المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أسطورة شائكة للدكتور: عادل العوا لا أدري لماذا اخترت هذا العنوان، وأنا - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٤

[عادل العوا]

الفصل: ‌ ‌أسطورة شائكة للدكتور: عادل العوا لا أدري لماذا اخترت هذا العنوان، وأنا

‌أسطورة شائكة

للدكتور: عادل العوا

لا أدري لماذا اخترت هذا العنوان، وأنا كنت أبغي التحدث عن غيره، عن الأخلاق، أخلاقنا في ثوبها الجلي، وحقيقتها الملموسة، وواقعها الشائك الأليم، لا أخلاق الجمال والفكر الجميل، أخلاق السطور التي تبدعها العاطفة الصافية، والمثل الأعلى، والخير الحبيب، في جو من الورود والأنس، وسماء من الذهب المعسول، والأمل الأنيق.

والأصدق في الأمر أنني عللت النفس بأخلاقنا الفعلية طويلاً، ووضعت لها منظار التودد والمحاباة، ورجوتها أن تتحيز لأخلاقنا وترضى عنها، وحملتها على التغاضي وقسرتها على القناعة والاقتناع، ولكن العبث أردت، وعبثاً أردت، فقد شئت أن تجد نفسي فيها ثروة لا تذوب، وكنزاً ليس يبلى، فلم تستطع نفسي خداعاً، وذهب الجهد باطلاً، وعاد هذا العنوان الفاجع، فاعترفت بفشل الأخلاق المثالية عندنا ووجدت نشاطها خمولاً، وحركتها بطئاً أو رجعية.

ولا ريب أن القارئ النابه درى معي أنني أود الكلام عن جمال أخلاقي نزهى باسمه، وهو غير موجود، وربما وافقني منذ الآن على العجب بأسطورتنا الأخلاقية الجميلة، تحيط بنا، وتعلو علينا، وترهقنا بأثقالها وقسوتها، ونحن نتمسك بها وثنية وأوثاناً، وهي الأسطورة الرائعة حقاً، لولا أنها كاذبة مثل سائر بنات جنسها، ونحن اعتدنا أن نفضل من كل لون أشده، ونرجح على ضجة أقواها، ونخضع للأعظم من كل حجم، وأننا لنقرر خلقياً قيمة الأخلاق، ولكننا لا نعمل بها، ولا نسعى لها، ولا نفهمها في الغالب من الوقت، يطربنا صوت لا نميزه، ونعشق وجهاً لا نعرفه، ونصحب رفيقاً لا نراه.

الأمم الأخلاق

تسمع أن الأمم الأخلاق حصراً، ويتكرر سماعك منذ الصباح إلى المساء، وترغم عليه آناء الليل وفيما بينها أيضاً، فتؤمن إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، وهذا حق لا خلاف يتطاول إليه، ولكنه حق أصبح يتصف لدينا بأكثر من البداهة، ولذا ساءنا ولم ننتفع منه، وإن أحدنا ليلتفت يمنة ويسرى، فيتفاءل ويتشاءم، ويغرق في كليهما، ولكنه بعد ذاك يجد أننا لم نصبح أعظم الأمم في الأرض ولم نرجع إلى ماضينا، لنقترب من كماله السابق، ولم نبرهن على

