الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التربية والسلام العام
للأستاذ عبد الحميد الحراكي
نلخص القسم الثاني من محاضرة الأستاذ
الحراكي تتميماً للفائدة بالرغم من أنها أرسلت
لمجلات أخرى واطلع عليها بعض القراء
طالما أن التنافس الاقتصادي موجود والدفاع عنه في المؤتمرات من أهم واجبات المؤتمرين الذين اعتادوا السير بمقتضى الأساليب والوسائل القديمة التي كانت دائماً سبباً في إثارة الخلافات وفي النهاية الحروب، فإننا نرهف السمع لما يلقونه من خطب وبيانات وحجج لإثبات نظرياتهم العتيقة المبنية على حب الذات والأثرة وإساءة الظن بسواهم لتحقيق مآربهم ومطامعهم التي لا حد لها، فلا تجد فيها الخلاف والمساومة التي تنتهي بالحرب، مما دعا محبي السلم إلى إساءة الظن بهم وعدم الاطمئنان إلى هذا الطراز من الناس الذين أثبتوا عجزهم عن بناء قواعد السلم الدائم الذي يضمن العدل والرفاهية والأمن لكافة الشعوب الصغيرة والكبيرة على حد سواء. كما دعاهم للسعي وراء تأسيس مؤتمرات ثقافية حقيقية تؤلف من أناس ممن تشبعوا بروح سلمية ومبادئ إنسانية سامية لوضع قوانين لسلم دائم.
وإلا إذا ظلت الحال على ما هي عليه وبقيت قواعد التعليم والتربية هي هي، وظل الخوف والحرص على الحياة موجودين، وقواعد العليم لا توسع على أسس إنسانية قويمة تؤمن للجميع احتياجاتهم الضرورية ولثبت المطامع الفردية والعامة قائمة، وطالما أن الإنسان غير أمين على الحصول على ما يحتاج إليه إلا باستعمال الحيلة لأخذ ما في أيدي الناس، وطالما انه يضطر لاستعمال القوة أحياناً لتأمين حياته وحياة أفراد أسرته التي تصبح في حالة الفقر والعوز والمرض وفي النتيجة الموت المحتم إذا لم يحصل على ما يحتاج إليه في يومه وغده ومستقبله إلا عن هذا الطريق الأعوج، فإن كافة المؤتمرات والاجتماعات وكافة القوانين وكافة المواعظ والإرشادات وجميع التشبثات والتوسلات التي تتخذ من قبل هؤلاء الرجال الذين شبوا وشابوا على أساليب التربية القديمة المؤسسة على الأسس الاقتصادية المعلومة لإيجاد عالم يعيش بسلام على غير هذا الطراز الحالي، لا تجدي نفعاً
ولا تأتي بالفائدة المطلوبة والغاية المتوخاة.
لقد أصبح الحصول على عيش الكفاف أو دون الكفاف من أشق الأعمال التي يقوم بها ملايين المخلوقات على وجه البسيطة، وبصورة مختصرة فقد أصبحت الحياة جحيماً لا يطاق يريد الخلاص منه كل من أوتي ذرة من العقل والتفكير الصحيح لما يخالج ضميره من الخوف والفزع من نفسه وأسرته. . . لذلك فقد اتضح أن العلاج الصحيح الوحيد لهذا المرض العضال المزمن هو جمع مؤتمر ثقافي عالمي وغير رسمي (إن أمكن) من الذين يتحسسون بهذه الإحساسات ويشعرون بهذا الشعور لوضع مناهج تعليم جديدة مبنية على قواعد ونظريات إنسانية جديدة تماشي تطورات الحياة الحالية خالية من الطمع والجشع والأثرة وتحكم القوة.
وقد لفتت هذه القضايا الحيوية الهامة نظر جامعة الأمم المتحدة، فألفت مؤتمراً ثقافياً اجتمع في باريس مدة ثلاثة أسابيع واختتم جلساته مؤخراً بعد أن قرر عدة مقررات هامة بخصوص الثقافة العامة للدلالة على أهمية هذا الموضوع الحيوي الذي يشغل بال العالم وقد علق رئيس الوفد الأميركي في المؤتمر على أهداف المنظمة بقوله: غرض هذه المنظمة هو المساعدة على نشر السلام على الأرض وحسن النية بين الناس وكلاهما ينبثق من تفاهم صحيح بين كل إنسان وغيره وقد وفق هذا المؤتمر الدولي إلى نجاح لم يتفق لغيره بعد نهاية الحرب.
