الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واقعنا الاجتماعي
للدكتور نور الدين حاطوم
توطئة
على جبهة آسية الغربية، بين جبال طوروس شمالاً وبحر عمان جنوباً، وبين البحر المتوسط وذراعه الأحمر غرباً، وجبال زاغروس والخليج الفارسي شرقاً، نبتت دوحة العرب وامتدت بفروعها نحو الغرب وشملت وادي النيل وتجاوزت بلاد الأطلس إلى ما وراء البحار.
إن هذه القارة الصغيرة التي نسميها آسية العربية رغم امتدادها على 3000 ك م طولاً و1400 ك م عرضاً، نراها تؤلف وحدة جغرافية تتميز بوحدة البناء الأرضي وبساطته، ووحدة الإقليم وطراز الحياة وإيلافه رحلة البداوة واستقرار الحضارة.
ويتوج رأس هذه البلاد العربية الهلال الخصيب الذي يعتمد في حدوده الغربية على ساحل البحر المتوسط ويلامس في الجنوب الشرقي أعماق الخليج الفارسي. في هذا القوس الأرضي نشأت أقدم المدنيات التي عرفها الإنسان، وتوالت فيه على مدى الدهر حوادث متموجة غيرت طور الحياة، وفي كل منها ساهمت سورية بأوفر نصيب فكانت سورية أرض التاريخ ومهد الإنسانية.
وسورية إن كانت تبدو لنا في هذا المجموع بلداً صغير المساحة، قليل السكان إلا أنه كان وما زال وسيبقى قلب العرب النابض، المملوء بالحياة، والمتطلع دوماً وأبداً إلى حياة أتم وأكمل. غير أن وضعه الجغرافي كثيراً ما جنى عليه. فهو بالنسبة إلى حياته الخاصة، مسرح نزاع بين نظام البادية وتأثيرات البحر المتوسط، وإلى حياته العامة، جسر عبور بين قارات العالم القديم، تمر عليه الشعوب الفاتحة بلا انقطاع في سبيل النصر الحاسم أو الخسران المبين، وتترك فيه آثارها كما تتجمع الرسوبات في قاع البحار.
فلا غرابة إذاً إذا تجمعت في هذه القطعة الصغيرة من سطح الكرة المتناقضات المختلفة وانعكس صداها على بنائنا الاجتماعي فغلبت عليه الفردية وعاش فيه القديم إلى جانب الحديث رغم التطور الذي نلمس آثاره ولا سبيل إلى نكرانه.
ولذا فان جهد بحثي هو أن أعرض دراسة تحليلية أشرح فيها العوامل التي أدت إلى واقعنا
الاجتماعي، وأثر هذه العوامل في مجتمعنا السوري، وأخيراً أنتهي إلى النتائج التي أستخلصها من هذه الدراسة.
أ - العوامل المؤثرة
إن هذه العوامل مهما اختلفت وتنوعت أسبابها لا تخرج عن عوامل طبيعية وعوامل بشرية.
1 -
العوامل الطبيعية: فالعوامل الطبيعية تتجلى في شكل
التضريس، وشرائط الإقليم، والموقع الجغرافي.
أ) شكل التضريس: هناك تباين بين عمر سورية التاريخي وعمرها الجؤلوجي، فمن الوجهة التاريخية تعتبر سورية من أقدم البلاد في العالم، ومن الوجهة الجؤلوجية تعد من أفتاها.
وهي من حيث تضاريسها تنتسب إلى الدور الثالث الطبقي أي إلى ذلك الدور الذي حصلت فيه تلك الصدمة الأرضية العنيفة فانبجست عنها كتل الأقواس الجبلية أي كتل جبال الألب وهيمالايا الممتدة من غرب أوربة إلى شرق آسية، وغارت حفرة الانهدام الممتدة من جنوب شرقي افريقية خلال البحيرات والبحر الأحمر وغور فلسطين وسهل البقاع والغاب لتنتهي وتغيب أخيراً عند أقدام طوروس، وتصدعت بنتيجة الانهدام أرض سورية وخرجت من بين الانهدامات والانكسارات الحمم البركانية وكونت الحرات.
