المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تناقضهم في العقليات - التسعينية - جـ ٣

[ابن تيمية]

الفصل: ‌ تناقضهم في العقليات

شيء، وأصل الشر ممن (1) جعل مثل هذا العقل ومثل هذا الكشف ميزانًا يزن به الكتاب والسنة.

وأما أهل العقل الصريح، والكشف الصحيح، منهم أئمة العلم والدين من مشايخ الفقه والعبادة الذين لهم في الأمة لسان صدق، وكل من له في الأمة لسان صدق عام من أئمة العلم والدين المنسوبين إلى الفقه والتصوف فإنهم على الإثبات لا على النفي، وكلامهم في ذلك كثير قد ذكرناه في غير هذا الموضع (2).

وأما‌

‌ تناقضهم في العقليات

فلا يحصى، مثل قولهم: إن الباري لا يقوم به الأعراض، ولكن تقوم به الصفات، والصفات والأعراض في المخلوق سواء عندهم، فالحياة والعلم والقدرة والإرادة والحركة والسكون في المخلوق هو عندهم صفة، وهو عندهم عرض، ثم قالوا: في الحياة ونحوها هي في حق الخالق صفات وليست بأعراض، إذ العرض هو ما لا يبقى زمانين، والصفة القديمة باقية.

ومعلوم أن قولهم العرض ما [لا](3) يبقى زمانين: هو فوق

(1) في ط: وأصل البشر من. وهو تصحيف.

(2)

انظر مثلًا 2/ 299، 3/ 219 - 227، 5/ 38 - 107، 136 - 143.

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة أرى أن الكلام يستقيم بها.

والأشعري ومتبعوه يذهبون إلى أن العرض لا يبقى زمانين، فالأعراض في جملتها على التقضي والتجدد، وتخصيص كل بوقته للقادر المختار، ووافقهم النظام والكعبي.

انظر: مقالات الإسلاميين -للأشعري- 2/ 46 - 48. والمواقف -للآيجي- ص: 101.

وقولهم هذا قول محدث في الإسلام، لم يقله أحد من السلف والأئمة، وهو قول مخالف لما عليه جماهير العقلاء من جميع الطوائف، بل من الناس من يقول: إنه معلوم الفساد بالاضطرار.

انظر: مجموعة الرسائل والمسائل -لابن تيمية- كتاب مذهب السلف القويم =

ص: 948

بِدعَوِي وتحكم، فإن الصفات في المخلوق لا تبقى -أيضًا- زمانين عندهم فتسمية الشيء صفة أو عرضًا لا يوجب الفرق، لكنهم ادعوا أن صفة المخلوق لا تبقى زمانين، وصفة الخالق تبقى، فيمكنهم أن يقولوا: بالمخلوق لا يبقى والقائم بالخالق باق، هذا إن صح قولهم (1): إن الصفات التي هي الأعراض لا تبقى (2)، وأكثر (3) العقلاء يخالفونهم في ذلك.

وكذلك قولهم (4): إن الله يرى كما ترى الشمس والقمر من غير مواجهة ولا معاينة، وإن كل موجود يرى حتى الطعم واللون.

وإن المعنى الواحد القائم بذات المتكلم يكون أمرًا بكل ما أمر به، ونهيًا عن كل ما نهى عنه، وخبرًا بكل ما أخبر به، وذلك المعنى إن عبر عنه بالعربية فهو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرية (5) فهو التوراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو الإنجيل، وإن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواع له، وأن هذا المعنى يسمع بالأذن على قول بعضهم إن (6) عنده متعلق بكل موجود، وعلى قول بعضهم: إنه لا يسمع بالأذن لكن بلطيفة جعلت في قلبه، فجعلوا السمع من جنس الإلهام، ولم يفرقوا بين الإيماء إلى غير موسى وبين تكليم موسى.

ومثل قولهم: إن القديم لا يجوز عليه الحركة والسكون ونحو

= في تحقيق مسألة كلام الله الكريم- 3/ 365، 366.

(1)

في ط: فقولهم.

(2)

في الأصل، س: لا يبقى. والمثبت من: ط. ولعله المناسب.

(3)

في ط: فأكثر.

(4)

انظر قولهم هذا في: الإرشاد -للجويني- ص: 174، 181. ونهاية الإقدام -للشهرستاني- ص: 356 - 369. وأصول الدين -لعبد القاهر البغدادي- ص: 97 - 102.

(5)

في ط: العبرانية.

(6)

أن: ساقطة من: س.

ص: 949

ذلك، لأن هذه لا تقوم إلا بمتحيز، وقالوا: إن القدرة والحياة ونحوهما يقوم بقديم غير متحيز، وجمهور العقلاء يقولون: إن هذا فرق بين المتماثلين.

وكذلك زعمهم أن قيام الأعراض التي هي الصفات بالمحل الذي تقوم به يدل على حدوثها، ثم قالوا: إن الصفات قائمة بالرب ولا تدل على حدثه (1).

وكذلك في احتجاجهم على المعتزلة في مسألة القرآن، فإن عمدتهم فيها: أنه لو كان مخلوقًا لم يخل إما أن يخلقه في نفسه أو في غيره، أو لا في نفسه ولا في غيره وهذا باطل، لأنه يستلزم قيام الصفة بنفسها، والأول باطل لأنه ليس بمحل الحوادث، والثاني باطل لأنه لو خلقه في محل لعاد حكمه على ذلك المحل، فكان يكون هو المتكلم به، فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل، ولم يعد على غيره كالعلم والقدرة والحياة.

وهذا من أحسن ما يذكرونه من الكلام، لكنهم نقضوه حيث منعوا أن يقوم (2) به (3) الأفعال مع اتصافه بها، فيوصف بأنه خالق وعادل ولم يقم به خلق ولا عدل، ثم كان من قولهم الذي أنكره الناس إخراج الحروف عن مسمى الكلام، وجعل دلالة لفظ الكلام عليها مجازًا، فأحب أبو (4) المعالي ومن اتبعه كالرازي أن يخلصوا من هذه الشناعة، فقالوا: اسم الكلام يقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس وعلى الحروف الدالة عليه. وهذا الذي قالوه أفسدوا به أصل دليلهم على المعتزلة، فإنه إذا صح أن ما قام بغير الله يكون كلامًا له حقيقة بطلت

(1) في س، ط: حدوثه.

(2)

في ط: تقوم.

(3)

به: ساقطة من: س.

(4)

في س: أبا. وهو خطأ.

ص: 950

حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الكلام إذا قام بمحل عاد حكمه عليه، وجاز حينئذ أن يقال: إن الكلام مخلوق خلقه في غيره وهو كلامه حقيقة، ولزمهم من الشناعة ما لزم المعتزلة، حيث ألزمهم السلف والأئمة أن تكون الشجرة هي القائلة لموسى:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا أَنَا} (1) مع أن أدلتهم في مسألة امتناع حلول الحوادث، لما تبين للرازي ونحوه ضعفها لم يمكنه أن يعتمد في مسألة الكلام على هذا الأصل، بل احتج بحجة سمعية هي من أضعف الحجج حيث أثبت الكلام النفساني بالطريقة المشهورة، ثم قال (2):"وإذا ثبت ذلك ثبت أنه واحد وأنه قديم، لأن كل من قال ذلك قال هذا ولم يفرق أحد" هكذا قرره في نهاية العقول.

ومعلوم أن [هذا](3) الدليل لا يصلح لإثبات مسألة فرعية عند محققي الفقهاء، وقد بينا تناقضهم في هذه المسألة بقريب من مائة وجه عقلي في هذا الكتاب (4)، وكان بعض الفضلاء قد قال للفقيه أبي محمد بن عبد السلام (5) في مسألة القرآن: كيف يعقل شيء واحد هو أمر

(1) سورة طه، الآية:14.

(2)

نهاية العقول في دراية الأصول -لأبي عبد الله الرازي - مخطوط - اللوحة رقم.

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س.

(4)

هو: الكتاب الذي بين أيدينا.

(5)

هو: أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسين بن محمد السلمي الدمشقي الشافعي، أحد الأئمة الأعلام، برع في المذهب وجمع علومًا كثيرة، من القائلين بقول الأشعري. توفي سنة 660 هـ. وقد ذكر السبكي في طبقاته 8/ 219 - 229 عقيدته في مسألة الكلام.

وراجع: فوات الوفيات -لابن شاكر - 2/ 350 - 352. والبداية والنهاية -لابن كثير- 13/ 223، 224.

ص: 951

ونهي (1) وخبر واستخبار؟ فقال له أبو محمد: ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري.

و-أيضًا- فهم في مسألة القدر (2) يسوون بين الإرادة والمحبة والرضا ونحو ذلك ويتأولون قوله: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (3) بمعنى (4) لا يريده لهم، وعندهم أنه رضيه وأحبه لمن وقع منه، وكل ما وقع في الوجود من كفر وفسوق وعصيان فالله يرضاه ويحبه، وكل ما لم يقع من طاعة وبر وإيمان فإن الله لا يحبه ويرضاه، ثم إنهم إذا تكلموا مع سائر العلماء في أصول الفقه، بينوا أن المستحب هو ما يحبه الله ورسوله، وهو ما أمر به أمر استحباب سواء قدره أو لم يقدره، وهذا باب يطول وصفه.

الوجه الخامس عشر (5): أن يقال: إن (6) هذه القواعد التي جعلتموها أصول دينكم، وظننتم أنكم بها صرتم مؤمنين بالله وبرسوله وباليوم الآخر، وزعمتم أنكم تقدمتم بها على سلف الأمة وأئمتها، وبها

(1) في الأصل: عين. ولا معنى لها. والمثبت من: س، ط.

(2)

الأشاعرة يقولون: إن الله مريد للطاعة والمعصية وسائر الحوادث، فعندهم هو مريد لكل ما يفعله العباد، فيجب أن يكون محبًا راضيًا لكل ما يفعلونه حتى الكفر والفسوق، ويستدلون لذلك بأدلة واهية لا تثبت أمام التمحيص. وسوف يبين الشيخ رحمه الله فساد هذا القول في ص: 975، 976.

وللاطلاع على هذا الرأي الباطل، يراجع: اللمع -لأبي الحسن الأشعري- ص: 47 - 59. والتمهيد -لأبي بكر الباقلاني- ص: 280 - 285. والإرشاد -لأبي المعالي الجويني- ص: 237 - 239.

(3)

سورة الزمر، الآية:7.

(4)

في الأصل، س: بعد الآية الكريمة: أي: لعباده بمعنى. . وفي ط: أي: بمعنى. والكلام يستقيم بدون الزيادة.

(5)

عشر: ساقطة من: س.

(6)

إن: ساقطة من: س، ط.

ص: 952

دفعتم أهل الإلحاد (1) من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم، هي عند التحقيق تهدم أصول دينكم، وتسلط (2) عليكم عدوكم، وتوجب تكذيب نبيكم، والطعن في خير قرون هذه الأمة، وهذا -أيضًا- فيما فعلتموه في الشرعيات والعقليات.

أما الشرعيات، فإنكم لما تأولتم ما تأولتم من نصوص الصفات الإلهية، تأولت المعتزلة ما أقررتموه أنتم (3)، واحتجوا بمثل حجتكم، ثم زادت الفلاسفة وتأولوا ما جاء من (4) النصوص الإلهية في الإيمان باليوم الآخر، وقالت الفلاسفة (5) مثل ما قلتم لإخوانكم المؤمنين ، ولم يكن لكم حجة على المتفلسفة، فإنكم إن احتججتم بالنصوص تأولوها، ولهذا كان غايتكم في مناظرة هؤلاء أن تقولوا: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول أخبر بمعاد الأبدان، وأخبر بالفرائض الظاهرة، كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان ونحو ذلك لجميع البرية، والأمور الضرورية لا يمكن القدح فيها.

فإن قال لكم المتفلسفة: هذا غير معلوم بالضرورة، كان جوابكم أن تقولوا: هذا مكابرة أم هذا جهل منكم؟ أو تقولوا: إن العلوم الضرورية لا يمكن دفعها عن النفس، ونحن نجد العلم بهذا أمرًا ضروريًّا في أنفسنا، وهذا كلام صحيح منكم، لكن [في](6) هذا يقول لكم المثبتة أهل العلم بالقرآن وتفسيره المنقول عن السلف والأئمة وبالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين نحن نعلم بالاضطرار

(1) في س، ط:

(2)

في ط: تسط. وهو تصحيف.

(3)

أنتم: ساقطة من: س، وفي ط: قررتموه أنتم.

(4)

في س: جاءت النصوص. وفي ط: جاءت به النصوص.

(5)

في س، ط: المتفلسفة.

(6)

ما بين المعقوفتين زيادة من: ط. يقتضيها السياق.

ص: 953

أنها أثبت (1) الصفات، وأن الله فوق العالم، والعلم بهذا ضروري عندهم، كما ذكرتم أنتم في معاد الأبدان والشرائع الظاهرة، بل لعل العلم بهذا أعظم من العلم ببعض ما تنازعكم فيه المعتزلة والفلاسفة من أمور المعاد، كالصراط والميزان والحوض والشفاعة ومسألة منكر ونكير.

و-أيضًا- فالعلم بعلو الله على عرشه ونحو ذلك، يعلم بضرورية عقلية وأدلة عقلية يقينية لا يعلم بمثلها معاد الأبدان، فالعلوم الضرورية والأدلة السمعية والعقلية على ما نفيتموه من علو الله على خلقه، ومباينته لهم ونحو ذلك، أكمل وأقوى من العلوم الضرورية والأدلة السمعية والعقلية على كثير مما خالفكم فيه المعتزلة بل والفلاسفة، ولهذا يوجد عن كثير من السلف موافقة المعتزلة في بعض ما خالفتموه فيه، كما يوجد عن بعض السلف إنكار سماع الذي في القبر للأصوات (2)، وعن بعض السلف إنكار المعراج (3) بالبدن وأمثال ذلك، ولا يوجد عن أحد (4) منهم

(1) في س، ط: أثبتت.

(2)

وممن قال بذلك عائشة رضي الله عنها ومن تبعها.

وما يقتضي الدليل رجحانه أن الموتى في قبورهم يسمعون كلام من كلمهم.

وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 4/ 295 - 299. وابن القيم في "الروح" ص: 5 - 16، وانظر المسألة في "أضواء البيان" للشنقيطي - 6/ 421 - 439. والآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات - تأليف نعمان ابن المفسر الشهير محمود الألوسي.

(3)

كما يؤثر عن معاوية بن أبي سفيان وعائشة وغيرها. وذهب معظم السلف إلى أن المعراج كان ببدنه في اليقظة. وهو قول ابن عباس وجابر وأنس وغيرهم، وهو الحق. انظر خلاف السلف في هذه المسألة في "الشفا" للقاضي عياض 1/ 359 - 374 وانظر: تفسير ابن جرير الطبري 15/ 16. وتفسير القرطبي 10/ 208، 209. وتفسير ابن كثير 3/ 32.

(4)

في س، ط: واحد.

ص: 954

موافقتكم على أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه، وأنه ليس فوق العالم، بل ولا على ما نفيتموه من الجسم وملازمه وكذلك المعتزلة وإن كانوا ضالين في مسألة إنكار الرؤية، فمعهم فيها من الظواهر التي تأولوها، والمقاييس التي اعتمدوا عليها أعظم مما معكم في إنكار مباينة الله لمخلوقاته وعلوه على عرشه.

ومن العجب أنكم تقولون: إن محمدًا رأى ربه ليلة المعراج، وهذه مسألة نزاع بين الصحابة (1)، أو تقولون: رآه بعينه، ولم يقل ذلك

(1) هذه المسألة مما اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم- فذهبت طائفة -ومنهم عائشة رضي الله عنها إلى إنكار رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، وذهب آخرون -ومنهم ابن عباس رضي الله عنهم إلى إثباتها.

وقد ذكر القاضي عياض في كتابه "الشفا" 1/ 375 - 388: اختلاف السلف في هذه المسألة، ثم قال في ص: 386: ". . ولا مرية في الجواز إذ ليس في الآيات نص في المنع، وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع أيضًا ولا نصّ".

يقول الشيخ رحمه الله في الفتاوى 6/ 509، 510: "وأما الرؤية فالذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين، وعائشة أنكرت الرؤية، فمن الناس من جمع بينهما فقال: عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد.

والألفاظ الثابتة عن ابن عباس هي مطلقة، أو مقيدة بالفؤاد. تارة يقول: رأى محمد ربه، وتارة يقول رآه محمد. ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح بأنه رآه بعينه. . إلى أن قال:". . وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل كما في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ فقال: "نور أنى أراه؟ ".

ثم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة الدالة بمفهومها على نفي الرؤية بالعين. فمن هذا يتضح - والله أعلم - أن الرأي الأمثل في هذه المسألة أن تحمل النصوص الواردة في الإثبات على رؤية القلب والنصوص الواردة في النفي على رؤية البصر وبهذا تأتلف النصوص ويزول الإشكال.

ص: 955

أحد منهم، ثم تقولون (1): إن محمدًا لم يعرج به إلى الله، فإن الله ليس هو فوق السماوات، فتنكرون ما اتفق عليه السلف، وتقولون بما تنازعوا فيه ولم يقله أحد منهم، فالمعتزلة في جعلهم المعراج منامًا أقرب إلى السلف والسنة (2) منكم، حيث قلتم رآه بعينه ليلة المعراج، وقلتم مع هذا:[إنه](3) ليس فوق السماوات رب يعرج إليه، فهذا النفي أنتم (4) والمعتزلة فيه شركاء (5) وأنتم امتزتم بقولكم رآه بعينه، وهذا لم يثبت عن أحد من السلف، وهم امتازوا بقولهم المعراج منامًا، وهو قول مأثور عن طائفة من السلف، وإنما نقل عنهم بأسانيد ضعيفة، ثم إنكم أظهرتهم للمسلمين مخالفة المعتزلة في مسألة الرؤية والقرآن، ووافقتم أهل السنة على إظهار القول بأن الله يرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق والقول بأن الله لا يرى في الآخرة، وأن القرآن مخلوق (6) من البدع القديمة التي أظهرت الجهمية من المعتزلة وغيرهم في عصر الأئمة حتى امتحنوا (7) الإمام أحمد وغيره بذلك، ووافقتم (8) المعتزلة على

= وللاطلاع على هذه المسألة وتفاصيل العلماء فيها، تراجع بالإضافة إلى ما تقدم: التوحيد -لابن خزيمة- تحقيق د. عبد العزيز الشهوان - 1/ 477 - 547، 2/ 548 - 563. شرح الطحاوية -لصدر الدين الحنفي- ص: 213، 214. لوامع الأنوار البهية -للسفاريني- 2/ 250 - 256.

(1)

في س: يقولون.

(2)

في ط: أهل السنة.

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(4)

أنتم: كررت في: س.

(5)

ذكرها البيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 443 - 446. وبين وجه ضعفها. وانظر: الدر المنثور -للسيوطي- 7/ 646 - 649.

(6)

والقول بأن الله لا يرى في الآخرة وأن القرآن مخلوق: كرر في الأصل، وهو سهو من الناسخ.

(7)

تقدم الكلام على محنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مسألة القول بخلق القرآن. أثناء دراسة مسائل الكتاب.

(8)

في الأصل: ووافقتهم. والمثبت من: س، ط. ولعله المناسب للسياق.

ص: 956

نفيهم وتعطيلهم الذي ما كانوا يجترئون على إظهاره في زمن السلف والأئمة، وهو قولهم: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه وإنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله، فإن هذه البدعة الشنعاء والمقالة التي هي شر من قول (1) كثير من اليهود والنصارى، لم يكن يظهرها أحد من المعتزلة للعامة، ولا يدعو عموم الناس إليها، وإنما كان السلف يستدلون على أنهم يبطنون ذلك بما يظهرونه من مقالاتهم، فموافقتكم للمعتزلة على ما أسروه من التعطيل والإلحاد الذي هو أعظم مخالفة للشرع والعقل مما خالفتموه فيه في مسألة الرؤية والقرآن فإن كل عاقل يعلم أن دلالة القرآن على علو الله على عرشه أعظم من دلالته على أن الله يرى وليس في القرآن آية توهم المستمع أن الله ليس داخل العالم ولا خارجه، وفيه ما يوهم بعض الناس نفي الرؤية، ولكن يعارضون (2) آيات العلو الكثيرة الصريحة بما يتوهم أنه يدل على أنه بذاته في كل مكان، وأنتم لا تقولون لا بهذا ولا بهذا فلم يكن معكم على هذا النفي آية تشعر بمذهبكم، فضلًا عن أن تدل عليه نصًّا أو ظاهرًا، ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قول صاحب ولا تابع ولا إمام، وإنما غايتكم أن تتمسكوا بأثر مكذوب كما تذكرونه عن علي أنه قال: الذي أين الأين لا يقال له: أين، وهذا من الكذب على علي باتفاق أهل العلم لا إسناد له (3) وكذلك حديث الملائكة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1) قول: ساقطة من: س، ط.

(2)

في الأصل: يعارضه. والمثبت من: س، ط. ولعله المناسب للسياق.

(3)

ذكر الشيخ رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل 5/ 225 أن من الأحاديث الموضوعة التي يحتج بها النفاة: "ما رواه ابن عساكر فيما أملاه في نفي الجهة عن شيخه ابن عبد الله العوسجي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الذي أين الأين فلا يقال له: أين، وعارض به حديث ابن إسحاق الذي رواه أبو داود وغيره الذي قال فيه: يستشفع بك على الله، ويستشفع بالله عليك وأكثر فيه في القدح في ابن =

ص: 957

الأربعة (1) مع أن ذلك لا حجة فيه لكم، وكذلك القول بأن القرآن مخلوق، فيه من الشبهة ما ليس في نفي علو الله على عباده، ولهذا كان في فطر جميع الأمم الإقرار بعلو الله على خلقه (2)، وأما كونه يرى أو لا يرى أو يتكلم أو لا يتكلم، فهذا عندهم ليس في الظهور بمنزلة ذلك (3)، فوافقتم الجهمية المعتزلة وغيرهم على ما هو أبعد عن العقل والدين مما خالفتموهم فيه (4).

ومعلوم اتفاق سلف الأمة وأئمتها على تضليل الجهمية من المعتزلة

= إسحاق، مع احتجاجه بحديث أجمع العلماء على أنه من أكذب الحديث، وغاية ما قالوا فيه: إنه غريب". ولم أقف عليه فيما رجعت إليه من كتب الموضوعات.

(1)

حديث باطل أخرجه الجوزقاني في "الأباطيل والمناكير" 1/ 74 - 76 بسنده عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت أربعة أملاك التقوا في الهواء، بعثهم ربي جميعًا، فقال ملك: بعثنا ربنا جميعًا فمن أين بعثك أنت ربك؟ قال: من فوق عرشه، فمن أين بعثك أنت معي؟ قال: بعثني من تحت الأرض السفلى، ثم قال الثالث لصاحبه: فمن أين بعثك أنت معي؟ قال: بعثني من المشرق، ثم قال الرابع لصاحبه: فمن أين بعثك؟ قال: من المغرب، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} 3 / الحديد. هو الأول فلم يكن قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلو دلي أحدكم إلى الأرض السفلى لدلي على الله تعالى، لأنه لا يخلو منه مكان. قال الجوزقاني: هذا حديث باطل لا أصل له جملة.

وذكر أن في سنده خمسة متروكون مجروحون، وأن الضحاك لم يسمع من ابن عباس شيئًا.

