الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد شاعت سيرة محمد كرد علي في أوساط الباحثين والمثقفين ورواد المعرفة، ولكن التعريف بنتاجه الغزير ظل دون المأمول، بل ظل محصوراً بين نخبة قليلة منهم، علماً أن الكتب والمؤلفات والمجلدات التي تركها، والتي يصل عددها إلى اثنين وعشرين مؤلفاً بحاجة إلى من ينفض الغبار عن أكثرها ويعيد طرحه أمام الجيل الجديد للتعريف بهذا الجهد الخارق الذي بذله صاحب هذه المؤلفات على مدى أكثر من ستين عاماً قضاها في العطاء الفكري، منذ أن كان يافعاً في الثالثة عشرة من عمره.
تراث ضخم بجميع المقاييس
وفي بعض جوانب سيرة العلامة الكبير أن أحد المستشرقين وقف مرة أمام التراث المطبوع للعلامة محمد كرد علي وسأل مرافقيه: "هل حاول أحد جمع عدد الصفحات التي كتبها الرئيس الراحل؟ "
ولما أجيب بالنفي، قرر هو أن يقوم بهذه المهمة، فكانت النتيجة أن مجموع صفحات كتبه المطبوعة بلغ عشرة آلاف ومئتين وأربعاً وخمسين صفحة، عدا مجلة (المقتبس) التي أصدرها في تسعة مجلدات وبلغ عدد صفحاتها ستة آلاف وأربعمائة وسبعاً وستين صفحة وكذلك جريدة (المقتبس) التي أصدرها يومية وشهرية لعدة سنوات.
أمام هذا التراث لا نستطيع أن نعتمد مقاييس الكم والكيف إلا ونجد أنهما متكاملان، فما أعطى الراحل الكريم عطاءً مرتجلاً، ولا كتب في أمور لم ينقص حتى أدق خصائصها وهو في هذا يقول (1):"وأهم ما أولعت بمطالعته بعد درس المطبوع من كتب الأدب العربي وجانب من المخطوط الذي عثرت عليه، كتب الفلاسفة وعلماء الاجتماع وأحوال الشعوب ومدنياتهم وطالعت بالفرنسية أهم ما كتبه فولتير وروسو ومونتسكيو وبنتام وسبنسر، ونوليه، وتين، ورنان، وسيمون، وتدارست المجلات الفلسفية والاجتماعية والتاريخية والأدبية باللغة الإفرنجية، وجريت منذ نشأت على قاعدة مطردة لم أتخلف عنها قيد شبر وهي أن أقرأ أكثر مما أكتب، وقلّما دونت موضوعاً لم أدرسه، في الجملة ولم تتشربه نفسي"(2).
موهبة واعدة ومبكرة
وحتى نقف على المراحل التي كونت الأبعاد الفكرية لهذه الشخصية التي تتميز بكثير من صفات التفرد، لابد من استطلاع المحطات الأساسية في السيرة الحياتية والعلمية والثقافية لها، خاصة وإن جميع الدراسات التي وضعت عنها أشارت إلى أهمية الوقوف أمام المحطة الأولى، محطة ظهور الموهبة الواعدة لدى الشاب اليافع محمد كرد علي في وقت مبكر، وبالتحديد في الثالثة عشرة من عمره
…
فقد كانت ولادته في دمشق سنة ست وسبعين وثمانمائة وألف للميلاد أي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، والمنطقة العربية ترزح تحت نير الحكم العثماني حيث لا مدارس ولا معاهد ولا جامعات، بل كتاتيب صغيرة يتعلم فيها الأطفال القرآن الكريم وبعض فرائض الصلاة والصوم، باستثناء عدد محدود من المدارس ليس متيسراً لأبناء عامة الشعب (3).
(1) ـ المذكرات ـ أربعة أجزاء.
(2)
ـ المصدر السابق.
(3)
ـ عبد الغني العطري ـ كتاب (عبقريات شامية).
كانت الموهبة المبكرة لمحمد كرد علي هي التي فرضت نفسها على الجميع، وبخاصة على الأهل، وكان لابد من السعي لإرساله إلى إحدى المدارس الحكومية، حيث تلقى تعليمه الابتدائي ومبادئ اللغة الفرنسية على يد معلم خاص، ثم دخل المدرسة العازارية وتتلمذ على يدي الشيخ طاهر الجزائري، وكان يدعى كبير معلمي العصر وعنه أخذ العلم وحب العربية وعلومها وآدابها (1).
