الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجنون ثوب الحب
للآنسة نور الهدى محروس
منذ ما يقرب من شهر والاستعدادات في القرية قائمة على قدم وساق لاستقبال عيد الفصح وقد راحت الفتيات تخيط الثياب المزركشة اللازمة بينما انهمك الفتيان بتزيين الجدران والنوافذ وعلى الأخص الصالة المعدة للاحتفال. وحلت ليلة العيد فكان السرور شاملاً ولكن منتصف الليل ما لبث أن تقدم ببطء مؤذناً أن العيد قد انتهى أو بالأحرى انتهى السرور وعادت الحياة كما هي مملة رتيبة واجتمع القوم لإعادة الثياب إلى صناديقها وخيم الصمت الرهيب وفجأة قالت إحدى الفتيات:
- أليس من المؤسف أن أكون منذ برهة فقط ملكة وأنا الآن لا شيء.
وقال آخر:
- وأنا. . لقد كنت ملكاً. . انظروا إلى تاجي البديع إنه الآن فقط يبدو أنه مصنوع من الفولاذ.
وأخيراً قال ثالث:
- أما أنا فلست بآسف على شيء لقد كنت في ثياب خادم، وعلى هذا فأنا لم أخسر شيئاً.
وخيم الوجوم من جديد وراح كل منهم يطلق لخياله العنان ليرى نفسه في ثياب الاحتفال البراقة الملونة ثم يلقي نظرة على ثيابه فيرى أنه كغيره من الناس. وبحركة آلية راحت الفتيات تخفي الثياب في صناديقها التي كانت أشد صلابة وقسوة من الموت وانتهى العمل وفجأة صاح أحدهم:
- وهذا الثوب. . لقد نسيتموه. فأجاب آخر:
- لا تضعوه في الخزانة. . فسأقدمه أنا إلى من يلبسه.
وكان الثوب ثوب (الجنون) فضي اللون مزين بالشريط الأحمر وأما ياقته فكانت حمراء اللون دائرية الشكل تنتهي بمثلثات وفي رأس كل مثلث جرس صغير. وهذه الأجراس تحدث أصواتاً كتلك التي تصدر عن قطيع من الماعز إذا ما تحرك لابس الثوب.
تأمل الجميع الثوب وعلى شفاههم ابتسامة عذبة إلى أن قال أحدهم:
- أنا أعرف لمن يجب أن نقدم الثوب. فصاح الجميع:
- قل لنا لمن؟.
- إلى (لاتيا)
- هذا صحيح فإنها لم تخطر لنا ببال. عليك أنت يا (دوبيري) أن تتولى هذه المهمة لأنك تجيد صناعة الكلام.
وهنا حبذ (دوبيري) أن يرافقه نفر منهم. فكان مجموع من ذهب لتقديم الثوب أربعة فتيان.
كانت لاتيا هذه مجنونة حقيقية ولكنها لم تكن كذلك منذ ولادتها بل أصبحت مجنونة عندما بلغها أن خطيبها قد هجرها وأنه ترك القرية إلى غير رجعة وعندها فقدت عقلها وأخذت تنتظر عودته وهي تردد في كل يوم سيحضر غداً ومرت الأيام وتلتها السنون ولاتيا تنتظر وترقب الطرق المؤدية إلى القرية نهاراً فإذا ما جن الليل أوت إلى فراشها وهي تقول:
- سيعود حتماً. أنا أثق به. . إنه يقوم بجولة صغيرة ليس إلا. . وسيعود. . ولكن السنوات الثلاث تتابعت دون أن يعود وفقدت (لاتيا) والدتها خلالها وبقيت وحيدة في هذا العالم الفسيح. فهي إذن مجنونة هادئة سعيدة على ما يظهر إذ أن الأمل بعودته كان يحدوها للعمل، فحديقتها قبلة أنظار أهل القرية بجمالها وتناسقها وقد اعتادت أن تذهب كل يوم إلى الغابة فتجلب معها الفواكه لتبيعها إلى السوق كما تحمل الأزهار فتصنع منها أكاليل تبيعها للأطفال.
وصل (دوبيري) ورفاقه إلى منزل لاتيا بعد الظهيرة وكانت المسكينة في نافذتها كالعادة ترقب الطرق. ألقى الفتيان عليها التحية فخرجت إليهم من باب المطبخ المؤدي إلى الحديقة. كانت هذه الحديقة على صغرها تضم مختلف الرياحين والأزهار التي لا تخلو منها في فصل من الفصول
وكانت منسقة تنسيقاً بديعاً فالأزهار مصففة بحسب أجناسها أولاً فالبنفسج في جهة والقرنفل في جهة أخرى. . الخ وبحسب ألوانها ثانياً فالأحمر إلى جانب الأصفر وهذا إلى جانب الأبيض. . الخ وهذا ما جعل الحديقة كبساط مصنوع من قطع قماشية مختلفة الألوان قد لصق بعضها في بعض فما من كائن وقعت عينه عليها إلا صاح:
- إنها حديقة بديعة! فترد لاتيا دوماً بالجواب المعهود:
- هذا من أجله وسيعود. . .
