الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السؤال والجواب
للأستاذ عبد الرزاق جوده
مما يزيدنا معرفة ويقيناً فيما نريد أن نعلمه في صف تتقد فيه الحياة، وتتأجج بين صفوفه الحيوية الناطقة، هو ذاك الصف الذي يلتهب أواصره في الحركة ويتراص ويتزاحم أفراده في الاستباق إلى الإجابة عن مادة أخذوها أو نظرية درسوها، ليسعد كل منهم في نيل قصب السبق ويتلذذ بما أوجده من الاكتشافات والخفايا المخبوءة بالنسبة إليه، هذا ولا يضيرنا إذا قلنا أن الاستجواب هو الوسيلة الكبرى لتحريك كوامن النفس الجاثية وبعثها على الوجود، وإيجاد ما في خباياها من العبقرية والمواهب، إذ هو الأداة القويمة، والدعامة المثلى في تعليمنا، والمساعد الأكبر، والركن الأساسي للطريقتين التعليميتين:(الطريقة الاستقرائية والطريقة الاكتشافية).
ولا بأس من أن نسرد بعض ما يدعم قولنا ويثبت ضرورة الاستجواب والسؤال في التعليم والتدريس.
1 -
الاستجواب يبث في الصف النشاط والحياة، فالتلاميذ المستصرخون لإجابة أسئلة معلمهم يمرحون في دور جديد من حياتهم يفكرون فيتكلمون، وكم هم السعداء الفائزون، عندما يجدون الجواب الصائب فيجيبون، تعليم حي ومفيد كهذا يفتق الأذهان ويتضامن ويستفيد منه الجميع لا شك أنه - دائماً - تعليم غصيب.
2 -
الاستجواب يثبت ويقوي الذاكرة، وينشط على استرجاع الذكرى، في أكثر الأحايين يقف التلاميذ حيارى أمام سؤال يطرح عليهم، فيعودون إلى نبش معلوماتهم، وما تلقنوه وتعلموه، حتى إذا ما عثروا على ضالتهم اندفعوا بنثرها ومناقشتها، وبهذا تتضح أفكارهم ومعلوماتهم المختلفة الغامضة وتصبح نيرة واضحة.
3 -
الاستجواب آلة المعلم الحقيقية، والحجر الأساسي في التعليم، ومعرفة النجاح. لا يستطيع المعلم التحقق من هضم تلاميذه لمعلوماتهم، والتفريق بين درجاتهم إلا بالسؤال والاستجواب. فهما اللذان ينيران له الطريق ويعلمانه ما قد توصل إليه طلابه، وما قد أفادت طريقته التعليمية. فإذا آنس التقدم والاستفادة ازداد نشاطاً وعزيمة، وإذا وجد خللاً واعوجاجاً جدد همته، واتخذ سبيلاً آخر لإتمام عمله الشاق الموكول إليه.
4 -
الاستجواب يساعد الطفل على التكلم، والتفكير، والحياة اليقظة. في الطفل استعدادات كامنة لا تتحرك، فمن الخطأ أن تتركها خامدة لا تستعر، ومن الخطر أن نميتها في مهدها، فواجبنا إيقاظها وإبرازها إلى الوجود. وقد قال (بوترو المقوي في الطفل أهم الاستعدادات:(أنه لا يكفي غرس المعرفة في الطفل، بل يلزم أن ندفعه على قول ما يعرفه لأن الإحساسات الفضيلة والتأملات الصحيحة تنبعث بالسؤال إذا لم تكن ظاهرة جيداً).
اطلب من التلميذ أن يتكلم بذلك تضطره إلى التفكير، وتثير فيه يقظة وانتباهاً، قال إيدن:(الكلام وراء فكرة تفيض بنبعها على سؤالك)، ففي سؤالنا للتلميذ نحمله على الإصغاء الذي يقوده إلى الإمعان والدقة في الجواب الصحيح ويخلق فيه قوة جمع الكلام الذي يسمعه فيصبح ذا إطاعة إرادية، وهي الفضيلة الاجتماعية التي تميزه على غيره، وتجعله معتبراً محترماً في نظر الآخرين.
بعد هذه اللمحة البسيطة عن ماهية السؤال والاستجواب، وما فيهما من الفوائد المثمرة في التعليم والتدريس لا بد لنا أن نلمح إلى أنواع الأسئلة وغاياتها. فالسؤال إما أن يطلب فيه الإجابة عن شيء مبهم لدى التلميذ الغاية منه فهم مقدار ذكائه وإبداعه، وهذا ما نسميه (الأسئلة الإبداعية)، وإما أن يطلب منه الإجابة عن معلومات مقررة، الغاية منها تحقق هضمه لها، واختباره في فهمها، وهذا ما نسميه (الأسئلة الاختبارية).
