الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصفات فهذا الضلال في معرفة رأيهم، كذلك الضلال في معرفة روايتهم وقولهم في شيئين: في الكلام الذي كان ينتحله، وفي النصوص الواردة عن الرسول، فقد حرفوا مذهب الأئمة في هذه الأصول الثلاثة، كما حرفوا نصوص الكتاب والسنة.
الحادي عشر: إن الذي أوجب لهم جمع هذه الأحاديث وتبويبها، ما أحدثت الجهمية من التكذيب بموجبها، وتعطيل صفات الرب المستلزمة لتعطيل ذاته، وتكذيب رسوله والسابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان وما صنفوه (1) في ذلك من الكتب وبوبوه أبوابًا مبتدعة، يردون بها ما أنزله الله على رسوله، ويخالفون بها صرائح المعقول وصحائح المنقول، وقد أوجب الله تعالى تبليغ ما بعث به رسله، وأمر ببيان العلم، وذلك يكون بالمخاطبة تارة، وبالمكاتبة أخرى، فإذا كان المبتدعون قد وضعوا الإلحاد في كتب، فإن لم يكتب العلم الذي بعث الله به رسوله في كتب لم يظهر إلحاد ذلك، ولم يحصل تمام البيان والتبليغ، ولم يعلم كثير من الناس ما بعث الله به رسوله من العلم والإيمان المخالف لأقوال الملحدين المحرفين، وكان جمع ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به عن ربه أهم من جمع غيره.
الثاني عشر: إن أبا المعالي وأمثاله يضعون كتب الكلام التي تلقوا أصوله عن المعتزلة والمتفلسفة
، ويبوبون أبوابًا ما أنزل الله بها من
= بإثبات المعاني لنصوص الصفات إجمالًا أحيانًا وتفصيلًا أحيانًا، وتفويضهم الكيفية إلى علم الله تعالى.
فظواهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار المعنى، ومجهولة لنا باعتبار الكيفية التي هي عليها.
انظر: القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى -للشيخ ابن عثيمين - ص: 34، 35.
(1)
في س: صفوه. وهو تصحيف.
سلطان، ويتكلمون فيها (1) بما يخالف الشرع والعقل، فكيف ينكرون على من يصنف ويؤلف ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، والأصول التي يقررها هي أصول جهم بن صفوان في الصفات والقدر والإرجاء، وقد ظهر ذلك في أتباعه، كالمدعي المغربي في مرشدته (2) وغيره، فإن هؤلاء في القدر يقولون بقول جهم يميلون إلى الجبر، وفي الإرجاء بقول جهم -أيضًا- لأن الإيمان هو المعرفة (3)، وأما في الصفات فهم يخالفون جهمًا والمعتزلة، فهم يثبتون الصفات في الجملة، لكن جهم والمعتزلة حقيقة قولهم نفي الذات والصفات وإن لم يقصدوا ذلك ولم يعتقدوه، وهؤلاء حقيقة قولهم إثبات صفات بلا ذات، وإن لم يعتقدوا ذلك ويقصدوه، ولهذا هم متناقضون، لكن هم
(1) في الأصل: فيه. والمثبت من: س، ط، ولعله المناسب للسياق.
(2)
هو: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي البربري، لقب نفسه بالمهدي، وسمى أتباعه الموحدين، صاحب دعوة السلطان عبد المؤمن بن علي ملك المغرب، وواضع أسس دولة الموحدين التي قامت على أنقاض دولة المرابطين، توفي سنة 524 هـ.
انظر: وفيات الأعيان -لابن خلكان- 5/ 45 - 55. والوافي بالوفيات -للصفدي- 3/ 323 - 328. والأعلام -للزركلي- 7/ 104، 105.
و"المرشدة" رسالة صغيرة طبعت عدة مرات ضمن بعض الكتب، أوردها السبكي في "طبقات الشافعية" 8/ 185، 186.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في "شرح الأصبهانية" ص: 20: "ولما كان أبو عبد الله محمد بن التومرت على مذهب المعتزلة في نفي الصفات لقب أصحابه بالموحدين، وقد صرح في كتابه الكبير بنفي الصفات، ولهذا لم يذكر في "مرشدته" شيئًا من الصفات الثبوتية، لا علم الله، ولا قدرته، ولا كلامه، ولا شيئًا من صفاته الثبوتية، وإنما ذكر السلوب".