ص: 1

غدنا حتى نطمئن إلى ما نصير إليه، في حين أننا أكثر الأمم تمجيداً للأخلاق، وأشدها ترنماً بها، وأكبرها نداء لها، وإذا رغبت في احترام رأيك، وطلبت برهاناً أو دليلاً أو سبباً، طالعك النقيض، وجابهك ضد ما تطلب، وكنت أمام أمرين، فإما الكذب بالواقع، والرضاء عن الكذب، أو الخروج عنه، والخروج عليه، فتبعد عندها عن أنك شرقي ممتاز، وتصبح ملحداً بناموس الأسطورية الشرقية، ففي الشرق يراد لك أن تعيش خلاف ما تفهم، وفي الشرق تحمل على رؤية ما لا تبصر، وفي الشرق ترغم على الاقتناع بما لا يسمن ولا يغني من جوع، زهدك بالشيء يبعدك عنه، وعبادتك اللفظ يقيم صلبك عن المعنى، أليس اللفظ في ذاته نغمة، ونغمة الأخلاق تلعب بحياتك عندنا، وتعلو قدسيتك، وتوجه سلوكك، في القصر والشارع، في جميع القصور وكافة الشوارع، وفي المدرسة والحقل، والمقهى والمتجر، وفي مغاني الشعب وثنايا الصحف المتطهرة، وليت لنا أن نحقق ما نقول، ونظهر ما نبطن، ففي ذاك راحة من عناء، وعوض عن نقص، وإكمال لعجز، ولست أشك في أن البشرية جمعاء تذعن لعظمتنا آنئذ، وتشق أمام عجلتنا طريق الصعود وتخر مؤمنة بروحانيتنا الممتازة، ونبلنا الرفيع، وأخلاقنا العليا.

شكلية جوفاء

لا يسقط بيننا وبين ذروة المجد سوى أننا نرى الخير ولا نعمل به، ونتخذ الأخلاق بوقاً نصيح به ولا نتبعه، فأخلاقنا غدت أشكالاً جوفاء، وصوراً تصلح لكل جدار، وخطباً منمقة تستعمل في كل مناسبة، وعلى غير هدى. ولن أتقدم بالمسؤولية عن كل ذلك فأزفها إلى رجال التربية، وأحملهم اللوم وحدهم، والحق أن السبب في ضعف الحقيقة الأخلاقية وفشلها عندنا يرجع إلى التربية في الدرجة الأولى كما يرجع بالمعلول إلى علته، وبالداء إلى أصله، ولكن من الحق أيضاً أن نعترف بالفضل العام للمربين في بلادنا، فهم كرام نبلاء، ولكن مسؤوليتهم ترقى منهم إلى الظروف المحيطة بهم، والوسائل المتروكة إليهم، والسلطة المعطاة لهم، والتوجيه الذي إليه يفتقرون.

دمية الفضيلة

يجهل كثيرون، ويتجاهل كثيرون، أننا لسنا أقل خلقاً من أسلافنا الأقربين. فيصيح بعضهم بأن أخلاقنا قد فسدت بصورة شاذة، لا سبب لها، ولا رادع عنها، ويصفق بعضهم مصدقين

ص: 2

أو منافقين، ويتأتى عنهم جميعاً تأليف شركات عفوية معنوية، تستثمر النداء بانحطاط الأخلاق، وتدعي صيانة الفضيلة والعفة في كل مكان ويذهب المسنون والمسنات من جمدت أعمارهم الفكرية، فيتنادون بالويل والثبور لمن يطلب الحياة من الأحداث، ويرغبون أن لا تكون أخلاق النشء سوى صورة لأخلاق الجدود الأقربين، ولو جرأنا لفهمنا أن الأخلاق العربية لم تتدهور منذ أمس، بل إن جمودها ملازم لجمود قوتنا القومية، وفسادها ظل لفساد حياتنا الاجتماعية، وفقدها فقد لحيويتنا الإنسانية، منذ أن تتالت النكبات علينا، فخسرنا صلاح الدين وكسبنا النير التركي، ورزأتنا الأيام بالأنانية الأجنبية في عقر دارنا، ولم يصبح لمستغلي الفضيلة من شغل شاغل إلا خدمة هذا الخزي القومي ولفت النظر عن رؤية النور واضحاً، ووضع دمية الجمود بين أصابع النشء، يلهو بها ويتلهى عن غيرها، فالأخلاق ليست أداة الغموض والخديعة، بل هي حزمة النور في سلم الوطنية، وقصر الحرية، وطريق المجد.