(2)

إدراك علو الله على خلقه من الأمور الفطرية الضرورية التي يجدها الإنسان من نفسه حين يدعو ربه عز وجل والدعاء لا يكون إلا بالاتجاه نحو العلو، وتقدم الكلام على دلالة الفطرة على علو الله.

(3)

في س، ط: ذاك.

(4)

في الأصل، س: خالفتموه. والمثبت من: ط. ولعله المناسب للسياق.

ص: 958

وغيرهم، بل قد كفروهم وقالوا فيهم ما لم يقولوه في [أحد من](1) أهل الأهواء، بل أخرجوهم عن الثنتين والسبعين (2) فرقة، وقالوا: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية (3)، فكنتم وافقتم فيه الجهمية من المعتزلة وغيرهم، وما خالفتموهم فيه، كمن (4) آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، ولكن هو (5) إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان، وأوجب ذلك فسادين عظيمين:

أحدهما: تسلط المعتزلة ونحوهم عليكم، فإنكم لما وافقتموهم على هذا التعطيل بقي بعد ذلك إثباتكم للرؤية، ولكون القرآن غير مخلوق قولًا باطلًا في العقل عند جمهور العقلاء، وانفردتم عن جميع طوائف الأمة بما ابتدعتموه في مسألة الكلام والرؤية، وقويت المعتزلة عليكم بذلك (6) وعلى [أهل](7) السنة، وإن كنتم قد رددتم على

(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(2)

في جميع النسخ: سبعين. والصواب ما أثبته.

(3)

يؤثر هذا القول عن عبد الله بن المبارك.

انظر: السنة -لعبد الله بن أحمد بن حنبل- ص: 7. ومجموعة الرسائل والمسائل -لابن تيمية- كتاب مذهب السلف القويم في تحقيق مسألة كلام الله الكريم 3/ 344، 345.

وجاء فيه: أن المشهور مذهب أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية، وهم المعطلة للصفات، فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل، وحقيقة قولهم: جحود الصانع، وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله. .

والجهمية عند كثير من السلف مثل ابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب الإمام أحمد ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة. وتقدم الكلام على هذا في ص: 695.

(4)

في س: لكن. وهو تصحيف.

(5)

في الأصل: الهو. ولا معنى لها. والمثبت من: س، ط.

(6)

في س، ط: بذلك عليكم.

(7)

ما بين المعقوفتين زيادة من: ط.

ص: 959

المعتزلة، حتى قيل (1): إن الأشعري حجرهم في قمع السمسمة (2)، فهذا -أيضًا- صحيح بما أبداه من تناقض أصولهم، فإنه كان خبيرًا بمذاهبهم، إذ كان من تلامذة أبي علي الجبائي، وقرأ عليه أصول المعتزلة أربعين سنة، ثم لما انتقل إلى طريقة أبي محمد عبد الله بن سعيد (3) بن كلاب، وهي أقرب إلى السنة من طريقة المعتزلة، فإنه يثبت الصفات والعلو ومباينة الله للمخلوقات، ويجعل العلو يثبت بالعقل، فكان الأشعري لخبرته بأصول المعتزلة، أظهر من تناقضها وفسادها ما قمع به المعتزلة، وبما أظهر (4) من تناقض المعتزلة والرافضة والفلاسفة ونحوه، صار له من الحرمة والقدر ما صار له فـ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (5). لكن الأشعري قصر عن طريقة ابن كلاب، وأنتم خالفتم ابن كلاب والأشعري، فنفيتم الصفات الخبرية، ونفيتم العلو، وخياركم يجعله

(1) ينسب هذا القول إلى أبي بكر الصيرفي.

فقد نقل الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 15/ 86 والسبكي في طبقات الشافعية 3/ 349 أنه قال: "كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى نشأ الأشعري، فحجرهم في أقماع السمسم".

(2)

القمع: مصدر قمع الرجل يقمعه قمعًا. وأقمعه فانقمع قهره وذلَّله فذل.

والقمع: الدخول فرارًا وهربًا.

وانظر: لسان العرب -لابن منظور- 8/ 294 (قمع).

والسمسمة دويبة، وقيل: هي النملة الحمراء.

انظر: اللسان -لابن منظور - 12/ 305 (سمم).

وهذا القول كتابة عن التضييق والقهر، وهو أمر يتفق وإقامة الأشعري على الاعتزال أربعين عامًا ومعرفته بدقائقه وخباياه، ولذا نجده ألف الكتب الكثيرة التي كشفت النقاب عن ذلك المذهب، وبينت تناقضه.

(3)

في جميع النسخ: مسعود. وهو خطأ. وتقدم التعريف به ص: 169.

(4)

في س، ط: أظهره.

(5)

سورة النساء، الآية:40.

ص: 960

من الصفات السمعية، مع أن ابن كلاب كان مبتدعًا (1) عند السلف والأئمة، بما قاله في مسألة القرآن وفي إنكار الصفات الفعلية القائمة بذات الله، ثم إن المعتزلة وإن انقمعوا من هذا الوجه فإنهم طمعوا وقووا من وجه آخر بموافقتكم لهم على أصول النفي والتعطيل، فصار ذلك مغريًا لفضلائهم بلزوم مذهبكم، فإن كل من فهم مذهبكم الذي خالفتم فيه المعتزلة، علم أن كل (2) ما ذكرتموه قول فاسد -أيضًا- وإن كان قول المعتزلة فاسدًا. ونشأ الفساد.

الثاني: وهو أن الفضلاء إذا تدبروا حقيقة قولكم الذي أظهرتم فيه خلاف المعتزلة، وجدوكم قريبين منهم أو موافقين لهم في المعنى، كما في مسألة الرؤية، فإنكم تتظاهرون بإثبات الرؤية والرد على المعتزلة، ثم تفسرونها بما لا ينازع المعتزلة في إثباته، ولهذا قال من قال من الفضلاء في الأشعري: إن قوله قول المعتزلة ولكنه عدل عن التصريح إلى التمويه (3)، وكذلك قولكم في مسألة القرآن، فإنه لما اشتهر عند الخاص والعام أن مذهب السلف والأئمة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا على الجهمية المعتزلة وغيرهم الذين قالوا: إنه مخلوق حتى كفروهم، وصبر الأئمة على امتحان الجهمية مدة استيلائهم، حتى نصر الله [أهل](4) السنة وأطفأ الفتنة، فتظاهرتم بالرد على المعتزلة وموافقة السنة والجماعة، وانتسبتم إلى أئمة السنة في ذلك، وعند التحقيق فأنتم

(1) في الأصل: مبدعًا. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.

(2)

كل: ساقطة من: س، ط.

(3)

أخرج أبو إسماعيل الهروي في كتابه "ذم الكلام" مخطوط - الجزء السابع - الطبقة التاسعة - اللوحة: 3، أن الحاكم عدنان بن عبدة النميري قال: سمعت أبا عمر البسطامي يقول: كان أبو الحسن الأشعري أولًا ينتحل الاعتزال، ثم رجع فتكلم عليهم، وإنما مذهبه التعطيل إلا أنه رجع من التصريح إلى التمويه.

(4)

ما بين المعقوفتين زيادة من: ط.

ص: 961

موافقون للمعتزلة من وجه ومخالفونهم من وجه، وما اختلفتم فيه أنتم وهم، فأنتم أقرب إلى السنة من وجه، وهم أقرب إلى السنة من وجه، وقولهم أفسد في (1) العقل والدين من وجه، وقولكم أفسد في العقل والدين من وجه.

وذلك (2) أن المعتزلة قالوا: إن كلام الله مخلوق منفصل عنه، والمتكلم من فعل الكلام، وقالوا: إن الكلام هو الحروف والأصوات، والقرآن الذي نزل به جبرئيل هو كلام الله، وقالوا: الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر، وهذه أنواع الكلام لا صفاته، والقرآن غير التوراة، والتوراة غير الإنجيل، وإن الله -سبحانه- يتكلم بما شاء.

وقلتم أنتم إن الكلام معنى واحد قديم قائم (3) بذات المتكلم، هو الأمر والنهي والخبر، وهذه صفات الكلام لا أنواعه، فإن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة، وإن عبر [عنه](4) بالسريانية كان إنجيلًا، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، والحروف المؤلفة ليست من الكلام، ولا هي كلام الله، والكلام الذي نزل به جبرئيل من الله ليس كلام الله، بل حكاية عن كلام الله كما قال (5) ابن كلاب، أو عبارة عن كلام الله كما قال (5) الأشعري.

ولا ريب أنكم خير من المعتزلة حيث جعلتم المتكلم من قام به الكلام، وأن من (6) لم يقم به الكلام لا يكون متكلمًا به، كما أن من لم يقم به العلم والقدرة والحياة لا يكون عالمًا به ولا قادرًا بها ولا حيًّا بها،

(1) في ط: إلى.

(2)

في الأصل: وكذلك. ولعل ما أثبت من: س، ط. يستقيم به الكلام.

(3)

قديم: ساقطة من: س.

(4)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(5)

في س، ط: قاله.

(6)

من: ساقطة من: ط.

ص: 962

وإنه لو كان الكلام مخلوقًا من جسم من الأجسام لكان ذلك الجسم هو متكلم به، فكانت الشجرة هي القائلة لموسى:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (1) فهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها.

ومن قال: إن المتكلم من فعل الكلام لزمه أن يكون كل كلام خلقه الله في محل كلامًا له، بل يكون إنطاقه للجلود كلامًا له، بل يكون إنطاقه لكل ناطق كلامًا له، وإلى هذا ذهب الاتحادية من الجهمية الحلولية الذين يقولون: إن وجوده عين الموجودات، فيقول قائلهم:

وكل كلام في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه (2)

لكن المعتزلة أجود منكم، حيث سموا (3) هذا القرآن الذي نزل به جبرئيل كلام الله، كما يقوله سائر المسلمين، وأنتم جعلتموه كلامه مجازًا، ومن جعله منكم حقيقة وجعل لفظ الكلام مشتركًا (4)، كأبي المعالي وأتباعه، انتقضت قاعدته في أن المتكلم بالكلام من قام به، ولم يمكنكم أن تقولوا بقول أهل السنة فإن أهل السنة يقولون: الكلام كلام من قاله مبتدئًا لا كلام من قاله مبلغًا مؤديًا. فالرجل إذا بلغ قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"(5) كان قد بلغ كلام النبي صلى الله عليه وسلم بحركاته وأصواته، وكذا (6). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1) سورة طه، الآية:14.

(2)

في ط: نظمه. وهو خطأ.

قائل البيت: محيي الدين بن عربي، وقد ذكره في "الفتوحات المكية" 4/ 141 بلفظ: ألا كل قول في الوجود. . .

(3)

في الأصل: سمعوا. والمثبت من: س، ط. ولعله المناسب للسياق.

(4)

في الأصل: اشتراكًا. والمثبت من: س، ط. ولعله المناسب.

(5)

تقدم تخريجه ص: 538.

(6)

في س، ط: وكذلك.

ص: 963

إذا أنشد شعر شاعر كامرئ القيس (1) أو غيره، فإذا قال:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (2)

. . . . . . . . . . . . . . . . .

كان هذا الشعر شعر امرئ القيس، وإن كان هذا قد قاله بحركاته وأصواته، وهذا أمر مستقر في فطر (3) الناس كلهم، يعلمون أن الكلام كلام من تكلم به مبتدئًا، آمرًا بأمره ومخبرًا بخبره ومؤلفًا حروفه ومعانيه وغيره إذا بلغه عنه علم الناس أن هذا كلام للمبلغ عنه لا للمبلغ، وهم يفرقون بين أن يقوله المتكلم به والمبلغ عنه، وبين سماعه من الأول وسماعه من الثاني، ولهذا كان من المستقر عند المسلمين أن القرآن الذي يسمعونه هو كلام الله، كما قال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (4) مع علمهم بأن القارئ يقرأه بصوته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "زينوا القرآن بأصواتكم"(5) ، فالكلام

(1) هو: امرؤ القيس بن حجر الكندي، اختلف في اسمه، واشتهر بلقبه، شاعر عربي من قبيلة كندة التي هاجرت من اليمن، عاش في القرن السادس الميلادي وتوفي سنة 80 ق. هـ.

انظر: دائرة المعارف الإسلامية - 4/ 406، 407. والأعلام -للزركلي 1/ 351 ، 352.

(2)

هذا صدر بيت لامرئ القيس، وعجزه:

. . . . . . . . . . . . . .

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وهو مطلع معلقته المشهورة، انظر: ديوان امرئ القيس ص: 8.

(3)

فطر: ساقطة من: س.

(4)

سورة التوبة، الآية:6.

(5)

الحديث عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "زينوا .. ".

أخرجه أبو داود في سننه 2/ 155 - كتاب الصلاة - باب استحباب الترتيل في القراءة، حديث / 1468. والنسائي في سننه 2/ 139 - كتاب الافتتاح - باب تزيين القرآن بالصوت. وابن ماجة في سننه 1/ 436 - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب في حسن الصوت بالقرآن - الحديث / 1342. والدارمي في سننه 2/ 340 - كتاب فضائل القرآن - باب التغني بالقرآن - الحديث 3503. =

ص: 964

كلام الباري والصوت هو صوت القارئ، وإن كان من المعتزلة من يجعل كلام الثاني حكاية لكلام الأول، وينازع المعتزلة في الحكاية هل هي المحكي كما يقول الجبائي؟ أو غيره كما يقول (1) ابنه (2)؟ على قولين (3).

والتحقيق أن الحاكي لكلام غيره ليس هو المبلغ له، فإن الحاكي له بمنزلة المتمثل به الذي يقول (4) لنفسه موافقًا لقائله الأول، بخلاف المبلغ له الذي يقصد أن يبلغ كلام الغير، وللنية تأثير في مثل هذا، فإن من قال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (5) القراءة [لم](6) يكن (7) له ذلك مع الجنابة بخلاف من قالها بقصد (8). . . . . . . . . . . . . . .

= قال الألباني: صحيح.

انظر: صحيح الجامع الصغير وزياداته (الفتح الكبير) 3/ 194.

(1)

في س، ط: يقوله.

(2)

هو: أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي محمد الجبائي.

وتقدم التعريف به وبأبيه.

(3)

الأول: قول أبي الهذيل وأبي علي الجبائي: أن الحكاية عين المحكي لقولهما بأن الكلام باق، وأنه معنى غير الصوت.

الثاني: ما يقوله أبو هاشم وأصحابه، والجعفران -هما: جعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر الثقفي- من قبل، ومذهب أبي القاسم والإخشيدية أن الحكاية غير المحكي، لما كان الكلام عندهم من قبيل الأصوات، وهي لا تبقى، فلم يكن بد من القول بذلك.

انظر: المحيط بالتكليف للقاضي عبد الجبار - جمع الحسن بن أحمد بن متوية - ص: 327.

(4)

في ط: يقوله.

(5)

في س، ط: يقصد.

(6)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(7)

في الأصل: لكن. وهو تصحيف. ولعل ما أثبته من: س، ط. هو الصواب.

(8)

في س، ط: بقصد.

ص: 965

ذكر الله وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع (1).

والمقصود أنكم لم يمكنكم أن تقولوا ما قاله (2) المسلمون، لأن حروف القرآن ونظمه ليس هو عندكم كلام الله، بل ذلك عندكم مخلوق، إما في الهواء، وإما في نفس جبرئيل، وإما في غير ذلك، فاتفقتم أنتم والمعتزلة على أن حروف القرآن ونظمه مخلوق، لكن هم قالوا (3) [ذلك] (4) كلام الله [وقلتم أنتم: ليس كلام الله] (5) ومن قال منكم: إنه كلام الله انقطعت حجته على المعتزلة، فصارت المعتزلة خيرًا منكم في هذا الموضع، وهذه الحروف والنظم الذي يقرؤه الناس هو حكاية تلك الحروف والنظم المخلوق عندكم، كما يقوله المعتزلة، وهي عبارة عن المعنى القائم بالذات، ولهذا كان ابن كلاب يقول: إن هذا القرآن حكاية عن المعنى القديم فخالفه الأشعري، لأن الحكاية تشبه المحكي وهذا حروف وذلك معنى، وقال الأشعري: بل هذا عبارة عن ذلك لأن العبارة لا تشبه المعبر عنه، وكلا القولين خطأ.

فإن القرآن الذي نقرؤه فيه حروف مؤلفة وفيه معان، فنحن نتكلم بالحروف بألسنتنا ونعقل المعاني بقلوبنا، ونسبة المعاني القائمة بقلوبنا إلى المعنى القائم بذات الله كنسبة الحروف التي ننطق بها إلى الحروف المخلوقة عندكم.

(1) هذا هو رأي الشيخ رحمه الله في هذه المسألة.

انظر: مجموع الفتاوى 21/ 268، 269، 459 - 463. و 26/ 190، 191.

وقد اختلف العلماء رحمهم الله في جواز قراءة آية أو بعض آية للجنب.

وللوقوف على ذلك، تراجع المصادر التالية: الإنصاف -للمرداوي- 1/ 243.

كشاف القناع -للبهوتي- 1/ 168، 169.

(2)

في س، ط: يقوله.

(3)

في س، ط: لكن قالوا هم.

(4)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط. يقتضيها الكلام.

(5)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، يقتضيها الكلام.

ص: 966

فإن قلتم: إن هذا حكاية عن كلام الله لم يصح، لأن كلام الله معنى مجرد عندكم وهذا فيه حروف ومعان، وإن قلتم: إنه عبارة لم يصح، لأن العبارة هي اللفظ الذي يعبر به عن المعنى، وهنا حروف ومعان يعبر بها عن المعنى القديم عندكم.

وإن قلتم: هذه الحروف وحدها عبارة عن المعنى، بقيت المعاني القائمة بقلوبنا، وبقيت الحروف التي عبر بها أولًا عن المعنى [القائم](1) بالذات التي هذه الحروف المنظومة نظيرها عندكم لم تدخلوها (2) في كلام الله، فالمعتزلة في قولهم بالحكاية أسعد منكم في قولكم بالحكاية وبالعبارة.

وأصل هذا الخطأ أن المعتزلة قالوا: إن القرآن بل كل كلام هو مجرد الحروف والأصوات، وقلتم أنتم: بل هو مجرد المعاني، ومن المعلوم عند الأمم أن الكلام اسم للحروف والمعاني، للفظ (3) والمعنى جميعًا كما أن اسم الإنسان اسم للروح والجسد، وإن سمي المعنى وحده [حديثًا أو كلامًا أو الحروف وحدها حروفًا أو كلامًا فعند التقييد](4) والقرينة، وهذا مما استطالت المعتزلة عليكم به، حيث أخرجتم الحروف المؤلفة عن أن تكون من الكلام، فإن هذا مما أنكره عليكم الخاص والعام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به (5) أو تعمل به" قال له معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: "ثكلتك (6) أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار

(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(2)

في الأصل، س: يدخلوه. والمثبت من: ط. ولعله المناسب للسياق.

(3)

في ط: وللمعاني وللفظ. .

(4)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط. سقط من الأصل سهوًا.

(5)

به: ساقطة من: س، ط.

(6)

ثكلتك: أي: فقدتك. وهو دعاء عليه بالموت ظاهرًا.

ص: 967

على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم؟ " (1) وشواهد هذا كثيرة.

ثم إنكم جعلتم معاني القرآن معنى واحدًا مفردًا، هو الأمر بكل ما أمر الله به، والخبر عن كل ما أخبر الله به، وهذا مما اشتد إنكار العقلاء عليكم فيه، وقالوا: إن هذا من السفسطة المخالفة لصرائح

= والمقصود: التعجب من الغفلة عن هذا الأمر.

انظر: تعليق محمد فؤاد عبد الباقي على سنن ابن ماجة 2/ 1315. والنهاية -لابن الأثير- 1/ 217.

(1)

الحديث مع اختلاف يسير في الألفاظ أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه إلى قوله: "أو تعمل به".

انظره في: صحيح البخاري 6/ 169 - كتاب الطلاق- باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران. . وصحيح مسلم 1/ 117 - كتاب الإيمان - باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر. . الحديث / 202. وسنن النسائي 6/ 127، 128 - كتاب الطلاق- باب من طلق في نفسه. وسنن ابن ماجة 1/ 658 - كتاب الطلاق - باب من طلق في نفسه ولم يتكلم به.- الحديث / 2040.

أما باقي الحديث: فقال له معاذ: يا رسول الله. . فلم أقف عليه مذكورًا مع ما أخرجته من الكتب المتقدمة، بل ذكر ضمن حديث أخرجه الترمذي وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال:"لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئًا. . ".

وجاء في آخره، ثم قال:"ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ " قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه وقال:"كف عليك هذا" فقلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال:"ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

انظر: سنن الترمذي 5/ 12 - كتاب الإيمان - باب ما جاء في حرمة الصلاة - الحديث / 2616. وسنن ابن ماجة 2/ 1314، 1315 كتاب الفتن - باب كف اللسان في الفتنة الحديث / 3973. المسند -للإمام أحمد - 5/ 231، 236، 237. والمصنف -لابن أبي شيبة - 9/ 65.

ص: 968

المعقول، وأنتم تنكرون على من يقول: إن الله يتكلم بحروف وأصوات قديمة أزلية، ومعلوم أن ما قلتموه أبعد عن العقل والشرع من هذا، وإن كان العقلاء قد أنكروا هذا -أيضًا- لكن قولكم أشد نكرة، بل قولكم أبعد من قول النصارى الذين يقولون باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، ثم أعجب من هذا أنكم تقولون: إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن، وبالعبرية كان هو التوراة، وبالسريانية كان هو الإنجيل، ومن المعلوم بالاضطرار لكل عاقل أن التوراة إذا عربت لم تكن معانيها معاني القرآن، وإن القرآن إذا ترجم (1) بالعبرية لم تكن معانيه معاني التوراة، ثم إن منكم من جعل ذلك المعنى يسمع ومنكم من قال: لا يسمع، وجعلتم تكليم الله لموسى من جنس الإلهام الذي يلهمه غيره، حيث قلتم: خلق في نفسه لطيفة أدرك بها الكلام القائم بالذات، وقد قال تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (2).

ففرق سبحانه بين إيحائه إلى غير موسى، وبين تكليمه لموسى. وقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} (3).

ففرق بين إيحائه، وبين تكليمه من وراء حجاب.

(1) المقصود ترجمة معانيه، لا ترجمة حروفه فهي غير جائزة على ما ذهب إليه أهل العلم. وانظر ما ذكره الشيخ عن ترجمة القرآن في كتابه "نقض المنطق" ص: 97 - 99. والزركشي في "البرهان في علوم القرآن" 1/ 465، 466.

(2)

سورة النساء، الآيتان: 163، 164.

وقد جاء في الأصل: عليك بالحق ورسلًا. وهو خطأ.

(3)

سورة الشورى، الآية:51.

ص: 969

والأحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتخصيص موسى بتكليم الله إياه دون إبراهيم وعيسى ونحوهما (1)، وعلى قولكم لا فرق بل قد زعم من زعم من أئمتكم أن الواحد من غير الأنبياء يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران، فمن حصل له إلهام في قلبه جعلتموه قد كلمه الله كما كلم موسى بن عمران، ومعلوم أن المعتزلة لم يصلوا في الإلحاد إلى هذا الحد، بل من قال: إن الله خص موسى بأن خلق كلامًا في الهواء سمعه كان أقل بدعة ممن زعم أنه لم يكلمه إلّا بأن أفهمه معنى أراده، بل هذا قريب إلى قول المتفلسفة الذين يقولون: ليس لله كلام إلّا ما في النفوس، وإنه كلم موسى من سماء عقله، لكن يفارقونها بإثبات المعنى القديم القائم بذات الله.