(3)
الإيمان عند جهم وأتباعه هو المعرفة بالله بالقلب فقط، فمن أتى بالمعرفة، ثم جحد بلسانه فإنه لا يكفر -بزعمهم- وهو قول ظاهر الفساد. وتقدم الكلام عليه.
خير من المعتزلة، ولهذا إذا حقق قولهم لأهل الفطر السليمة -بقول (1) أحدهم- فيكون الله شبحًا وشبحه خيال الجسم، مثل ما يكون من ظله على الأرض وذلك هو عرض، فيعلمون أن من وصف الرب بهذه (2) السلوب، مثل قولهم: لا داخل العالم ولا خارجه ونحوه، فلا يكون الله على قوله شيئًا قائمًا بنفسه موجودًا، بل يكون كالخيال الذي يشبحه الذهن، من غير أن يكون ذلك الخيال قائمًا بنفسه.
ولا ريب أن هذه حقيقة قول (3) هؤلاء الذين يزعمون أنهم ينزهون الرب بنفي الجسم وما يتبع ذلك، ثم إنهم مع هذا النفي إذا نفوا الجسم وملازيمه، وقالوا: لا داخل العالم ولا خارجه، فيعلم أهل العقول أنهم لم يثبتوا شيئًا قائمًا بنفسه موجودًا، بل يقال: هذا الذي أثبتوه (4) شبح (5) أي: خيال ومثال، كالخيال الذي هو ظل الأشخاص، وكالخيال الذي في المرآة والماء، ثم من المعلوم أن هذا الخيال والمثال والشبح [يستلزم حقيقة موجودة قائمة بالنفس، فإن خيال الشخص](6) يستلزم وجوده، وكذلك قول هؤلاء، فإنهم يقرون بوجود مدبر خالق للعالم موصوف بأنه عليم قدير، ويصفونه (7) من السلب بما يوجب أن يكون خيالًا، فيكون قولهم مستلزمًا لوجوده ولعدمه معًا، فإذا تكلموا بالسلف لم يبق إلّا الخيال، ويصفون ذلك الخيال بالثبوت، فيكون الخيال يستلزم ثبوت الموجود القائم بنفسه.
(1) في جميع النسخ: يقول. ولعل الصواب ما أثبته.
(2)
في الأصل: هذه. والمثبت من: س، ط، ولعله المناسب للكلام.
(3)
في الأصل: قولهم. والمثبت من: س، ط. ولعله المناسب للسياق.
(4)
في س، ط: أثبتموه.
(5)
في الأصل، س: شبحًا. والمثبت من: ط. لأنه الموافق للسياق.
(6)
ما بين المعقوفتين ساقط من: س.
(7)
في الأصل: يصفون. والمثبت من: س، ط. ولعله المناسب.
الثالث عشر: أن معرفة أبي المعالي وذويه بحال هؤلاء الأئمة، الذين اتفقت الأمة على إمامتهم، لا يكون أعظم من معرفتهم بالصحابة والتابعين، بل بنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأيت أبا المعالي في ضمن كلامه، يذكر ما ظاهره (1) الاعتذار عن الصحابة، وباطنه جهل بحالهم، مستلزم إذا طرد الزندقة والنفاق، فإنه أخذ يعتذر عن كون الصحابة لم يمهدوا أصول الدين، ولم يقرروا قواعده فقال:"لأنهم كانوا مشغولين بالجهاد والقتال عن ذلك"(2)، هذا مما في كلامه، وهذا إنما قالوه لأن هذه الأصول والقواعد التي يزعمون أنها أصول الدين، قد علموا أن الصحابة لم يقولوها، وهم يظنون أنها أصول صحيحة، وأن الدين لا يتم إلا بها وللصحابة رضي الله عنهم -أيضًا- من العظمة في القلوب ما لم يمكنهم دفعه، حتى يصيروا بمنزلة الرافضة القادحين في الصحابة، ولكن أخذوا من الرفض شعبة، كما أخذوا من التجهم بشعبة (3)، وذلك (4) دون ما أخذته المعتزلة من الرفض والتجهم، حين غلب على الرافضة التجهم، وانتقلت عن التجسيم إلى التعطيل والتجهم، إذ كان هؤلاء نسجوا على منوال المعتزلة، لكن كانوا أصلح منهم وأقرب إلى السنة وأهل الإثبات في أصول الكلام، ولهذا كان المغاربة الذين اتبعوا محمد بن التومرت المتبع لأبي المعالي، أمثل وأقرب إلى الإسلام من
(1) في الأصل: ظهره. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.