أما المشاريع التي وافقت المنظمة على مباشرة تطبيقها عام 1947 فهي:
1 -
مكافحة الأمية في جميع بلاد العالم وإيجاد مستويات للتعليم في كل مكان.
2 -
ستدرس المنظمة الأمور التي تؤدي إلى الحرب، كالقلق والبغض بين الطبقات والعناصر والملل وتسعى لنشر عوامل السلم بين الناس بواسطة التفاهم.
3 -
ستبذل جهودها لإزالة الحواجز التي تمنع تدفق المعلومات إلى مكان ما، وتتعاون مع لجنة التحقيق الإنسانية في جامعة الأمم لنشر الأخبار الصحيحة المطبوعة والكتب والمجلات وإصدار الأفلام السينمائية وإذاعة مناهج الراديو المفيدة.
4 -
وستبحث المنظمة مع جامعة الأمم إمكان إيجاد شبكة راديو عالمية تحت إدارة دولية توصل إلى كل إنسان كاف المعلومات الصحيحة من الحوادث والتاريخ والموسيقا وغير
ذلك من جميع الشعوب إلى جميع الشعوب.
5 -
ستجمع عدداً كبيراً من علماء العالم ليدرسوا مشكلات الطعام والمرض ومقدرة كل منطقة على الإنتاج.
يتضح لنا من هذا المؤتمر أنه خطوة واسعة تخطوها جامعة الأمم إذا قدر له النجاح ولم يفشل فشلاً ذريعاً كغيره من المؤتمرات، وهذا ما يجعلنا نعتقد اعتقاداً جازماً أن روح التربية يجب أن تتغير ويستبدل بها إيجاد علم العلاقات البشرية الحديث الذي يجب أن يكون فاتحة عصر جديد في تاريخ البشرية يمهد السبيل للوصول إلى مبدأ العالمية الذي دعا إليه المفكرون والمصلحون منذ القديم والذي يمكن تحقيقه في القرن العشرين كما تنبأ البعض.
هذا وربما يعترض البعض بأن هذه الأفكار ما هي إلا من قبيل الخيال الذي يحلم به بعض المفكرين، وأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وإن السلم العام كان خيالاً وحلماً في الماضي وسيظل خيالاً وحلماً في المستقبل ما لم يتغير الطبع البشري. وإن أنظمة التعليم والمدنية الحالية هي أسمى ما وصل أو ما يمكن أن يصل إليه العقل ولا يمكن تغييرها واستبدال ما هو أحسن منها بها، رغم ما هي عليه من النقص وما تحتاجه من الإصلاح لعجزها حتى الآن - رغم مرور آلاف السنين عليها - عن تأمين حاجة الإنسان وراحته وطمأنينته على حياته وحياة أولاده وأسرته وذراريه، وجوابنا لهذا المعترض أن مقابلة بسيطة بين ما كانت عليه البشرية منذ قديم الأجيال ومنذ كان الإنسان يعيش في الكهوف والمغاور، ومنذ كان يهيم على وجهه في مجاهل الغابات والأحراج، وبين ما وصلت إليه في عصرنا الحاضر من التقدم والرقي وصلاح العوامل وتوفر الأسباب في يومنا هذا خلافاً للماضي (رغم عدم بلوغها درجة الكمال)، إن هذه المقابلة البسيطة تظهر لنا إمكان التطور المنشود الذي يمكن أن نحصل عليه وتصل إليه البشرية فيما لو أدخلت التعاليم الإنسانية الحديثة على أنظمة التعليم الاقتصادية، وإن التسليم بعكس ذلك معناه تنزل العقل البشري عن عرشه ورجوعه إلى حالته الطبيعية الأولى وإنكار التطور المحسوس الذي لا ينكره إلا من أعمى الله بصره وبصيرته.
وإلا إذا بقيت البشرية راكبة رأسها، متشعبة بروح التعليم الحالي المملوء بحب الذات
والجشع والطمع والاستئثار والتوسع والفتح والاستعمار، وإذا بقي الإنسان ينكر ويجحد كل جديد ويقاومه، فقل على الدنيا والمدنية الحديثة السلام.
عبد الحميد الحراكي