عن هذه الحوادث الأرضية تشعبت حول صخرة حرمون مروحة جبلية تطاول منها سلسلتان متوازيتان امتدتا بانتظام من الشمال إلى الجنوب وسايرتا شاطئ المتوسط، وحادت بقية الفروع نحو الشمال الشرقي حيرى تهيم في البادية حدباء كالإبل تخب في الرمال.
وكان من نتيجة هذا التشكل الأرضي أن تجزأ التضريس السوري إلى كتل منعزلة وابتعد الداخل عن الساحل ولبث أسير الصحراء لا يتنسم البحر إلا من بعض الكوَات كما يتطلع السجين إلى الحرية خلال الشباك.
عن هذا الانعزال في التضريس نشأ انعزال في حياة السكان وطبع كلاً من الجماعات البشرية المقيمة عليه بطابع خاص. فكأن التضريس قد هيأ إلى الانطواء والتقلص سبيلاً.
ب) الإقليم: ولم يكن الإقليم بأكثر من التضريس رحمة ولا شفقة. وذلك لأن سورية من حيث الإقليم تقع في المنطقة المعتدلة الجافة من سطح الكرة. والجفاف في إقليمها صفة بارزة تمتد موجتها من أول مايس إلى تشرين الثاني. وامتداد الجفاف فيها يمنع استثمار الأرض بصورة مستمرة ويحصر الحياة حول نقاط الماء وبمركز الفاعلية البشرية في الواحات. وفي كل ذلك انعزال.
واتساع الصحراء فيها بالنسبة إلى مناطق الماء هو الذي وسع حياة البداوة فامتدت إلى المدن وغذت في الحضري من حيث يشعر ولا يشعر النزعة العشائرية والعصبية القبلية.
ج) الموقع الجغرافي: إن وضع سورية الجغرافي في منتصف العالم القديم كنقطة تماس بين بلاد مختلفة من حيث الثروة والمدنية، جعل أهلها يلعبون دور الوسيط، وقد ولد هذا الدور معهم وأذكى فيهم حب الكسب والربح. والبحث عن الثروة كثيراً ما جعلهم يهتمون بشؤون العالم الخارجي أكثر من اهتمامهم بمحيطهم. وأعمالهم اليومية وحياتهم التجارية كانت منصرفة في هذا الاتجاه. ومن يدري؟ فالتجارة سر بين التاجر ونفسه إن باح به أضاع فرصة سانحة، أو صفقة رابحة. ولذا فهو يعمل دوماً بالمثل القائل استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان وقضاء هذه الحاجة كثيراً ما يدعو إلى الأنانية والانفراد.
إن هذه العوامل الطبيعية القاسية هي التي قسمت سورية إلى مناطق نفوذ شخصية، وبنت الحواجز بين أبنائها في وقت كانت فيه طرق المواصلات وما زالت، رغم ما عليها من سيماء التجديد، في حالٍ ابتدائية. كل ذلك حال دون اختلاط أبناء الوطن الواحد ونتج عنه تجزئة جغرافية ساعدت على تفتق الفكر الانفرادي والنعرة الإقليمية كما أخرت حثيثاً السير في طريق الوحدة السياسية.
إلا انه يجب ألا نسلم بهذه العوامل تسليما مطلقاً، فكل ما في الطبيعة نسبي. وكما تخلق الطبيعة عقبات صعبة الاجتياز، تخلق أيضاً إمكانيات تسهل الاتصال.
2 -
العوامل البشرية:
كان من الممكن تذليل هذه الصعوبات الطبيعية لولا أن العوامل البشرية التي أحاطت بسورية قد أتت تشد أزر الطبيعة فزادت المصاب ضغثاً على أبالة. هذه العوامل ألخصها بانتشار الديانات، وتعاقب الأحداث السياسية. وطغيان الفتح والغزو. وسأقتصر هنا لضيق
المجال على النقطة الأولى.