و-أيضًا- فجعلتم ثبوت القرآن في المصاحف مثل ثبوت الله فيها وقلتم: قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (2) بمنزلة قوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (3)، ومعلوم أن المذكور في التوراة هو اسمه، وأن الله إنما يكتب في المصحف اسمه، فأسماؤه بمنزلة (4) كلامه، لا أن (5) ذاته بمنزلة كلامه، والشيء لوجوده أربع (6) مراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في

(1) كحديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه البخاري وغيره.

انظر: صحيح البخاري 8/ 200 - 202 - كتاب التوحيد- باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة. .

(2)

سورة الواقعة، الآية:77.

(3)

سورة الأعراف، الآية:157.

(4)

قبل كلمة "بمنزلة" ذكر في الأصل: "في التوراة هو اسمه". والكلام يستقيم بدونها. والذي يظهر أنه سبق نظر من الناسخ إلى مثيلتها في السطر السابق.

(5)

في الأصل، س: لأن. والمثبت من: ط. ولعله المناسب لسياق الكلام.

(6)

في جميع النسخ: أربعة. وهو خطأ.

ص: 970

اللسان، ووجود في البنان، فالأعيان لها المرتبة (1) الأولى، ثم يعلم بالقلوب، ثم يعبر [عنها](2) باللفظ، ثم يكتب اللفظ. وأما الكلام فله المرتبة الثالثة وهو الذي يكتب في المصحف، فأين قول القائل: إن الكلام في الكتاب من قوله: إن المتكلم في الكتاب، وبينهما من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق (3)، ثم إن منكم من احتج بقوله:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (4)، وجعل المراد بذلك العبارة، وهذا مع أنه متناقض فهو أفسد من قول المعتزلة، فإنه إن كان أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أحدث حروفه، فقد أضافه في موضع إلى رسول هو جبرئيل، وفي موضع إلى رسول هو محمد، قال في موضع:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} (5)، وقال في موضع:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} (6).

ومعلوم أن عبارتها إن (7) أحدثها جبريل لم يكن محمد أحدثها [وإن أحدثها محمد لم يكن جبريل أحدثها](8)، فبطل قولكم، وعلم أنه إنما أضافه إلى الرسول لكونه بلغه وأداه، لا أنه أحدثه وابتدأه، ولهذا قال:{لَقَوْلُ رَسُولٍ} ولم يقل: لقول ملك ولا نبي، فذكر اسم الرسول المشعر بأنه بلغ (9) عن غيره، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ

(1) في الأصل: مرتبة. والمثبت من: س، ط، ولعله المناسب.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س. وفي ط: عنه.

(3)

الفرق: هو مفرق شعر الرأس. انظر: لسان العرب -لابن منظور- 10/ 301 (فرق).

(4)

سورة الحاقة، الآية:4. وسورة التكوير، الآية: 19.

(5)

سورة التكوير، الآية:19.

(6)

سورة الحاقة، الآية:40.

(7)

إن: ساقطة من: س.

(8)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(9)

في س، ط: مبلغ.

ص: 971

إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (1) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموسم ويقول: "ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي"(2).

ومعلوم أن المعتزلة لا تقول: إن شيئًا من القرآن أحدثه لا جبرئيل ولا محمد، ولكن يقولون (3): إن تلاوتهما له كتلاوتنا له.

وإن قلتم: أضافه إلى أحدهما لكونه تلاه بحركاته وأصواته، فيجب أن يكون القرآن قولًا لكل من تكلم (4) به من مسلم وكافر وطاهر وجنب حتى إذا قرأه الكافر يكون القرآن قولًا له على قولكم، فقوله بعد هذا:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (5) كلام لا فائدة فيه، إذ هو على أصلكم قول رسول كريم، وقول فاجر لئيم، وكذلك المعتزلة احتجت بقوله:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (6)، وقالوا: إن الله أحدثه في الهواء، فاحتج من احتج منكم على أن القرآن المنزل محدث، ولكن زاد

(1) سورة المائدة، الآية:67.

(2)

الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة بلفظ: "ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشًا. . ". وانظر: سنن أبي داود 5/ 103 - كتاب السنة - باب في القرآن- الحديث / 4734. وسنن الترمذي 5/ 184 - كتاب فضائل القرآن- الباب رقم 24 - الحديث / 2925. وقال: هذا حديث غريب صحيح. وسنن ابن ماجة 1/ 73 - المقدمة- باب فيما أنكرت الجهمية - الحديث 201. وسنن الدارمي 2/ 317 - كتاب فضائل القرآن- باب القرآن كلام الله - الحديث / 3357 بلفظ "هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشًا. . ".

(3)

في الأصل: يقول. والمثبت من: س، ط. ولعله المناسب.

(4)

في س: فيجب أن القرآن يكون قولًا من تكلم. . وفي ط: فيجب أن القرآن يكون قول من تكلم. .

(5)

سورة التكوير، الآية:19. وسورة الحاقة، الآية: 40.

(6)

سورة الأنبياء، الآية:2.

ص: 972

على الفلاسفة بأن المحدث له إما جبرئيل أو (1) محمد.

وإن قلتم: إنه محدث في الهواء صرتم كالمعتزلة، ونقضتم استدلالكم بقوله:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (2)، وقد استدل من استدل من أئمتكم على قولكم بهاتين الآيتين بقوله:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (2)، وقوله:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (3)، فإن أراد بذلك أن الله أحدثه بطل استدلاله بقوله:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ، فإن أراد بذلك أن الرسول أحدثه بطل بإضافته إلى الرسول الآخر، وكنتم شرًّا من المعتزلة الذين قالوا: أحدثه الله.

وإن قلتم: أراد بذلك أن من تلاه فقد أحدثه، فقد جعلتموه قولًا لكل من تكلم به من الناس، برهم وفاجرهم، وكان ما يقرؤه المسلمون ويسمعونه كلام الناس عندكم لا كلام الله، ثم إن الله -تعالى- قال:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (4).

فأخبر أن جبرئيل نزله من الله، لا من هواء ولا من لوح.

وقال: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (5)، وقال:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (6)، {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (7)، وأنتم وافقتم المعتزلة بحيث يمتنع أن يكون عندكم

(1) في س، ط: وإما.

(2)

سورة التكوير، الآية:19. وسورة الحاقة، الآية: 40.

(3)

سورة الأنبياء، الآية:2.

(4)

سورة النحل، الآيتان: 101، 102.

(5)

سورة الأنعام، الآية:114.

(6)

سورة الأحقاف، الآية:2. وسورة الجاثية، الآية: 2. وسورة الزمر، الآية:1.

ولم ترد لفظة: (الكتاب) في الأصل. وهو خطأ.

(7)

سورة فصلت، الآيتان:2.

ص: 973

منزلًا من الله، لأن الله ليس فوق العالم، ولو كان فوق العالم لم يكن القرآن منزلًا منه، بل من الهواء.

و-أيضًا- فأنتم في مسائل الأسماء والأحكام قابلتم المعتزلة تقابل التضاد، حتى رددتم بدعتهم ببدع (1) تكاد أن تكون مثلها، بل هي من وجه شر منها، ومن وجه دونها، فإن المعتزلة جعلوا الإيمان اسمًا متناولًا لجميع الطاعات القول والعمل، ومعلوم أن هذا قول السلف والأئمة (2)، وقالوا: إن الفاسق الملي لا يسمى (3) مؤمنًا ولا كافرًا (4)، وقالوا: إن الفساق مخلدون في النار لا يخرجون منها بشفاعة ولا غيرها (5)، وهم في هذا القول مخالفون للسلف والأئمة، فخلافهم في الحكم للسلف، وأنتم وافقتم الجهمية في الإرجاء والجبر، فقلتم: الإيمان مجرد تصديق القلب وإن لم يتكلم بلسانه، وهذا عند السلف والأئمة شر من قول المعتزلة، ثم إنكم قلتم: إنا لا نعلم الفساق هل يدخل أحد منهم النار أولًا يدخلها أحد منهم، فوقفتم وشككتم في نفوذ الوعيد في أهل القبلة جملة، ومعلوم أن هذا من أعظم البدع عند السلف والأئمة، فإنهم لا يتنازعون (6) أنه لا بد أن يدخلها من يدخلها من أهل الكبائر، فأولئك قالوا: لا بد أن يدخلها كل فاسق، وأنتم قلتم: لا نعلم (7) هل يدخلها فاسق أم لا؟ فتقابلتم في هذه البدعة، وقولكم

(1) ببدع: ساقطة من: س.

(2)

تقدم بيان مذاهب الناس في الإيمان. فراجعه ص: 647 - 648.

(3)

في الأصل: الملي الذي لا يسمى. والكلام يستقيم بما أثبته من: س، ط.

(4)

أي: في منزلة بين المنزلتين. وهذا في الدنيا.

(5)

وهذا الحكم عليهم في الآخرة، وتقدم الكلام على مرتكب الكبيرة عند المتكلمين وبيان مذهب السلف رحمهم الله في ذلك. فراجعه في ص:471.

(6)

في س: ينازعون.

(7)

لا نعلم: ساقطة من: س.

ص: 974

أعظم بدعة من قولهم وأعظم مخالفة للسلف والأئمة، وعلى قولكم لا نعلم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل النار، لأنه لا يعلم هل يدخلها أحد أم لا؟ وقولكم إلى إفساد (1) الشريعة أقرب من قول المعتزلة، وكذلك في مسائل القدر، فإن المعتزلة أنكروا أن يكون الله خالق أفعال العباد أو مريدًا لجميع الكائنات (2)، بل الإرادة عندهم بمعنى المحبة والرضا (3)، وهو لا يحب ويرضى إلّا ما أمر به، فلا يريد إلّا ما أمر به، وأنتم وافقتموهم على أصهلم الفاسد، وقاسمتموهم بعد ذلك الضلال، فصرتم وهم في هذه المسائل كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء (4):"فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون (5) على مفارقة الكتاب".

قلتم (6): إن الإرادة بمعنى المحبة والرضا كما قالت المعتزلة، لكن قلتم: وهو أراد كل ما يفعله العباد، فيجب أن يكون محبًا راضيًا لكل ما يفعله العباد حتى الكفر والفسوق والعصيان (7)، وتأولتم قوله:

(1) في س: فساد.

(2)

انظر رأيهم هذا في:

مسائل العدل والتوحيد - المختصر في أصول الدين -للقاضي عبد الجبار ص: 208. إنقاذ البشرية من الجبر والقدر - للشريف المرتضى- 274. والفرق بين الفرق -للبغدادي- ص: 114، 115. والاقتصاد في الاعتقاد -للغزالي- ص: 123، 136.

(3)

عقد القاضي عبد الجبار في "المغني" 6/ 51 (الإرادة) -فما بعدها- فصلًا في أن المحبة والرضا والاختيار والولاية ترجع إلى الإرادة وما يتصل بذلك، وقد ناقش فيه قول من يقول:"إن الله لا يجب كونه محبًا لما يريده".

(4)

في الرد على الجهمية والزنادقة - ص: 85.

(5)

في الرد على الجهمية: مجمعون.

(6)

في ط: وقلتم.

(7)

تقدم الكلام على رأي الأشاعرة في هذه المسألة ص: 960.

ص: 975

{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (1) على المؤمنين من عباده (2)، وعلى قولكم لا يرضى لعباده الإيمان يعني الكافرين منهم، إذ عندكم كل من فعل فعلًا فقد رضيه منه، ومن لم يفعله لا يرضاه منه، فقد رضي عندكم من إبليس وفرعون ونحوهما كفرهم ولم يرض منهم الإيمان، وكذلك قلتم في قوله:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (3) أي: لا يحبه للمؤمنين (4)، وأما من قال منكم (5): لا يحبه دينًا أو لا يرضاه دينًا فهذا أقرب، لكنه بمنزلة قولكم: لا يريده دينًا ولا يشاؤه دينًا، فيجوز عندكم أن يقال: يحب الفساد ويرضاه، أي: يحبه فسادًا ويرضاه فسادًا كما أراده فسادًا.

وأنكرتم على المعتزلة ما أنكره المسلمون عليهم، وهو قولهم: إن الله لا يقدر أن يفعل بالكفار غير ما فعل بهم من اللطف (6)، وأنكرتم على من قال منهم: إن خلاف المعلوم غير مقدور، ثم قلتم: إن العبد لا يقدر على غير ما علم منه، وإنه لا استطاعة له إلّا إذا كان فاعلًا فقط، فأما من لم يفعل فإنه لا استطاعة له أصلًا (7)، فخالفتم قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى

(1) سورة الزمر، الآية:7.

(2)

انظر هذا التأويل في: التفسير الكبير -للرازي- 26/ 247. والتمهيد -للباقلاني- ص: 284.

(3)

سورة البقرة، الآية:205.

(4)

انظر هذا التأويل في: التفسير الكبير -للرازي- 5/ 202. والتمهيد -للباقلاني- ص: 284.

(5)

كأبي بكر الباقلاني في "التمهيد" ص: 284. والشهرستاني في "نهاية الإقدام" ص: 259.

(6)

تقدم الكلام على اللطف عند المعتزلة ص: 627.

(7)

الأشاعرة يقولون -كما بينه الشيخ رحمه الله: إن الإنسان يستطيع باستطاعة هي غيره، يستحيل تقدمها للفعل، بل الفعل يحدث الاستطاعة في حال حدوثها.

أي: إن الاستطاعة تقارن الفعل عندهم، ويستدلون لذلك بأدلة عقلية أحيل عليها في المصادر التالية: اللمع -لأبي الحسن الأشعري- ص: 93 - 95.

الإرشاد -لأبي المعالي الجويني- ص: 219 - 222. التمهيد -لأبي بكر الباقلاني =

ص: 976

النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1) ونحو ذلك من النصوص، ولزمكم أن كل من لم يؤمن بالله فإنه لم يكن قادرًا على الإيمان، وكل من ترك طاعة الله فإنه لم يكن مستطيعًا لها، فإن ضم ضام هذا إلى قوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"(3) تركب من هذين أن كل كافر وفاجر فإنه قد اتقى الله

= - ص: 286، 287. أما المعتزلة فأجمعت على أن الاستطاعة قبل الفعل، وهي قدرة عليه وعلى ضده، وهي غير موجبة للفعل.

انظر: شرح الأصول الخسمة -للقاضي عبد الجبار- ص: 396. مقالات الإسلاميين -لأبي الحسن الأشعري- 1/ 300. والصواب في هذه المسألة كما قال الشيخ في "الفتاوى" 8/ 372، 373: "والذي دل عليه الكتاب والسنة: أن الاستطاعة متقدمة على الفعل، ومقارنة له -أيضًا- وتقارنه -أيضًا- استطاعة أخرى لا تصلح لغيره. فالاستطاعة نوعان: متقدمة صالحة للضدين، ومقارنة لا تكون إلا مع الفعل.

فتلك هي المصححة للفعل المجوزة له، وهذه هي الموجبة للفعل المحققة له. . ".

ثم ذكر رحمه الله الأدلة على النوعين من الكتاب والسنة قال: "فالأولى: هي الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وعليها يتكلم الفقهاء، وهي الغالبة في عرف الناس.

والثانية: هي الكونية التي هي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل".

(1)

سورة آل عمران، الآية:97.

(2)

سورة التغابن، الآية:16.

(3)

الحديث بهذا اللفظ أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم. . ".

صحيح البخاري 9/ 142 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والحديث مع اختلاف في الألفاظ في: صحيح مسلم 2/ 975 - كتاب الحج - باب فرض الحج مرة في العمر- الحديث / 412. سنن النسائي 5/ 83 - كتاب =

ص: 977

ما استطاع، وأنه قد أتى فيما أمر بما استطاع إذ لم يستطع غير ما فعل، وأنتم وإن كنتم لا تستلزمون (1) ذلك فهو لازم قولكم إذا لم تجعلوا الاستطاعة نوعين، وقول القدرية الذين يجعلون استطاعة العبد صالحة للضدين، ولا يثبتون الاستطاعة التي هي مناط الأمر والنهي أقرب إلى الكتاب والسنة والشريعة من قولكم: إنه لا استطاعة إلا للفاعل وإن من لم يفعل فعلًا فلا استطاعة له عليه، وكل من تدبر القولين بغير هوى علم أن كلًّا منهما وإن كان فيه من خلاف السنة ما فيه فقولكم أكثر خلافًا للسنة.

وكذلك المعتزلة قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد بل العبد هو الذي يحدث أفعاله، فضلوا بقولهم: إن الله لم يخلق أفعال العباد.

وقلتم أنتم: إن العبد لا يفعل أفعاله، بل هي فعل الله تعالى، ولكن هي كسب للعبد (2) ولم. . . . . . . . . . . . . . .

= مناسك الحج - باب وجوب الحج. وسنن ابن ماجة 1/ 3 - المقدمة- باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث / 1. ومسند الإمام أحمد 2/ 247، 258.

(1)

في ط: لا تلتلزمون. وهو تصحيف.

(2)

قال الأشعري والباقلاني: "الواقع بالقدرة الحادثة هو كون الفعل كسبًا، دون كونه موجودًا أو محدثًا، فكونه كسبًا وصف للوجود بمثابة كونه معلومًا ولخص بعض متأخريهم هذه العبارات بأن قال: الكسب عبارة عن الاقتران العادي بين القدرة المحدثة والفعل، فإن الله - سبحانه - أجرى العبادة بخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته لا بهما، فهذا الاقتران هو الكسب".

يقول ابن القيم رحمه الله بعد ذكره لما تقدم: "ولهذا قال كثير من العقلاء: إن هذا من محالات الكلام، وإنه شقيق أحوال أبي هاشم وطفرة النظام، والمعنى القائم بالنفس الذي يسميه القائلون به كلامًا، وشيء من ذلك غير معقول، ولا متصور".

ثم بين رحمه الله أن ما استقر عليه قول الأشعري أن القدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها ولم يقع المقدور ولا صفة من صفاته، بل المقدور بجميع صفاته واقع بالقدرة القديمة، ولا تأثير للقدرة الحادثة فيه، وتابعه على ذلك عامة أصحابه". =

ص: 978

تفرقوا (1) بين الكسب والفعل بفرق معقول (2)، وادعيتم العلم الضروري بأن كون العبد فاعلًا بعد أن لم يكن فاعلًا أمر محدث ممكن، فلا بد له من محدث واجب، وهذا حق أصبتم فيه دون المعتزلة، لكن من المعتزلة من ادعى العلم الضروري بأن العبد يحدث (3) أفعاله، وهذا -أيضًا- حق أصابوا فيه دونكم.

= شفاء العليل -لابن القيم- ص: 122. وانظر: اللمع -للأشعري- ص: 96، 97. والتمهيد -للباقلاني- ص: 286، 287، 307، 308. والملل والنحل -للشهرستاني- 1/ 96 - 98.

(1)

في الأصل، س، يفرقوا. ولعل ما أثبت من: ط يكون مناسبًا للسياق.

(2)

ذكر الشيخ رحمه الله في "الفتاوى" 8/ 119: أنهم فرقوا بين الكسب الذي أثبتوه وبين الفعل فقالوا: "الكسب عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة.

وقالوا -أيضًا-: الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه".

ثم بين رحمه الله أن الناس قالوا لهم: "هذا لا يوجب فرقًا بين كون العبد كسب وبين كونه فعل، وأوجد وأحدث وصنع وعمل ونحو ذلك، فإن فعله وإحداثه وعمله وصنعه هو -أيضًا- مقدور بالقدرة الحادثة، وهو قائم في محل القدرة الحادثة. و -أيضًا- فهذا فرق لا حقيقة له، فإن كون المقدور في محل القدرة أو خارجًا عن محلها لا يعود إلى نفس تأثير القدرة فيه: وهو مبني على أصلين:

أن الله لا يقدر على فعل يقوم بنفسه، وأن خلقه للعالم هو نفس العالم، وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على خلاف ذلك.

الثاني: أن قدرة العبد لا يكون مقدورها إلا في محل وجودها، ولا يكون شيء من مقدورها خارجًا عن محلها".

انظر ما ذكره الآمدي في "غاية المرام" ص: 223 من الفرق بين الكسب والخلق.

(3)

يحدث: ساقطة من: س.

ص: 979

ولهذا (1) كان أهل السنة والجماعة على أن العبد فاعل لأفعاله حقيقة، والله خلق الفاعل فاعلًا، كما قال:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (2)، وليس كونه قادرًا مريدًا فاعلًا بألزم له من كونه طويلًا قصيرًا والله خلقه على هذه الصفة، فليس ما ذكره الله في كتابه من أن العباد يفعلون ويصنعون بمناف أن يكون الله خلقهم على هذه الصفة، وكون العبد فاعلًا لما جعل الله فيه من القدرة كسائر (3) ما خلقه الله بقوة فيه، وقدرته سبب في حصول مقدوره كسائر الأسباب، والأسباب لا ينكر (4) وجودها ولا ينكر أن الله خلقها وخلق المسبب بها، فمن قال: قدرة العبد مؤثرة في المقدور كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها لم ينكر قوله، ومن قال: ليست مؤثرة أي ليست مستقلة وليست مبدعة، كما أن سائر الأسباب ليست كذلك لم ينكر قوله، فإن السبب ليس علة مستقلة بمسببه، بل لا بد له من أسباب أخر، ولا بد من صرف الموانع، والله خالق مجموع الأسباب، وصارف جميع الموانع، وهذا هو الخلق المطلق والتأثير المطلق الذي ليس إلا لله وحده، وكل ما سواه مما يجعل سببًا ومؤثرًا فإنه جزء سبب، فلا ينفي هذا الجزء، ولا يعطي ما لا يستحقه من كونه مبدعًا خالقًا، ومن كونه واحدًا لا شريك له، فهو رب كل شيء ومليكه، وأنتم خالفتم من نصوص الكتاب والسنة وسلف الأمة في مسائل الصفات والقرآن والرؤية ومسائل الأسماء والأحكام (5) والقدر ما تأولتموه، فالمعتزلة ونحوهم إذا خالفوا من ذلك ما تأولوه لم يكن لكم عليهم حجة، وإذا قدحتم في

(1) في هامش س: قف على مذهب أهل السنة.

(2)

سورة المعارج، الآيتان: 19 - 20.

(3)

في س، ط: هو كسائر.

(4)

في الأصل، س: لا تنكر. والمثبت من: ط. ولعله المناسب.

(5)

في س: الأحكام والأسماء.

ص: 980

المعتزلة بما ابتدعوه من المقالات وخالفوه من السنن والآثار (1) قدحوا فيكم بمثل ذلك، وإذا نسبتموهم (2) إلى القدح في السلف والأئمة نسبوكم إلى مثل ذلك، فما تذمونهم به من مخالفة الكتاب والسنة والإجماع يذمونكم بنظيره، ولا محيص لكم عن ذلك إلا بترك ما ابتدعتموه وما وافقتموهم عليه من البدعة، وما ابتدعتموه أنتم، وحينئذ فيكون الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها سليمًا من التناقض والتعارض محفوظًا، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3).

