد، وإبطال تأويلها وليس له في ذلك قولان.

انظر: درء تعارض العقل والنقل 2/ 17.

(1)

أبو المعالي الجويني.

(2)

في س: باليدين.

(3)

سورة يس، الآية:71.

(4)

أو سمع: ساقطة من: س، ط.

(5)

في س: حملها.

(6)

في س: حملها.

(7)

نص أبو الحسن الأشعري على منع حملها على الجارحتين أو القدرتين أو النعمتين فقال: "فلا يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين، لأنه لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول القائل: عملت بيدي، وهو يعني نعمتي، ولا يجوز عندنا ولا عند خصومنا أن نعني جارحتين ولا يجوز عند خصومنا أن نعني قدرتين، وإذا =

ص: 897

محمولتان (1) على صفتين قديمتين لله -تعالى، زائدتين على ما عداهما من الصفات تحكم محض".

قلت: ثم ذكر الجواب عن حجة أئمته بما ليس هذا موضعه، فإن المقصود ليس هو الاستقصاء في إثبات هذه الصفة ونفيها، إذ قد تكلمنا على ذلك في موضعه (2) وإنما الغرض التنبيه على [تغيير](3) قول الأشعري وأئمة أصحابه، وأبو المعالي اعتمد (4) على مقدمتين باطلتين.

إحداهما (5): أنه ليس في السمع ما يقطع (6) بثبوت هذه الصفة لا نص ولا إجماع.

والثانية (7): المنع أن يتكلم في الصفات بغير قطع عقلي أو نقلي، وادعى الإجماع على ذلك، وهذا باطل، كما يقوله من يقول: إذا لم يقم القاطع بالثبوت وجب القطع بالانتفاء، وهذا مطابق لما ذكره الإسفرائيني، من أن الله معروف بجميع صفاته في الدنيا، إما بالعقل على قول قوم من أصحابه، وإما بالعقل والسمع.

= أفسدت الأقسام الثلاثة، صح القسم الرابع، وهو أن معنى قوله (بيدي) إثبات يدين ليستا جارحتين ولا قادرتين ولا نعمتين ولا يوصفان إلا بأن يقال: إنهما يدان ليستا كالأيدي خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة التي سبقت". الإبانة -للأشعري- ص: 56.

ومذهب السلف رحمهم الله إثبات يدين حقيقتين تليقان به سبحانه وتعالى على ما جاءت به النصوص، والوقوف عند ما لم يرد به نص، كإثبات كونهما جارحتين أو نفيه.

(1)

في الأصل، س: محمولة. والمثبت من: ط. ولعله المناسب.

(2)

انظر مثلًا: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/ 362 - 373.

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(4)

اعتمد: ساقطة من: س.

(5)

في س: أحدهما. وهو خطأ.

(6)

في الأصل: يقع. وهو خطأ. والمثبت من: س، ط.

(7)

في س: الثاني. وهو خطأ.

ص: 898

وهذا الذي قالوه خلاف إجماع سلف الأمة، وخلاف قول المحققين من أصحابهم، فضلًا عن أن يكون في ذلك إجماع، فإن القطع بالنفي بلا علم يوجب النفي، كالقطع بالإثبات بلا علم، والواجب أن تعطى الأدلة حقها، فما كان قطعيًّا قطع به، وما كان ظاهرًا محتملًا قيل: إنه ظاهر محتمل، وما كان مجملًا قيل: إنه مجمل، ولم يقل أحد من الأئمة، فضلًا عن أن يكون إجماعًا: إن ما [لم](1) تعلموه من صفات الرب فانفوه، بل قالوا: أمسكوا عن التكلم في ذلك بغير ما ورد، وفرق بين السكوت عما لم يرد (2) وبين النفي، فكيف إذا كان النفي لما يكون ظاهرًا في الوارد؟

وأبو المعالي يتكلم بمبلغ علمه في هذا الباب وغيره، وكان بارعًا في فن الكلام الذي يشترك فيه أصحابه والمعتزلة -وإن (3) كانت المعتزلة هم الأصل فيه- كثير المطالعة (4) لكتب أبي هاشم بن الجبائي (5)، فأما الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وقول أئمتها، فكان قليل المعرفة

(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(2)

في الأصل: يرد به. والمثبت من: س، ط.

(3)

في الأصل، س: فإن. والمثبت من: ط. وهو ما يستقيم به الكلام.

(4)

في ط: لكثرة مطالعته. وهو تصحيف.