يقولون إن الزمان قد شاخ، وإن العمر لا ينتظر، وإن السرعة في التقليد تغني عن التردد في التجربة، والعناء بالبحث، فليس مثل السير على فضيلة الأب والجد في أيام استعباد أزلناه، وإن من رضي عاش ويحمد خلقياً من يحمد المكروه، ونحن نجيب إن الزمان لا يسيرنا فيحيي ويميت، بل نحن الذي نوجد في الزمان، ونملأه بوجودنا، ومن العقل أن نفهم ونعمل، فنعرف علتنا وداءها الأسود، ونكره كسلنا وطويته النقية البيضاء، فالنية الساذجة لا تخلق الإصلاح، وجودة السجية ليست حقيقة إنسانية في نظر إنسان اليوم، وان شئنا أخلاقاً حقيقية فلنطلب حقيقة الأخلاق، ونسعى إلى ما يصلح فاسدنا، ويقوم عوجنا، من غير جعجعة فارغة، تقلق المفكرين، وتزيد حيرة الحائرين.

تطور الأخلاق

وأبسط عناصر هذه المعضلة، وأول سبل إصلاحها، هو الإيمان بأن الأخلاق كالحب والفضيلة والحق والعدالة والإخلاص والإحسان ليست سلسلة ألفاظ لا نهاية لها، ولا معنى لرموزها، بل هي مفهوم واقعي يرتبط بالزمان وبالمكان، ومن جملة الزمان والمكان ينشأ المجتمع الذي هو أصل تطور الأخلاق.

سنة الله في خلقه أن تتغير الأخلاق تبعاً لسنة الله في النشوء والارتقاء.

ص: 3

فالمجتمع لا يثبت على تقهقر ولا على نهوض، بل الأيام دول بين الناس، وهذا كله لا يتم إلا بالتبدل والتقدم، والمجتمع عندنا عرف وحاجة، فهو عرف يحتفظ بالتقاليد عند تلاصقها بالتطور، وهو الحاجة إلى إدخال الجديد في القديم حتى تصبح التقاليد ملائمة، والقديم غير بال، وما من سبيل إلى الكفر باتساق القديم والجديد في حياة المجتمع، وحياة الإنسان.

واجب الساعة

ويظن ظان أن الأخلاق هي هدف الأمة العربية في نهضتها، وعندنا أن النهضة هي على العكس هدف أخلاقنا العربية الآن، وتحقيقها هو واجب الساعة الأعلى، وإن الحرص على صبغ مفهوم الأخلاق القديم - وقد كان فردياً تعسفياً في ظل الاستعمار - بصبغة اليقظة القومية الحازمة العازمة، هو فرض هذا الوقت، ومحور الأمل، ولغز النجاح والفخار. والزمان أثناء ذلك يفعل فعله، ولكنه لا يخدم أمانينا عن طريق القصور والاتكال.

وزارة التربية

أما المسؤولية في هذا الأمر الجلل، فلن نتكرم بإلقائها على الأيام والتاريخ، لأن التاريخ أصم إذا نام أهله، والتاريخ ليس عربياً إلا إذا هبت القومية العربية من رقادها، وتفجرت ينابيعها عن قوة ونضج، والأيام عاجزة إذا جهل أصحابها، وأمعنوا في الجهل، والمسؤول الأول عن كل ذاك هو التوجيه القومي في وزارة المعارف، ونحن نريدها وزارة التربية القومية أولاً، وأغلب الظن أن القيام بمثل هذه الوظيفة لما يبلغ تمامه، ويكمل وثبته، ويملأ بالخلقية القومية هيكل الثقافة والتعليم.

والقائمون على هذه الوزارة هم المسؤولون مبدئياً عن صحة التربية، وصلاح الجيل، لأنهم قبل غيرهم يتضلعون بعبء اجتماعي ثقيل، ويتصدون لإحقاق وظيفة اجتماعية وتاريخية عليا، يصيبهم من الفخر في فوز القيادة مثل ما ينالهم من الازدراء في العجز والإهمال والقصور، حين العقم والفساد. ورجال المعارف السورية يخرجون، فيما نعتقد، عن أناقة التمثيل ليدركوا صميم الحياة، ويقبضوا على زوايا الواقع، ويعالجوا لباب الأمر بجدهم وقدرتهم وجميل الصبر والإخلاص، وإن دعامة هذا الوطن في بقائه صاعداً ناشطاً لتشاد من تواضعهم وإقدامهم، ولا نكران أن المربين في سلك هذه الوزارة فاضلون تشكر هممهم، وتحمد خصالهم، ولكن الإقبال عل العناء الأشد، والعمل بحيوية أكثر على فتح العقول