وبالجملة فعامة ما ذمه السلف والأئمة وعابوه على المعتزلة، من الكلام المخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم لكم منه أوفر نصيب، بل تارة تكونون (4) أشد مخالفة لذلك من المعتزلة، وقد شركتموهم (5) في أصول ضلالهم التي فارقوا بها سلف الأمة وأئمتها، ونبذوا بها كتاب الله وراء ظهورهم، فإنهم لا يثبتون شيئًا من صفات الله تعالى، ولا ينزهونه عن شيء بالكتاب والسنة والإجماع [بل يزعمون أن معرفة صحة الكتاب والسنة والإجماع](6) موقوف على العلم بذلك، والعلم بذلك لا يحصل به لئلا يلزم الدور، فيرجعون إلى مجرد رأيهم في ذلك (7)، وإذا استدلوا بالقرآن كان ذلك على وجه الاعتضاد والاستشهاد لا على وجه الاعتماد

(1) الآثار: ساقطة من: س.

(2)

في س: نسبتموه. وهو تصحيف.

(3)

سورة الحجر، الآية:9.

(4)

في الأصل: تكون. والمثبت من: س، ط. ولعله المناسب.

(5)

في ط: شاركتموهم.

(6)

ما بين المعقوفتين ساقط من: س، ط.

(7)

وشاركهم الأشاعرة في ذلك.

انظر: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين -للرازي- ص: 51. حيث ذكر أن كل ما يتوقف العلم بصدق الرسول على العلم به لا يمكن إثباته بالنقل وإلا لزم الدور.

ص: 981

والاعتقاد، وما خالف قولهم من القرآن تأولوه على مقتضى آرائهم، واستخفوا بالكتاب والسنة وسموها (1) ظواهر، وإذا استدلوا على قولهم بمثل قوله:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (2) وقوله: {فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (3)، أو قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (4) ، ونحو ذلك ، لم تكن هذه النصوص هي عمدتهم ولكن يدفعون [بها](5) عن أنفسهم عند المسلمين، وأما الأحاديث النبوية فلا حرمة لها عندهم، بل تارة يردونها بكل طريق ممكن، وتارة يتأولونها، ثم (6) أن يزعمون أن ما وضعوه برأيهم قواطع عقلية، وأن هذه القواطع العقلية ترد لأجلها نصوص الكتاب والسنة، إما بالتأويل، وإما بالتفويض، وإما بالتكذيب، وأنتم شركاؤهم في هذه الأصول كلها (7)،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1) في ط: سموهما.

(2)

سورة الأنعام، الآية:103.

(3)

سورة الشورى، الآية:11.

(4)

سورة الحديد، الآية. 4.

(5)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(6)

ثم: ساقطة من: س.

(7)

وقد خصص إمام الحرمين الجويني لذلك بابًا في "الإرشاد" ص: 358 - 360 أسماه "باب القول في السمعيات" قال فيه: "اعلموا، وفقكم الله تعالى أن أصول العقائد تنقسم إلى ما يدرك عقلًا، ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعًا، وإلى ما يدرك عقلًا، ولا يتقدر إدراكه عقلًا، وإلى ما يجوز إدراكه سمعًا وعقلًا".

وبعد أن تكلم على كل قسم من هذه الأقسام قال: "فإذا ثبتت هذه المقدمة، فيتعين بعدها على كل معتن بالدين واثق بعقله أن ينظر فيما تعلقت به الأدلة السمعية، فإن صادفه غير مستحيل في العقل، وكانت الأدلة السمعية قاطعة في طرقها، لا مجال للاحتمال في ثبوت أصولها ولا في تأويلها -فما هذا سبيله- فلا وجه إلا القطع به.

وإذا لم تثبت الأدلة السمعية بطرق قاطعة، ولم يكن مضمونها مستحيلًا في العقل، وثبتت أصولها قطعًا، ولكن طريق التأويل يجول فيها، فلا سبيل إلى =

ص: 982

ومنهم (1) أخذتموها، وأنتم فروخهم فيها، كما يقال: الأشعرية مخانيث المعتزلة (2)، والمعتزلة مخانيث الفلاسفة (3)، لكن لما شاع بين

= القطع، ولكن المتدين يغلب على ظنه ثبوت ما دل الدليل السمعي على ثبوته، وإن لم يكن قاطعًا، وإن كان مضمون الشرع المتصل بنا مخالفًا لقضية العقل، فهو مردود قطعًا بأن الشرع لا يخالف العقل، ولا يتصور في هذا القسم ثبوت سمع قاطع، ولا خفاء به".

أما الرازي فإننا نجده يقول في كتابه "أساس التقديس" ص: 172، 173:"اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة: ".

وبعد أن تكلم عليها مما يفيد إبطالها قال: "ولما بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال: إنها غير صحيحة، أو يقال: إنها صحيحة، إلا أن المراد منها غير ظواهرها، ثم إن جوزنا التأويل، واشتغلنا على سبيل التبرع بذكر التأويلات على التفصيل، وإن لم يجز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله -تعالى- فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في المتشابهات".

وهذا القانون الكلي عند الرازي مصرح به في كتبه مثل: "نهاية العقول في دراية الأصول" -مخطوط- اللوحة 14. ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين" ص: 51.

(1)

في الأصل: ومنهم من أخذتموها. والكلام يستقيم بدون هذه الزيادة كما في: س، ط.

(2)

نسب الشيخ رحمه الله في "مجموع الفتاوى" 14/ 349، هذا القول إلى: أبي إسماعيل الهروي.

(3)

يقول الشيخ رحمه الله في "الفتاوى" 14/ 349: "ومن الناس من يقول: المعتزلة مخانيث الفلاسفة.

وقد ذكر الأشعري وغيره هذا لأن قائله لم يعلم أن جهمًا سبق هؤلاء إلى هذا الأصل، أو لأنهم مخانيثهم من بعض الوجوه، وإلا فمخالفتهم للفلاسفة كبيرة جدًّا".

والمعنى: تشبهوا بهم وفعلوا مثل فعلهم. انظر: تاج العروس للزبيدي- 1 / (خنث).

ص: 983

الأمة فساد مذهب المعتزلة، ونفرت القلوب عنهم، صرتم تظهرون الرد عليهم في بعض المواضع، مع مقاربتكم أو موافقتكم لهم في الحقيقة، وهم سموا أنفسهم أهل التوحيد، لاعتقادهم أن التوحيد هو نفي الصفات، وأنتم وافقتموهم على تسمية أنفسكم أهل التوحيد، وجعلتم نفي بعض الصفات من التوحيد، وسموا ما ابتدعوه من الكلام الفاسد، إما في الحكم، وإما في الدليل، أصول الدين، وأنتم شركتموهم (1) في ذلك.

وقد علم ذم السلف والأئمة لهذا الكلام، بل علم من يعرف دين الإسلام وما بعث الله به نبيه -عليه أفضل الصلاة والسلام- ما فيه من المخالفة لكتب الله وأنبيائه ورسله، وقد بسطنا الكلام على فساد هذه الأصول في غير هذا الموضع (2)، وبينا أن دلالة (3) الكتاب والسنة التي يسمونها دلالة السمع ليست بمجرد الخبر، كما تظنونه أنتم وهم، حتى جعلتم ما دلّ عليه السمع إنما هو بطريق الخبر الموقوف على تصديق المخبر (4)، ثم جعلتم تصديق المخبر -وهو الرسول- موقوفًا على هذه الأصول التي سميتموها (5) أنتم وهم العقليات، وجعلوا منها نفي (6)

(1) في ط: شاركتموهم.

(2)

بين الشيخ رحمه الله في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" 1/ 22 أنه صنف مصنفًا قديمًا منذ نحو ثلاثين سنة في فساد ما زعمه هؤلاء من أن الاستدلال بالأدلة السمعية موقوف على مقدمات ظنية، وأنه ذكر طرفًا من بيان فساد هذا الكلام في الكلام على المحصل.

يقول د. محمد رشاد سالم رحمه الله محقق الكتاب: "من مؤلفات ابن تيمية كتاب شرح أول المحصل، في مجلد، وهو كتاب مفقود".

(3)

في س: دلة. وهو تصحيف.

(4)

انظر: الإرشاد -للجويني- ص: 8.

(5)

في س: سميوها. وهو تصحيف.

(6)

في ط: نفس. وهو تصحيف.

ص: 984

الصفات والتكذيب بالقدر، ووافقتموهم على أن منها نفي كثير من الصفات، وأنتم لم تثبتوا القدر حتى أبطلتم ما في أمر الله ونهيه، بل [ما](1) في خلقه وأمره من الحكم والمصالح والمناسبات، وزعمتم أن الرد على القدرية لا يتم إلا بنفي تحسين العقل وتقبيحه مطلقًا، وأن تجعل الأفعال كلها سواء في أنفسها لا فرق في نفس الأمر بين الصلاة والزنا إلا من جهة تحكم (2) الشارع بإيجاب أحدهما وتحريم الآخر، فصار قولكم مدرجة إلى فساد الدين والشريعة، وذلك أعظم فسادًا من التكذيب بالقدر، وقد بينا في غير هذا الموضع (3) أن القرآن ضرب الله فيه الأمثال، وهي المقاييس العقلية التي يثبت بها ما يخبر به من أصول الدين، كالتوحيد وتصديق الرسل وإمكان المعاد، وأن ذلك مذكور في القرآن على أكمل الوجوه، وأن عامة ما يثبته النظار من المتكلمين والمتفلسفة في هذا الباب يأتى القرآن بخلاصته وبما هو أحسن منه على أتم الوجوه، بل لا نسبة بينهما لعظم التفاوت.

ومعلوم أن هذا أمر عظيم، وخطب جسيم، فإنكم والمعتزلة تثبتون كثيرًا مما (4) يثبتونه من أصول الدين بطرق ضعيفة أو فاسدة، مع ما يتضمن ذلك من التكذيب بكثير من أصول الدين، وحقيقة قولهم الذي وافقتموهم عليه: أنه لا يمكن تصديق الرسول في بعض ما أخبر به إلا بتكذيبه في شيء مما أخبر به، فلا يمكن الإيمان بالكتاب كله، بل يكفر

(1) ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(2)

في ط: حكم.

(3)

انظر: مجموع الفتاوى- 2/ 46، 47، 12/ 81، 82، حيث بين رحمه الله أن في القرآن من بيان أصول الدين التي تعلم مقدماتها بالعقل الصريح ما لا يوجد مثله في كلام أحد من الناس، بل عامة ما يأتي به حذاق النظار من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها، وبما هو أحسن منها.

(4)

في الأصل، س: ما. والمثبت من: ط. ولعله المناسب.

ص: 985

ببعضه ويؤمن ببعضه، فيهدم من الدين جانب ويبنى منه جانب على غير أساس ثابت، ولولا أن هذا الموضع لا يسع (1) ذلك لفصلناه، فإنا قد بسطناه في مواضع، مثل ما يقال: من أنه لا يمكن الإقرار بالصانع إلا بنفي صفاته أو بعضها، التي يستلزم نفيها تعطيله في الحقيقة، فيبقى الإنسان مثبتًا له نافيًا له مقرًا بوجوده مستلزمًا لعدمه، وإن كان لا يشعر بالتناقض.

وأما العقليات، فإنكم وافقتم المعتزلة والفلاسفة على أصول يلزم من تسليمها فساد ما بينتموه، فإنكم لما سلمتم لهم أن الأعراض وهي صفات تدل على حدوث ما قامت به أو تدل على إمكانه (2)، كانوا مستدلين بهذا على نفي الصفات عن الرب سبحانه وتعالى فتنقطعون معهم، ثم أنتم إنما استدللتم على المتفلسفة بأن ما قامت به الحوادث فهو حادث، فإنهم يزعمون أن القديم تقوم به الحوادث، ولما ادعيتم أن ما قامت به الحوادث فهو حادث ألزموكم أول الحوادث، فقالوا: ذلك الحادث إما أن يكون لحدوثه سبب، وإما أن لا يكون لحدوثه سبب، فإن كان لحدوثه سبب لزم تسلسل الحوادث وذلك يبطل دليلكم عليهم، إذ هو مبني على تسلسل الحوادث وامتناع حوادث لا أول لها، وإن لم

(1) في الأصل: لا يتسع. والمثبت من: س. ولعله المناسب للسياق.

(2)

انظر: الإرشاد -للجويني- ص: 17 فما بعدها. حيث فسر العرض بأنه المعنى القائم بالجوهر، كالألوان والطعوم والروائح، والحياة والموت، والعلوم والإرادات والقدر القائمة بالجوهر. والجوهر عنده هو المتحيز، وكل ذي حجم متحيز، والعالم جواهر وأعراض. والجواهر حادثة، وإثبات حدثها يبنى على أصول.

منها: إثبات الأعراض.

ومنها: إثبات حدثها.

ومنها: إثبات استحالة تعري الجواهر عنها.

ومنها: إثبات استحالة حوادث لا أول لها.

ص: 986

يكن لحدوثه سبب جاز ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح، وهذا يبطل جميع أصولكم وأصول المعتزلة والفلاسفة، ويبطل إثباتكم لوجود الصانع، فأنتم مع الفلاسفة بين أمرين: إما أن تجوزوا حوادث لا أول لها فيبطل دليلكم عليهم الذي أثبتم به حدوث العالم وهو أصل الأصول عندكم وإما أن لا تجوزوا ذلك، فيبطل -أيضًا- دليلكم على حدوث العالم، فعلى كلا التقديرين دليلكم الذي هو أصل أصولكم على حدوث العالم باطل، وأما المعتزلة فهم يوافقونكم على هذا الأصل، لكن خطاب الفلاسفة لهم كخطاب الفلاسفة لكم، وأما خطاب المعتزلة فإنهم يقولون لكم: إذا سلمتم أن ما تقوم به الحوادث لا يكون إلا جسمًا لزمكم أن تقولوا: ما تقوم به الأعراض لا يكون جسمًا، إذ لا فرق في (1) المعقول بين قيام الأعراض والحوادث، وإذا كان ما قام به الأعراض لا يكون إلا جسمًا، وأنتم قد قلتم: تقوم به الصفات وهي في الحقيقة الأعراض، لزمكم (2) أن يكون جسمًا، والجسم حادث، فيلزم أن يكون حادثًا، ويقول لكم المعتزلي: إن قيام الكلام والحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك بمحل ليس بجسم، ودعوى أن هذه الصفات ليست أعراضًا أمر معلوم الفساد بالضرورة، وكان جوابكم للمعتزلة في هذا المقام أن قلتم لهم: كما اتفقنا نحن وأنتم على أن الله حي عالم قادر وليس بجسم، فذلك يجب أن تكون له حياة وعلم وقدرة وليست أعراضًا، وتقوم به ولا يكون جسمًا.

ومعلوم أن هذا الجواب ليس بعلمي ولا يحصل به انقطاع المعتزلة ولا غيرهم، إذ يقال لكم: المعتزلة مخطئون إما في قولهم: إن هذه الأسماء تثبت لغير جسم، وإما في قولهم: إن هذه الصفات لا تقوم إلّا

(1) في الأصل: بين. والمثبت من: س، ط. ولعله المناسب.

(2)

في س، ط: لزم.

ص: 987

بجسم، فلم (1) قلتم إن خطأهم في الثاني دون الأول؟

فإن قلتم لأنه (2) قد قام الدليل على نفي الجسم.

قيل لكم: ذلك الدليل بعينه ينفي قيام الصفات التي هي الأعراض به، إذ لا يعقل ما يقوم به الأعراض إلا الجسم.

ويقال لكم: الدليل على الذي نفيتم به الجسم إنما هو الاستدلال على حدوثه بحدوث الأعراض، وهذا الدليل آخره بعد تقرير كل مقدمة هو منع حوادث لا أول لها، وهذه المقدمة إن صحت لزمكم إثبات حوادث بلا سبب، وذلك يبطل أصل دليلكم على إثبات الصانع، فإنه متى جوز الحدوث بلا مرجح تام يلؤم من الحدوث لزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح، وهو يسد باب إثبات الصانع، بل يستلزم أن لا يكون في الوجود موجود واجب، وهو في نفسه من أفسد ما يقال، ولهذا لم يقله عاقل.

قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتابه "ذم الكلام"(3) باب: في (4) ذكر كلام الأشعري (5): ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة طوايا (6) كلام الجهمية، وما أودعته رموز (7) الفلاسفة، ولم نقف منهم (8) إلا على التعطيل البحت، وإن قطب مذهبهم، ومنتهى عقدتهم (9)، ما صرحت

(1) في الأصل: فلو. والمثبت من: س، ط، ولعله المناسب لسياق الكلام.

(2)

لأنه: ساقطة من: س، ط.

(3)

ذم الكلام -لأبي إسماعيل الهروي- ج / 7 - اللوحات: 30 - 31.

(4)

في: ساقطة من: ذم الكلام.

(5)

في س، ط: الأشعرية.

(6)

في الأصل: طويا. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط، وذم الكلام.

(7)

في ذم الكلام: أمو.

(8)

في ذم الكلام: منه.

(9)

في س، ط: عقيدتهم.

ص: 988

به رؤوس (1) الزنادقة قبلهم، أن الفلك دوار [و](2) السماء خالية، وإن قولهم: إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء، ما استثنوا (3) جوف كلب، ولا جوف خنزير ولا حشًا فرارًا من الإثبات، وذهابًا عن التحقيق، وإن قولهم: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم، قدير (4) بلا قدرة، إله بلا نفس ولا شخص ولا صورة، ثم قالوا: لا حياة له، ثم قالوا: لا شيء، فإنه لو كان شيئًا لأشبه الأشياء حاولوا حول [مقال](5) رؤوس الزنادقة القدماء، إذ قالوا: الباري لا صفة ولا لا صفة، خافوا على قلوب ضعفاء المسلمين وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم، إذ كان ظاهر تعلقهم بالقرآن، وإن كان اعتصامًا به من السيف، واجتنانًا (6) به منهم (7)، وإذ هم يردون (8) التوحيد، ويخاوضون المسلمين، ويحملون الطيالسة (9) فأفصحوا بمعايبهم (10)، وصاحوا بسوء ضمائرهم، ونادوا على خبايا نكتهم، فيا طول ما لقوا في أيامهم من سيوف الخلفاء، وألسن العلماء، وهجران الدهماء (11) فقد شحنت

(1) في الأصل: درس. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط، وذم الكلام.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، وذم الكلام.

(3)

في س: ما استشنعوا.

(4)

في ذم الكلام: قادر.

(5)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، وذم الكلام.

(6)

في الأصل: واجتنابًا. والمثبت من: س، ط، وذم الكلام. ولعله المناسب.

والاجتنان: الاستتار. لسان العرب لابن منظور 13/ 94 (جنن).

(7)

في ذم الكلام: منه.

(8)

في جميع النسخ، وذم الكلام: يرون. ولعل ما أثبته يناسب السياق.

(9)

الطيالسة: الطلس الوسخ من الثياب. والمقصود: أنهم يحملون ما فيه شائبة.

القاموس المحيط -للفيروزآبادي 3/ 87 (طلس).

(10)

في جميع النسخ: بمعانيهم. والمثبت من: ذم الكلام. ولعله المناسب.

(11)

الدهماء: بفتح الدال هم: العدد الكثير وجماعة الناس. القاموس المحيط -للفيروزآبادي- 2/ 225 (دهم).

ص: 989

كتاب (1)"تكفير الجهمية" من مقالات علماء الإسلام فيهم، ودأب الخلفاء فيهم، ودق عامة أهل السنة عليهم، وإجماع المسلمين على إخراجهم من الملة، ثقلت عليهم الوحشة، وطالت عليهم الذلة، وأعيتهم الحيلة إلا أن يظهروا الخلاف لأوليهم والرد عليهم، ويصفوا كلامهم صفًّا (2)، يكون ألوح للإفهام، وأنجع في العوام، من أساس أولهم، يجد ذلك المساغ، ويتخلصوا من خزي الشناعة، فجاءت بمخاريق تراءى للغير (3) بغير ما في الحشايا، ينظر الناظر الفهم في حذرها، فيرى مخ الفلسفة يكسى لحاء السنة، وعقد الجهمية ينحل ألقاب الحكمة، يردون على اليهود قولهم:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} (4)، فينكرون الغل، وينكرون اليد، فيكونون (5) أسوأ حالًا من اليهود، لأن الله أثبت الصفة، ونفى العيب، واليهود أثبتت الصفة، وأثبتت العيب، وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا العيب، ويردون على النصارى في مقالتهم (6) في عيسى وأمه، فيقولون: لا يكون في المخلوق غير المخلوق (7)، فيبطلون القرآن، فلا يخفى على ذوي الألباب أن كلام أولهم (8) وكلام آخرهم (9) كخيط السحارة (10).

(1) في الأصل: قلوبهم. والمثبت من: س، ط، وذم الكلام. ولعله المناسب.

(2)

في ذم الكلام: ويصبغوا كلامهم صبغًا.

(3)

في س، وذم الكلام: ترايا للغبي. وفي ط: تترآى للغبي.

(4)

سورة المائدة، الآية:64.

(5)

في الأصل: يكون. والمثبت من: س، ط، وذم الكلام. ولعله المناسب.

(6)

في س، ط، وذم الكلام: مقالهم.

(7)

في ذم الكلام: مخلوق.

(8)

في س، ط، وذم الكلام: أوليهم.

(9)

في س، ط، وذم الكلام: آخريهم.

(10)

سحر: خدع، ومنه ساحر وسحار، وجمعه: سحرة وسحارة، وهم يستعملون في سحرهم خيوطًا يعقدونها وينفثون فيها. والسحارة شيء يلعب به الصبيان إذا مدّ من جانب خرج على لون، وإذا مدّ من جانب آخر خرج على لون آخر =

ص: 990

فاسمعوا الآن يا أولي الألباب، وانظروا ما فضل هؤلاء على أولئك، أولئك قالوا -قبح الله مقالتهم-: إن الله موجود بكل مكان، وهؤلاء يقولون: ليس هو في مكان، ولا يوصف بأين، وقد قال المبلغ عن الله لجارية معاوية بن الحكم:"أين الله"(1)؟

وقالوا: هو من فوق كما هو من تحت، لا يدرى أين هو، ولا يوصف بمكان، وليس هو في السماء، وليس هو في الأرض، وأنكروا الجهة والحد.

وقال أولئك: ليس له كلام إنما خلق كلامًا، وهؤلاء يقولون: تكلم مرة فهو متكلم به مذ تكلم، لم ينقطع الكلام، ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به، ثم تقولون: ليس هو في مكان.

ثم قالوا: ليس هو صوت ولا حروف، وقالوا: هذا زاج (2) وورق، وهذا صوف وخشب، وهذا إنما قصد به النقش (3) وأريد به النقر، وهذا صوت القارئ، أما (4) ترى منه حسن ومنه قبيح (5)، وهذا لفظه، أو ما تراه يجازى به، حتى قال رأس من رؤوسهم: أو يكون قرآن من لبد (6)، وقال آخر: من خشب؟ فراغوا (7) فقالوا: هذه (8)

= مخالف وكل ما أشبه ذلك: سحارة.

انظر بتصرف: لسان العرب لابن منظور 4/ 348، 349 مادة "سحر".

(1)

تقدم تخريجه ص: 928.

(2)

الزاج: الشب اليماني، من الأدوية، وهو من أخلاط الحبر.

راجع: لسان العرب -لابن منظور- 2/ 293 (زوج).

(3)

في ط: النفس. وهو تصحيف.

(4)

في ط: ما.

(5)

في ذم الكلام: وغير حسن.