(5)

هو: أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي، المتكلم المشهور وأحد كبار المعتزلة، ومصنف الكتب على مذهبهم، وإليه تنسب الطائفة "البهشمية" منهم. توفي سنة 321 هـ. شارك هو وأتباعه المعتزلة في أكثر ضلالاتهم، وانفردوا عنهم بفضائح لم يسبقوا إليها، ذكرها عبد القاهر البغدادي في كتابه "الفرق بين الفرق" ص: 184 - 198.

وراجع للترجمة: طبقات المعتزلة -للقاضي عبد الجبار- ص: 290 - 294. ووفيات الأعيان -لابن خلكان- 3/ 183، 184. ولسان الميزان -لابن حجر- 4/ 16.

ص: 899

به (1) جدًّا، وكلامه في غير موضع يدل على ذلك، ولهذا تجده في عامة مصنفاته في أصوله (2) وفروعه، إذا اعتمد على قاطع فإنما هو ما يدعيه من قياس عقلي، أو إجماع سمعي، وفي كثير من ذلك ما فيه، فأما الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها، فهو قليل الاعتماد عليه (3)، والخبرة به (4)، واعتبره بما ذكره في الرد على الآجري (5) ونحوه، من العلماء الذين صنفوا في أبواب السنة والرد على أهل الأهواء، وردوا (6) عليهم بالسنة والآثار، وذكروا في ذلك أحاديث الصفات، فإنه قال (7):

(اعلم أن أهل الحق نابذوا المعتزلة وخالفوهم واتبعوا السمع والشرع، وأثبتوا الرؤية والنظر، وأثبتوا الصراط والميزان، وعذاب القبر ومسألة منكر ونكير، والمعراج والحوض، واشتد نكيرهم على من ينسب إلى إنكار مأثور الأخبار، والمستفيض من الآثار (8)، في هذه القواعد والعقائد، واتفقوا على أن الحسن والقبيح (9) في أحكام التكليف والإيجاب والخطر لا يدرك عقلًا، والمرجع في جميعها إلى موارد الشرع

(1) في ط: بها.

(2)

في الأصل: أصول. والمثبت من: س، ط.

(3)

في ط: عليها.

(4)

في ط: بها.

(5)

في هامش س: كلام أبي المعالي الجويني في الرد على أبي بكر الآجري.

(6)

في ط: وقد ردوا.

(7)

القائل: أبو المعالي الجويني، ولم أقف عليه في الشامل، والإرشاد، والعقيدة النظامية، ولمع الأدلة، وكلها له.

وقد أورده القرطبي في "الأسنى في أسماء الله الحسنى وصفاته العلى" -مخطوط- اللوحة: 253، 254. وسوف أقابل على ما في "الأسنى".

(8)

في الأسنى: في الآثار.

(9)

في الأسنى: القبح والحسن.

ص: 900

وقضايا السمع، ولكنهم لما بلغتهم أخبار (1) متشابهة، وألفاظ مشكلة، لم يستبعدوا أن يكون في الأخبار البين الظاهر (2)[و](3) المجمل والمشكل (4)، فإن الله أخبر أن كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد (5)، منه آيات محكمات، وأخر متشابهات، أعرضوا (6) عن ذكرها، ولم يشتغلوا بها (7)، والدليل عليه أن أئمة السنة، وأخيار (8) الأمة، بعد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم- لم (9) يودع أحد منهم كتابه الأخبار المتشابهات (10)، فلم يورد مالك رضي الله عنه في الموطأ منها شيئًا مما أورده الآجري وأمثاله، وكذلك الشافعي، وأبو حنيفة، وسفيان، والليث، والثوري، ولم يعتنوا (11) بنقل المشكلات، ونبعْت ناشئة ضروا بنقل المشكلات، وتدوين المتشابهات، وتبويب أبواب، ورسم تراجم، على ترتيب فطرة المخلوقات ورسموا بابًا في ضحك الباري [وبابًا في نزوله وانتقاله وعروجه ودخوله وخروجه](12) وبابًا في إثبات الأضراس، وبابًا في خلق الله آدم على صورة الرحمن، وبابا في إثبات

(1) في الأسنى: ألفاظ.

(2)

في ط: والظاهر.

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة من: ط، والأسنى.

(4)

في الأسنى: المجمل المشكل.

(5)

تنزيل من حكيم حميد: ساقطة من: الأسنى.

(6)

في الأسنى: وأعرضوا.

(7)

ولم يشتغلوا بها: ساقط من: الأسنى.