قال دوبيري وهو يتأبط الثوب مغلفاً بالورق:
- أصغي إلي يا لاتيا فسألته بلهفة:
- هل رأيته؟
- لم أره. . . ولكن سكان القرية أكدوا أنهم رأوه وأنه سيعود. . .
أما الفتيان الثلاثة الآخرون فأخذوا يستمعون إلى الحديث وهم يتسنمون جدار الحديقة وفجأة أمسكت لاتيا بالشرائط الموزعة على شعرها وعددها كبير ثم قالت:
- انظر. . لقد أكثرت من هذه الشرائط الوردية ليراها عن بعد لدى عودته ألا ترى أن بإمكانه أن يلاحظها عن بعد. . .
وفي هذه اللحظة المناسبة نشر (دوبيري) الثوب ورأت لاتيا ألوانه الزاهية فبهرتها وبحركة خفيفة حرك الأجراس فصاحت لاتيا:
- أوه! إنه ثوب جميل. . هل هو لي؟ يجب أن أرتديه ليسمع صوت الأجراس عن بعد عندما يعود كما يرى ألوانه المشعة الزاهية.
فقال دوبيري:
- هو لك هدية ولكن بشرط ألا تقبعي في عقر دارك بل عليك أن تتجولي به وأن تضعي قبعته الخاصة على رأسك. إذ ما الفائدة من بقائك به في منزلك هيا ارتديه. . جربي مرة واحدة.
ومدت لاتيا ذراعيها لتتناول الثوب فصاح الفتيان من أعلى الجدار.
- إنه يناسبك حقاً. . إنه بديع للغاية.
وارتدت الثوب ووضعت القبعة التي أخفت شعرها المصفف ووجنتيها وجبينها وبالتالي أخفت تجاعيد وجهها المغض فبدت كالطفلة الجميلة المحببة، هذا وقد أضفى الانعكاس على وجهها لوناً زاهياً أعاد إليه نضارته.
وقال دوبيري:
- من المؤسف ألا يوجد هنا مرآة.
- آه انتظر إن لدي مرآة.
وأحضرت المرآة فوضعتها على الأرض ثم انحنت فوقها ونظرت إلى صورتها المنعكسة
وابتسمت لها ولما نهضت رنت الأجراس بصوت عذب كصوت المياه المنسابة فوق الحصى وتحت أشعة الشمس.
وحاولت انتزاع الثوب ولكن الفتيان صاحوا:
- لا. . . لا تنزعيه فهو يناسبك أكثر من كل أثوابك. . هيا اخرجي به لنراه. .
وخرجت لاتيا من منزلها وسارت في الطريق بينما تبعها الفتيان عن كثب وأخذت تسأل وهي تسمع صوت الأجراس. . .
- أو تظنون انه يسمعني الآن عن بعد.
ومر رجل عجوز فحدق بها من تحت نظارته ثم فغر فاه دهشة وقال:
- هذه لاتيا. . ولكن ما بالها أخفت شعرها.
والتفت حوله فألفى النساء على عتبات الدور يرمقنها وهي تمر بينما تجمع الأطفال خلفها وهم يتصايحون وأما لاتيا فقد أعجبت بثوبها هذا وسارت وهي تقول:
- هذا اللون الأحمر. . وهذا اللون الأصفر. . وهذه بقعة تلمع. . سيراني حتماً. . ولكن لقد مللت الانتظار.
وسألها أحدهم.
- إلى أين تذهبين يا لاتيا.
فأشارت بيدها جهة كنيسة القرية القائمة على مرتفع يطل على القرية وقالت:
- سأذهب إلى مكان مرتفع يمكن لمن يتجه نحو القرية أن يراه بسهولة.
فقالت النسوة.
- دعوها وشأنها فهي لا تسيء إلى أحد.
وتابعت لاتيا طريقها بزهو وإعجاب نحو الكنيسة تتبعها نظرات الشيوخ المتألمة ونظرات الشباب الباسمة. حتى إذا ما بلغتها جلست أمام المدخل على حجر مسطح ومن هنا يميز الناظر ثلاث طرق مؤدية إلى الضواحي تبدأ في الأفق دقيقة ثم تتسع وتتسع كلما اقتربت من القرية. أحدها أسود عريض يؤدي إلى الشرق والآخر أبيض ضيق أما الثالث فيؤدي إلى غابة تقوم خلفها جبال زرقاء قاتمة. ومن هنا راحت لاتيا تراقب الطرق الثلاث ففي كل يوم تقصد الكنيسة إما بصحبة أولاد يتبعونها للتسلية أو بصحبة رجل أو امرأة تتجه
نحو الضواحي لعمل ما وأحياناً تذهب منفردة وإذا ما خطر لأحدهم أن ينصحها بقوله:
- عودي إلى منزلك يا لاتيا فهو خير لك.
