الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد سميت المجلة منذ صدورها باسم المجمع (مجلة المجمع العلمي العربي)، ولما أصبح اسم المجمع (مجمع اللغة العربية بدمشق) سميت (مجلة مجمع اللغة العربية) وكانت تصدر في سنتها الأولى عدداً واحداً في /32/ صفحة كل شهر، ثم أصبحت المجلة تصدر أربعة أجزاء في السنة الواحدة، إضافة إلى الأعداد الخاصة التي تتصل بمناسبات علمية، ويطبع المجمع مجلدات من أعداد المجلة التي نفدت.
بين الترجمة والمقالة والدراسة والتحقيق
من خلال استعراض التراث الذي خلفه العلامة الكبير، ولتسهيل عملية دراسته يمكننا أن نقسم هذا التراث إلى أربعة أقسام رئيسية هي:
ـ الترجمة والتعريب.
ـ أدب المقالة.
ـ الدراسات الأدبية والتاريخية.
ـ تحقيق الكتب والمخطوطات (1).
أما عن المترجم والمعرب من آثاره فقد بدأ بترجمة روايات عن الفرنسية. ومن هذه الروايات (قبعة اليهودي ليفمان) التي أثارت ضجة بين النقاد عام 1894، وفي مصر ترجم (الفضيلة والرذيلة) لجورج اونيه الكاتب الفرنسي المعاصر، وكذلك رواية (المجرم البريء)، كما عرب تاريخ الحضارة لشارل سنيوبوس
…
وقد كانت ترجمته لها من قبيل التمرن على الترجمة، وهي لا تعجبه، حتى أنه كتب عن الأولى يقول:(ياليتني نبذتها في زنبيل سقط المتاع) ....
كما عرب الأستاذ كرد علي كتباً أخرى في الحرية عن جون سيمون، وترجم الأسماء التركية لرضا الباشا
…
ورغماً عن كل الجهود التي بذلها في تعريب الآثار فإنه يهمل في حديثه ما وقع من قلمه في الترجمة، وفي هذا يقول:( .... وليس لي يد في القصص التي نشرتها أول أمري لأنها مترجمة). (2).
(1) ـ مجموع الكتب التي تضم هذا التراث اثنان وعشرون كتاباً.
(2)
ـ المذكرات.
وفي آداب المقالة أصدر محمد كرد علي في أدب المقالة ستة مؤلفات قيمة مختلفة، وقد فعل كما فعل كثيرون من الكتاب في مصر كالعقاد والزيات والرافعي والمازني فجمع مقالاته التي نشرها في الصحف اليومية والأسبوعية بمصر والشام، وطبعها في كتب بدأها بكتاب (غرائب الغرب). الذي نشر عام 1923 وجمع فيه وصف رحلاته الثلاثة إلى أوروبا، أما مقالاته التي نشرها في "المقتطف" و"المقتبس"، و"المؤيد" و"الظاهر" فقد جمعها في كتاب (القديم والحديث)، وهو فيها محدث عن العادات والآداب والتقاليد.
وكان محمد كرد علي من المنادين بالإصلاح الخلقي .. وقد كتب في هذا مقالات عديدة جمع أهمها عام 1946 في كتاب (أقوالنا وأفعالنا) وقد انتقد الأخطاء وأعرب عن سوءات العيوب ونادى إلى سبيل قويم.
ولما كانت حياة محمد كرد علي حافلة، فقد دونها في مذكرات مهمة عن تنقلاته بين الشرق والغرب، وجمع هذا كله في مؤلفه الذي سماه المذكرات (1)، والذي طبع بين عامي (1948 ـ 1951)
…
ومذكرات كرد علي صريحة صادقة، وانقسم الناس أمامها إلى قسمين: محبذ ومستنكر، واعتبرها فريق آخر تتمة لمؤلفه الكبير (خطط الشام)، وقد ظل يكتب مذكراته حتى آخر أيامه ذلك لأنه وعد ألا ينثني عنها، ويتابع فيقول:(مادمت أتمكن من مسك القلم وأصبر على التحديق في الخطوط التي أخطها). أما كتاباه الأخيران (البعثة العلمية إلى دار الخلافة الإسلامية)، و (الرحلة الأنورية إلى الأصقاع الحجازية)، فقد أملتهما عليه بعض الظروف وهما لا يرتفعان إلى مستوى أدبه الإبداعي.
