المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌متحفنا الاتنوغرافي المقبل - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٤

[عادل العوا]

الفصل: ‌متحفنا الاتنوغرافي المقبل

‌متحفنا الاتنوغرافي المقبل

للدكتور سليم عادل عبد الحق

محافظ دار الآثار الوطنية بدمشق ومدرس

التاريخ القديم في كلية الآداب.

ستنفذ مديرية الآثار العامة في السنوات المقبلة مشروعاً كبيراً يعود بفوائد جليلة على التعليم السوري ويضفي كثيراً من الفخر على دمشق التي تبرهن في كل مناسبة على رغبتها في تحقيق كل ما يجعلها تلحق بخطوات سريعة البلدان التي تصرف تطور المدينة وتفتح الآفاق الجديدة للثقافة العالمية. وينص هذا المشروع على إنشاء متحف اتنوغرافي سوري في قصر العظم الذي استلمناه من مدة قصيرة من الفرنسيين بعد أن أقاموا فيه معهدهم الثقافي عهداً غير قليل. ولا ريب أن قصر العظم هو خير مكان ملائم لإقامة هذا المتحف لما له أهمية كبرى في تاريخ بلاد الشام ولموقعه المتوسط في دمشق القديمة حيث ستقوم قريباً أعمال عمرانية تجميلية تعيد إليها شيئاً من مكانتها السابقة.

ووجود متحف اتنوغرافي في دمشق ضرورة لا محيد عنها، لحاجتنا الماسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مظاهر تقاليدنا وفنوننا الشعبية ولنقلها على الأجيال المقبلة وغير خاف أن الاتنوغرافيا علم يهتم بالبحث عن الدلائل المادية والمعنوية لحياة الشعب في الماضي والحاضر ويستنتج منها نتائج ثمينة تقترن وتكمل النتائج التي تصل إليها علوم الاجتماع والتاريخ وما قبل التاريخ وفقه اللغة. فغايتها إذن دراسة شعب واحد على عكس الاتنولوجيا التي تدرس مظاهر كل شعوب الأرض. ولا يخفى أن الشعب هو غير العرق ويتألف من مجموع الأفراد الذين يوجدون المجتمع ويعملون مشتركين فتنمو بينهم عاطفة الاجتماع الغامضة التي تسود كل العواطف الأخرى. ولسنا بحاجة إلى القول إن الشعب يتألف من اندماج وامتزاج عروق متعددة كشعب الولايات المتحدة وإنه يخضع في تشكله إلى ضرورات الإقليم والأرض والعوامل الجغرافية والمساكن والجو وغير ذلك. لأن الموطن هنا ينص على إيضاح الطريق الذي قطعه منذ نشوئه. وفي الحقيقة إن ماضيه مفهوم مطلق يظهر في أعماله الحقيقية ويتجلى في وحدة الإرادة والقوة الحية النازعة في اتجاه معين إلى صفة خاصة من الوجود. وما ذلك إلا لأن كل الشعوب تتكيف وتتطور حسب اتجاه خاص

ص: 32

يدفعها نحوه الجو والوراثة تحت تأثير خفي لإرادة يصعب مقاومتها، شأن الشجرة التي تنمو وتصعد فوق الأرض مسوقة إلى جهة قلما تتفق مع الجهات التي تندفع إليها بقية الأشجار.

وتبيان هذه الإرادة لدى الشعوب يكون بطرق شتى. فهي تتجلى حيناً في الصورة وحيناً في الكلام، وتارة في الأناشيد والموسيقا وأخرى في آثار الفاعلية العقلية واليدوية. وما صوت الشعب بحالته الحاضرة إلا صدى للأجيال المتعددة التي سبقته والتي يمكن أن تتجسم معلوماتنا عنه في أشكال محسوسة لها قيمة خالدة كبرى إذا لم تهو إلى الأبد في زوايا النسيان وإذا قام على صيانتها في مؤسسات خاصة رجال عالمون بفوائدها التي لا تحصى.

وعلى هذا فإن غاية العلم الاتنوغرافي هي البحث عن الأشكال المحسوسة التي تتبدى خلالها حياة شعب من الشعوب. ومهمة المتاحف الاتنوغرافية التي يستخدمها الاتنوغرافيون تقتضي أن تصطبغ بالصبغة الريفية وأن تأوي أوائل وأدوات تعبر عن العمل الشعبي وعن المحيط الفردي ويصح أن تنقل إلى الأجيال المقبلة معلومات ثمينة عن التطور الذي تم في الأعصر الخالية وفي عصرنا الحاضر ويجب أن تكون هذه الأوائل والأدوات من صنع الصناع والقرويين والرعاة كالأشياء المعدنية والخشبية والزجاجية المنقوشة والمنحوتة والمزخرفة، والأواني الفخارية والعربات والعجلات وأدوات الزينة والدميات، والأقمشة والألبسة وأغطية الرأس وغير ذلك. . .