الأسئلة الإبداعية: إن الهدف من هذا النوع للأسئلة هو أنها تكشف للتلميذ الشيء الذي يراد تعليمه إياه من نفسه، لنفرض مثلاً في درس الأشياء، فالمعلم يعين الخواص الأساسية للشيء المبحوث عنه فينيرها للتلميذ بمعونة الملاحظة، وهذا يستخلص منها الأشياء المجهولة والمطلوبة التي تحيي فيه الإبداع والاكتشاف، ولنلاحظ أيضاً في درس الأخلاق - رغم سهولة الموضوع والطريقة - أنه من الضروري عرض الأشياء المتعلقة بالموضوع والممهدة لاستقرائه بأسئلة متدرجة نتوصل معها رويداً إلى حمل التلميذ على التفكير، واستخراج مادة الدرس الجوهرية وقس على ذلك بقية الدروس.
فطراز كهذا في السؤال يدعى (طريقة السؤال السقراطي) نسبة إلى سقراط الذي كان يتبجح بطريقته (الطريقة الاستجوابية المولدة)، ويقول: (الأفكار وأمهات الحقيقة ذات عبء ثقيل، وفن التربية يتوقف مع توليدها، وأنا مولد الأفكار، وقد شرحت (فيناريت والدة
سقراط العاقلة سبب ادعاء ولدها (مولد) لأنه كان يولد المعرفة في تلاميذه من السؤال والاستجواب.
فالمعلم على وجه الإجمال يستطيع أن يناقش كسقراط، فيهيئ أسئلة باعتناء دقيق يتمشى بها من المعلوم إلى المجهول، ومن السهل إلى الصعب، ومن المحسوس إلى المجرد، وبقوة التكرار والممارسة يصل إلى إيجاد الحقيقة، وإنارتها من التلميذ نفسه، وبذا يجلب له الغبطة والسرور بما يكتشفه.
الأسئلة الاختبارية: هذا النوع من الأسئلة يفسح المجال لنا لمعرفة التلاميذ فيما إذا كانوا قد اكتسبوا معلوماتهم، وفهموها أم لا. وتكون هذه الأسئلة في ابتداء الدرس، أو في غضونه، أو في آخره.
فالأسئلة التي تطرح في ابتداء الدرس تجبر التلميذ على تأدية المعلومات التي درسها أو رآها في الدرس الماضي، وتصل هذا الدرس الأخير بالدرس السابق.
والأسئلة التي تطرح أثناء الدرس تقطع المواصلة في سرد الموضوع وتكون محط الرحال، فالشرح الطويل - لا شك - يجلب السآمة للتلاميذ ويخلق فيهم الملل والخمول. فمن المعقول والصواب أن يقسم المعلم درسه ويجزئه إلى فقرات، ويطلب أسئلة بين الفينة والأخرى تضرم اليقظة والنشاط يتأكد معهما فهم الدرس، ثم يعالج أقساماً أخرى غامضة، لا يفتأ بعدها أن يقطع المواصلة، ويعود من جديد إلى الأسئلة، وهكذا يبقى بين أخذ ورد حتى النهاية.
في الحقيقة يجب على المعلم أن يهدم كل سير يكون على وتيرة واحدة، وأن لا يترك التلاميذ يهيمون بلا حركة. ولزاماً عليه عدا ذلك أن يعرف جيداً، أنه إذا تكلم قسطاً وافراً من الدرس يضعف في التلاميذ الانتباه، ويخمد جذوة النشاط. فعليه عندما يشعر بمثل هذه الأوضاع أن يسرع إلى السؤال، فبعض أسئلة مقتضبة حية تتطاير في الصف من هنا وهناك كأسهم توقظ النفوس، وتهز، وترفع الرؤوس وتضرم الأنظار والأفكار، وتنعش، وتزيد في الفائدة، وتلدغ الأنانية فهي المثل الأعلى في الدرس المثالي القويم.
أما الأسئلة الأخيرة فهي بعد أن يتأكد المعلم من فهم درسه، وتثبيته في الأذهان، يرجع ويسأل من جديد عن النقاط الأساسية والجوهرية للموضوع، ويمكن أن يقال لهذا الشكل من
السؤال بأنه نوع من التذراية والاختيار، فهو يترك القشرة تطير، ولما يحتفظ إلا بالحبة النقية واللب الصافي. الهدف منه عادةً مراجعة النقاط المتباينة في الدرس، وتلخيصها بصورة ملائمة. وأخيراً إن الأسئلة الاختيارية لها الفضل الأعظم في مذاكرة التلاميذ بدروسهم آخر كل شهر أو نهاية كل ثلاثة أشهر، وهي المحرك الأساسي للصف، تحيي الذكريات الغامضة القليلة الوضوح، وتقوي - يومياً - المعلومات المبهجة والمشكوك في فهمها، فتزداد شيئاً فشيئاً.
عبد الرزاق جوده