الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خواطر تربوية
للأستاذ رؤوف جبري
هنالك من يعتقد، أننا نكافح الأمية والجهل في بلادنا، كما تكافحها الأمم الراقي، التي تدفع حكوماتها، غوائلهما عن شعوبها، وتنقذها من براثنهما، ولا تدعهما يخنقان كل أمل في النهوض. ولا شك بأن صاحب هذا الاعتقاد، لا ينظر إلى مدى أبعد من أفق مدينته، حتى هذه المدينة ذاتها تتطلب عدداً وافراً من المدارس ضعف المدارس الخالية. . . فإن كانت الضرائب تضيق - ولا أظنها تضيق - عن هذا الواجب الأول من واجبات الدولة فيجب أن تزداد حتى تتسع له وتفيض.
إن الأمة لا تفهم كيف يعود ولي التلميذ خائباً من المدرسة لأنه لم يجد مكاناً لابنه!، أليس من حق جميع أبناء الأمة أن يتعلموا مجاناً؟ إن العلم حق لهم وواجب الحكومة أن تعلمهم، لاسيما أبناء الفقراء وأبناء الطبقة الكادحة وواجب الحكومة أن تفعل هذا، لا أن تغلق أبواب المدارس في وجه أبناء الشعب المعوزين وتضن بمال الشعب في سبيل افتتاح المدارس!!. الوطن بحاجة إلى العلم قبل كل شيء ومن أهم واجبات الدولة إيجاد مدارس تستوعب أبناء الأمة، وتشملهم بالرعاية والتوجيه. فهل تُغرس تلك الأزهار في الطرقات؟ أم في المدارس الموكول إليها مصائر هذا الجيل!.
الغرض الوحيد من وجود وزارة التربية والتعليم افتتاح المدارس، والسير بها نحو الكمال. بينما تعاني المدارس في بلادنا أزمة عامة في أغلب نواحيها. إن أزمة (القيد والقبول) في مطلع كل سنة، كافية لأن تظهر رغبة الشعب الملحة في فتح المدارس وبعث روح الجد والسمو فيها.
والذي يستلفت النظر، أن هنالك من يخشى ازدياد عدد المتعلمين الذين يرتمون في أحضان الوظائف دون أن يدركوا أنها أتعس وأذل طريق للأمل والطموح. فتلك نزوة ينبغي أن تحارب، ومحاربتها أمر سهل غير عسير، إذا نبذنا بدعة تسعير الموظف بسعر الشهادة التي يحملها، لا بسعر الكفاءة أو العمل الذي يؤديه. . . إن بدعة الشهادات وحدها ضاعفت عدد المتعلمين الذين يستجدون الوظيفة استجداءً، ويتوسلون لها بشتى الشفاعات، ولقد جنينا بهذه البدعة على مستقبل هؤلاء المتعلمين إذ أوصدنا أمامهم أبواب الكفاح الحر المثمر،
وفتحنا لهم طريق المقبرة الممهد، يتدافعون عليه عميان لا يبصرون، يجب أن تلغى هذه البدعة وأن يكون الأجر في وظائف الدولة على قدر العمل، فنحن في أشد الحاجة إلى جيش من المثقفين يستبق الطريق الذي ينتهي به إلى الأهداف العليا للحياة.
إن هذا الحرص الذي يبدو من شبابنا المتعلم على الظفر بوظيفة مضمونة يدعو أولي الأمر للتفكير بمقاومة هذه العلة والتغلب عليها. وذلك بتحويل اهتمام الشباب المثقف إلى الأعمال الحرة واللجوء إلى طرق فعالة لتحقيق هذا الغرض.
وأجدرها بالتنويه الاعتماد على الكفاءات الشخصية والمؤهلات الثقافية، وإجراء مسابقات في جميع الوظائف قبل الظفر بها، ثم الاهتمام بسياسة التعليم العملية في مدارسنا، لأن الأخذ بهذه السياسة فيها ضمان لإحياء الصناعات وازدهار الحرف واستثمار الأراضي وإنماء الثروات وإكثار الأيدي العاملة المتحررة من أغلال الوظائف الحكومية.
