الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التربية المسلكية
للأستاذ ماهر الكيلاني
إننا في بلد لم يأخذ بعد شعوراً واضحاً بوجوده المسلكي المهني فكل منا إنما يحصل على مهنته عن طريق العادة الآلية التي لا ينيرها التفكير إلا بقبس ضئيل ومن حين إلى حين. ولو أننا استثنينا بعض المهن كالطب والصيدلة والمحاماة فإننا لنجد غيرها كالتجارة والزراعة والصناعة إنما نتوصل للاختصاص بها عن طريق التجارب الخبرية دون أن يكون للعلم يد في إعطائنا ذلك القالب الاختصاصي وصبغنا بذلك اللون المهني.
قد يقال: ألست بهذا تنكر الأهمية البالغة لما قامت وتقوم به مدارس التجارة والصناعة ومدرسة الزراعة من أثر علمي فعال في هذا الحقل أي حقل التخصص بهذه الفعاليات المسلكية عن طريق الدراسات النظرية والعملية؟ إنني لا أنكر ذلك ولا أتغاضى عنه إلا أنني إن أنكرت فإنما أنكر القيمة الرفيعة التي يمكن أن تعطيها مدرسة تجارية أو صناعية أو زراعية لطالب ذو ثقافة ابتدائية ولما يحصل بعد بها إلا على قدر ضئيل من العلم، فهم المدرسة الوحيدة لا بد وأن يكون خلال السنوات الثلاثة التي يقضيها الطالب بين جدرانها موزعاً بين دراسات ثقافية بها ترفع سويته العالمية وأخرى مسلكية. فهل بالإمكان أن يتملك شخص ما من مهنته بصورة جيدة وأن يفهم أسرارها العميقة ومقوماتها النظرية والعملية خلال تلك المدة القصيرة سيما وأن ثقافته العامة قد تستوعب شطراً كبيراً من هذا الوقت مما لا يبقى معه للدراسات المسلكية إلا القسم الطفيف؟
إننا نشعر ويشعر معنا المفكرون الناجحون من أبناء هذه الأمة أن الدراسات المسلكية لدينا ضعيفة المستوى من الوجهتين النظرية والعملية. فهي لا تخلق عند الشخص المتخصص الشعور الواضح النير بوجوده المسلكي وانصهار شخصيته به مما يجعله لأقل ارتطام بصعوبات الحياة القائمة يتخلى عن هذا الطابع المسلكي الذي به انخرط في أول حياته ليفتش عن طابع آخر في مهنة التعليم أو في وظائف الدولة أو في غيرها ليؤمن بذلك حياته ومستقبله، وبهذا نرى أنه ينقصنا ذلك الإيمان وتلك العقيدة بالمهنة ولاسيما عند أولئك المتخصصين بهذه الفروع الثلاثة.
والدواء الناجع الوحيد الذي يمكننا به أن نخرج كأمة ناشئة من هذا المأزق الحرج وأن
نوجه فعاليتنا العلمية وجهة عملية مسلكية مهنية إلى جانب وجهتنا النظرية هو أن تتبنى الحكومة سياسة تعليمية مسلكية بها تضع برنامجاً عاماً للتعليم تسير بموجبه على أن تصطبغ تلك السياسة بمسحة عملية حتى تتمكن الحكومة من أن تقاوم ذلك التيار الجارف الذي يدفعنا إلى المهن الكلامية وإلى التوظف في دوائر الحكومة. وإني أريد أن أرسم فيما يلي الخطوط الكبرى لتلك السياسة على أن أوفق إلى ذلك ضمن الإمكانيات التي يقدمها لنا العلم وضمن إمكانياتنا الحالية.
إن المبادئ الغزيرة التي يجب أن تقود خطانا في تربيتنا المسلكية يجب أن تستمد وجودها من مبدأين: 1) أن يكون التخصص قائماً على فحص وملاحظة قابليات الفرد واستعداداته وأن لا نعطي لشخص ما مهنة بناء على رغبته الشخصية أو رغبة أوليائه وإنما بناءً على ملاحظات وفحوص طبية ونفسية وفيزيولوجية واجتماعية حتى يتبين لنا من خلالها طابع الشخص الفردي واستعداداته ومواهبه وقابلياته فإذا توصلنا إلى ذلك وجهنا تلك القابليات الفطرية الوجهة التي تلائمها عن طريق المهنة. 2) أما المبدأ الثاني فهو مشتق من المبدأ الأول وخاضع له وهو مبدأ تكافؤ الفرص وبه نجعل نقطة البدء في الحياة واحدة ومن ثم نجعل الفرص التي نعطيها للشخص الناجح في حياته متكافئة من حيث قيمها، فإذا نحن اطلعنا على خصائص الشخص وقابلياته بصورة محكمة وأعطينا له المهنة التي تتلاءم مع هذه الخصائص نكون قد طبقنا حقاً هذا المبدأ وسمحنا للجميع بأن يظهروا كفاءتهم في حياتهم المقبلة.