(2)
بين الشيخ رحمه الله في "درء تعارض العقل والنقل" 2/ 14، 15، أن كلام الجويني وأتباعه هذا يوافقون به الرافضة ونحوهم من أهل البدع، ويخالفون به الكتاب والسنة والإجماع، وأن كلامهم فيه من التناقض والفساد ما ضارعوا به أهل الإلحاد، فهم من جنس الرافضة: لا عقل صريح ولا نقل صحيح، بل منتهاهم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئًا من الكتاب والسنة، حتى في المسائل العلمية والقضايا الفقهية.
(3)
في س، ط: شعبة.
(4)
في الأصل: وكذلك. والمثبت من: س، ط، ولعله المناسب.
المغاربة (1) الذين اتبعوا القرامطة، وغلوا (2) في الرفض والتجهم حتى انسلخوا من الإسلام، فظنوا أن هذه الأصول التي وضعوها هي أصول الدين، التي (3) لا يتم الدين إلا بها (4)، وجعلوا الصحابة حين تركوا أصول الدين كانوا مشغولين عنه بالجهاد، وهم في ذلك بمنزلة كثير من جندهم ومقاتلتهم الذين قد وضعوا قواعد وسياسة للملك والقتال، فيها الحق والباطل، ولم نجد تلك السيرة تشبه سيرة الصحابة، ولم يمكنهم القدح فيهم، فأخذوا يقولون: كانوا مشغولين (5) بالعلم والعبادة عن هذه السيرة وأبهة الملك الذي وضعناه. وكل هذا قول من هو جاهل بسيرة الصحابة وعلمهم ودينهم وقتالهم، وإن كان لا يعرف حقيقة أحوالهم، فلينظر إلى آثارهم، فإن الأثر يدل على المؤثر، هل انتشر عن أحد من المنتسبين إلى القبلة، أو عن أحد من الأمم المتقدمين والمتأخرين من العلم والدين ما انتشر وظهر عنهم؟ أم هل فتحت أمة البلاد وقهرت العباد، كما فعلته الصحابة رضوان الله عليهم؟ ولكن كانت علومهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم حقًّا باطنًا وظاهرًا، وكانوا أحق الناس بموافقة قولهم لقول الله، وفعلهم لأمر الله، فمن حاد عن سبيلهم لم ير ما فعلوه، فيزين له سوء عمله حتى يراه حسنًا، ويظن أنه حصل له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة ما قصروا عنه، وهذه حال أهل البدع.
ولهذا قال الإمام أحمد في رسالته -التي رواها عبدوس بن مالك العطار (6):. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) في هامش س: كابن عربي وابن سبعين وغيرهما.
(2)
في الأصل: وغلطوا. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.
(3)
في س، ط: الذي.
(4)
في الأصل، س: به. والمثبت من: ط، ولعله المناسب.
(5)
في س، ط: مشتغلين.
(6)
هو: أبو محمد عبدوس بن مالك العطار، أحد أصحاب الإمام أحمد -رحمه =
"أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"(1)، والأدلة الدالة على تفضيل القرن الأول ثم الثاني أكثر من أن تذكر، ومعلوم أن أم الفضائل
= الله- وممن كانت له منزلة عند أبي عبد الله، روى عن الإمام أحمد مسائل لم يروها غيره، روى عنه عبد الله بن الإمام أحمد، وغيره.
انظر ترجمته في: تاريخ بغداد -للخطيب- 11/ 115. وطبقات الحنابلة -لابن أبي يعلى- 1/ 241. والمنهج الأحمد -للعليمي- 1/ 435، 436.
وهذه الرسالة -كما يقول سزكين في تاريخ التراث العربي- 1/ 3 / 228 - الفقه- تتضمن آراء الإمام أحمد، وهي مخطوطة بالظاهرية بدمشق، ويوجد قسم منها في طبقات الحنابلة -لابن أبي يعلى 1/ 241 - 246. وهذا النقل عن الإمام أحمد في "طبقات الحنابلة" 1/ 241.
(1)
الحديث مع اختلاف يسير في اللفظ، أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم" وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم. . ".
صحيح مسلم 4/ 1963، 1965 كتاب فضائل الصحابة -باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم- الحديثين / 213، 215. وأخرجه أبو داود في سننه 5/ 44 كتاب السنة- باب فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث / 4657. والترمذي في سننه 4/ 500، 501 كتاب الفتن- باب ما جاء في القرن الثالث الحديث / 2222. والإمام أحمد في مسنده 4/ 440، 5/ 357.