ولا تهتم المتاحف الاتنوغرافية بكل هذا فحسب، لأن حياة الشعب الواسعة لا تتجلى فقط خلال الأشياء المادية التابعة للمساكن والملابس والأغذية، بل تظهر أيضاً في مشاهد التقاليد الاجتماعية كالأفراح والأتراح وما يتبع ذلك من رقص وغناء وكلام ولعب والخ. . . وفي الواقع إن الأناشيد والألعاب والرقصات هي ظواهر اجتماعية مهمة في حياة الشعب ومن الواجب على القائمين على تنظيم المتحف الاتنوغرافي أن يسعوا إلى تمثيلها أو الإشارة إليها في عدة قاعات لأنها من وحي روح وقلب الشعب، وتهتز لها أوتار العواطف الشعبية.

وينتج عن كل ما تقدم أن المتاحف الاتنوغرافية قوى حية لها أثر عميق في كيان الدول الاقتصادي والأخلاقي والروحي. وهي أدوات ثمينة تساعد الشعوب على التفاهم لأن تعاليمها هي تعاليم الروح والقلب الخالدين. ويمكنها أن تعطي العوام والمثقفين فيضاً من

ص: 33

المعلومات الدالة على صفات الشعوب الخاصة لأن لغتها هي لغة الروح والقلب التي تعبر عن نفسها ببساطة ودون حاجز أو ستار. وهذا ما يجعلها أعمَّ تأثيراً من المتاحف الفنية الأثرية التي لا يفهم دروسها غير الاختصاصيين.

وأول واجب يلزم القيام به هو الإسراع إلى جمع التحف الاتنوغرافية وإلى تصنيفها إلى مجموعات تعرض بطرق وأصول وأساليب خاصة بها. لأن هذه المجموعات لا تشبه مجموعات التماثيل واللوحات الحجرية المنحوتة أو المنقوشة أو الصور وغيرها وهي أوسع منها ويقصد منها غاية تخالف الغاية المتوخاة من عرض الأشياء المتقدمة التي يسعى إلى تنظيمها حسب طريقة تظهر تأثيرها الفني على وجه كامل. فطريقة العرض في المتاحف الأثرية والفنية تستمد مبادئها من مذاهب التسلسل التاريخي أو التوزع الجغرافي أو الصنعة أو الأسلوب. أما العرض في المتاحف الاتنوغرافية فصعب، يتحتم أن يكون على طريقة كشفية تظهر أصدق صفات الوثائق المجتمعة، ويرجع ذلك إلى أنه لا يوجد شيئان اتنوغرافيان يشبهان بعضهما كل الشبه فكما أنه لا يوجد رجلان يفكران مثل بعضهما تماماً، فكذلك لا يوجد سلتان أو مجرفتان تتماثلان كل المماثلة. لهذا فإن الزمن الذي يتطلبه إنشاء هذا المتحف في دمشق سيكون طويلاً كما أن تطبيق طريقة العرض المثلى فيه ستكون نتيجة التجربة المبنية على تهيئة علمية جيدة وعلى معلومات واسعة يقارن فيها علم الاتنوغرافيا الذي هو علم توصيفي بالعلوم التشبيهية كعلم الاتنولوجيا. ثم إن تنوع الأشياء الاتنوغرافية ناشئ عن أسباب بيولوجية بحتة وعن تنوع مظاهر الحياة الاجتماعية. فهنا يوجد سكان المدن المنصرفون إلى التجارة والصناعة بمختلف أنواعها. وهناك يقيم الزارعون والقرويون والصيادون، وهنالك تعيش قبائل البدو الرحل.