(6)

لبد: بكسر اللام، ما يتلبد من شعر أو صوف.

راجع: المصباح المنير -للفيومي- ص: 1548 (لبد).

(7)

في س، ط: فراعوا.

(8)

في جميع النسخ: هذا. والمثبت من: ذم الكلام.

ص: 991

حكاية عبر بها عن القرآن، والله تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك، ثم قالوا: غير مخلوق، ومن قال: مخلوق فهو كافر، وهذا من خوضهم، يصطادون به قلوب عوام أهل السنة، وإنما اعتقادهم أن القرآن غير موجود، لفظته الجهمية الذكور بمرة، والأشعرية الإناث بعشر مرات، وأولئك قالوا: لا صفة، وهؤلاء يقولون: وجه كما يقال: وجه النهار، ووجه الأمر، ووجه الحديث، وعين كعين المتاع، وسمع كأذن الجدار وبصر، كما يقال: جداراهما يتراءيان، ويد كيد المنة والعطية، والأصابع كقولهم: خراسان بين أصبعي (1) الأمير، والقدمان كقولهم: جعلت الخصومة تحت قدمي، والقبضة كما قيل: فلان في قبضتي، أي: أنا أملك أمره، وقال (2): و (3) الكرسي العلم، والعرش الملك، والضحك الرضى، والاستواء الاستيلاء، والنزول القبول، والهرولة مثله، فشبهوا من وجه، وأنكروا من وجه، وخالفوا السلف، وتعدوا الظاهر، وردوا الأصل، ولم يثبتوا شيئًا، ولم يبقوا موجودًا، ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالألسن (4)، فقالوا: لا نفسرها نجريها عربية كما وردت، وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة، أرادوا بهذه المخرقة (5) أن يكون عوام المسلمين أبعد غيابًا عنها (6)، وأعيا ذهابًا منها، ليكونوا

(1) في س: أصابعي. وفي ط: أصابع.

(2)

في س، ط: وقالوا.

(3)

الواو: ساقطة من: س، ط، وذم الكلام.

(4)

في س: بالسنة. وهو تصحيف. وفي ط، وذم الكلام: بالألسنة.

(5)

في الأصل: منها. وهي ساقطة من: س. والمثبت من: ط، وذم الكلام ولعله المناسب للسياق، والضمير يعود إلى الصفات الآنفة الذكر.

(6)

لعل المقصود: اختلاق الكذب، يقال من باب المجاز: خرق الرجل، إذا كذب، والتخرق: خلق الكذب.

انظر: تاج العروس-للزبيدي- 6/ 327 - 331 (خرق).

ص: 992

أوحش عند ذكرها، وأشمس (1) عند سماعها، وكذبوا بل التفسير أن يقال: وجه، ثم يقال: كيف وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين.

فالعبارة (2)، فقد قال الله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} (3) وإنما قالو [ها](4) هم بالعبرانية فحكاها عنهم بالعربية، وكان يكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه (5) بالعربية فيها أسماء الله وصفاته، فيعبر بالألسنة عنها، ويكتب إليها بالسريانية فيعبر له زيد بن ثابت رضي الله عنه بالعربية (6)، والله تعالى يدعى بكل لسان بأسمائه فيجيب، ويحلف بها فيلزم، وينشد فيجاز، ويوصف فيعرف.

ثم قالوا: ليس ذات الرسول بحية (7)،. . . . . . . . . . . . . . . . .

(1) الشموس من الدواب: الذي لا يكاد يستقر.

انظر: معجم مقاييس اللغة -لابن فارس- 3/ 212، 213 (شمس).

والمقصود: أنهم ينفرون ولا يستقرون.

(2)

في الأصل: فإن العبارة. والمثبت من: س، ط، وذم الكلام.

(3)

سورة المائدة، الآية:64.

(4)

ما بين المعقوفتين زيادة من: ذم الكلام. يقتضيها السياق.

(5)

كتابه: ساقطة من: س.

(6)

أخرج الإمام أحمد وغيره بسند صحيح أن زيد بن ثابت قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحسن السريانية إنها تأتيني كتب؟ " قال: قلت: لا، قال:"فتعلمها". فتعلمتها في سبعة عشر يومًا.

انظر: المسند -للإمام أحمد- 5/ 182. والمعرفة والتاريخ -للفسوي- 1/ 483، 484. والطبقات الكبرى -لابن سعد- 2/ 358.

(7)

في ذم الكلام: بحجة.

وقد تكلم أبو القاسم القشيري في رسالته المسماة "شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة" على هذه المسألة، وأنها حكاية مكذوبة على أبي الحسن الأشعري وأصحابه، ولم ينطق بها أحد منهم، ولم تضمن في كتبهم، ثم ذكر الأدلة على أن الرسول حي في قبره. =

ص: 993

وقالوا: ما هو بعد ما مات بمبلغ فيلزم به الحجة.

فسقط (1) من أقاوليهم ثلاثة أشياء: أنه ليس في السماء رب، ولا في الروضة رسول، ولا في الأرض كتاب، كما سمعت يحيى بن عمار (2) يحكم به عليهم، وإن كانوا موهوها، ووروا عنها، واستوحشوا من تصريحها، فإن حقائقها لازمة لهم، وأبطلوا التقليد، فكفروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين، وأوجبوا النظر في الكلام، واضطروا إليه الدين -بزعمهم- فكفروا السلف، وسموا الإثبات تشبيهًا، فعابوا القرآن، وضللوا الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يكاد يرى منهم رجلًا ورعًا، ولا للشريعة معظمًا، ولا للقرآن محترمًا، ولا للحديث موقرًا، سلبوا التقوى، ورقة القلب، وبركة التعبد، ووقار الخشوع، واستفضلوا الرسول فانظر -أي- إلى أحدهم، فلا (3) هو طالب آثاره (4)، ولا متبع أخباره، ولا مناضل عن سنته، ولا هو راغب في أسوته، يتقلب بمرتبة العلم وما عرف حديثًا واحدًا، تراه يهزأ بالدين ويضرب له

= انظر: طبقات الشافعية -للسبكي- 3/ 406 - 413.

(1)

الكلام لأبي إسماعيل الهروي في "ذم الكلام" -مخطوط- الجزء السابع - اللوحتان 32، 33. والكلام يفصله عن سابقه عدة أسطر.

(2)

هو: أبو زكريا يحيى بن عمار بن يحيى الشيباني السجستاني، الإمام المحدث الواعظ، شيخ سجستان، ونزيل هراة. توفي سنة 422 هـ.

قال عنه الذهبي: كان متخرقًا على المبتدعة، والجهمية، بحيث يؤول به ذلك إلى تجاوز طريقة السلف.

انظر: سير أعلام النبلاء -للذهبي- 17/ 481 - 483. وشذرات الذهب -لابن العماد- 3/ 226.

(3)

في الأصل: فانظر إلى أحدهم أفلا.

وفي ط: فانظر أنت إلى أحدهم إذ لا. وفي ذم الكلام: فانظر فلا. والمثبت من: س. ولعله المناسب.

(4)

في س، ط: أثره.

ص: 994

الأمثال، ويتلعب بأهل السنة ويخرجهم أصلًا من العلم، لا ينقر (1) لهم عن بطانة إلا خانتك ولا [عن](2) عقيدة إلا أرابتك، ألبسوا ظلمة الهوى (3)، وسلبوا هيبة الهدى، فتنبوا (4) عنهم الأعين، وتشمئز منهم القلوب، وقد شاع في المسلمين [349] أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري كان لا يستنجي ولا يتوضأ ولا يصلي (5).

(1) في ط: لا تنقر.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، وذم الكلام.

(3)

في ذم الكلام: الهزء.

(4)

أي: تبتعد وتتجافى.

انظر: مختار الصحاح -لأبي بكر الرازي- ص: 644 (نبا).

(5)

أقول: ويغلب على الظن أن أبا إسماعيل الهروي بنى شيوع هذا الحكم على أبي الحسن الأشعري على ما أثبته في كتابه "ذم الكلام" -مخطوط- الجزء السادس وما نقله عنه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 16/ 478 أنه قال: "سمعت يحيى بن عمار، سمعت زاهر بن أحمد، وكان للمسلمين -إمامًا- يقول: نظرت في صير باب، فرأيت أبا الحسن الأشعري يبول في البالوعة، فدخلت، فحانت الصلاة، فقام يصلي، وما كان تمسح ولا توضأ، فذكرت الوضوء. فقال: لست بمحدث. قلت: لعله نسي".

وهذا الكلام، وإن كان فيه من الإخلال ببعض الآداب الإسلامية التي أشك أن تصدر من شيخ خراسان في وقته، لكنه لا يدل على ما رمي به أبو الحسن لأمور:

1 -

إن هذا السند منقطع، لأن زاهرًا توفي سنة 289 هـ - كما سيأتي في ترجمته، ويحيى بن عمار السجستاني توفي سنة 422 هـ - انظر: سير أعلام النبلاء -للذهبي- 17/ 481 - 383. وشذرات الذهب -لابن العماد - 3/ 226 - ، وله تسعون سنة، وهذا يقطع بأن يحيى لم يسمع من زاهر.

2 -

إن الرجل -كما ورد في النقل- قام يصلي. فكيف يقال: إنه لا يصلي.

3 -

إن الذهبي اعتذر له بالنسيان، والنسيان -كما هو معلوم- تسقط به التكاليف الشرعية إلى حين التذكر، وهذا على فرض أنه أحدث، فكيف والإنسان قد يجد في نفسه أنه بحاجة إلى الاختلاء للبول، ويكون الأمر على خلاف ذلك.

فاطلاق اللفظ، وإصدار الحكم على الشخص المعين يحتاج إلى تثبت وأدلة =

ص: 995

قال (1): وقد سمعت محمد بن زيد العمري النسابة، أخبرنا المعافى، سمعت أبا الفضل الحادني القاضي بسرخس (2)، يقول: سمعت زاهر بن أحمد (3) يقول: أشهد لما مات أبو الحسن الأشعري متحيرًا بسبب مسألة تكافؤ (4) الأدلة.

= قاطعة لا تقبل المناقشة، ولا يتطرق إليها الاحتمال، فكيف وقد أصدر على إمام استقر أمره على عقيدة السلف.

يقول ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" 19/ 349 - أثناء شرحه للحديث الذي رواه البخاري، وذلك أن رجلًا من الأنصار قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلق زوجاته، فغضب عمر على ابنته حفصة، وبعد سؤاله للرسول عليه السلام عن صحة ذلك تبين أن الأمر على خلاف ما أخبر به الأنصاري -الحديث طويل في صحيح البخاري 6/ 147 - 150 كتاب النكاح. باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها -وما أوردته مما يتعلق بالشاهد بالمعنى-:

"وفيه أن الأخبار التي تشاع -ولو كثر ناقلوها- إن لم يكن مرجعها إلى أمر حسي من مشاهدة أو سماع لا تستلزم الصدق، فإن جزم الأنصاري -في رواية- بوقوع التطليق، وكذا جزم الناس الذين رآهم عمر عند المنبر بذلك محمول على أنهم شاع بينهم ذلك من شخص بناء على التوهم الذي توهمه من اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فظن لكونه لم تجر عادته بذلك أنه طلقهن، وأشاع أنه طلقهن، فشاع ذلك، فتحدث الناس به.

(1)

القائل: أبو إسماعيل الهروي، والكلام متصل بما قبله في ذم الكلام.

(2)

سرخس: مدينة قديمة من نواحي خراسان، وهي كبيرة واسعة بين نيسابور ومرو على نهر لا يدوم جريانه، نسب إليها من لا يحصى من الأئمة.

انظر: معجم البلدان -للحموي- 3/ 208، 209. والروض المعطار -للحميري- ص:316.

(3)

هو: أبو علي زاهر بن أحمد بن محمد بن عيسى السرخسي، الفقيه المحدث، شيخ عصره بخراسان. أخذ الكلام عن أبي الحسن الأشعري. توفي سنة 289 هـ.

انظر: تبيين كذب المفتري -لابن عساكر- ص: 206، 207. والمنتظم -لابن الجوزي- 7/ 206. وطبقات الشافعية -للسبكي- 3/ 293، 294.

(4)

في الأصل: تكاد في. وهو تصحيف. وفي ط: متحيرًا لمسألة تكافئ. . . =

ص: 996

فلا جزى الله امرأً ناط مخاريقه بمذهب الإمام المطللبي (1) رحمه الله وكان من أبر خلق الله قلبًا، وأصوبهم سمتًا، وأهداهم هديًا، وأعمقهم قلبًا، وأقلهم تعمقًا، وأقرهم للدين، وأبعدهم من التنطع، وأنصحهم لخلق الله جزاء خير.

قال: ورأيت منهم قومًا يجتهدون في قراءة القرآن، وتحفظ حروفه، والإكثار من ختمه، ثم اعتقاده (2) فيه ما قد بيناه، اجتهاد روغان كالخوارج.

وروي (3) بإسناد (4) عن حرشة بن الحر، عن حذيفة قال:"إنا آمنا ولم نقرأ القرآن، وسيجيء قوم يقرؤون القرآن لا يؤمنون".

قال (5): وقال ابن عمر: "كنا نؤتى الإيمان قبل القرآن".

وروى (6) بإسناد (7) عن ابن عمر قال: "لقد عشنا برهة من الدهر، وإن أحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن". وفي لفظ: " [إنا](8) كنا صدور هذه الأمة، وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحيهم

= والمثبت من: س، وذم الكلام. ولعله المناسب.

والمقصود المسألة التي تكافأت فيها الأدلة وهي مسألة حدوث العالم، وتقدم ذكر الشيخ رحمه الله هذه المسألة ص: 620 وما بعدها، والإشارة إلى تكافؤ الأدلة فيها عند الأشعري في آخر عمره، وأبي عبد الله الرازي -كما صرح به- في كتابه "المطالب العالية" وغيرهم، وصاروا فيها إلى الوقف والحيرة.

(1)

هو: الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى.

(2)

في ط: اعتقادهم.

(3)

أي: أبو إسماعيل الأنصاري في "ذم الكلام" مخطوط -الجزء السابع- اللوحة: 33. والكلام يفصله عن سابقه بعض الأسطر.

(4)

في س، ط: بإسناده.

(5)

أبو إسماعيل الأنصاري- في المصدر السابق.

(6)

أبو إسماعيل الأنصاري- في المصدر السابق.

(7)

في س، ط: بإسناده.

(8)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، وذم الكلام.

ص: 997

ما يقيم إلا سورة من القرآن أو شبه ذلك، وكان القرآن ثقل (1) عليهم، ورزقوا علمًا به وعملًا (2)، وإن آخر هذه الأمة يخفف عليهم القرآن حتى يقرأه الصبي والعجمي لا يعلمون منه شيئًا" (3) ". أو قال: لا يعملون منه بشيء (4).

قال الحافظ أبو القاسم اللالكائي في كتابه المشهور في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (5) لما ذكر عقوبات الأئمة لأهل البدع، قال: "واستتاب أمير المؤمنين القادر بالله (6) -حرس الله مهجته، وأمد بالتوفيق أموره، ووفقه من القول والعمل لما يرضى مليكه (7) - فقهاء المعتزلة الحنفية في سنة ثمان وأربعمائة، فأظهر الرجوع وتبرؤوا من الاعتزال.

ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض (8)، والمقالات المخالفة للإسلام [والسنة](9)، وأخذ

(1) في ط: ثقيلًا.

(2)

في ذم الكلام: أو عملًا.

(3)

في ذم الكلام: شيء.

(4)

في ط: لا يعلمون. وهو تصحيف.

(5)

شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة 4/ 723.

(6)

هو: أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بالله، الخليفة العباسي، تولى الخلافة سنة 381 هـ، وطالت أيامه، وكان حازمًا مطاعًا، حليمًا كريمًا، وهو من علماء الخلفاء، صنف كتابًا في "الأصول" فيه تكفير المعتزلة والقائلين بخلق القرآن، توفي سنة 422 هـ ببغداد.

انظر: تاريخ بغداد -للخطيب - 4/ 37، 38. والكامل -لابن الأثير - 9/ 80، 414 - 417. والأعلام -للزركلي- 1/ 91، 92.

(7)

في الأصل، ط: مليكته. وفي س: ملكته. والمثبت من: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة. وهو المناسب.

(8)

في س، ط: والرقص. وهو تصحيف.

(9)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة.

ص: 998

خطوطهم بذلك، وأنهم مهما خالفوه حل بهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم.

وامتثل يمين الدولة، وأمين الملة أبو القاسم محمود، يعني: ابن سبكتكين -أعز الله نصره- (1) أمر [أمير](2) المؤمنين القادر بالله، واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها، في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية (3) والقرامطة والجهمية والمشبهة، وصلبهم وحبسهم ونفاهم (4)، والأمر باللعن عليهم على منابر المسلمين، وإبعاد كل طائفة من أهل البدع، وطردهم عن ديارهم، وصار ذلك في الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين في الآفاق.

(1) في شرح أصول اعتقاد أهل السنة: نصرته. وتقدم التعريف به ص: 710.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة.

(3)

إحدى فرق الشيعة الإمامية، وتنتسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، لكن إسماعيلًا توفي في حياة والده ولذا انقسمت إلى فرقتين:

الأولى: وهي الإسماعيلية الخالصة، قالت: إن الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل وأنكرت موته في حياة أبيه، وفسروا ذلك بأنه أظهر الموت تقية من خلفاء بني العباس، وهذه الفرقة تنتظر إسماعيل بن جعفر.

والثانية: قالت: إن الإمام بعد جعفر سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر، وهؤلاء يقال لهم: المباركية.

وللإسماعيلية عقائد فاسدة في الله وصفاته وفي الصحابة وفي الثواب والعقاب والمعاد وغير ذلك مما لا يتسع المفام لتفصيله، ولكن أحيل عليه في المصادر التالية: الفرق بين الفرق -للبغدادي- ص: 62، 63. الملل والنحل -للشهرستاني- 1/ 167، 168، 191 - 198. مذاهب الإسلاميين -لعبد الرحمن بدوي- 2/ 87 - 91. القرامطة -لمحمود شاكر- ص: 39 - 41.

الإسماعيلية تاريخ وعقائد -لإحسان الهي ظهير- ص: 267 - 592. فقد تكلم في هذه الصفحات على عقائد الإسماعيلية بشكل مفصل معتمدًا في ذلك على ما جاء في كتبهم.

(4)

في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: ونفيهم.

ص: 999

وجر ذلك على يد (1) الحاجب أبي الحسن علي بن عبد الصمد، في جمادى [الآخرة](2) سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، تمم الله ذلك وثبته إلى أن يرث الأرض (3) ومن عليها وهو خير الوارثين".

وقد ذكر شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتاب "ذم الكلام"(4) وأهله في الطبقة الثامنة قال: "وفيها نجمت (5) الأشعرية".

ثم ذكر الطبقة التاسعة وذكر (6) فيها كلام من ذكره فيهم ثم قال (7):

"قرأت كتاب محمود الأمير (8) يحث فيه على كشف أستار هذه الطائفة والإفصاح بعيبهم ولعنهم، حتى كان قد قال فيه: أنا ألعن من لا يلعنهم فطار -والله-[في الآفاق](9) للحامدين كل مطار، وصار في المادحين (10) كل مسار، لا ترى عاقلًا إلّا (11) وهو ينسبه إلى متانة الدين وصلابته، ويصفه بشهامة الرأي ونجابته، فما ظنك بدين يخفى فيه ظلم العيوب، وتنجلي عنه (12) بهم القلوب، ودين تناجى (13) به أصحابه،

(1) في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: يدي.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة.

(3)

في ط، وشرح اعتقاد أهل السنة والجماعة: يرث الله الأرض.

(4)

ذم الكلام -مخطوط- الجزء السادس- اللوحة: 43.

(5)

في ذم الكلام: وفيهم نجمت.

وفي مختار الصحاح -لأبي بكر الرازي- ص: 647: نجم الشيء: أي ظهر.

(6)

وذكر: ساقطة من: س.

(7)

في المصدر السابق -الجزء السابع- اللوحة: 8.

(8)

هو: محمود بن سبكتكين. المتقدم.

(9)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، وذم الكلام.

(10)

في الأصل: الماحدين. وهو تصحيف.

(11)

في الأصل: وإلا. والكلام يستقيم بدون الواو، كما هو مثبت.

(12)

في ذم الكلام: عنهم.

(13)

في س، ط: يناجي.

ص: 1000

وتبرأ منه أربابه، وما خفي عليك فلا يخف (1) أن القرآن مصرح (2) به في الكتاتيب، ويجهر به في المحاريب، وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجوامع ويستمع في المجامع، وتشد إليه الرحال، ويتبع في البراري، والفقهاء في القلانس (3) يفصحون في المجالس، وأن الكلام في الخفايا يدس به في الزوايا، قد (4) ألبس أهله الذلة (5)، وأشعر (6) بهم ظلمه، يرمون بالألحاظ (7)، ويخرجون من الحفاظ، يسب بهم أولادهم، وتبرأ (8) منهم أوداؤهم (9)، يلعنهم المسلمون، وهم عند المسلمين يتلاعنون".

ثم إنه جرى بعد ذلك في خلافة القائم في مملكة السلاجقة طغرل بك وذويه لعن المبتدعة -أيضًا- على المنابر، فذكر أبو القاسم بن عساكر أن وزيره (10) كان معتزليًّا رافضيًّا، وأنه أدخل فيهم الأشعرية لقصد

(1) في س، وذم الكلام: فلم يخف. وهي ساقطة من: ط.

(2)

في ذم الكلام: يصرح.

(3)

القلانس: جمع قلنسوة: وهي تلبس في الرأس، ولعله قصد بها العمائم، أي: والفقهاء بعمائمهم.

انظر: القاموس المحيط -للفيروزآبادي- 3/ 675 (قلس).

(4)

في ذم الكلام: وقد.

(5)

في ذم الكلام: ذله.

(6)

في ط: واستعر. وفي ذم الكلام: وأشعرهم ظلمه.

(7)

أي: بالأنظار. واللحظ: النظر في موخر العين.

انظر: مختار الصحاح -لأبي بكر الرازي- ص: 593 (لحظ).

(8)

في ذم الكلام: ويتبرأ.

(9)

أي: أحباؤهم ومن يودهم.

انظر: مختار الصحاح -لأبي بكر الرازي- ص: 714 (ودد).

(10)

أبو نصر منصور بن محمَّد الكندري.

ص: 1001

التشفي والتسلي، فإنه ذكر رسالة أبي بكر البيهقي إلى الوزير في استدراك ذلك قال فيها (1):

"ثم إن السلطان أعز (2) الله نصره، وصرف همته العالية إلى نصرة دين الله وقمع أعداء الله، بعدما تقرر للكافة حسن اعتقاده، بتقرير خطباء أهل مملكته على لعن من استوجب اللعن من أهل البدع (3) ببدعته، وأيس أهل الزيغ عن زيغه عن الحق وميله عن القصد، فألقوا في سمعه ما فيه مساءة أهل السنة والجماعة كافة ومصيبتهم عامة، من الحنفية والمالكية والشافعية الذين لا يذهبون في التعطيل مذهب المعتزلة ولا يسلكون في التشبيه طرق المجسمة في مشارق الأرض ومغاربها ليتسلوا (4) بالأسوة معهم في هذه المساءة عما يسوؤهم من اللعن والقمع في هذه الدولة المنصورة".