والحديث يروى بألفاظ مختلفة عن عدد من الصحابة. انظر إضافة إلى ما تقدم: صحيح البخاري 3/ 151. كتاب الشهادات. باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد. و 4/ 189 كتاب أصحاب النبي عليه السلام باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. و 7/ 173 كتاب الرقاق. باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها.
سنن ابن ماجة 2/ 791 كتاب الأحكام- باب كراهية الشهادة لمن لم يستشهد - الحديث / 2362. السنة لابن أبي عاصم 2/ 627 - 629.
العلم والدين والجهاد، فمن ادعى أنه حقق من العلم بأصول الدين، أو من الجهاد ما لم يحققوه، كان من أجهل الناس وأضلهم، وهو بمنزلة من يدعي من أهل الزهد والعبادة والنسك، أنهم حققوا من العبادات والمعارف والمقامات والأحوال ما لم يحققه الصحابة، وقد يبلغ الغلو بهذه الطوائف إلى أن يفضلوا نفوسهم وطرقهم على الأنبياء وطرقهم، وتجدهم (1) عند التحقيق من أجهل الناس وأضلهم وأفسقهم وأعجزهم.
الرابع عشر (2): أن يقال له: هؤلاء الذين سميتهم أهل الحق، وجعلتهم قاموا من تحقيق أصول الدين بما لم يقم به الصحابة، هم متناقضون في الشرعيات والعقليات.
أما الشرعيات فإنهم تارة يتأولون نصوص الكتاب والسنة، وتارة يبطلون التأويل، فإذا ناظروا الفلاسفة والمعتزلة الذين يتأولون نصوص الصفات مطلقًا، ردوا عليهم وأثبتوا لله الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ونحو ذلك من الصفات، وإذا ناظروا من يثبت صفات أخرى دل عليها الكتاب والسنة، كالمحبة والرضا والغضب والمقت والفرح والضحك ونحو ذلك تأولوها، وليس لهم فرق مضبوط بين ما يتأول وما لا يتأول، بل منهم من يحيل على العقل، ومنهم من يحيل إلى (3) الكشف، فأكثر متكلميهم (4) يقولون: ما علم بثبوته بالعقل لا يتأول، وما لا (5) يعلم ثبوته بالعقل يتأول، ومنهم من يقول: ما علم ثبوته
(1) في الأصل: وتجددهم. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.
(2)
في س، ط: الوجه الرابع عشر. وفي الأصل: بياض لعله كتب بالحمرة فلم يتضح. والصواب كما أثبته، إذ السياق في الترقيم يقتضي ذلك.
(3)
في س، ط: على.
(4)
في الأصل: متكلمين. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.
(5)
في س، ط: ما لم.
بالكشف والنور الإلهي لا يتأول، وما لم يعلم ثبوته بذلك يتأول (1)، وكلا الطريقين (2) ضلال وخطأ من وجوه:
أحدها:
أن يقال: عدم الدليل ليس دليل العدم، فإن عدم العلم بالشيء بعقل أو كشف لا يقتضي (3) أن يكون معدومًا، فمن أين لكم ما دلت عليه النصوص أو الظواهر، ولم تعلموا انتفاءه، أنه منتف في نفس الأمر؟
الوجه (4) الثاني:
أن هذا في الحقيقة عزل للرسول، واستغناء عنه، وجعله بمنزلة شيخ من شيوخ المتكلمين أو الصوفية، فإن المتكلم مع المتكلم، والمتصوف مع المتصوف، يوافقه فيما علمه بنظره أو كشفه، دون ما لم يعلمه بنظره أو كشفه بل ما ذكروه فيه تنقيص للرسول عن درجة المتكلم والمتصوف، فإن المتكلم والمتصوف إذا قال نظيره شيئًا، ولم يعلم ثبوته ولا انتفاؤه لا نثبته ولا ننفيه، وهؤلاء ينفون معاني النصوص
(1) ذكر أبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" 1/ 104: أنه لا يستدل بالسمع على شيء من العلم الخبري، وإنما يعرف الإنسان الحق بنور إلهي يقذف في قلبه، ثم يعرض الوارد في السمع عليه، فما كان موافقًا له قرر، وما خالفه أول، فقال:"وحد الاقتصاد بين هذا الانحلال كله، وبين جمود الحنابلة دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي، لا بالسماع، ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه، نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه وما خالف أولوه".