وقد دعا هذا الاختلاف في تنوع حياة السكان كثيراً من منظمي المتاحف الاتنوغرافية إلى تقسيم مجموعاتهم حسب البيئات الطبيعية المأهولة. فجعلت أقسام مختصة بعرض أدوات وأوائل سكان الشواطئ، وأقسام ثانية مختصة بعرض مصنوعات سكان السهول، وثالثة لسكان الجبال، ورابعة لسكان الجنوب، وخامسة لسكان الشمال والخ. . . وأضيفت إلى كل هذا مخططات وشروح وصور وأشياء طبيعية منتزعة من وسطها الطبيعي توضح السبب الذي أوجدها، إذ إن كل مجموعة اتنوغرافية بحاجة ماسة إلى جو خاص لا يمكنها الافتراق

ص: 34

عنه دون أن تحرم من قوة تعبيرها ومن قدرتها على الكلام.

وما من ريب أننا سنأخذ بالاعتبار النظرية المتقدمة لدى تنظيمنا لمتحفنا في قصر العظم، وسنعد لها بحيث تصبح ملائمة لبيئتنا. فتبدأ القاعات بعرض كل ما من شأنه إعلام الزائر عن حياة الشعب السوري العربي، والشروط الجغرافية التي يعيش ضمنها والتأثيرات الجغرافية التي يخضع إليها. فتمثل المناظر الطبيعية التي تؤلف إطاراً يعيش السكان داخلها بحسب اختلافاتها وبحسب أشكال الأفراد وتشاهد التضاريس الجغرافية على المصورات والصور والأشكال الجصية التي يستحسن أن تكون على قياس 1 ويجب أن تبين فيها البادية والسهول

000، 100

والجبال وخط الانهدام وخطوط المواصلات الطبيعية ومجاري المياه التي تحدد العوامل المؤثرة في تجمع البشر، واختلاف أشكال منازلهم وتعدد أنواع فاعليتهم وتنوع حياتهم الاجتماعية والاقتصادية.

ثم تلي قاعات تعرض فيها مصورات وصور وأشكال أخرى تبين توزع السكان في سورية ونماذجهم العرقية والأطوار المتعاقبة التي مروا بها خلال القرون الماضية، ولا بأس من إظهار هذه الأطوار بواسطة الإضاءات الكهربائية التي تري الزائرين أربعة أو خمسة ألوان مختلفة تنار على التعاقب، الأدوار المهمة التي مرتبها البلاد في تطورها العرقي. ويستظرف أن يضاف إليها صور فوتوغرافية تعطي فكرة عن المساكن الحالية حسب صناعات أهلها ومناطقهم ومذاهبهم، وأشكال جصية أو خشبية توضع في واجهات زجاجية جميلة تمثل بها المنازل الشعبية في مختلف جهات سورية. ومن الخير أن تكون هذه الأشكال على مقياس 1

20

ويشترط أيضاً أن يضاف إليها قطع حقيقية طبيعية تعطي فكرة عن حجمها الأصلي.

ويجب أن تعرض أيضاً هذه القطع الحقيقية في قاعات المتحف الأخرى، إذ أنه يستحسن أن تمثل التحف الإنتوغرافية في المساكن التي كانت تشغلها وفي الجو الطبيعي الذي أوجدها. ولا بأس من أن يعاد بناء بعض المنازل الصغيرة المهمة في باحات القصر ويبين

ص: 35

فيها صفات أقسامها الداخلية أو الخارجية. فيتوفر لدينا متحف خارجي في الهواء الطلق ينضم إلى قاعات المتحف الداخلي المنظمة ويكمل تعاليمها، ويجب أن يتم ذلك دون إحداث تغييرات كبيرة تؤثر على جدران المتحف وثم تضاف إليها الأدوات الاتنوغرافية التي تتميز بها أنواع المهن الاجتماعية المختلفة كمصنوعات عمال المعادن والنجارين وصناع الفخار والفنانين وغيرهم.

وبعد هذه المقدمة العامة عن جو البلاد الطبيعي وعن سكانها ومشاغلهم تبدأ في قسم من القاعات الأخرى دراسة تحليلية عن مدنية شعبنا المادية. فتمثل عاداته بصورة حسنة مجسمة. فيرى مثلاً كيف تعمل الأغذية وتعرض نماذج منها مع أشكالها والأدوات والقوالب التي تستعمل في صنعها. ومما لا شك فيه أن الألبسة يجب أن تحتل مكاناً واسعاً في هذا الجناح، ويلزم أن يشاهد الزائر بعض التفاصيل عن حياكتها ويرى الآلات والأدوات التي كانت تستعمل في هذه الغاية. وتتبع نفس الطريقة في عرض أغطية الرأس والأحذية والحلي وأدوات الزينة وغيرها. ولإتمام الغاية من عرض هذه الأشياء يجدر استخدام التماثيل الخشبية أو الجصية والصور الفوتوغرافية التي تمثل مشاهد شائقة من حياة القرية.