وذكر تمام الرسالة (5) في بيان أنهم من أهل السنة ومسألة المنع من إدخالهم في اللعنة.

قال أبو القاسم ابن عساكر (6): "وإنما كان انتشار ما ذكره أبو بكر البيهقي من المحنة، واستعار (7) ما أشار بإطفائه في رسالته من الفتنة، مما تقدم به من سب حزب أبي (8) الحسن الأشعري، في دولة السلطان طغرل بك، ووزارة أبي نصر منصور بن محمَّد الكندري، وكان السلطان

(1) تبيين كذب المفتري -لابن عساكر- ص: 101.

(2)

في تبيين كذب المفتري: ثم إنه أعز. .

(3)

في تبيين كذب المفتري: المبتدعة.

(4)

في جميع النسخ: ليلبسوا. والمثبت من: تبيين كذب المفتري. ولعله المناسب.

(5)

يمكن الإطلاع عليها في: تبيين كذب المفتري - ص: 101 - 108.

(6)

في تبيين كذب المفتري - ص: 108.

(7)

في ط: وأشعار.

(8)

في تبيين كذب المفتري:. . حزب الشيخ أبي. .

ص: 1002

حنفيًّا سنيًّا، وكان وزيره معتزليًّا رافضيًّا، فلما أمر السلطان بلعن المبتدعة على المنابر في الجمع، قرن الكندري للتسلي والتشفي اسم الأشعرية بأسماء أرباب البدع (1)، وامتحن الأئمة الأماثل، وقصد (2) الصدور الأفاضل وعزل أبا عثمان الصابوني بنيسابور (3)، وفوضها إلى بعض الحنفية، فأم (4) الجمهور، وخرج الأستاذ أبو القاسم (5)، والإمام أبو المعالي الجويني، عن البلد، فلم يكن (6) إلا يسيرًا حتى مات ذلك (7) السلطان، وولي ابنه ألب أرسلان، واستوزر الوزير الكامل أبا علي (8) الحسن بن علي بن إسحاق، فأعز أهل السنة، وقمع أهل النفاق، وأمر بإسقاط ذكرهم من السب وإفراد من عداهم باللعن والثلب (9)، واسترجع من خرج منهم إلى وطنه، واستقدمه مكرمًا بعد بعده وظعنه".

وذكر قصة أبي القاسم القشيري التي سماها "شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة"(10)، قال. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1) في س: البديع. وهو تصحيف.

(2)

في الأصل: وقصدوا. والمثبت من: س، ط، وتبيين كذب المفتري.

(3)

في تبيين كذب المفترى: عن الخطابة بنيسابور.

(4)

في جميع النسخ: قام. ولعل ما أثبته من تبيين كذب المفتري يكون مناسبًا.

(5)

هو: أبو القاسم القشيري.

(6)

في تبيين كذب المفتري: "عن البلد وهان عليهما في مخالفته الاغتراب، وفراق الوطن والأهل والولد فلم يكن".

(7)

في تبيين كذب المفتري: "إلا يسيرًا حتى تقشعت تلك السحابة، وتبدد بهلك الوزير شمل تلك العصابة، ومات ذلك. . ".

(8)

في تبيين كذب المفتري: "الكامل والصدر العالم العادل أبا علي. . ".

(9)

في ط: السب. والثلب: هو إظهار العيوب والنقائص. انظر: مختار الصحاح -لأبي بكر الرازي- ص: 85 (ثلب).

(10)

أشار ابن كثير إلى هذه الرسالة، وإن القشيري صنفها عندما نقل إلى الملك طغرل بك أن أبا الحسن الأشعري ذكر بشيء من الأمور التي لا تليق بالدين والسنة، فأمر بلعنه، فضج أبو القاسم القشيري من ذلك وصنفها. =

ص: 1003

فيها (1):

"ومما ظهر (2) بنيسابور في مفتتح سنة خمس وأربعين وأربعمائة (3) ما دعى (4) أهل الدين إلى سوء ضر أضرهم وكشف قناع صبرهم (5) " إلى أن قال (6):

"ذلك بما أحدث من لعن إمام الدين، وسراج [ذوي] (7) اليقين، محيي السنة، وقامع البدعة، ناصر الحق، وناصح الخلق أبي الحسن (8) الأشعري".

وقال فيها (9): ولما مَنَّ الله الكريم على أهل الإِسلام بزمام (10) الملك المعظم، المحكم بالقوة السماوية في رقاب الأمم، الملك الأجل شاهنشاه (11) يمين خليفة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= انظر: البداية والنهاية -لابن كثير- 12/ 70. وانظر ما ذكرته عن أبي القاسم القشيري ورسالته ص: 82.

(1)

تبيين كذب المفتري -لابن عساكر- ص: 110، 111.

(2)

في الأصل: قال وفيها مما. والمثبت من: س، ط، وتبيين كذب المفتري.

(3)

في تبيين كذب المفتري: وأربعمائة من الهجرة.

(4)

في الأصل: ما ادعى. والمثبت من: س، ط، وتبيين كذب المفتري.

(5)

في تبيين كذب المفتري: ". . أهل الدين إلى شق صدور صبرهم وكشف قناع ضرهم. . ".

(6)

بعد سطرين من الكلام السابق.

(7)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، وتبيين كذب المفتري. ولم ترد فيه لفظة "قدم". وجاء في الأصل: وسراج قدم اليقين. وفي س، ط: وسراج قدم ذوي اليقين.

(8)

في تبيين كذب المفتري: الخلق التركي الرضي أبي الحسن. .

(9)

أي: أبو القاسم القشيري في رسالته "شكاية أهل السنة. . " فيما نقله عنه ابن عساكر في المصدر السابق، والكلام بعد ثلاثة أسطر من الكلام السابق.

(10)

تبيين كذب المفتري: بزمان.

(11)

شاهنشاه يراد به ملك الملوك، وهي كلمة أعجمية وإطلاق مثل هذه الألفاظ على =

ص: 1004

الله (1)، وغياث عباد الله طغرل بك أبي طالب محمَّد بن ميكائيل وقام بإحياء السنة، والمناضلة عن الله، حتى لم يبق من أصناف المبتدعة إلا

= غير الله تعالى لا يجوز، فالله تعالى هو ملك الأملاك، لا ملك أعظم ولا أكبر منه -سبحانه- ولذا ورد التشنيع بمن تسمى بمثل هذا الاسم.

أخرجه البخاري في صحيحه 7/ 119، 120 كتاب الأدب. باب أبغض الأسماء إلى الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أخنى الأسماء يوم القيامة عند الله رجل تسمى ملك الأملاك" وفي رواية: "أخنع اسم عند الله. . ".

قال سفيان بن عيينة رحمه الله مثل شاهنشاه. ومعنى أخنى: أفحش. وأخنغ: أذل وأوضع.

انظر: فتح الباري -لابن حجر- 22/ 402 - 405. وكتاب التوحيد للشيخ محمَّد بن عبد الوهاب- ص: 64. وفتح المجيد -للشيخ عبد الرحمن آل الشيخ- ص: 286، 287.

(1)

لا يجوز إطلاق مثل هذا اللفظ على أحد بأنه خليفة الله، لما في إطلاقه من إبهام ما لا يليق بالله تعالى من النقص والعجز.

يقول الشيخ رحمه الله في "الفتاوى" 35/ 45: "والله لا يجوز له خليفة، ولهذا لما قالوا لأبي بكر: يا خليفة الله، قال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسبي ذلك، بل هو -سبحانه- يكون خليفة لغيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا".

ولذلك لأن الله حي، شهيد، مهيمن، قيوم، رقيب، حفيظ، غني عن العالمين، ليس له شريك، ولا ظهير، ولا يشفع أحد عنده إلَّا بإذنه، والخليفة إنما يكون عند عدم المستخلف بموت أو غيبة، ويكون لحاجة المستخلف إلى الاستخلاف، وسمي "خليفة" لأنه خلف عن الغزو، وهو قائم خلفه، وكل هذه المعاني منتفية في حق الله تعالى وهو منزه عنها. . ".

إلى أن قال: "ولا يجوز أن يكون أحد خلفًا منه، ولا يقوم مقامه؛ لأنه لا سمي له، ولا كفء له، فمن جعل له خليفة فهو مشرك به".

انظر: زاد المعاد -لابن القيم- 2/ 474، 475. وسلسلة الأحاديث الضعيفة -لمحمد ناصر الدين الألباني- 1/ 120، 121.

ص: 1005

سل (1) -لاستئصالهم سيفًا عضبًا (2)، وأذاقهم ذلا وخسفًا، وعقب لآثارهم نسفًا، حرجت (3) صدور أهل البدع عن تحمل هذه النقم، وضاق صبرهم عن مقاساة هذا الألم، ومُنوا (4) بلعن أنفسهم على رؤوس الأشهاد بألسنتهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت بانفرادهم بالوقوع في مهواة محنتهم (5)، فسولت لهم أنفسهم أمرًا، فظنوا أنهم بنوع تلبيس أو ضرب (6) تدليس يجدون لعسرهم يسرًا، فسعوا إلى عالي مجلس السلطان (7) بنوع نميمة، ونسبوا الأشعري إلى مذاهب ذميمة، وحكوا عنه مقالات لا يوجد في كتبه منها حرف، ولم نر (8) في المقالات المصنفة للمتكلمين الموافقين والمخالفين من وقت الأوائل إلى زماننا هذا لشيء منها حكاية، ولا وصف، بل كل ذلك تصوير بتزوير (9)، وبهتان (10) بغير تقرير.

وما نقموا من الأشعري إلّا أنه قال بإثبات القدر لله خيره وشره نفعه وضره، وإثبات صفات الجلال لله من قدرته وعلمه وإرادته وحياته وبقائه

(1) في تبيين كذب المفتري:. . المبتدعة حزبًا إلا سل. .

(2)

العضب: القطع، ويقال للسيف القاطع: عضب.

انظر: المصباح المنير -للفيومي- ص: 414 (عضب).

(3)

في جميع النسخ: خرجت. والمثبت من: تبيين كذب المفتري.

(4)

في جميع النسخ: وضنوا. والمثبت من: تبيين كذب المفتري. ومنوا: أي: جوزوا وألزموا.

انظر: القاموس المحيط -للفيروزآبادي- 4/ 290 (مني).

(5)

في جميع النسخ: محبتهم. والمثبت من: تبيين كذب المفتري. وهو المناسب.

(6)

في تبيين كذب المفتري: وضرب.

(7)

في تبيين كذب المفتري: السلطان المعظم.

(8)

في تبيين كذب المفتري: ولم ير.

(9)

في جميع النسخ: تزوير. والمثبت من: تبيين كذب المفتري.

(10)

في الأصل: تهبان. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط، وتبيين كذب المفتري.

ص: 1006

وسمعه وبصره وكلامه ووجهه ويده، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأنه تعالى موجود تجوز رؤيته، وأن إرادته نافذة في مراده (1) وما لا يخفى من (2) مسائل الأصول التي تخالف طريقة (3) المعتزلة والجهمية (4).

وذكر تمام الكلام في المسائل التي نسبت إليه، وهو كلام طويل ليس هذا موضعه، وإنما الغرض التنبيه على سبب لعنهم على ما نقله أصحابه المعظمون له.

وأما بغداد فلم تجر فيها لعنة أحد على المنابر، بل كانت الأشعرية منتسبة إلى الإِمام أحمد وسائر أهل (5) السنة، كما ذكره الأشعري في كتابه "الإبانة"(6)، وهذا هو الذي اعتمد عليه الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في وصف اعتقاد الأشعري، قال (7) -بعد أن ذكر ما ذكره من وصف من وصف من العلماء [و] (8) الأشعري بالرد على أهل (9) البدع والانتصار للسنة وما يشبه ذلك:

"فإذا كان أبو الحسن رحمه الله كما ذكر (10) عنه من حسن

(1) في س، ط، وتبيين كذب المفتري: مراداته.

(2)

في س: في.

(3)

في تبيين كذب المفتري: تخالف طرقه طرق.

(4)

في الأصل: الجسمية. وهو تصحيف. وفي تبيين كذب المفتري: المجسمة.

والمثبت من: س، ط.

(5)

في س، ط: أئمة.

(6)

الإبانة عن أصول الديانة -لأبي الحسن الأشعري- ص: 15.

(7)

في تبيين كذب المفتري - ص: 152 - 163.

(8)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط.

(9)

أهل: ساقطة من: ط.

(10)

في جميع النسخ: لما ذكر. والمثبت من: تبيين كذب المفتري.

ص: 1007

الاعتقاد مستصوب (1) المذهب عند أهل المعرفة بالعلم والانتقاد، يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والعناد (2)، فلا بد أن يحكي عنه (3) معتقده على وجه الأمانة (4)، ويجتنب أن يزيد فيه أو ينقص منه (5) تركًا للخيانة، لنعلم (6) حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة، فاسمع ما قاله (7) في أول كتابه الذي سماه بالإبانة فإنه قال (8):

"الحمد لله الأحد الواحد العزيز الماجد" وساق الخطبة (9)، إلى أن قال: "أما بعد فإن كثيرًا من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم (10) ومن مضى من أسلافهم، فتأولوا القرآن على آرائهم، تأويلًا لم ينزل الله به سلطانًا، ولا أوضح به برهانًا، ولا نقلوه عن رسول (11) الله صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف المتقدمين، فخالفوا

(1) في تبيين كذب المفتري: مستوصب.

(2)

في الأصل: العباد. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط، وتبيين كذب المفتري.

(3)

في ط: يحكي عن. وفي تبيين كذب المفتري: نحكي عنه.

(4)

في تبيين كذب المفتري: وجهه بالأمانة.

(5)

في تبيين كذب المفتري: ونجتنب أن نزيد فيه أن ننقص منه.

(6)

في س، ط: ليعلم.

(7)

في س، ط، وتبيين كذب المفتري: ذكره.

(8)

في هامش الأصل: قف على معتقد الأشعري.

وانظر: الإبانة عن أصول الديانة -لأبي الحسن الأشعري- ص: 7 - 20، والمقابلة فيما يأتي عليه وعلى تبيين كذب المفتري.

(9)

ساق خطبة الأشعري الواردة في "الإبانة" في "تبيين كذب المفتري ص: 152 - 155 ".

(10)

في الإبانة: أما بعد فإن كثيرًا من الزائفين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم. .

(11)

في الإبانة، وتبيين كذب المفتري: عن رسول رب العالمين.

ص: 1008

رواية (1) الصحابة عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في رؤية الله بالأبصار، وقد جاءت في ذلك الروايات من الجهات المختلفات، وتواترت بها الآثار، وتتابعت بها الأخبار.

وأنكروا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين (2)، وردوا الرواية (3) في ذلك عن السلف المتقدمين.

وجحدوا عذاب القبر، وأن الكفار في قبورهم يعذبون، وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون.

ودانوا بخلق القرآن نظيرًا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا: {إِنْ هَذَا إلا قَوْلُ الْبَشَرِ} (4)، فزعموا أن القرآن كقول البشر.

وأثبتوا (5) أن العباد يخلقون الشر نظيرًا لقول المجوس الذين يثبتون (6) خالقين: أحدهما يخلق الخير، والآخر يخلق الشر.

وزعموا القدرية أن الله يخلق الخير وأن الشيطان يخلق الشر.

وزعموا أن الله شاء (7) ما لا يكون، خلافًا لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون (8)، وردًّا لقول الله {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (9) فأخبر أنا لا نشاء شيئًا إلا وقد شاء أن نشاء.

ولقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} (10) ولقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا

(1) في الإبانة: روايات.

(2)

في الإبانة: للمذنبين. وهي ساقطة من: تبيين كذب المفتري.

(3)

في الإبانة: الروايات.

(4)

سورة المدثر، الآية:25.

(5)

في الإبانة، وتبيين كذب المفتري: وأثبتوا وأيقنوا.

(6)

في الإبانة: أثبتوا.

(7)

في الإبانة، وتبيين كذب المفتري: يشاء.

(8)

في الإبانة: وما لم يشاء لم يكن.

(9)

سورة الإنسان، الآية:30.

(10)

سورة البقرة، الآية:253.

ص: 1009

كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (1) ولقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (2) ولقوله مخبرًا عن شعيب أنه قال: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} (3).

ولهذا أسماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة (4)؛ لأنهم دانوا بديانة المجوس [وضاهوا قولهم (5)، وزعموا أن للخير والشر خالقين كما زعمت المجوس](6)، وأنه يكون من الشر (7) ما لا يشاؤه الله كما قالت المجوس ذلك.

وزعموا أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم ردًّا لقول الله (8): {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلا مَا شَاءَ} (9)،. . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1) سورة السجدة، الآية:13.

(2)

سورة البروج، الآية:16.

(3)

سورة الأعراف، الآية:89. وجاء في الإبانة: {. . وسع ربنا كل شيء علمًا}.

(4)

كما جاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله تعالى: إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم". أخرجه ابن ماجه في سننه 1/ 35. المقدمة -باب في القدر- الحديث / 92. والآجري في الشريعة - ص: 190. وابن عاصم في "السنة" 1/ 144. وقال الألباني في تخريجه لهذا الحديث: حديث حسن، رجاله ثقات، غير أن أبا الزبير مدلس، وقد عنعنه.

وللحديث شاهد عن ابن عمر وغيره من طرق يقوي بعضها بعضًا.

انظر: سنن أبي داود 5/ 66، 67 - كتاب السنة. باب في القدر - الحديثان 4691، 4692. ومسند الإِمام أحمد 2/ 86، 125، 5/ 406، 407.

ومجمع الزوائد -للهيثمي- 7/ 205.

(5)

في الإبانة: أقاويلهم. وفي تبيين كذب المفتري: أقوالهم.

(6)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والإبانة، وتبيين كذب المفتري.

(7)

في الإبانة: الشرور.

(8)

في الإبانة: لقول الله لنبيه عليه السلام.

(9)

سورة الأعراف، الآية:188.

وقد جاء في الأصل: ضرًّا ولا نفعًا. وهو خطأ.

ص: 1010

وانحرافًا (1) عن القرآن، وعما أجمع المسلمون عليه (2).

وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم، وأثبتوا (3) لأنفسهم غنى (4) عن الله، ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله بالقدرة عليه، كما أثبتت المجوس للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله عز وجل فكانوا مجوس هذه الأمة، إذ دانوا بديانة المجوس، وتمسكوا بأقوالهم، ومالوا إلى أضاليلهم.

وقنطوا الناس من رحمة الله، وآيسوهم من (5) روحه، وحكموا على العصاة بالنار والخلود [فيها](6)، خلافًا لقول الله:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (7).

وزعموا أن من دخل النار لا يخرج منها، خلافًا لما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج من النار قومًا بعدما امتحشوا فيها وصاروا حممًا (8).

(1) في الإبانة: وإعراضًا.

(2)

في الإبانة: وعما أجمع عليه أهل الإِسلام.

(3)

في الإبانة: فأثبتوا.

(4)

في الإبانة: الغنى.

(5)

من: ساقطة من: س.

(6)

ما بين المعقوفتين زيادة من: الإبانة.

(7)

سورة النساء، الآية:48.

(8)

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يقول الله: من كان في قلبه مثقال حبَّة من خردل من إيمان فأخرجوه فيخرجون قد امتحشوا -امتحشوا: احترقوا- وعادوا حممًا -حممًا: صاروا فحمًا- فيلقون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل -حميل السيل: الغثاء الذي يحمله السيل-"، أو قال: حمية -جاء في مسلم في رواية حمئة أو حميلة السيل. والحمئة: الطين الأسود الذي يكون في أطراف النهر- السيل.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألم تروا أنها تنبت صفراء ملتوية" هذا لفظ البخاري. =

ص: 1011

ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (1).

وأنكروا أن يكون لله يدان مع قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (2).

وأنكروا أن يكون له عينان (3)، مع قوله:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (4) ولقوله: (5){وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (6).

ونفوا (7) ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: "إن الله ينزل إلى سماء الدنيا"(8).

وأنا ذاكر (9) ذلك إن شاء الله بابًا بابًا، وبه المعونة (10)، ومنه التوفيق والتسديد.

= انظر: صحيح البخاري 7/ 202 كتاب الرقاق.- باب صفة الجنة والنار.

وصحيح مسلم 1/ 172 كتاب الإيمان. باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار. الحديث / 304، 305.

(1)

سورة الرحمن، الآية:27.

(2)

سورة ص، الآية:75.

(3)

في الإبانة، وتبيين كذب المفتري: عين.

(4)

سورة القمر، الآية:14.

(5)

في ط: وقوله.

(6)

سورة طه، الآية:39.

(7)

قبل كلمة "ونفوا" جاء في: الإبانة: "وأنكروا أن يكون لله علم مع قوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} النساء: 166، وأنكروا أن يكون لله قوة مع قوله:{ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} الذاريات: 58.

(8)

في الإبانة: إن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا. وتقدم تخريجه ص: 475.

(9)

قبل العبارة "وأنا ذاكر" جاء في الإبانة: "وغير ذلك مما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك جميع أهل البدع من الجهمية والمرجئة والحرورية أهل الزيغ فيما ابتدعوا، وخالفوا الكتاب والسنة، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأجمعت عليه الأمة، كفعل المعتزلة والقدرية وأنا ذاكر. . ".

(10)

في الإبانة: ذاكرًا ذلك بابًا بابًا وشيئا شيئًا -إن شاء الله- وبه المعونة والتأييد. .

ص: 1012

فإن قال قائل (1): قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون.

قيل له: قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين (2)، التمسك بكتاب الله وسنة نبيه (3) صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل (4) -نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإِمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشكاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين.

وجملة قولنا: إنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاءه من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئًا.

وأن الله إله واحد فرد أحد صمد لا إله غيره (5) لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا.

وأن محمدًا عبده ورسوله (6).

وأن الجنة والنار حق.

(1) في الإبانة: فإن قال لنا قائل:. .

ولا زال الكلام لأبي الحسن الأشعري في "الإبانة" فيما نقله عنه ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري"، والكلام متصل بما قبله فيهما، إلا أنه عنون له في الإبانة بـ "باب في إبانة قول أهل الحق والسنة".

(2)

في الإبانة، وتبيين كذب المفتري: التي ندين بها.

(3)

في الإبانة:. . بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا. .

(4)

في الإبانة:. . وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمَّد بن حنبل.

(5)

في الإبانة: وإن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو فرد صمد لم يتخذ. .

(6)

في الإبانة: زيادة: "أرسله بالهدى ودين الحق. . ".

ص: 1013

وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله مستو (1) على عرشه، كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2).

وأن له وجهًا (3)، كما قال:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (4).

وأن له يدين (5)، كما قال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (6) وقال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (7).

وأن له عينين (8) بلا كيف، كما قال:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (9).

وأن من زعم أن اسم (10) الله غيره كان ضالًا.

وأن لله علمًا، كما قال:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (11)، وقوله (12):{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلا بِعِلْمِهِ} (13).

ونثبت لله قوة (14)، كما قال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (15).

(1) في الإبانة: استوى.

(2)

سورة طه، الآية:5.

(3)

في الإبانة:. . وجهًا بلا كيف.

(4)

سورة الرحمن، الآية:27.

(5)

في الإبانة: يدين بلا كيف.

(6)

سورة المائدة، الآية:64.

(7)

سورة ص، الآية:75.

(8)

في الإبانة، وتبيين كذب المفتري: عينًا.

(9)

سورة القمر، الآية:14.