وبهذا نرى أن التربية المسلكية إنما تعنى في الدرجة الأولى للتعرف على إمكانيات الطفل ومدى هذه الإمكانيات حتى تعطي للطالب عن طريق المهنة طابعه الشخصي الخاص، والذي له في أعماق ذاته جذور متينة من دوافع وميول واستعدادات وبهذا فالتربية المسلكية تظهر من جهة شخصية الفرد ومن أخرى تسمح له بأن يستعمل شخصه حسب طبائعه الخاصة وضمن حدودها وقد قال بهذا المعنى في كتابه ما يلي: يجب أن يستخدم كل شخص حسب طبائعه الخاصة، إذ أننا بإجهادنا أنفسنا لنحقق المساواة بين الرجال قد محونا الصفات الشخصية التي كانت جداً مفيدة بسعادة كل شخص تتعلق بتألقه التام مع العمل الذي يلائمه.
ولتطبيق هذين المبدأين على الحياة المدرسية وللاستفادة منهما في التوجيه المسلكي خلال الحياة الدراسية لا بد وأن يمر الطفل بمرحلتين: 1) مرحلة تحضيرية وبها تكون استعدادات الطفل وقابلياته وميوله كامنة لم تبرز إلى الوجود، فوظيفة المربي في تلك المرحلة أن يقوم بإيقاظ وبعث تلك المواهب والاستعدادات الفطرية وبالتعرف عليها ومعرفة طبيعتها وذلك لا يتم إلا بوضع الطفل باحتكاك دائم مع العمل وأن يعمل الطفل بنفسه فيلاحظ المربي أثناء ذلك المشاغل التي تجذب انتباه الطفل والتي تسيطر على فعاليته. 2) مرحلة تدريبية وهي بالأكثر مرحلة المدارس الثانوية وبها يتعرف المربي على اتجاه تلك الاستعدادات ومدى قوتها وحينئذ يسعى لتمرينها وتوجيهها في ذلك الاتجاه دون غيره على أن يقرن إلى هذه الاستعدادات الفطرية استعدادات مكتسبة من طبيعتها ومقوية لها.
فالمرحلة التحضيرية ليست مرحلة اختصاص بالمعنى الصحيح وإنما هي مرحلة تسبق الاختصاص وتهيؤه إذ بها توقظ عند الطفل بواسطة فعاليته الخاصة المواهب والاستعدادات والقابليات الموجودة لديه.
ولرب معترض يقول: أليس في اتجاه التربية الحديثة من جعل التعليم في المدارس الابتدائية عملياً ما يسمح لنا أن نقول أن القصد منه هو جعل التعليم الابتدائي ذو صبغة مهنية؟ وجواباً على هذا نقول: إذا كان القصد بالتعليم العملي التعليم المهني أي تعليم الطفل حرفة يرتزق منها فمن المتفق عليه بين عموم رجال التربية الحديثين أن هذا لا يمكن أن يتم أو يكون في المدرسة الابتدائية وذلك لأن الطفل في هذا السن لا يساعده نموه العضوي والعقلي والثقافي على أن تبرز مواهبه الكافية بصورة واضحة جلية حتى نتمكن من أن نوجهها توجيهاً مهنياً ودليلنا على ذلك أن الأطفال الذين يوضعون في هذا السن في مهنة ما كمهنة الخياطة مثلاً لا يتمكنون من أن يتعلموا تلك المهنة ولهذا فإنهم يقومون بأعمال تابعة لا تتصل إلا من بعيد بتلك المهنة وسبب ذلك أن الطفل ينقصه الانتباه الإرادي المتمركز حول هدف معين وفكر الاستقرار والنيات الذي تتطلبه المهنة.
فما هو غرض رجال التعليم الحديثين من جعل التعليم عملياً ولاسيما في الريف؟ إن الغرض من ذلك ليس مهنياً وإنما القصد منه ربط التعليم بالحياة مما يجعله ذا أثر فعال في النفوس وقد أوضح هذه الفكرة كاندال من أبرز رجال التربية في أمريكا إذ قال: إذا صح
القول أن عمل التربية الحديثة هو أن نلائم بين التعليم وبين مقدرة التلاميذ واستعدادهم وأن نبني نظمه على المحيط الذي فيه يعيشون، وأن نزيد ونضيف إلى ثروة ذلك المحيط فإنه لا مناص من أن يستخدم التعليم الريفي مادته من المحيط الريفي ويتلاءم معه وليس معنى هذا أن يقتصر تعليم التلاميذ على المحيط الذي يتفق أنهم يعيشون فيه بل معناه أن يكون التعليم بلغة تدل على معنى عند المتعلمين. . . فالمدرسة الريفية التي لا تكون لها مثلاً قطعة من الأرض وبعض الدواجن من الحيوانات التي يمكن للتلاميذ بواسطتها أن يتفهموا ما يدور حولهم من النشاط لا تكون مدرسة تؤدي عملها. وليس قصدنا من أن نجعل التعليم لهؤلاء التلاميذ مهنياً وإنما نقصد إيجاد العلاقة الواجب قيامها بين المدرسة والمجتمع.