وبعد عرض هذه المجموعات التي تمثل ثقافة الشعب المادية يداوم على عرض مجموعات أخرى يتعرف بها الشعب على خوالج حياته الروحية وعاداته ومعتقداته وما اتخذه من رموز وأزجال وقصائد وأغاني ليعبر بها على نوازع نفسه.

فيبدأ هذا الجناح من المتحف بعرض الوثائق الخطية والمطبوعة التي تدل على تطور المهن والمنظمات الشعبية في سورية ويأت دور الأشياء التي تتعلق بأعياد السنة فتمثلها في زخرفتها الطبيعية، وثم الوثائق الدالة على سنوات الولادة والزواج والموت. ويمثل أيضاً تاريخ الطب الشعبي بما كان يستعمل الطبيون لشفاء مرضاهم من عبارات وأدوات مختلفة وصل إلى عصرنا كثير منها وما زالت تنشر وتستعمل في المدن والقرى.

ثم تمثل لهجات المناطق السورية وآدابها ولغتها التي كان لها أثر كبير في إنشاء ثقافتنا الشعبية فتكتب النكات والأقاصيص والأحاجي والألغاز على رقعات خاصة، وتمثل الآلات الموسيقية والمقاهي والملاهي والمسارح الشعبية وغيرها من الأدوات التي تعبر عن

ص: 36

مظاهر لهوِ وجدِ أمتنا في عصورها الماضية. وأخيراً يخصص مكان يسمى سورية في العالم الغاية منه تبيان الإشعاعات الثقافية التي صدرت من بلادنا إلى غيرها من الأقطار والتي تثبت إلى حدٍ بعيد مساهمتها في بناء المدنية العالمية.

ومن المفيد أيضاً أن يفرد جناح خاص في قصر العظم تعرض فيه الأشياء المادية وغيرها التي تتعلق بتاريخ دمشق في القرون الأخيرة. فتمثل بواسطتها حياتها العامة والخاصة، وترى أسواقها القديمة التجارية التي أخذت من مدة قريبة تختفي تحت معاول الهدامين وحوانيتها وحماميها ومدارسها، ومجالس حكامها ودكاكين باعتها وصناعها، ومجتمعات رجالها وحياة نسائها وذلك حسب ما بلغنا من ذكريات عن مدنيتنا نسعى إلى حفظها خلال نماذج جصية وخشبية يصنعها فنانون يغذي خيالهم ويقود أيديهم المختصون في هذه الأبحاث.

والفائدة المرتجاة من هذا المتحف عظيمة الأهمية نظرياً وعملياً. ويقول الألماني (بفاف جيسبرج) منظم أحد المتاحف الإنتوغرافية المشهورة: إن فائدة المتاحف الاتنوغرافية لا يجب أن تقتصر على إعطائنا معلومات نظرية مجردة بل يجب أن تتعداها إلى فوائد اجتماعية محسوسة. إذ أنه يمكن أن تنشأ بالقرب منها المقاهي والمطاعم ولا مانع في أن تعزف في داخلها وفي باحاتها الأجواق الموسيقية الشعبية. وليس من ضيرٍ أن تقام فيها الحفلات الثقافية والحفلات الراقصة وغيرها. والغاية المثلى أن يصبح المتحف حياً وأن ينتبه الناس إلى أهمية محتوياته وكنوزه فيقبلون على دراستها فتنتشر المعرفة وينمو الذوق بين الناس.

وليس بخافٍ أن إقامة هذا المتحف تتطلب جهوداً كثيرة ودراسات واسعة وتصاميم متعددة تتعدل حسب ما يطلبه الرأي العام. والأساتذة والمعلمون هم أول المدعوين للمساهمة في إخراجه إلى حيز الوجود، لأنهم قادرون على توجيه الذين سيعملون فيه بإيحائهم وأفكارهم ودراساتهم في المناطق السورية التي يعيشون فيها من جهة، وعلى مساعدة مديرية الآثار العامة في جمع الأدوات والثياب وأدوات الزينة وغيرها التي تعبر عن ثقافات البلاد الشعبية من جهة أخرى ونحن منتظرون من جهودهم خيراً كثيراً من تحقيق هذا المشروع الذي سيعود عليهم وعلى تلامذتهم بالخير العميم.

ص: 37

سليم عادل عبد الحق

ص: 38