انتشار الديانات: لقد همست حواء في أذن آدم وطغته فأطاعها وهبطت به من العالم الأعلى إلى العالم الأدنى، وجنت عليه وجنت على نفسها، غير أن آدم أدرك فداحة الذنب الذي ارتكبه فاعتراه الخوف وانتقل الخوف منه إلى أبنائه من بعده. وفكرة الخوف من الخطيئة الأصلية والأمل بالعودة مرة ثانية إلى فسيح الجنان، هو الذي حدا الرجل بالابتعاد عن المرأة واضطهاده لها تكفيراً عن ذنبه. أوليست هي التي أنزلته إلى دنيا الشقاء! والذنب في حد ذاته دنس والتكفير عن الذنب لا يكون إلا بالتطهير من الدنس، وفكرة التطهير من الدنس هذه قديمة في تاريخ الإنسانية وتقتصر على الإتيان بأقوال وأفعال يلعب فيها الماء الدور الأول. والإنسان يغتسل بالماء ليتطهر من دنسه المادي، إلا أن التطهير على مر العصور اصطبغ بصبغة معنوية وإذا احتفظ الإنسان باستعمال الماء في التطهير إلى الآن فلأنه منحه معنى رمزياً. ثم اعتاد أن ينظر إلى الدنس كنتيجة لرجس معنوي كما اعتاد أن يعطي للتطهير قيمة العفو الذي يمنح للروح المذنبة.
واضطراب الفكر بالتطهير أي الرغبة بالعفو وارتفاع الإنسان نحو عالم المثل وأمله لن يتحد بالإله قد استحوذ على الأفئدة والقلوب. والفلسفة في ذاتها مجردة عن كل عاطفة وقاصرة عن سد عوز الإنسان لمثل هذه الآمال. إلا أن ديانات الشرق قد زودت الروح بما تشتهي من عزاء وأمل ورجاء وأمثال هذه العواطف. وقام الأنبياء والرسل، أطباء الإنسانية، ومن تبعهم ممن تنبأ وادعى النبوة، يحملون سراج الدين، ينيرون السبيل للناس ويبذرون لكل ريح، فكثرت الوصفات وتعددت الديانات واختلفت العبادات والطقوس.
ولقد كانت سورية مهبطاً لكثير من الديانات، إلا أن الديانات التي استقرت فيها أخيراً هي الديانة اليهودية والمسيحية والإسلامية. وإذا بقي السوريون محافظين على عواطفهم الدينية فذلك دليل على تمسكهم بتقاليدهم وعلى ما لهذه الديانات في نفوسهم من قيمة اجتماعية.
ومع الزمن تفرعت عن الديانتين الأساسيتين الاسلام والمسيحية عدة فرق:
فنشأ عن الإسلام: أهل السنة والشيعة والعلويون والمتاولة والدروز والإسماعيلية.
وعن المسيحية: الروم الأرثوذكس، السرياك، النساطرة، الروم الكاثوليك، السريان الكاثوليك، الموارنة، اللاتين، البروتستانت، الأرمن.
وهذه الفرق تمتد في بلادنا إما بشكل واحات واسعة أو بشكل جزر قائمة وسط هذه الواحات.
وهذا ناشئ عن الشروط التاريخية التي ساعدت على امتداد بعضها وتقلص الأخرى. وفي كلتا الحالتين دليل على حب المحافظة والتمسك والتساهل والتسامح.