يخرج الشباب من المدارس والجامعات إلى العالم ليناضلوا في ميادين العمل، لا في ميادين البطالة والمقاهي. . .، وقد ملأ الأمل قلوبهم، وتحلوا بالإقدام والكفاح والابتسام للشدائد. إن الأمة لا تؤمن بالشباب القنوع بل بالشباب الطامح، الذي يقتحم شتى ميادين الحياة، ويغلب كل عوامل اليأس بشجاعته وصبره على العثرات والأشواك.
ومن الظواهر التي يؤسف لها أن برامجنا ونظمنا عاجزة كل العجز عن تنشئة جيلنا التنشئة المطلوبة، مما يدعونا للقضاء على الأفكار غير المختمرة وإهمال آراء من ليسوا من ذوي الخبرة الفنية أو الذين لم يسبق لهم الاطلاع على الشؤون التي يتفرغون لبحثها إذا شئنا التحرر من الجهل ومن آفة التهافت على الوظائف الحكومية.
فلا أغالي إذا ذكرت بأن تطبيق مناهجنا وتنفيذ نظمنا يعتورها النقص والتشويش وإنها بحاجة إلى التهذيب والتبديل بعد الاطلاع على أحدث النظم والاسترشاد بأكمل الوسائل وخلاصة مستلزمات التطور التربوي والعلمي. وإلى القارئ بعض الدلائل البينة على فساد الخطط والمناهج: أننا نهمل دروس الرسم والأشغال اليدوية في مدارسنا، مع أنها تنمي في مزاوليها فضيلة الاعتماد على النفس والنزوع إلى المثابرة على العمل، وتنبه ما كمن في نفوس التلاميذ، من الميل الفطري إلى مزاولة فرع من فروع العمل متى شبوا وغادروا المدارس وتصيرهم رجالاً أكبر نفعاً وأوسع خبرة بشؤون الحياة ممن لم يمارسوا هذه المواد
في عهد الدراسة. فكتابة هذه الدروس المهملة في البرامج شيء والعمل بها شيء آخر. ثم الغرض من تعليم - الحساب هو إعداد التلاميذ للانتفاع بما يتعلمونه من قواعده المختلفة في حياتهم اليومية. . . فهل يؤدي منهاج الحساب الحالي إلى هذا الهدف؟. وكذلك الغرض من التربية البدنية والكشفية تنشئة الجسم وتقويم الخلق لا إقامة الحفلات والظهور بمظاهر براقة والاهتمام بالاستقبال والترحيب؟. وأن الغرض من دروس الصحة تعويد التلميذ عملياً على العادات الصحية، لا تلقينهم معلومات نظرية ليستظهروها!! وهل تعلم أن الشؤون الصحية مهملة كل الإهمال بينما ألوف التلاميذ من فتيان وفتيات في أمس الضرورة إلى المراقبة الصحية والعلاج.
ذلك بعض ما يؤيد دعوانا من أن المناهج يعتورها النقص والتشويش، أضف إلى ذلك كله خلو مدارسنا من الروح القومية التي تحبب الوطن إلى قلوب الناشئة مما يجدر بنا أن نستهدف بعث طراز قومي من التربية والتعليم يستهوي التلاميذ ويجعلهم يحملون في صدورهم أفئدة لا تفاخر إلا بقوميتها ولا تتغنى إلا بماضيها ولا تترنم إلا بلغتها، لقد أدخلنا التربية الوطنية في مناهج التعليم، ولكننا نسينا أو تناسينا أن التربية الوطنية يجب قبل أن تلقى على التلاميذ، أن يتحلى بها الكثيرون من المشرفين على مدارسنا، فهذه وطنية عملية أجدى وأنفع من دروس في التربية الوطنية تقرأ على تلاميذ يتثائبون.
على كل الأمل عظيم، في أن نوفق في يوم قريب إلى القضاء على هذه الأسباب لعله يتاح لنا تحقيق كثير من الأغراض التي نستهدفها في حياتنا الجديدة فننير ظلمات شائعة ونقضي على أخطاء مألوفة. وجل ما يتمناه المصلحون ألا يكون شأنهم كالنافخين في القربة المقطوعة.
رؤوف جبري