(8)

في الأسنى: وأحبار.

(9)

في الأصل، س: ولم. والمثبت من: ط، والأسنى. ولعله المناسب.

(10)

في الأسنى: المتشابهة.

(11)

في س، ط: يفتوا.

(12)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والأسنى.

ص: 901

القدم والشعر القطط (1)، وبابًا في إثبات الأصوات والنغمات -تعالى الله عن قول الزائغين).

قال (2): (وليس يتعمد جمع هذه الأبواب، وتمهيد هذه الأنساب (3) إلّا مشبه على التحقيق، أو متلاعب زنديق).

قال -المعظم لأبي المعالي، الناقل لكلامه- أبو عبد الله القرطبي (4) -وهو من أكابر علماء الأشعرية- في قول أبي المعالي:(هذا بعض التحامل (5)، وقد أثبتنا في هذا الكتاب (6) -يعني (7) شرح الأسماء الحسنى، فإنه ذكر الصفات في آخره- (8) من هذه الأخبار ما صح سنده، وثبت نقله ومورده، وأضربنا عن كثير منها استغناء عنها، لعدم صحتها، فليوقف على ما ذكرنا منها، لنقل الأئمة الثقات لها وحديث النزول (9) ثابت في الأمهات، خرجه الثقات الأثبات).

قلت: هذا (10) الكلام فيه ما يجب رده لأمور (11) عظيمة:

أحدها: ما ذكره عمن سماهم أهل الحق، فإنه دائمًا يقول: قال

(1) أي: الجعد القصير.

انظر: لسان العرب -لابن منظور- 7/ 380 (قطط).

(2)

أبو المعالي الجويني، والكلام متصل بما قبله في: الأسنى.

(3)

في الأصل: الأسباب. والمثبت من: س، ط، والأسنى. ولعله المناسب.

(4)

في الأسنى في أسماء الله الحسنى وصفاته العلى -مخطوط- اللوحة: 254.

(5)

هذا بعض التحامل: ساقط من: الأسنى.

(6)

في الأسنى: الباب.

(7)

في ط: معنى. وهو تصحيف.

(8)

قوله: "يعني شرح الأسماء الحسنى، فإنه ذكر الصفات في آخره" بيان من الشيخ -رحمه الله تعالى- لاسم الكتاب.

(9)

في الأسنى: حديث التنزيل.

(10)

الإشارة ترجع إلى كلام أبي المعالي المتقدم.

(11)

في جميع النسخ: أمور. ولعل ما أثبته يناسب السياق.

ص: 902

أهل الحق، وإنما يعني أصحابه، وهذه دعوى يمكن كل أحد أن يقول لأصحابه مثلها، فإن أهل الحق الذين لا ريب فيهم هم المؤمنون، الذين لا يجتمعون على ضلالة، فأما أن يفرد (1) الإنسان طائفة منتسبة إلى متبوع من الأمة، ويسميها (2) أهل الحق، ويشعر بأن كل من خالفها في شيء فهو من أهل الباطل، فهذا حال أهل الأهواء والبدع، كالخوارج والمعتزلة والرافضة، وليس هذا من فعل أهل السنة والجماعة، فإنهم لا يصفون طائفة بأنها صاحبة الحق مطلقًا (3) إلا المؤمنين (4)، الذين لا يجتمعون على ضلالة، قال الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} (5) وهذا نهاية الحق، والكلام الذي لا ريب فيه أنه حق، قول الله، وقول رسوله الذي هو حق وآت بالحق. قال تعالى:{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} (6)، وقال تعالى:{قَوْلُهُ الْحَقُّ} (7).

وقول النبي (8) صلى الله عليه وسلم: "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلّا الحق"(9). يعني شفتيه.

(1) في الأصل: يفرط. وهو تصحيف لا معنى له. والمثبت من: س، ط.

(2)

في الأصل: يسمعها. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.

(3)

في س: مطلقة. وهو تصحيف.

(4)

في الأصل، س: المؤمنون. والمثبت من: ط. ولعله الصواب.

(5)

سورة محمد، الآية:3.

(6)

سورة الأحزاب، الآية:4.

(7)

سورة الأنعام، الآية:73.

(8)

في س: وقال النبي. وفي ط: وقال رسول الله.

(9)

الحديث مع اختلاف يسير في الألفاظ رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال:"اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلّا الحق".

سنن أبي داود 4/ 60، 61 - كتاب العلم- باب في كتاب العلم =

ص: 903