هذا وزيادة على ذلك فإن انصباب الطفل على فعاليات مختلفة خلال هذا السن مما يفجر ينابيع استعداداته الكافية من جهة ومن جهة أخرى فإنها تجعل المعلم المتنبه إلى جميع حركات الطفل وسكناته أن يقدر المشاغل التي تجذب انتباه الطفل والأعمال التي برع ويبرع بها فيسجل ذلك لديه يوماً بيوم وعن كل طفل حتى يكون ذلك كسجل نرى فيه الخط البياني لفعالية الطفل خلال سني دراسته الابتدائية. فاستعدادات الطفل وقابلياته وميوله لا تظهر بصورة واضحة إلا حينما ينصب على تفهم حقائق هذا الوجود بصورة عملية حسية، وإلا إذا أخذت شكلاً مادياً وتبلورت حول أعمال خاصة تسهل علينا معرفة تلك الميول وهذه الاستعدادات.
فنحن نحكم على استعدادات الطفل وقابلياته الكامنة في أعماق ذاته من خلال الفعاليات التي ينصب عليها لتكييف ذاته الباطنية مع كيانها المادي الخارجي.
فالجملة الأميركية التي يطلق عليها اسم (تعليم المعرفة بواسطة العمل لقد وجهت بسهولة في اتجاه مهني أو بالأحرى باتجاه تحضير الطفل تحضيراً عاماً للمهنة التي سينصب على إتقانها في مستقبل أيامه، إذ أنها تسمح للطفل بأن يمرن أعضاءه على العمل وحواسه على الملاحظة فيكتسب بذلك مرونة عامة تنفعه للتكيف بسهولة مع مهنته التي بها سيتخصص في مستقبل أيامه. إن هذه الجملة مستوحاة من نظرية فروبل ولقد غذيت على الأخص بالمذهب العملي الخاص بالأنكلوساكسون ومدار هذه الفكرة أن الطفل بطبيعته ملاحظ وله عاطفة شديدة عن شخصيته ويجد في العمل امتداداً لتلك الشخصية ويحركه إلى
العمل ذوقان شفقة بالفعالية وحبه للبناء فهو مبدع. ومن هنا يأتي أهمية الرسم والأشغال اليدوية التي ندركها لا كفنون تربوية ولكنها كواسطة لكل تربية إذ بها يشترك الجسم والجملة العصبية للحصول على كل معرفة ولهذا تستند تلك الطريقة على المبدأ القائل (لا يمكننا أن نفهم جميلاً إلا ذلك الذي صنعناه بأنفسنا).
ومن هنا تظهر أهمية مرحلة الحضانة والمدرسة الابتدائية فهذا العهد ليس عهد الاختصاص وإنما هو العهد الذي تتمرن حواس الطفل ويداه وتصبحان أكثر مرونة وطلاقة وتنتظم حركاته وتتسق فيما بينها وتنساق إلى العمل بسهولة حتى إذا أتى عهد التخصص لم يجد الطفل صعوبة بالانكباب على العمل وتوجيه انتباهه نحوه ووجود لذته فيه ومن ثم لا يجد صعوبة بأن يبدع ولاسيما في سن المراهقة الذي هو بالدرجة الأولى عهد الإبداع.
فأهمية المدارس الابتدائية من هذه الناحية تنحصر في الأمور التالية: 1) تمرين فعالية الطفل وأعضائه وحواسه تمريناً يسهل معه عل الطفل الانكباب على فعالية خاصة في مستقبل أيامه. 2) وذلك التمرين يفجر ينابيع استعدادات الطفل وقابلياته فهو عهد تفجير القابليات الكافية. 3) وبذلك يتعرف المعلم على نوع المشاعل والفعاليات التي تشغل الطالب والتي يبرع بها ويسجل ذلك لديه حتى إذا خرج الطالب من المدرسة كان له سجل خاص ينتقل معه إلى المدرسة الثانوية حتى يكون كنقطة استناد لتقدير الاتجاه الذي يجب أن يأخذه الطالب في دراساته.
ماهر الكيلاني