(10)

في الإبانة: أسماء.

(11)

سورة النساء، الآية:166.

(12)

في ط: وقال. وفي الإبانة: وكما قال.

(13)

سورة فاطر، الآية:11.

(14)

في الإبانة: إن الله قوة. وفي تبيين كذب المفتري: قدره.

(15)

سورة فصلت، الآية:15.

ص: 1014

ونثبت لله السمع والبصر، ولا ننفي ذلك، كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج.

ونقول: إن كلام الله غير مخلوق، وإنه لم يخلق شيئًا إلا وقد قال له: كن فيكون، [كما قال:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1)] (2).

وإنه لا يكون في الأرض [شيء](3) من خير وشر إلا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله، وإن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله الله.

ولا يستغني (4) عن الله، ولا نقدر على الخروج من علم الله.

وإنه لا خالق إلا الله، وإن أعمال العباد مخلوقة لله مقدورة له، كما قال:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (5)، وإن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئًا وهم يخلقون، كما قال:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (6)، وكما قال:{لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (7)، وكما قال:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} (8)، وكما قال:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (9) وهذا في كتاب الله كثير.

(1) سورة النحل، الآية:40.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: ط، والإبانة، وتبيين كذب المفتري.

(3)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والإبانة، وتبيين كذب المفتري.

(4)

في الإبانة، وتبيين كذب المفتري: ولا نستغني.

(5)

سورة الصافات، الآية:96.

(6)

سورة فاطر، الآية:3.

(7)

سورة النحل، الآية:20.

(8)

سورة النحل، الآية:17.

(9)

سورة الطور، الآية:35.

ص: 1015

وإن الله وفق المؤمنين لطاعته، ولطف بهم ونظر لهم (1) وأصلحهم وهداهم، وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم (2) بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف لهم (3) وأصلحهم كانوا (4) صالحين، ولو هداهم كانوا (3) مهتدين، كما قال تبارك وتعالى:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (5)، وإن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف لهم (6) حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وإنه خذلهم وطبع على قلوبهم.

وإن الخير والشر بقضاء الله وقدره، وإنا نؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره، ونعلم أن ما أصابنا لم [يكن لـ](7) يخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وإنا لا نملك لأنفسنا (8) نفعا ولا ضرًّا (9)، إلا ما شاء الله، وأنا نلجئ أمورنا (10) إلى الله ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه.

ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن من قال بخلقه (11)

(1) نظر لهم: ساقطة من: س. وفي الإبانة: نظر إليهم.

(2)

في ط، والإبانة، وتبيين كذب المفتري: بهم.

(3)

في ط، والإبانة، وتبيين كذب المفتري: بهم.

(4)

في الإبانة: لكانوا. في الموضعين.

(5)

سورة الأعراف، الآية:178.

(6)

في ط، والإبانة: بهم.

(7)

ما بين المعقوفتين زيادة من: الإبانة، وتبيين كذب المفتري.

وقد جاء في الإبانة تقديم وتأخير على هذا النحو: "ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا".

(8)

في الإبانة: وإن العباد لا يملكون لأنفسهم. .

(9)

في الإبانة:. . ولا ضرًّا كما قال عز وجل: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلا مَا شَاءَ اللَّهُ} الأعراف: 188.

(10)

في الإبانة: وإنا نلجأ في أمورنا.

(11)

في س، ط، والإبانة، وتبيين كذب المفتري: بخلق القرآن.

ص: 1016

كان كافرًا.

وندين أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة (1)، كما يرى القمر ليلة البدر، ويراه المؤمنون كما جاءت الروايات (2) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول: إن الكافرين -إذا رآه المؤمنون- عنه محجوبون (3)، كما قال تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (4) وأن موسى سأل الله الرؤية في الدنيا وأن الله تجلى للجبل فجعله دكًّا (5)، فعلم (6) بذلك موسى أنه لا يراه أحد (7) في الدنيا.

ونرى ألّا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر، كما دانت بذلك الخوارج وزعموا بذلك (8) أنهم كافرون، ونقول: إن من عمل كبيرة من الكبائر وما أشبهها مستحلًا لها كان كافرًا إذا كان غير معتقد لتحريمها (9).

(1) في الإبانة: يرى في الآخرة بالأبصار.

(2)

وتقدم ذكر بعضها ص: 413.

(3)

في الإبانة: أن الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة. . .

(4)

سورة المطففين، الآية:15.

(5)

كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].

(6)

في الإبانة، وتبيين كذب المفتري. فاعلم.

(7)

أحد: ساقطة من: الإبانة، وتبيين كذب المفتري.

(8)

في الإبانة:. . وزعمت أنهم.

(9)

في الإبانة:. . كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما شابههما مستحلا لها غير معتقد لتحريمها كان كافرًا. .

ص: 1017

ونقول: إن الإِسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانًا (1).

وندين بأنه (2) يقلب القلوب، وأن القلوب بين أصبعين من أصابعه (3)[وأنه يضع السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، كما جاءت الرواية (4) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم](5).

وندين بأن لا ننزل أحدًا من الموحدين المستمسكين (6) بالإيمان جنة ولا نارًا، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ونرجو الجنة للمذنبين، ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين.

(1) في الإبانة: إيمان. بالرفع.

وعلق على ذلك المحقق د. صالح الفوزان بـ "رفع إيمان" في النسختين اسم كان موخرًا للسجع.

وفي تبيين كذب المفتري: وليس كل الإِسلام لإيمانه. .

(2)

في الإبانة: بأن الله تعالى. .

(3)

في الإبانة:. . . من أصابع الرحمن.

(4)

من ذلك ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك".

صحيح مسلم 4/ 2045 كتاب القدر -باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء- الحديث / 17.

والحديث يروى بألفاظ مختلفة عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم.

انظر: سنن الترمذي 4/ 448، 449 كتاب القدر -باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن- الحديث / 2140. وسنن ابن ماجه 1/ 72 - المقدمة- باب فيما أنكرت الجهمية- الحديث / 199. ومسند الإِمام أحمد 2/ 168، 173، 6/ 251.

وانظر: ما تقدم من قصة الحبر الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمَّد إن الله يضع السماء على إصبع والأرض على إصبع. . ص: 912.

(5)

ما بين المعقوفتين ساقط من: تبيين كذب المفتري.

(6)

في الإبانة:. . من أهل التوحيد والمتمسكين. .

ص: 1018

ونقول: إن الله يخرج من النار قومًا بعدما امتحشوا بشفاعة محمَّد صلى الله عليه وسلم (1).

ونؤمن بعذاب القبر، ونقول: إن الحوض والميزان والصراط حق (2) والبعث بعد الموت حق، وأن الله يوقف العباد بالموقف ويحاسب المؤمنين.

وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات (3) الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وندين (4) بحب السلف الذين اختارهم [الله](5) لصحبة نبيه، ونثني عليهم بما أثنى الله عليهم، ونتولاهم (6).

ونقول: إن الإِمام (7) بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه وإن الله تعالى أعز به الدين، وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم[للصلاة](8)، ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم عثمان بن عفان - نضر الله وجهه - قتله قاتلوه (9) ظلمًا وعدوانًا، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة.

(1) في الإبانة:. . . النبي صلى الله عليه وسلم تصديقًا لما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2)

في الإبانة:. . بعذاب القبر وبالحوض، وإن الميزان حق والصراط حق. .

(3)

في تبيين كذب المفتري: للروايات. .

(4)

في س، ط: وندين الله.

(5)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، والإبانة.

(6)

في الإبانة:. . . الله به عليهم ونتولاهم أجمعين. .

(7)

في الإبانة:. . الإِمام الفاضل.

(8)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط. وفي الإبانة: للصلاة وسموه بأجمعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. .

(9)

في الإبانة:. . عثمان بن عفان رضي الله عنه وإن الذين قتلوه قتلوه. .

ص: 1019

ونشهد للعشرة بالجنة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ونتولى سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم، وندين الله أن الأئمة الأربعة راشدون (2) مهديون فضلاء لا يوازنهم (3) في الفضل غيرهم.

ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها (4) أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا (5)، وأن الرب يقول:"هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ "(6) وسائر ما نقلوه وأثبتوه، خلافًا لما قاله أهل الزيغ والتضليل.

ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (7) وإجماع المسلمين، وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم.

ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة، كما قال:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (8) وإن الله يقرب من عباده كيف شاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ

(1) وهم كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإِمام أحمد رحمه الله بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة".

المسند -للإمام أحمد بن حنبل "شرح: أحمد شاكر 3/ 136 - الحديث / 1675.

(2)

في الإبانة:. . . خلفاء راشدون. . .

(3)

في الإبانة، وتبيين كذب المفتري: لا يوازيهم.

(4)

في تبيين كذب المفتري: ثبتها.

(5)

في الإبانة، وتبيين كذب المفتري: السماء الدنيا.

(6)

تقدم تخريج هذا الحديث، ص:475.

(7)

في الإبانة: كتاب ربنا تبارك وتعالى، وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.

(8)

سورة الفجر، الآية:22.

ص: 1020

إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (1)، وكما قال:{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (2).

ومن ديننا نصلي (3) الجمعة والأعياد خلف كل بر وغيره (4)، وكذلك سائر (5) الصلوات والجماعات، كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج (6).

وأن المسح على الخفين في السفر (7) والحضر، خلافًا لمن أنكر (8) ذلك.

ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة، وندين بترك (9)

(1) سورة ق، الآية:16.

(2)

سورة النجم، الآيتان:9.

(3)

في الإبانة، وتبيين كذب المفتري: أن نصلي.

(4)

في الإبانة، وتبيين كذب المفتري: بر وفاجر.

(5)

في الإبانة: تقدمت العبارة "وسائر الصلوات والجماعات" قبل العبارة: "خلف كل بر وفاجر". وفي كذب المفتري: "وكذلك شروط الصلوات. . ".

(6)

هو: أبو محمَّد الحجاج بن يوسف بن الحاكم الثقفي، كان شجاعًا مقدامًا مهيبًا سفاكًا، ولي الحجاز سنين، ثم العراق وخراسان عشرين سنة، له حسنات مغمورة في بحر ظلمه وجوره، أراح الله البلاد والعباد منه سنة 95 هـ.

انظر: سير أعلام النبلاء -للذهبي- 4/ 343. والبداية والنهاية -لابن كثير- 9/ 131 - 156. وشذرات الذهب -لابن العماد- 1/ 106 - 108.

وذكر صدر الدين الحنفي في شرحه للطحاوية ص: 421: أنه ورد في صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كان يصلي خلفه.

وانظر ما ذكره ابن عساكر في تهذيبه 4/ 54 من صلاة ابن عمر رضي الله عنه مع الحجاج.

وانظر: مجموع الفتاوي- 3/ 280.

(7)

في الإبانة: سنة في السفر. . .

(8)

في الإبانة: خلافًا لقول من أنكر. .

(9)

في الإبانة: بإنكار.

ص: 1021

الخروج عليهم بالسيف، وترك القتال في الفتنة.

ونقر بخروج الدجال، كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهم (2) المدفونين في قبورهم. ونصدق بحديث المعراج (3).

ونصحح كثيرًا من الرؤيا في المنام، ونقول: إن لذلك تفسيرًا (4).

ونرى الصدقة من موتى المؤمنين (5)، والدعاء لهم، ونؤمن أن الله ينفعهم بذلك.

ونصدق بأن (6) في الدنيا سحرة (7)، وأن السحر (8) كائن موجود في الدنيا.

(1) الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروج الدجال وصفته كثيرة ومتواترة أذكر منها ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الدجال: "إن معه ماء ونارًا، فناره ماء بارد وماؤه نار فلا تهلكوا".

صحيح البخاري 8/ 103 - كتاب الفتن- باب ذكر الدجال. صحيح مسلم 4/ 2249 - كتاب الفتن- باب ذكر الدجال وصفته وما معه- الحديث / 106.

وسنن أبي داود 4/ 494 - كتاب الملاحم- باب خروج الدجال - الحديث / 4315.

(2)

في الإبانة: ومساءلتهما.

(3)

حديث المعراج حديث طويل مضمونه تقدم في الكلام على الإسراء والمعراج ص: 114 وانظره في صحيح البخاري 8/ 203 - 205 كتاب التوحيد باب قوله {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ، وصحيح مسلم 1/ 145 - 147 كتاب الإيمان - باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات- الحديث / 259.

(4)

في الأصل:. . ذلك تفسيرًا. وفي س، ط: إن ذلك تفسير. وفي الإبانة: ونقر أن لذلك تفسيرًا. ولعل الكلام يستقيم بالمثبت من تبيين كذب المفتري.

(5)

في الإبانة: المسلمين.

(6)

في الأصل، وتبيين كذب المفتري: أن. والمثبت من: س، ط، والإبانة.

(7)

في الإبانة: سحرًا وسحرة.

(8)

تقدم الكلام على السحر وحقيقته ص: 477.

ص: 1022

وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم (1) وفاجرهم ومواريثهم (2).

ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان.

وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل.

وأن الأرزاق من قبل الله عز وجل يرزقها (3) عباده حلالًا وحرامًا.

وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه (4) خلافًا لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (5)، وكما قال:{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (6).

ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله بآيات يظهرها الله عليهم.

وقولنا في أطفال المشركين: إن الله يؤجج لهم نارًا في الآخرة، ثم يقول (7): اقتحموها، كما جاءت الرواية بذلك (8).

(1) في الإبانة: برهم.

(2)

في ط: موارثتهم. وفي الإبانة: توارثهم.

(3)

في الأصل:. . يرزقها الله عز وجل يرزقها عباده. والكلام يستقيم بدون الزيادة كما هو مثبت من: س، ط، والإبانة، وتبيين كذب المفتري.

(4)

في الأصل: ويسلكه ويخبطه. وهو تصحيف. وفي س، ط، وتبيين كذب المفتري: يخبطه. والمثبت من: الإبانة.

(5)

سورة البقرة، الآية:275.

(6)

سورة الناس، الآيات: 4 - 6.

ولم يرد قوله {مِنْ شَرِّ} في: الأصل.

(7)

في الإبانة: يقول لهم.

(8)

ورد بهذا آثار كثيرة يؤيد بعضها بعضًا، فمن ذلك ما رواه الإِمام أحمد رحمه الله بإسناد صحيح في مسنده 4/ 24، عن الأسود بن سريع أن نبي الله صلى الله عليه وسلم =

ص: 1023

وندين بأن الله (1) يعلم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون [وما كان](2) وما يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون؟.

وبطاعة (3) الأئمة، ونصيحة المسلمين.

ونرى مفارقة كل داعية لبدعة (4)، ومجانبة أهل الأهواء وسنحتج لما ذكرنا (5) من قولنا، وما بقي منه مما لم (6) نذكره بابًا بابًا وشيئًا شيئًا.

= قال: "أربعة يحتجون يوم القيامة. . " وذكر الاسم، والرجل لهرم، والأحمق، ومن مات في الفترة، وحجة كل منهم، ثم قال:"فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار" قال: فوالذي نفس محمَّد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 216 بعد ذكره لهذا الحديث: "رواه الطبراني بنحوه، وذكر بعده إسنادًا إلى أبي هريرة قائلًا بمثل هذا الحديث غير أنه قال في آخره: "فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها يسحب إليها" هذا لفظ أحمد ورجاله من طريق الأسود بن سريع وأبي هريرة رجال الصحيح.

وهذه المسألة مما اختلف فيها السلف والمتكلمون على أقوال استقصى بيانها ابن القيم رحمه الله في كتابه طريق الهجرتين ص: 507 - 529 فذكر الأقوال في المسألة وقائليها وما استدلوا به وناقش أدلتهم مبينًا أنها تجتمع وتأتلف في القول الأمثل وهو أن أطفال المشركين يمتحنون في عرصات القيامة، ويرسل إليهم هناك رسول إلى كل من لم تبلغه الدعوة فمن أطاع الرسول دخل الجنة ومن عصاه دخل النار وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار. وهذا ما اختاره الشيخ رحمه الله.

انظر: مجموع الفتاوى 4/ 246، 281، 312، 24/ 372، 373.

(1)

في الإبانة: وندين الله عز وجل بأنه. .

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: الإبانة.

(3)

في تبيين كذب المفتري: فبطاعة.

(4)

في الإبانة: إلى بدعة.

(5)

في الإبانة، وتبيين كذب المفتري: ذكرناه.

(6)

في جميع النسخ وتبيين كذب المفتري: وما لم. والمثبت من: الإبانة. ولعله المناسب.

ص: 1024

ثم قال أبو القاسم بن عساكر (1) رحمه الله: "فتأملوا -رحمكم الله- هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الإِمام العالم الذي شرحه وبينه، وانظروا سهولة لفظه فما أفصحه وأبينه، وكونوا ممن قال الله فيهم:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (2) وتبينوا فضل أبي الحسن واعرفوا إنصافه، واسمعوا وصفه لأحمد بالفضل واعترافه، لتعلموا أنهما كانا في الاعتقاد متفقين، وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين، ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر على عمر الأوقات تعتضد (3) بالأشعرية على أصحاب البدع؛ لأنهم المتكلمون من أهل الإثبات فمن تكلم منهم (4) في الرد على مبتدع فبلسان الأشعرية يتكلم، ومن حقق منهم في الأصول في مسألة فمنهم يتعلم، فلم يزالوا كذلك حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر القشيري ووزارة النظام، ووقع بينهم الانحراف من بعضهم عن بعض لانحراف (5) النظام.

وعلى الجملة فلم يزل في الحنابلة طائفة تغلو في السنة، وتدخل فيما لا يعنيها حبًّا للخفوق (6) في الفتنة، ولا عار (7) على أحمد رحمه الله من صنيعهم، وليس يتفق على ذلك رأي جميعهم، ولهذا قال أبو حفص بن شاهين (8) -وهو من أقران الدارقطني-. . . . . . . . . . . . . . .

(1) في تبيين كذب المفتري ص: 163 - 164. والكلام متصل بما قبله.

(2)

سورة الزمر، الآية:18.

(3)

في الأصل: يعتضد. والمثبت من: س، ط، وتبيين كذب المفتري.

(4)

منهم: ساقطة من: ط.

(5)

في س، ط، وتبيين كذب المفتري: لانحلال.

(6)

في س، ط: للحقوق. ولا معنى لها. وفي تبيين كذب المفتري: للخفوق.

والخفق: هو الاضطراب والتحرك، ومنه خفقت الراية: اضطربت وتحركت.

راجع: القاموس المحيط -للفيروزآبادي 2/ 85 (خفق).

(7)

أي: ولا عيب.

(8)

في تبيين كذب المفتري: أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين. =

ص: 1025

ما قرأته (1) على عبد الكريم بن الخضر (2)، عن أبي محمَّد الكناني، حدثني (3) أبو النجيب الأرموي (4)، ثنا أبو ذر الهروي (5)، قال: سمعت ابن زنين يقول: رجلان صالحان بلوا (6) بأصحاب سوء: جعفر بن محمَّد، وأحمد بن حنبل".

وقال ابن عساكر (7) فيما رده على أبي علي الأهوازي (8)، فيما صنفه من مثالب الأشعري وقد ذكر أبو علي الأهوازي أن الحنابلة لم يقبلوا منه تصنيف الإبانة.

قال الأهوازي: "وللأشعري كتاب في السنة قد جعله أصحابه وقاية لهم من أهل السنة، يتولون به العوام من أصحابنا سماه كتاب

= هو: أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن محمَّد البغدادي المعروف بابن شاهين، محدث العراق وصاحب التصانيف. توفي سنة 385 هـ. قال فيه الخطيب البغدادي: كان ثقة مأمونًا.

انظر: تاريخ بغداد -للخطيب- 11/ 265 - 268. وتذكرة الحفاظ -للذهبي- 3/ 987 - 989. ولسان الميزان -لابن حجر- 4/ 283 - 285.

(1)

في تبيين كذب المفتري:. . الدارقطني، ومن أصحاب الحديث المتسننين ما قرأت.

(2)

في تبيين كذب المفتري: على الشيخ أبي محمَّد عبد الكريم بن حمزة بن الخضر بدمشق.

(3)

في تبيين كذب المفتري: أبي محمَّد عبد العزيز بن أحمد قال: حدثني. .

(4)

في تبيين كذب المفتري: أبو النجيب عبد الغفار. . عبد الواحد الأرموي. .

(5)

في تبيين كذب المفتري: أبو ذر عبد بن أحمد الهروي.

(6)

في ط، وتبيين كذب المفتري: بليا.

(7)

في تبيين كذب المفتري: ص: 388، 389.

(8)

هو: أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الأهوازي، مقرئ الشام في عصره، أصله من الأهواز، واستوطن دمشق. توفي سنة 446 هـ.

يقول الذهبي: ألف جزءًا في مثالب الأشعري فيه أكاذيب.

انظر: تهذيب ابن عساكر- 4/ 197، 198. وسير أعلام النبلاء -للذهبي- 15/ 89، 18/ 13 - 18. ولسان الميزان -لابن حجر- 2/ 237 - 240.

ص: 1026

"الإبانة" صنفه ببغداد لما دخلها، فلم يقبل ذلك منه الحنابلة وهجروه".

وسمعت (1) أبا عبد الله الحمراني يقول: "لما دخل الأشعري إلى بغداد جاء إلى البربهاري (2) فجعل يقول: رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم، وعلى اليهود والنصارى وعلى المجوس، فقلت (3) وقالوا وأكثر الكلام في ذلك، فلما سكت قال البربهاري: ما أدري مما قلت قليلًا ولا كثيرًا، ما نعرف إلا ما قال (4) أبو عبد الله أحمد بن حنبل، قال: فخرج من عنده وصنف كتاب الإبانة، فلم يقبلوه (5) منه، ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منه".

قال (6): وقول الأهوازي: إن الحنابلة لم يقبلوا منه ما أظهره (7) من كتاب (8) الإبانة وهجروه، فلو كان الأمر كما قال لنقلوه عن أشياخهم (9) ولم أزل أسمع ممن يوثق به أنه كان صديقًا

(1) أورده ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 2/ 18 عن الحسن الأهوازي قال: سمعت أبا عبد الله الحمراني. .

(2)

هو: أبو محمَّد الحسن بن علي بن خلف البربهاري، شيخ الحنابلة في وقته.

كان شديدًا على أهل البدع، له مصنفات منها:"شرح السنة" نقل منه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة، توفي سنة 329 هـ.

انظر: طبقات الحنابلة -لابن أبي يعلى- 2/ 18 - 45. والوافي بالوفيات -للصفدي- 12/ 146، 147. وشذرات الذهب -لابن العماد- 2/ 319 - 323.

(3)

في طبقات الحنابلة:. . . والنصارى والمجوس وقلت لهم. . .

(4)

في طبقات الحنابلة: ولا نعرف إلا ما قاله.

(5)

في طبقات الحنابلة: يقبله. .

(6)

القائل: ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري" ص: 389 - 391.

(7)

في الأصل: أظهروه. والمثبت من: س، ط، وتبيين كذب المفتري.

(8)

في تبيين كذب المفتري: في كتاب الإبانة.

(9)

في تبيين كذب المفتري: عن أشياخهم وأظهروه.