ص: 4

والقلوب لنور الحقيقة في مضمار التربية القومية لا يزال يحتاج إلى استدامة وبذل حتى يقرب من الكفاية، ويأتي بالبركة والخير، ويدني من الحصاد، ونضج الثمار، وخصب الموسم ويبعد عن الزينة بمنصب يدرك، أو لقب يضاف إلى وسام. . .

ستصنع في هذه الوزارة الأمة التي نريد، والمجتمع الذي إليه نحتاج، ولن يتردد رجالها في إحياء أخلاقنا في وضوح العقل والجرأة، وسحق الشكلية والأسطورية، ومحق المستثمرين من ضالين ومنافقين، وكلمة الفصل في ذاك أن يحسن التوجيه ويسلم، ولسنا نجهل أن الظلام لا يتبدد إلا تدريجياً، وإن النهار يصحو على مراحل ودرجات، وإن المجد ينال بالتعب المتواصل، ولكن وحدة الهدف تجمع حولها ما تباعد من الأسباب، وللمربين في غير الأسرة الحكومية أكثر من منزع، وهم في دار التربية الرسمية يتعددون في نزعتهم أو نزاعهم، ولا بد من إيلاف الجهود وائتلافها، وتنميق القوى وتضافرها، والتجرد إلا عن المصلحة الوطنية الخالدة، فهي الأصل الأوحد الكبير، وقاعدة كل اجتهاد وتفسير، وبالرجوع إليها يؤخذ لبن النهضة القومية سائغاً، وتحيا فاعلية أسرة التربية والتعليم، وإن المجتمع الذي يخلقون بأيديهم يكون أول ما يوفر لهم حقهم من العناية والاحترام، فينالون التقدير والتشجيع، ويخرجون على الأقل من الكفاف إلى الكفاية، ولا يلبث ذاك أن يحفزهم على المضي ويدعوهم إلى الاستمرار في زيادة العمل والإخلاص.

نريد

إن الأخلاق التي نريد إصلاحها لتحيا أمتنا حتماً وتبقى على الحياة، هي ما يتطلب الواقع والمجتمع في عصرنا وبيئتنا وظروفنا ويتلاءم مع مستقبلنا ونظرتنا إلى الوجود، وهدفنا من التقدم والارتقاء، ولسنا نقبل أن تشغلنا الأعراض عن الجوهر وأن نصاب بتضخم في ناحية من نواحي الضمير، فنعنى بأخلاق الوظيفة الجنسية، كما نفعل الآن، ولا نعنى بغيرها من فروع الواجب وشعب الفضيلة وطوائف الخير. وإنما الأخلاق في رأينا أكثر حيوية واتساعاً من البحث في قواعد حفظ النوع، وإرضاء الشهوة، وسد احتياج الغريزة، وعلينا أن ننشط في قوميتنا الواسعة التامة، ونأتي إلى العالم الجديد بأفضل ما يحقق الإنسان العربي من أخلاق حية واقعية، فننظم مدينة الوطن ونجعل التاجر الخلوق لا يحتكر باسم حرية الاقتصاد، ولا يغش باسم الذكاء في استثمار الخبرة والاختصاص، ونجعل

ص: 5

العامل الخلوق يطلب المعرفة ولا يقتصر على تمني الثروة وطلب المال، ونجعل الغني الخلوق ينفق مما أتاه الله، من غير أن تجحده الأثرة، فيجهل أن حانوته جزء من سوق أكبر هو الوطن، وعندها تفهم الحكومة والشعب أن بينهما في الدرجة الأولى واجبات وواجبات. . .

عادل عوا

ص: 6