بين الأدب والصحافة
تعلق محمد كرد علي بالصحافة، وأحبها حتى العشق، فجمع بين الأدب والصحافة، وكان في كليهما مجلياً، ففي مجال الأدب كان يقرأ ما يستطيع الحصول عليه، وهو في الثالثة عشرة.
يسهر حتى الهزيع الثاني من الليل، وهو يقرأ في جريدة أو كتاب، حتى ضعف بصره، وساءت صحته، ونصح له الأهل والصحب بالاعتدال. ولكنه رفض هذا النصح، ولم يكن ليترك القراءة، إلا حين يطفئ أهله مصباح الزيت، الذي كان الناس يستضيئون به يوم ذاك.
كان منظر الكتب يغريه ويفتنه، ورؤية الصحف تسكره، وتسحره، فيندفع يغبّ من ألوان المعرفة، ويعبّ من بحور العلم.
كان إذا رأى عالماً أو أستاذاً، تمنى أن يصادقه، وحلم في أعماقه، أن يكون في المستقبل مثله.
وشجعه أبوه ـ رغم أميته ـ على اقتناء الكتب، وقدم له المساعدة الكافية على الفوز بها، فكانت الكتب ثروته الحقيقية.
وحين اشتد ساعده بالعلم واللغة، أخذ يقرأ الصحف والمجلات بالفرنسية والتركية والعربية، فزادته المطالعة تعلقاً بالصحافة، وعشقاً للمعرفة والعلم.
وعندما كان يحبو نحو السادسة عشرة، كان يكتب الأخبار والمقالات، ويدفع بها إلى الصحف.
ولم تقف هواياته عند هذا الحد، بل أحب الشعر العربي، والسجع المنمق، وعكف على شيوخه ـ كما يقول الدكتور سامي الدهان ـ "وأخذ ينهل من علمهم وأدبهم، وهم من مشهوري عصره في بلده، أمثال: سليم البخاري، والشيخ محمد المبارك، والشيخ طاهر الجزائري".
(1) ـ عبد الغني العطري ـ حديث العبقريات - دار البشائر.
صدور المشارقة والمغاربة
ابن حزم
ولد سنة 384 وتوفي سنة 456هـ
في الناس من يفادون بنفوسهم حباً بنفع يرجون أن يجنيه أهلهم وعشيرتهم ويتعزون عن ذلك بما يصيبونه من مغنم ديني أو دنيوي ومن هذه الفئة ابن حزم الأندلسي. فقد ترك وزارة المستظهر بالله اختياراً لما آنس من نفسه الغناء في العلم، وأقبل على القراءة وتقييد الآثار والسنن، فنال من ذلك ما لم ينله أحد قبله بالأندلس حتى عد قريع دهره، ووحيد قطره، وألف من كتب الأدب، والدين والنسب وغيرها، ما يبلغ نحو أربعمائة مجلد أو نحو ثمانين ألف ورقة.
كان أبو محمد بن حزم على كثرة علمه وعقله، شديد اللهجة، صعب الطريقة، ولعل ذلك ناتج من العلة الشديدة التي كانت أصابته كما قال عن نفسه فولدت عليه ربواً في الطحال شديداً فولد ذلك عليه من الضجر، وضيق الخلق، وقلة الصبر والنزق، أمراً جاشت نفسه فيه، إذ أنه أنكر تبدل خلقه، واشتد عجبه من مفارقته لطبعه، وصح عنده أن الطحال موضع الفرح: إذا فسد تولد ضده. قال، ولكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحيي فكري، وتهيج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف عظيمة النفع، ولولا استثارتهم ساكني، واقتداحهم كامني، ما انبعثت لتلك التواليف.
وما يشاهد إذاً في كتابه الملل والنحل من إفحاش الطعن على من خالفه قد دفعه إليه مزاجه، وكان هو السبب الذي دعا إلى تألب خصومه عليه في حياته. قال أبو مروان بن حيان مؤرخ الأندلس: كان أبو محمد حافظاً فنوناً من حديث وفقه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة. له في بعض تلك الفنون كتب كثيرة غير أنه لم يخلُ فيها من غلط وسقط، لجرأته في التسور على الفنون لاسيما المنطق، فإنهم زعموا أنه زلّ هنالك، وضلّ في تلك المسالك، وخالف أرسطاطا ليس واضعه مخالفة من لم يفهم غرضه، ولا أرتاض في كتبه.