أثر العوامل
في مثل هذه الشروط من طبيعية وبشرية نشأ الشعب السوري وتربى وكبر حتى وصل إلى يومنا هذا، وكأني بهذه الشروط قد جزأت وسطنا الاجتماعي إلى كتل متناثرة هنا وهناك، أو متلاصقة مختلفة الألوان، وأعتقد أنه من الصعب أن نكون في ذهننا فكرة واضحة عما نسميه السوري المتوسط. والانعزال صفة بارزة مميزة لوسطنا الاجتماعي. وتتجلى بالمظاهر الآتية:
انعزال الحرية: نحن في بلد استحكمت فيها العادات فغدت قوانين، وغلب عليها العرف فصار حاكماً، ورغم تحررنا من نير الأجنبي فما زلنا أسرى التقاليد لم نتحرر من قيود الماضي ولم نطلق لأنفسنا العنان في التفكير الحر. والحرية ما زالت نظرية تدرس في الكتب ولا أثر لها في حياتنا الاجتماعية. ولسنا آمنين على أنفسنا ألا يصلنا أذى إن تكلمنا بصراحة حسبما يمليه علينا وجداننا.
والمجتمع يضغط علينا بقوة هائلة حتى يكاد يضيق علينا أنفاسنا. وما زلنا نخشاه ونحسب له ألف حساب. ويعزز هذا الشعور ما تلاقيه كل حركة تجددية من مقاومات فإن طالبت بتغيير وضع من الأوضاع وبينت للناس سوءه حاربوك بشتى الأسلحة. فهذا يحاربك باسم الدين، وذا باسم الوطنية وذا باسم ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ولعلك إن سلمت من بعضهم فلم تسلم من الآخرين. ويزيد في مصابك أن هنالك فئة متعلمة ترى مثلك أن هذا الوضع شاذ غير أنها لا ترغب مثلك بضرورة إصلاحه بل تسعى لتستفيد شخصياً من الوضع الراهن. وهذه هي الأنانية المجسمة باسم الوصولية ولذا فأنت قتيل وإن شئت أسير لا تعرف للحرية أثراً إلا في نفسك.
انعزال إقطاعي: نما نتيجة الظروف السياسية والمخاوف والتجاء الضعيف إلى القوي يطلب حمايته، ثم تطور مع الزمن وأخذ يستحكم بنفوذه المادي ويأبى أن يخفف من شدة
ارستقراطيته.
انعزال طائفي: فرغم التسامح الذي نقرأ عنه في كتب التاريخ ونلمس أثره فما زالت هنالك فوارق ظاهرة على التكتلات المذهبية والمعسكرات الدينية. ولئن زال الخوف فما زال الحذر والحيطة يعملان عملهما من وراء ستار. أضف إلى ذلك أن الفارق العقلي والاعتقادي ونمط العيش تجعل هذه العناصر لا تمتزج مع بعضها امتزاجاً كافياً إذ ما زال كل منها يتقيد بقيود التقاليد الموروثة كعدم الزواج مثلاً من العنصر الآخر مثلاً وإتباع الوساطة الروحية في التوظف والسياسة والإدارة.
انعزال ثقافي: نشأ عن الإقبال الشديد على العلم في فترة ما بين الحربين وتأليف طبقة جديدة في المجتمع أسميها أرستقراطية العلم وحملة الشهادات وقد انعزلت هذه الطبقة لعدة أسباب: منها أنها رأت نفسها عالمةً في جمهور ما زال أكثره جاهلاً وأمياً فترفعت عنه وانصرفت إلى عملها اليومي، أو ملأت الأندية والمقاهي بالانتقاد والكلام دون أي عمل مجد، أو أنها اعتقدت قي صميمها أنها غير قادرة أن تعمل عملاً في هذا المجتمع وذا خطأ فادح، أو أنها انمحت وانسحقت أمام قوة الغرب وتصاغرت فكانت ضعيفة الإيمان، أو أن جهودها كانت مبعثرة دون أي رابط يجمع بينها فأخفقت وتقلصت وشعرت بثقل المحيط عليها وثقلها على المحيط.