والشيخ رحمه الله بين أن هذا الكلام بعيد عن الصواب وضلال معتقده ظاهر من وجوه خمسة.
(2)
في س: الطريقتين.
(3)
في الأصل: لا بعقل يقتضي. والكلام يستقيم بدون الزيادة كما في: س، ط.
(4)
الوجه: ساقطة من: س.
ويتأولونها، وإن لم يعلموا انتفاء مقتضاها، ومعلوم أن من جعل الرسول بمنزلة واحد من هؤلاء، كان في قوله من الإلحاد والزندقة ما الله به عليم، فكيف بمن جعله في الحقيقة دون هؤلاء؟ وإن كانوا هم لا يعلمون أن هذا لازم قولهم، فنحن ذكرنا أنه لازم لهم لنبين فساد الأصول التي لهم، وإلّا فنحن نعلم أن من كان منهم ومن غيرهم مؤمنًا بالله ورسوله، لا ينزل الرسول هذه المنزلة.
الوجه الثالث:
أن يقال: ما نفيتموه من الصفات وتأولتموه، يقال في ثبوته من العقل والكشف نظير ما قلتموه فيما أثبتوه وزيادة، وقد بسطت هذا في غير هذا الموضع، وبينت أن الأدلة الدالة سمعًا وعقلًا على ثبوت رحمته ومحبته ورضاه وغضبه، ليست بأضعف من الأدلة الدالة على إرادته، بل لعلها أقوى منها، فمن تأول نصوص المحبة والرضا والرحمة وأقر نصوص الإرادة كان متناقضًا.
الوجه الرابع:
إن ما ذكرتموه هو نظير قول المتفلسفة والمعتزلة، فإنهم يقولون: تأولناه لدلالة أدلة المعقول (1) على نفي مقتضاه، وكل ما يجيبونهم به يجيبكم أهل الإثبات من أهل الحديث والسنة به.
الوجه الخامس:
إن أهل الإثبات لهم من العقل الصريح والكشف الصحيح ما يوافق ما جاءت به النصوص، فهم مع موافقة الكتاب والسنة وإجماع سلف
(1) في س، ط: العقول.
الأمة، يعارضون بعقلهم عقل النفاة، وبكشفهم كشف النفاة (1)، لكن عقلهم وكشفهم هو الصحيح، ولهذا تجدهم ثابتين فيه وهم في مزيد علم وهدى، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (2) وأولئك تجدهم في مزيد حيرة وضلال، وآخر (3) أمرهم ينتهي إلى الحيرة، ويعظمون الحيرة فإن اَخر معقولهم الذي جعلوه ميزانًا يزنون به الكتاب والسنة يوجب الحيرة، حتى يجعلوا الرب موجودًا معدومًا ثابتًا منتفيًا (4) فيصفونه بصفة الإثبات وبصفة العدم، والتحقيق عندهم جانب النفي بأنهم يصفونه بصفات المعدوم والموات، وآخر كشفهم وذوقهم وشهودهم الحيرة، وهؤلاء لا بد لهم من إثبات، فيجعلونه حالًا (5) في المخلوقات، أو يجعلون وجوده وجود المخلوقات، فآخر نظر الجهمية وعقلهم أنهم لا يعبدون شيئًا، وآخر كشفهم وذوقهم أنهم يعبدون كل
(1) وبكشفهم كشف النفاة: ساقطة من: س.
(2)
سورة محمد، الآية:17.
(3)
في الأصل: وأخرهم. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.
(4)
في س: منتفا.
(5)
الحلول الخاص: هو قول النسطورية من الضارى ونحوهم ممن يقول: إن اللاهوت حل في الناسوت وتدرع به، وقول غالية الرافضة الذين يقولون: إنه حل بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته، وغالية النساك الذين يقولون بالحلول في الأولياء ومن يعتقدون فيه الولاية، أو في بعضهم: كالحلاج ونحوه.
والحلول العام: هو قول طائفة من الجهمية الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان، ويتمسكون بمتشابه من القرآن كقوله تعالى:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} 3 / الأنعام. وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} 4 / الحديد.
وهذا القول رده السلف وكفروا الجهمية به، بل جعلهم كثير من السلف وطائفة من أهل العلم والحديث من أصحاب أحمد وغيره- خارجين به عن الثنتين والسبعين فرقة.
انظر: مجموع الفتاوى: 2/ 140، 171، 172، 298، 465.