(1) ـ المصدر السابق.
أما القسم الثالث، الدراسات التاريخية والأدبية فأهم ما في عطاء محمد كرد علي، وهي كتب قيمة لا تزال مرجعاً في مواضيعها. وأشهر هذه المؤلفات خطط الشام
…
عمل من أجلها خمساً وعشرين سنة، وأنفق آلاف الليرات الذهبية، وقام بعشرات الأسفار وطالع أكثر من ألف ومائتي مجلد بعدة لغات
…
وأصدر المؤلف في ستة أجزاء بحث فيها تاريخ الشام ونظمه الإسلامية والحضارة المتعاقبة فيه، والدول التي حكمت خلاله والحالة الأدبية والاقتصادية خلال هذه الحقب.
أما الكتاب الثاني في مجال الدراسة التاريخية الأدبية فهو (الإسلام والحضارة العربية) الذي نشره عام 1934 واستوحى مواضيعه من آراء المستشرقين ومؤتمراتهم، أما في كتابه (أمراء البيان) فقد جمع دراسات واسعة عن عشرة من مشاهير أعلام الفكر العربي كعبد الحميد الكاتب وابن المقفع، وسهل بن هارون، وعمرو بن سعدة، وإبراهيم الصولي، وأحمد بن يوسف الكاتب، ومحمد بن عبد الملك الزيات، والجاحظ، والتوحيدي، وابن العميد، وما يزال هذا الكتاب أوسع ما كتب عن هؤلاء الأعلام باللغة العربية.
أما في (كنوز الأجداد)، فقد تحدث عن الأعلام أيضاً، وفيهم سدنة الثقافة الإسلامية، كالأشعري، والأصبهاني، والتنوخي، والغزالي، والحريري وغيرهم، وهم يزيدون عدداً عن الخمسين
…
وكان محمد كرد علي يحب غوطة دمشق كثيراً حتى أنه عاش في قرية منها اسمها (جسرين)، وقد درس أهلها، وعاداتهم، وتقاليدهم وسجل كل شيء عنها.
ثم أرخ لها على منهاج لطيف في كتابه (غوطة دمشق)، الذي كتبه بعاطفة الحب وشوق الورود وإخلاص الشاعر الوفي
…
ونأتي إلى القسم الرابع والأخير ألا وهو تحقيق الكتب، وقد حقق كرد علي عدداً من نفائسها، كـ"رسائل البلغاء" و"سيرة أحمد بن طولون". و"المستجاد من فعلات الأجواد" الذي ضمنه أخبار الكرماء في الجاهلية والإسلام، ثم "تاريخ حكماء الإسلام"، وكتاب "الأشربة" لابن قتيبة الذي يجمع بين الأدب والفقه، وأخيراً كتاب (البيزرة) في الصيد وآلاته والحيوانات وإخراجها وما قيل فيها من الأدب والطرف والشعر اللطيف.
وفي هذا المجال نشير إلى حكاية حول دور الأستاذ الرئيس محمد كرد علي في موضوع تحقيق رحلة "ابن فضلان" وهي من أشهر الرحلات القديمة في التاريخ العربي ويروي الحكاية محقق رسالة الرحلة الدكتور سامي الدهان الذي يقول:
"من المؤسف أن المستشرقين والباحثين الأجانب بدؤوا اهتمامهم بهذه الرحلة وبرسالة صاحبها قبل الباحثين والمحققين العرب، وقد كان للعلامة محمد كرد علي "أول رئيس لأول مجمع عربي" فضل كبير في إصراره على وجوب تحقيق هذه الرسالة بعد أن اطلع في مجلة هنغارية صدرت في بودابست على مقالة لأحد المستشرقين مكتوبة باللغة الألمانية يعلق فيها على ما نشر، أو ترجم من الرحلة، يصحح ما يرى من وجوه التصحيح ويقترح روايات جديدة مشيراً في ذلك إلى نص الرحلة باللغة العربية، وقد أثبته في صور شمسية مع المقال.