ومال أولاً به النظر في الفقه إلى رأي محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله وناضل عن
مذهبه، وانحرف عن مذهب سواه، حتى وُسم به، ونسب إليه، فاستهدف بذلك لكثير من الفقهاء، وعيب بالشذوذ، ثم عدل في الآخر إلى قول أصحاب الظاهر مذهب داود بن علي ومن اتبعه من فقهاء الأمصار، فنقحه ونهجه، وجادل عنه، ووضع الكتب في بسطه، وثبت عليه، إلى أن مضى لسبيله رحمه الله.
وكان يحمل علمه هذا ويجادل من خالفه فيه على استرسال في طباعه، ومذل (إفشاء) بأسراره، واستناد إلى العهد الذي أخذه الله على العلماء من عباده، ليبيننه للناس ولا يكتمونه. فلم يكُ يلطف صدعه، بما عنده، بتعريض ولا يزنه بتدريج، بل يصك به معارضه صكّ الجندل، وينشقه متلقنه انتشاق الخردل، فينفر عنه القلوب، ويوقع به الندوب، حتى استهدف إلى فقهاء وقته فتمالؤوا على بغضه، وردوا أقواله، وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنه، ونهوا عوامهم عن الدنو إليه، والأخذ عنه، فطفق الملوك يقصونه عن قربهم، ويسيرونه عن بلادهم، إلى أن انتهوا به منقطع أثره بتربة بلده من بادية لبلة وبها توفي رحمه الله سنة ست وخمسين وأربعمائة وهو في ذلك غير مرتدع، ولا راجع إلى ما أرادوا به. يبث علمه في من ينتابه بباديته تلك من عامة المقتبسين منهم من أصاغر الطلبة الذين لا يخشون فيه الملامة يحدثهم ويفقههم، ويدارسهم، ولا يدع المثابرة على (التعليم) والمواظبة على التأليف والإكثار من التصنيف، حتى كمل من مصنفاته في فنون من العلم وقر بعير لم يعدُ أكثرها عتبة باديته بتزهيد الفقهاء وطلاب العلم فيها، حتى حرق بعضها باشبيلية، ومزقت علانية، لا يزيد مؤلفها في ذلك إلا بصيرة في نشرها، وجدالاً للمعاند فيها، إلى أن مضي لسبيله.
وأكثر معايبه زعموا عند المنصف له، جهله بسياسة العلم التي هي (أعوص) من إيعابه، وتخلفه عن ذلك على قوة سبحه في غماره، وعلى ذلك كله فلم يكن بالسليم من اضطراب رأيه، ومغيب شاهد علمه عنه عند لقائه، إلى أن يحرك بالسؤال فيفجر منه بحر لا يكدره الدلاء، ولا تقصر عنه الرشاء، له على كل ما ذكرناه دلائل ماثلة، وأخبار مأثورة، وكان مما يزيد في شنآنه تشيعه لأمراء بني أمية ماضيهم وباقيهم. . .
وبعد أن ذكر ابن حيان إدلال ابن حزم بأرومته ونسبه، مع أنه من عجم لبلة، وماله من المجالس مع أولي المذاهب المرفوضة من أهل الإسلام وأورد بعض تآليفه قال: ومن شعره
يصف ما أحرق له من كتبه ابن عباد قوله:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي
…
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي
…
وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رقّ وكاغد
…
وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأة
…
فكم دون ما تبغون لله من سر
وله: من ظلّ يبغي فروع علم
…
يُدرى ولم يدر منه أصلا
فكلما ازداد فيه سعياً
…
زاد لعمري بذاك جهلا
وقال: كأنك بالزوار لي قد تناذروا
…
وقيل لهم أودى عليّ بن أحمد
فيا ربّ محزون هناك وضاحك
…
وكم أدمع تذرى وخد مخدد
عفا الله عني يوم أرحل ظاعناً
…
عن الأهل محمولاً إلى بطن ملحد
واترك ما قد كنت مغتبطاً به
…
وألقى الذي آنست دهراً بمرصد
فوا راحتي إن كان زادي مقدماً
…
ويا نصيبي إن كنت لم أتزود
ويا لبدائع هذا الحبر عليّ وغرره ما أوضحها على كثرة الدافنين لها والطامسين لمحاسنها وعلى ذلك فليس ببدع فيما أضيع منه فأزهد الناس في عالم أهله. وقبله رُدي العلماء بتبريزهم على من يقصر عنهم والحسد داء لا دواء له - انتهى كلام ابن حيان في خبره.
قلت أنا (ابن بسام) ولعمري ما عقه، ولا بخسه حقه، وقال ابن بشكوال: كان أبو محمد أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة على توسعه في علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار. وسننشر طرفاً صالحاً من جيد شعره.