ص: 1027

للتميميين (1)، سلف أبي محمَّد رزق [الله](2) بن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث، وكانوا له مكرمين، وقد ظهر (3)[أثر](4) بركة هذه (5) الصحبة على أعقابهم، حتى نسب إلى مذهبه أبو الخطاب الكلوذاني (6) من أصحابهم، وهذا تلميذ أبي الخطاب أحمد الحربي (7)

(1) في الأصل، س: لتميمين. والمثبت من: ط، وتبيين كذب المفتري.

وقد ذكر الشيخ رحمه الله في "الفتاوى" 6/ 53 أن التميميين كأبي الحسن وابن أبي الفضل وابن رزق الله أبعد عن الإثبات وأقرب إلى موافقة غيرهم وألين لهم، ولهذا تتبعهم الصوفية، ويميل إليهم فضلاء الأشعرية، كالباقلاني والبيهقي، فإن عقيدة أحمد التي كتبها أبو الفضل هي التي اعتمدها البيهقي، مع أن القوم ماشون على السنة.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة من: س، ط، وتبيين كذب المفتري.

هو: أبو محمَّد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد التميمي الحنبلي، أحد أئمة القراء والحديث، وتفقه على القاضي أبي علي بن أبي موسى الهاشمي، له مجلس للوعظ، وحلقة للفتوى بجامع المنصور ثم بجامع القصر. توفي سنة 488 هـ.

انظر: طبقات الحنابلة -لابن أبي يعلى- 2/ 250، 251. والمنتظم -لابن الجوزي- 9/ 88، 89. والمنهج الأحمد -للعليمي- 2/ 195 - 202.

(3)

في جميع النسخ: أظهر. ولعل ما أثبته من "تبيين كذب المفتري" يناسب السياق.

(4)

ما بين المعقوفتين زيادة من: تبيين كذب المفتري.

(5)

في س، ط، وتبيين كذب المفتري: تلك.

(6)

هو: أبو الخطاب محفوظ بن أحمد بن حسن الكلوذاني البغداديّ الأزجي، أحد أئمة أصحاب الإِمام أحمد، كان غزير العلم ورعًا صالحًا، تفقه على القاضي أبي يعلى. توفي سنة 510 هـ.

انظر: طبقات الحنابلة -لابن أبي يعلى- 2/ 258. وسير أعلام النبلاء -للذهبي- 19/ 348 - 350. والذيل على طبقات الحنابلة -لابن رجب - 1/ 116 - 127.

(7)

هو: أبو القاسم أحمد بن معالي بن بركة الحربي، الفقيه الواعظ، تفقه على أبي الخطاب الكلوذاني، وانتقل إلى المذهب الشافعي ثم عاد إلى المذهب =

ص: 1028

يخبر بصحة ما ذكرته وينبيء، وكذلك كان بينهم وبين صاحبه أبي عبد الله بن مجاهد (1)، وصاحب صاحبه أبي بكر بن الطيب (2) من المواصلة والمؤاكلة ما يدل على كثرة الاختلاق من الأهوازي والتكذيب.

قال (3): وقد أخبرني الشيخ أبو الفضل بن أبي سعد البزار عن (4) أبي محمَّد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز التميمي الحنبلي، قال سألت الشريف أبا علي محمَّد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي (5)، فقال: حضرت دار شيخنا أبي الحسن عبد العزيز بن الحارث التميمي (6) سنة سبعين وثلاثمائة في دعوة عملها لأصحابه، حضرها أبو بكر

= الحنبلي. توفي سنة 554 هـ.

انظر: المنتظم -لابن الجوزي- 10/ 190. والبداية والنهاية -لابن كثير - 12/ 256. والذيل على طبقات الحنابلة -لابن رجب- 1/ 232، 233.

(1)

هو: محمَّد بن أحمد بن مجاهد الطائي. تقدم التعريف به.

(2)

تقدم التعريف به.

وقد أشار الشيخ رحمه الله في "نقض المنطق" ص: 137 إلى أن بين أبي الحسن التميمي وبين القاضي أبي بكر بن الباقلاني من المودة والصحبة ما هو معروف مشهور.

وانظر ما ذكره ابن عساكر عن صحبة التميميين لأبي عبد الله بن مجاهد وابن الباقلاني في "تبيين كذب المفتري" ص: 221. وما سيذكره بعد أسطر قليلة من المصدر نفسه ص: 390.

(3)

القائل: ابن عساكر. وهي إضافة من الشيخ. والكلام متصل بما قبله في "تبيين كذب المفتري".

(4)

في جميع النسخ: ابن. والمثبت من: تبيين كذب المفتري. وهو الصواب. وتقدم التعريف به.

(5)

تقدم التعريف به.

(6)

هو: أبو الحسن عبد العزيز بن الحارث بن أسد التميمي الحنبلي. أحد فقهاء الحنابلة، وممن صنف في الأصول والفروع والفرائض. توفي سنة 371 هـ.

انظر: تاريخ بغداد -للخطيب- 10/ 461، 462. وطبقات الحنابلة -لابن أبي يعلى- 2/ 139. وميزان الاعتدال -للذهبي- 2/ 624.

ص: 1029

الأبهري (1)، شيخ المالكيين، وأبو القاسم الداركي (2) شيخ الشافعيين، وأبو الحسين طاهر بن الحسين (3) شيخ أصحاب الحديث، وأبو الحسين بن سمعون (4) شيخ الوعاظ والزهاد، وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ المتكلمين، وصاحبه أبو بكر بن الباقلاني، في دار شيخنا أبي الحسن التميمي شيخ الحنابلة، قال أبو علي: لو سقط السقف عليهم لم يبق بالعراق من يفتي في حادثة يشبه واحدًا منهم.

قال (5): وحكاية الأهوازي عن البربهاري مما يقع في صحتها التمادي وأدل دليل على بطلانه قوله: إنه لم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها، وهو بعد إذ (6) صار إليها لم يفارقها ولا رحل عنها".

(1) هو: أبو بكر محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن صالح الأبهري التميمي المالكي، إمام أصحابه في وقته، وعنه انتشر مذهب مالك في البلاد، جمع بين القراءات وعلو الإسناد، والفقه الجيد، توفي سنة 375 هـ.

انظر: طبقات الفقهاء -للشيرازي- ص: 168، 169. وترتيب المدارك -للقاضي عياض- 6/ 183 - 192.

(2)

هو: أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله الداركي، كان فقيهًا محصلًا، وتفقه على أبي إسحاق المروزي، وانتهى إليه التدريس ببغداد، وأخذ عنه عامة شيوخ بغداد. توفي سنة 375 هـ.

انظر: طبقات الفقهاء -للشيرازي- ص: 125، 126. وطبقات الشافعية -للسبكي- 3/ 330، 333.

(3)

في تبيين كذب المفتري: الحسن. ولم أقف عليه.

(4)

هو: أبو الحسين محمَّد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس البغدادي، المعروف بابن سمعون، شيخ زمانه ببغداد. توفي سنة 387 هـ. قال عنه ابن خلكان: لم يأت بعده في الوعاظ مثله.

انظر: وفيات الأعيان -لابن خلكان- 4/ 304، 305. والوافي بالوفيات -للصفدي- 2/ 51، 52.

(5)

قال: إضافة من الشيخ. والكلام متصل بما قبله في "تبيين كذب المفتري".

(6)

في ط: أن.

ص: 1030

قلت: لا ريب أن الأشعرية إنما تعلموا الكتاب والسنة من أتباع الإِمام أحمد ونحوه بالبصرة وبغداد، فإن الأشعري أخذ السنة بالبصرة عن زكريا بن يحيى (1) الساجي، وهو من علماء أهل الحديث المتبعين لأحمد ونحوه، ثم لما قدم بغداد أخذ عمن كان بها، ولهذا يوجد أكثر ألفاظه التي يذكرها عن أهل السنة والحديث إما ألفاظ زكريا بن يحيى الساجي التي وصف بها مذهب أهل السنة، وإما ألفاظ أصحاب الإِمام أحمد وما ينقل عن أحمد في رسائله الجامعة في السنة، وإلّا فالأشعري لم يكن له خبرة بمذهب أهل السنة وأصحاب الحديث، وإنما يعرف أقوالهم من حيث الجملة، لا يعرف تفاصيل أقوالهم وأقوال أئمتهم، وقد تصرف فيما نقله عنهم باجتهاده في مواضع يعرفها البصير.

وأما خبرته بمقالات أهل الكلام فكانت خبرة تامة على سبيل التفصيل ولهذا لما صنف كتابه في مقالات (2) الإِسلاميين ذكر مقالات أهل الكلام واختلافهم على التفصيل، وأما أهل السنة والحديث فلم يذكر عنهم (3) إلّا جمل (4) مقالات، مع أن لهم في تفاصيل تلك الأقوال أكثر مما لأهل الكلام، وذكر الخلاف بين أهل الكلام في الدقيق (5)،

(1) في الأصل: بن أحمد. وهو خطأ. والمثبت من: س، ط. وسوف يرد اسمه صحيحًا بعد سطرين تقريبًا. وقد تقدم التعريف به.

(2)

في الأصل: المقالات. والمثبت من: س، ط.

وهو كتاب مقالات الإِسلاميين واختلاف المصلين، وقد ذكر الأشعري -فيما نقله عنه ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري" ص: 130، 131 - أنه يستوعب جميع اختلاف ومقالات المسلمين وليس الأمر كما ذكر، فإن من يطلع على هذا الكتاب يرى صدق ما ذكره الشيخ -يرحمه الله تعالى- هنا، إذ لم يذكر عن أهل السنة - إلا جمل مقالات.

(3)

في الأصل، س: منهم. والمثبت من: ط. ولعله المناسب.

(4)

في ط: جملة.

(5)

الدقيق: ساقطة من: س.

ص: 1031

ولم (1) يذكر النزاع بين أهل الحديث في الدقيق، وبينهم منازعات في أمور دقيقة لطيفة، كمسألة اللفظ، ونقصان الإيمان، وتفضيل عثمان، وبعض أحاديث الصفات، ونفي لفظ الجبر وغير ذلك من دقيق القول ولطيفه.

وليس المقصود هنا مدح شخص أو طائفة ولا إطلاق ذم ذلك، فإن الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أنه قد يجتمع (2) في الشخص الواحد والطائفة الواحدة ما يحمد به من الحسنات وما يذم به من السيئات، وما (3) لا يحمد به ولا يذم من المباحات، والعفو عنه من الخطأ والنسيان بحيث يستحق الثواب على حسناته ويستحق العقاب على سيئاته، بحيث لا يكون محمودًا ولا مذمومًا على المباحات والمعفوات، وهذا مذهب أهل السنة (4) في فساق أهل القبلة ونحوهم، وإنما يخالف في هذا الوعيدية من الخوارج والمعتزلة ونحوهم، الذين يقولون: من استحق المدح لم يستحق الذم، ومن استحق الثواب لم يستحق العقاب، ومن يستحق (5) العقاب لم يستحق الثواب، حتى يقولوا (6): إن من دخل النار لا يخرج منها بل يخلد فيها، وينكرون شفاعة محمَّد صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر قبل الدخول وبعده، وينكرون خروج أحد من النار، وقد تواترت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بخروج من يخرج من النار حتى يقول الله تعالى:"أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"(7). . . .

(1) في س، ط: فلم.

(2)

في الأصل: يحتج. وهو تصحيف. والمثبت من: س، ط.

(3)

في س: وقال وهو خطأ.

(4)

فصل الشيخ القول في هذه المسألة في كتابه "الإيمان" ص: 297 - 303.

(5)

في ط: استحق.

(6)

في ط: يقولون. وهو خطأ.

(7)

الحديث مع اختلاف يسير في اللفظ جزء من حديث طويل أخرجه البخاري وغيره =

ص: 1032

وبشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته (1).

ولهذا يكثر في الأمة من أئمة الأمراء والعلماء وغيرهم من يجتمع (2) فيه الأمران، فبعض الناس يقتصر على ذكرِ محاسنه ومدحه غلوًا وهوى، وبعضهم يقتصر على ذكر مساوئه وذمه غلوًا وهوى، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخيار الأمور أوسطها (3).

= عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه أن الله يقول: "اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه".

صحيح البخاري 8/ 182 كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .

وانظره في: صحيح مسلم 1/ 170 كتاب الإيمان - باب معرفة طريق الرؤية.

الحديث / 302 بلفظ "ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه" وجاء بلفظ: "انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان". في صحيح البخاري 8/ 201 كتاب التوحيد. باب كلام الله عز وجل يوم القيامة.

(1)

كما جاء في الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".

أخرجه أبو داود في سننه 5/ 106 كتاب السنة -باب في نفي الشفاعة - الحديث 4739. والترمذي في سننه 4/ 625 كتاب صفة القيامة - الباب رقم 11 - الحديث / 2435. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وفي سنن ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه 2/ 1441 كتاب الزهد. -باب ذكر الشفاعة- الحديث / 4310.

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 378 - بعد ذكره لحديث أنس المتقدم: "رواه البزار والطبراني في الصغير والأوسط" وفي رواية فيهما: "إنما جعلت الشفاعة لأهل الكبائر من أمتي".

وفيه الخزرج بن عثمان، وقد وثقه ابن حبان، وضعفه غير واحد، وبقية رجال البزار رجال الصحيح".

(2)

في الأصل: يحتج. وهو تصحيف.

والمثبت من: س، ط.

(3)

في المثل: خير الأمور أوساطها. ويضرب في التمسك بالاقتصاد. انظر =

ص: 1033

ولا ريب أن للأشعري (1) في الرد على أهل البدع كلامًا حسنًا، هو من الكلام المقبول الذي يحمد قائله إذا أخلص فيه النية، وله -أيضًا- كلام خالف فيه (2) بعض السنة، هو من الكلام المردود الذي يذم به قائله إذا أصر عليه بعد قيام الحجة، وإن كان الكلام الحسن لم يخلص فيه النية والكلام السيئ كان صاحبه مجتهدًا مخطئًا مغفورًا (3) له خطؤه، لم يكن في واحد منهما مدح ولا ذم، بل يحمد نفس الكلام المقبول الموافق للسنة، ويذم الكلام المخالف للسنة.

وإنما المقصود أن الأئمة المرجوع إليهم في الدين مخالفون (4) للأشعري في مسألة الكلام، وإن كانوا مع ذلك معظمين له في أمور أخرى، وناهين عن لعنه وتكفيره، ومادحين له بما له من المحاسن، وبزيادة أخرى فإن هذه المسألة هي مسألة الكلام من الأمر والنهي والخبر هل له صيغة؟ أو ليس له صيغة، بل ذلك معنى قائم بالنفس، فإذا كانوا مخالفين له في ذلك، وقائلين بأن الكلام له الصيغ التي هي الحروف المنظومة المؤلفة، قائلين خلافًا للأشعري (5) مصرحين بأن قوله في ذلك مخالف لقول الشافعي وأحمد وسائر أئمة الإِسلام علم صحة ما ذكرناه (6) وقولهم: للأمر صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه أمرًا

=: مجمع الأمثال -للميداني- 1/ 243.

(1)

في الأصل: الأشعرية. والمثبت من: س، ط. وهو المناسب للسياق.

(2)

في س، ط: به.

(3)

في س: معفو. وهو خطأ.

(4)

في الأصل، س: يخالفون. والمثبت من: ط. ولعله المناسب.

(5)

في الأصل: للأشعرية. والمثبت من: س، ط. وهو المناسب للسياق.

(6)

وللاطلاع على رأي الأشعري ومخالفيه في هذه المسألة يراجع: البرهان في أصول الفقه -لأبي المعالي الجويني- 1/ 212 فما بعدها. وإحكام الأحكام -للآمدي- 2/ 141، 142، 200 - 221.

ص: 1034

[وللنهي صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه](1) نهيًا، وللخبر صيغة موضوعة له (2) في اللغة تدل بمجردها على كونه خبرًا، وللعموم صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على استغراق الجنس واستيعاب الطبقة (3)، أجود من قول من استدرك (4) ذلك عليهم كابن عقيل أن الأجود أن يقال: الأمر صيغة، قالوا: لأن الأمر والنهي والخبر هو نفس الصيغ التي هي الحروف المنظومة المؤلفة، وهذا الذي قاله وأنكره هؤلاء خطأ، وهو لو صح فإنما يصح على قول من يقول: إن الكلام مجرد الحروف والأصوات الدالة على المعنى، وليس هذا مذهب الفقهاء وأئمة الإِسلام وأهل السنة، وإن كان قد يقوله كثير ممن ينتسب إليهم كما قالته المعتزلة، بل مذهبهم أن الكلام اسم للحروف والمعاني جميعًا، والأمر ليس هو اللفظ المجرد ولا المعنى المجرد، بل لفظ الأمر إذا أطلق فإنه ينتظم اللفظ والمعنى جميعًا، فلهذا قيل للأمر: صيغة، كما يقال للإنسان: جسم أو للإنسان روح، كما (5) يقال للكلام: معنى وللكلام حروف.

وأما ما ذكره أبو القاسم الدمشقي (6) من أن هذه المسألة خالف فيها أبو إسحاق الأشعري (7).

فيقال له: هذه المسألة هي أخص مذهب الأشعري التي يكون

(1) ما بين النجمتين ساقط من: س.

(2)

له: ساقطة من: س.

(3)

في ط: الطبيعة. وهو خطأ.

(4)

في الأصل: استدارك. والمثبت من: س، ط. وهو المناسب للسياق.

(5)

في ط: وكما.

(6)

في "تبيين كذب المفتري" ص: 277، حيث ذكر أن أبا إسحاق الشيرازي يرى أن للأمر صيغة، مخالفًا بذلك رأي الأشعري في هذه المسألة.

(7)

في الأصل، ط: للأشعري. والمثبت من: ط. ولعله المناسب.

ص: 1035

الرجل بها مختصًّا بكونه أشعريًّا، ولهذا ذكر العلماء الخلاف فيها معه، وأما سائر المسائل فتلك لا يختص هو بأحد الطرفين بها، بل في كل طرف طوائف (1)، فإذا خالفه في خاصة مذهبه لزم (2) أن لا يكون متبعًا له، وأيضًا فإنه إذا قال:"أصحابنا" فإنما يعني الشافعية، وإذا ذكر الأشعري فإنه يقول: قالت الأشعرية، فلا يدخلهم في مسمى أصحابه، ولكن أبو القاسم كان له هوى، ولم تكن له معرفة بحقائق الأصول التي تنازع (3) فيها العلماء، ولكن كان ثقة في نقله، عالمًا بفنه، كالتاريخ ونحوه.

فصل

ومذهب الأشعري نفسه وطبقته كأبي العباس القلانسي (4) ونحوه، ومن قبله من أئمته كأبي محمَّد عبد الله بن سعيد بن كلاب (5)، ومن بعده من أئمة أصحابه الذين أخذوا عنه، كأبي عبد الله بن مجاهد (6) شيخ القاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي الحسن الباهلي (7) شيخ ابن

(1) في س: في طرف طوائف. . وفي ط: في كل طريق طوائف. .

(2)

في ط: لزمه.

(3)

في س، ط: يتنازع.

(4)

هو: أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خالد القلانسي الرازي. تقدم التعريف به ص: 660.

(5)

تقدم التعريف به.

(6)

تقدم التعريف به.

(7)

هو: أبو الحسن الباهلي البصري، شيخ المتكلمين وتلميذ أبي الحسن الأشعري وكان يقول فيما نقله عن ابن عساكر:"كنت أنا في جنب الشيخ الأشعري كقطرة في جنب البحر". توفي -كما يقول الصفدي- في حدود سنة 370 هـ.

انظر: تبيين كذب المفتري -لابن عساكر- ص: 178. وسير أعلام النبلاء =

ص: 1036

الباقلاني، وأبي إسحاق الإسفرائيني (1)، وأبي بكر بن فورك (2)، وكأبي الحسن علي بن مهدي الطبري (3) صاحب التأليف في تأويل الأحاديث المشكلات الواردة بالصفات ونحوهم.

والطبقة الثانية التي أخذت عن أصحابه كالقاضي أبي بكر إمام الطائفة، وأبي بكر بن فورك، وأبي إسحاق الإسفرائيني، وأبي علي بن شاذان (4)، وغير هؤلاء، إثبات الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن والسنن (5) المتواترة، كاستوائه على العرش والوجه واليد ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك، وقد رأيت كلام كل من ذكرته من هؤلاء يثبت هذه الصفات، ومن لم أذكره -أيضًا- وكتبهم وكتب من نقل عنهم مملوءة بذلك وبالرد على من يتأول هذه الصفات والأخبار بأن تأويلها طريق الجهمية والمعتزلة، وذلك (6) نحو ما ذكره الأشعري في كتابه كتاب "الإبانة الذي يذكر أصحابه أنه آخر مصنفاته، وفي غيره من مصنفاته كتابي

= -للذهبي- 16/ 304، 305. والوافي بالوفيات -للصفدي- 12/ 312.

(1)

تقدم التعريف به.

(2)

تقدم التعريف به.

(3)

تقدم التعريف به.

(4)

هو: أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن شاذان البزاز -مسند العراق، حدث عنه الخطيب البغدادي، والبيهقي، والشيرازي وغيرهم توفي سنة 426 هـ.

قال الخطيب: "كتبنا عنه وكان صدوقًا صحيح الكتاب، وكان يفهم الكلام على مذهب الأشعري".

انظر: تاريخ بغداد -للخطيب- 7/ 279، 280. وسير أعلام النبلاء -للذهبي- 17/ 415 - 418. والجواهر المضيئة -للقرشي- 2/ 38، 39.

(5)

في س، ط: أو السنن.

(6)

في س، ط: انتهى الكتاب. لكن جاء في ط: ". . والمعتزلة ونحو ذلك" وما بعد ذلك فمن الأصل وحده.

ص: 1037

"المقالات"، وكما ذكره هو في كتاب "العمد"(1)، وقد ذكر ذلك أبو بكر بن فورك في أخباره (2)، ونقله عنه أبو القاسم بن عساكر (3) فقال:"انتقل الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري من مذاهب المعتزلة"(4).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وليعلم أن هذا آخر ما وجدنا من هذا التأليف المفيد، وهو للإمام بل إمام الأئمة، والمجدد سنة سيد المرسلين لهذه الأمة، مبيد أقران الباطل في كل حال، ومبدي ما ستروا من عيوبهم بزخرفة القيل والقال أبو العباس أحمد بن تيمية، سقى الله بوابل الرحمة ثراه، وجعل الجنة منقلبه ومثواه، وقد تم بعون الله نهار الرابع والعشرين من شهر جمادى سنة 1223 هـ فمن هجرته [عليه وسلم](5).

(1) ذكر ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري" ص: 128 أنه هو كتاب "العمد في الرؤية"، وقد ذكر فيه الأشعري كتبه التي ألفها حتى سنة 320 هـ.

تقول الدكتورة فوقية حسين في المقدمة لكتاب الإبانة -لأبي الحسن الأشعري - ص: 41: "ونرجح أن يكون المقصود بالرؤية هنا تبيين أصول الوقفة الصحيحة التي تكشف عن انتمائه إلى السلف الصالح، وتكون كتبه التي ضمنها هذا المصنف دليل على ذلك".

(2)

انظر: مجرد مقالات أبي الحسن الأشعري من إملاء أبي بكر بن فورك ص: 41.

(3)

في تبيين كذب المفتري ص: 127.

(4)

انتهى الكتاب في الأصل. وما بعده من هامش الأصل، وهو بخط الناسخ نفسه.

(5)

ما بين المعقوفتين غير واضح في الأصل. وأثبته لإتمام الكلام.

ص: 1038