ونشأ عن هذا الانعزال الثقافي احتكار سياسي قائم على سياسة الارتجال وتطبيق زعماء الأحياء وأصحاب النفوذ وتبادل المنافع. ولو أن أهل الفكر منا وحاملو العلم فينا اتصلوا اتصالاً وثيقاً بالأوساط الشعبية وضحوا وبذلوا من علمهم وفكرهم كما بذل غيرهم من ماله ودهائه وجهاده لقادوا الجماهير عن تبصر ووعي ولما شكوا سوء حظهم وابتعادهم عن الحياة السياسية. وقد حان الوقت الذي يجب أن يسمع فيه العلم صوته ويفرض صاحب الفكر إرادته وعقله.
انعزال الثروة المتحركة: بأيدي طبقة معينة من أبناء الأمة. وسبب ذلك أن الحوادث التي مرت على سورية من فتح وغزو وما إليها من نهب وسلب قد سحبت الثقة من السلطة الحاكمة والمجتمع فضعف استخدام المال في المشاريع العامة ويزيد في ذلك أننا لم نرب تربية اجتماعية تجعلنا نؤمن بفائدة هذه المشاريع أو نظيرها من المشاريع الخيرية.
واستحال مع الأيام جمع المال لمنفعته فصار يجمع لذاته وتكدست الثروة بأيدي أناس لا يستخدمونها بل ليقال عنهم أغنياء.
انعزال المرأة: وهذا الحادث قريب يرجع عهده على عصر الانحطاط في الدولة العباسية. وتوالي الغزو والفتح والغارات كثيراً ما كان مصحوباً بالخوف من السبي والاعتداء على الأعراض. فحجبت المرأة خوفاً عليها وأصبح من العادة أن تبقى بعيدة عن الحياة العامة، وحرم المجتمع من عطفها وحبها والاستفادة من مواهبها. وانزواؤها أدى إلى جهلها وفقدان شخصيتها.
وليت الأمر بقي عند هذا الحد إذ إن غيابها عن المجتمع المدني كان له تأثيره في العواطف الاجتماعية وانتقل صداه إلى الأدب والأغاني. فغدا الأدب يبكي والغناء يذرف العبرات. وفي كل ذلك حنين إلى المرأة وشوق إليها.
ونتج عن قلة المعاشرة والاختلاط أن جهل كل من القطبين نفسية الآخر ففسد الذوق ونقصت الشجاعة الأدبية، وتفاوت مقياس المحادثة والنقاش فإما أن يبلغ من الصفاقة درجة الوقاحة، وإما أن يبلغ من الانحلال درجة الارتعاش والخوف والخجل على مختلف ألوان الطيف الشمسي.
وتبدل سلوكنا أيضاً بحرمان المجتمع من المرأة فأصبحنا حذرين قلقين وسوء الظن رائد أعمالنا وصرنا نعتقد أن اجتماع الجنسين مفسدة للأخلاق وإن من الأخلاق أن نحول دون أي تقارب بينهما، ودبت في قلوبنا الغيرة فإذا ما رأينا قلبين متحابين بعثنا في طريقهما العيون والأرصاد، وأرسلنا الحرس الجنسي المتحرك في كل مكان ليأتينا بالأخبار ويأتيك بالأخبار من لم تزود!
فإذا رأينا مثلاً فلانةً تخاطب فلاناً في الشارع بنينا قصوراً من الخيال لا حقيقة لها في الواقع، واتهمناها بأبشع الصور وربما نقضي بلغطنا على مستقبل الفتاة فلا يتزوجها أحد. وكأننا اعتدنا أن نشوه الحقائق ونستهجن رؤية الرجل والمرأة ونفهم أن اجتماعهما ليس معناه سوى الانحدار إلى مستوى الغرائز.
وأدى بناء الأخلاق على الغريزة إلى الكبت ففسدت أخلاق الرجال كما فسدت أخلاق النساء، وانتشرت العادات السرية وانحرفت الميول دون تهذيب أو تصعيد. وهذا الانحراف
والتنفيس يتناسبان طرداً مع شدة الكبت وكثرة الضغط.