علت وجهها سحابة من الحزن ثم قالت:
- وإذا ما أتى. . .؟
فهي تراقب الطرق دون كلل أو ملل وإذا ما ظهر كائن يتحرك على أحدها نهضت واقفة وراحت تحملق فيه منذ أن يظهر نقطة سوداء في الأفق حتى يتضح شخصاً حقيقياً وعندما تعود إلى مقعدها وقد عراها قليل من اليأس. وأحياناً كانت تدور حول بناء الكنيسة دون أن ترد الطرف عن أحد الطرق ولكن لم يحضر ومع ذلك فلم تفقد الشجاعة وتابعت انتظاره حتى في أشد فصول السنة برودة فإذا ما أمطرت السماء لجأت إلى إفريز الكنيسة فاتقت به غضب الطبيعة.
ومن جديد حل عيد الفصح وقد جرت العادة أن يحتفل به في شهر أيلول إذ أن الطقس يكون معتدلاً في هذا الشهر فيتمكن القوم من قضاء ثلاثة أيام على أحسن وجه من التسلية والغناء والعزف والرقص وهي عادة أيام السبت والأحد والاثنين.
هذا ما يحدث في كل عام وفي هذا العام أيضاً فقد جلست لاتيا أمام الكنيسة وهي ترتدي ثوبها البراق بينما التف الجمهور حولها يغني ويعزف ويرقص وهي ساكتة واجمة ترقب الطرق التي غصت بالخلق المتراكم عليها كما يتراكم الذباب على منضدة المطبخ فقد توافدت النساء والرجال والأطفال والعربات والدراجات في المساء نحو الكنيسة ومرت بلاتيا وهي تنظر وتنظر حتى طال الظلام بينها وبين أن ترى أي شيء ولكنه لم يعد. . ومع ذلك فهي تأمل. ومر السبت وتلاه الأحد والرقص والعزف لا ينقطعان حتى حلت الظهيرة. . .
من بعيد وعلى الطريق الشرقي. . الطريق العريض المزفت. . الطريق الأسود الذي يرسل إشعاعاً حزيناً تحت أشعة الشمس والذي تغطيه الرياح بطبقة رقيقة من الغبار على هذا الطريق حوالي الساعة السادسة أي في الوقت الذي خلت فيه الطرق تقريباً من الوفود ظهرت فجأة نقطة سوداء ونهضت لاتيا ممدودة الذراعين وهي تحرك أجراسها الصغيرة. . أليس هو الذي أتى؟ نعم لقد أتى. .
لم تشك لحظة في أنه هو الذي أتى، فراحت تصرخ:
- هو. . هو. . لقد انتظرته وها هو قد أتى. . ألا تروه؟
ولكنه لم يكن سوى كتلة مظلمة مجهولة تظهر على الطريق المظلم فلم يكن المرء ليميزها عن بعد ولكنها هي عرفت هيأته وطريقته في المشي، ومن هنا علقت أنظارها عليه وأخذت ترمقه من علو وفجأة ظهرت فجوة تحت أجفانها فقد انقسمت الكتلة السوداء إلى قسمين وكان من الظاهر أن أحد الكتلتين ترتدي ثياباً نسائية.
وما إن وصل الرجل حتى وضع يده على كتف (لاتيا) ليبعدها عن طريقه ونادته الفتاة بصوت مختنق ثم صرخت وتابعت العويل بقوة والتفت الرجل إليها ولم يكتف بالنظر إلى وجهها بل انفجر ضاحكاً وأمسك بذراعها فنحاها عن طريقه ودخل المقهى.
أما هي فقد اشرأبت نحوها الأعناق وهي تمزق ثيابها فتلقي بها جانباً ثم تتجه نحو منزلها بثياب حواء. . .
لقد كان هذا الرجل خطيبها الحبيب. . .
وفي اليوم الثاني قالت سيدة لأخرى
- ألا تعرفين لاتيا
- لا
- حسناً تعالي وانظري
ونظرت المرأتان. كان كل شيء قد تغير فالحديقة البديعة المنسقة قد أصبحت قاحلة جرداء وقد تكدست فيها الأعشاب الجافة ذلك أن لاتيا قد اقتلعت الأزهار وألقت بها جانباً وفجأة فتحت لاتيا باب منزلها وصرخت بالمرأتين:
- ماذا أتى بكما إلى هنا؟
- من المؤسف أن تصبح الحديقة على هذه الصورة يا آنسة لاتيا.
فقالت لاتيا وقد أمسكت بمنجل حاد يلمع:
- أتنظران هذا. . لقد حصدتها به. .
ثم ضربت به الأرض. واتجهت نحو المرأتين. وإذا بها تبدو امرأة عجوزاً وقد تدلى شعرها القذر على كتفيها بإهمال بينما ظهرت التجاعيد على وجهها كستائر سوداء مسبلة
وقد ارتدت ثياباً رمادية ممزقة فوق الذراعين!. . .
[عن الفرنسية للكاتب راموز]
نور الدين محروس
المعهد العالي للمعلمين