وعرف الوراقون أن الجمهور جائع فوصفوا له المسكنات المثيرات واغتنموها فرصة لترويج بضاعتهم وصدروا المجلات بالرسوم العارية والأوضاع النابية الخشنة ودافعوا عنها باسم الفن وتذوقه وليس بمثل هذا الشكل يحبب الإعجاب بآيات الفن وروائعه. وهكذا فقد ملأت الغريزة الدنيا وشغلت الناس.
انعزال ريفي: ونأت القرى عن المدن فإذا هي في انعزال قائم. فبينا المدن في تطور نجد القرى ترسف في قيود القديم، فريسة الأمراض والفقر والجهل. ولعلكم تؤمنون معي أن المعلم وهو غالباً من أبناء المدينة، عندما يعين للقرية لا يلبث أن يسعى للفرار منها بشتى الوسائط. وربما نجد له عذراً في ذلك. فاختلاف الحياة وعدم توفر الضروري اللازم من الرفاه له ولعائلته يضطرانه لترك القرية على ما فيه من حسن نية.
ويزيد في انعزال القرى أن طرق المواصلات لم تتيسر بعد لأكثرها. ناهيكم أن المواصلات بين المدن ما زالت في حركة بطيئة وعدم انتظام. ومع احترامي لشركات النقل وما كتب على البوسطة من خمسة عشر شخصاً وفيها خمس وعشرون وما زينت به من خرز وأحيطت به من حجب وتمائم، فهي تأبى أن تقطع الطريق بين حلب ودمشق إلا في يوم كامل ولا ننزل إلا وكأننا خرجنا من علبة سردين.
الخاتمة
هذه هي اللوحة التي أردت عرضها عليكم. وهذا واقعنا الاجتماعي فهل يجب أن نستسلم له ونرضى بالتطور البطيء ونقول ليس في الإمكان أبدع مما كان أو نعتقد أننا لا نستطيع به حراكاً. إن واقعنا فرضه علينا جور الطبيعة وظلم الإنسان. ولا ريب أن شرائط الحياة العامة التي كانت تسيطر على نشاط السلف أصبحت مغايرة للشروط التي نحن فيها الآن. نحن نعيش في زمن يتطور فيه الفكر الإنساني بخطى واسعة، ويتغير كل شيء بسرعة البرق. وان أمواج الحياة التي تتدافع حولنا تسير دوماً إلى الأمام نحو اكتشاف عالم مجهول. وقد يكون من خطل الرأي أن نقف حائرين أو نبقى منطوين على أنفسنا دون أن نسير مع مقتضيات العصر فنبدل عقليتنا ونماذج فاعليتنا، وننظر إلى الأشياء بنظر العقل والتأمل لا بنظر العفوية والتقليد. إن المنطق والضرورة يحتمان علينا في هذا العهد
الإنشائي في البلاد أن نتضافر على رفع مستوى المجتمع وانسجام أجزائه. أضف إلى ذلك أننا في وقت نحن فيه بحاجة إلى دعم وحدتنا السياسية. والوحدة السياسية لا تكون دائمة وقوية إلا إذا اعتمدت على وحدة اجتماعية وجهاز اجتماعي منظم. وهذا لا يكون إلا إذا خرجنا من قواقعنا وتربينا تربية اجتماعية وحاربنا الانعزال والفردية.
يقول لنا أطباء الأجسام إن كثيراً من الأمراض المتوارثة المزمنة إذا أصيبت بها عائلة ما قد تشفى عن طريق الزواج من غير أفراد العائلة نفسها، ولا يمر زمن إلا وتبيد هذه الأمراض. وأعتقد أن هذه القاعدة تبقى صحيحة إذا ما طبقت في الناحية الاجتماعية. فمما لا شك فيه أننا ورثنا عن آبائنا وأجدادنا وماضينا الثقيل كثيراً من الأمراض. ولمعالجتها أتقدم إليكم بهذه المقترحات:
1 -
تربية النشء الجديد في المدرسة تربية اجتماعية: وذلك يكون باهتمام برامج التعليم في هذه الناحية وعدم إهمالها بالنسبة إلى غيرها من النواحي، ومنح النشاط المدرسي حقه في شتى أشكاله. وهو كفيل أن يخرج التلميذ من عزلته الدراسية ويوجهه نحو القيام بأعمال مشتركة مع رفاقه، فإذا خرج من المدرسة إلى المجتمع، استطاع أن يألفه بسهولة ويندمج فيه ويبرز كفاءته الشخصية في خدمة المجموع. وبرامجنا في الوقت الحاضر مفتقرة لمثل هذه الحركة. وإن تظاهر رجال المعارف أنهم جادون في تشجيعها فالواقع شيء والتظاهر بالعمل شيء آخر.
2 -
تربية الراشدين: فان كانوا جاهلين أو أميين وجب تعليمهم ورفع مستواهم والاتصال بهم وتوجيههم توجيهاً صحيحاً وعدم تضليلهم. والجهد الفردي وحده عاجز عن ذلك. إلا أن الجهود المتآزرة تستطيع أن تعمل عملا واسعاً في هذا السبيل وفي الأندية مجال رحب للقيام بمثل هذه الأعمال.
وإن كانوا مثقفين فيكفي دخولهم في منظمة من المنظمات الاجتماعية وأقصد بذلك المساهمة الفعلية في جمعية أو نادٍ أو الانتساب إلى حزب ذي برنامج واضح معين يستهدف غايات وطنية وقومية معينة واضحة، وان لم يوجد فيجب تأسيسه.
ففي النادي تتبادل الآراء وتحتك الأفكار ويتصل الأعضاء ببعضهم ويتصلون بالجمهور. وليس هذا الاتصال من الصعوبة بمكان. وفي النادي أيضاً تستطيع المرأة المتعلمة، كخطوة
أولى لظهورها في المجتمع، أن تسمع صوتها وتثبت للرجل ولشقيقتها الجاهلة أن المرأة ليست كمية مهملة وتفرض على المجتمع احترامها وتسترجع ما فقدته من شخصيتها وتخفف من ميوعتها.
وفي الحزب المنظم تنصهر شخصية الفرد من حيث هو ينتمي إلى كتلة من الكتل كأن يكون عظامياً يتغنى بمجد قديم أو يتمتع بنفوذ عائلي أو محلي أو ينتسب إلى فئة روحية معينة. كل هذه العناصر تذوب في بوتقة الحزب وتظهر الكفاءة الشخصية وينمو الفرد من حيث هو حجيرة في جسم المجتمع لا كطفيلي يعيش على حسابه. فالخطب والإقناع وتبادل الآراء والشعور بالمسؤولية والقيام بالواجب والدفاع عن فكرة سامية نبيلة كلها تساعد على انتظام الفرد في المجموع لتبني رأي واحد يعبر عن إرادة واحدة.
3 -
الاهتمام بالقرى وتعميم طرق المواصلات: إن حياتنا قائمة قبل كل شيء على الزراعة. وهذه لا تنهض إلا برفع مستوى الفلاح وتعليمه وتأمين رفاهه وخروجه من أفقه التقليدي وربطه بالمدينة ربطاً أكثر تماساً وامتزاجاً وهذا يتطلب وضع برامج اقتصادية وتحقيق هذه البرامج.
4 -
تحضير البدو: وهذا لا يكون إلا بمنحهم الأراضي والقيام بمشاريع زراعية واسعة. وتحضيرهم هو الذي يزيل من مجتمعنا عصبية العشائر ونزعة القبائل.
ونلاحظ في هذه الاقتراحات أن قسماً منها ما يتعلق بالفرد نفسه ومنها ما يتعلق بالجماعة ومنها ما يتعلق بالحكومة، غير أن الذي يهمنا هو التبشير بها والدعاية لها والسعي لتحقيقها. ولنعمل متضافرين ويد الله مع الجماعة.
نور الدين حاطوم