ويتابع الدكتور سامي الدهان: كنت أزور الأستاذ الرئيس فاقترح علي تحقيق الرسالة لأهميتها، ولحاجة المثقفين العرب إلى قراءتها وفهمها، واستخراج العبر منها خاصة وأنها تصف بلاد الروس والبلغار والأتراك في القرن العاشر للميلاد، وهذا دليل على الاهتمام الكبير الذي كان يوليه العلامة محمد كرد علي لمثل هذه المواضيع وعلى سعة اطلاعه ومتابعته تراث الأسلاف في أكثر من مكان وأكثر من مصدر وفي جميع ما نقرأ للعلامة الكبير نجد أن محمد كرد علي كان قائداً فكرياً عظيماً بين مفكري القرن العشرين، فهو إمام في الصحافة، وحجة في التحقيق، وعلم في الكتابة والتأليف، ورئيس جليل لأكبر منظمة علمية ثقافية في البلاد.
وفي جميع ما نكتب نجد أنه يبتعد عن تكلف النسج على المنوال التقليدي، وكتبه تشير إلى عزوفه عن الأسلوب المنمق وكتابة السجع، وفي هذا يقول: (
…
وعمدت إلى الكتابة المرسلة بدون تكلف الأسجاع والازدواج) ..
ولأسلوبه صفات أخرى واضحة فهو رقيق من غير تفخيم، سهل من غير تكلف، يحدث صاحبه حديث الراوي والقاص، ويكتب كتابة المحدث، فلا يزاوج بين الجمل، ولا يتكلف الكتابة والاستعارة والسجع والجناس، إنما يرسل نفسه على سجيتها في جمل تطول وتقصر، على أن الصفة الغالبة على مقالات وكتابات الأستاذ كرد علي هي الاستقصاء فهو يسترسل في ذكر المصادر والكتب والمؤلفين وكأنه يستوعب في فكره كل شيء، أو كأنه يريد أن يذكر كل ما يعلم فيتدفق بفيض غزير وعلم كثير، ذلك أنه يندر أن نجد مفكراً عربياً معاصراً طالع ما طالع محمد كرد علي من تراث الأسلاف، حتى يظن الذي يدرس سيرته أن علمه نوع من الإعجاز الذي لا يستطيع أن يؤديه الإنسان العادي.
يخدرون حواسهم بالمورفين تسكيناً للآلام والأوصاب هم أهل العقول الكبيرة وربما كانوا ممن يعجب الناس بمواهبهم العلمية. وثلث المصابين به من الأطباء. وفيهم قادة الجيوش ورجال السياسة. وقد أقيمت مستشفيات في إنكلترا وألمانيا وفرنسا (وأميركا) ليقلع الداخلون إليها عن عادة استعمال هذا المخدر بالوسائط العلمية والعملية.
ومن مفسدات الجنس البشري في هذا القرن التسمم بالكحول فقد زاد صرف المشروبات الروحية في النصف الأخير منه حتى قدر أحدهم خمسة من المائة يموتون في مستشفيات باريس من فعل الكحول. وأوربا سواء في استعمال الخمور اللهم إلا الأقاليم الشمالية الباردة والرطبة منها مثل روسيا والسويد ونروج وبلجيكا فإن شرب الكحول مألوف فيها كل الألفة ويفرط السكان في تناوله وخصوصاً طبقات العملة منهم. فقد أصاب الفرد في فرنسا سنة 1876 أربعة ليترات من الكحول في السنة وأصاب الفرد في ألمانيا خمسة وفي إنكلترا ستة وفي روسيا عشرة إلى اثنتي عشر إلى عشرين لتراً بحسب الولايات والصناعات. ولم يجد فرنسا إكثارها من وضع الضرائب على الكحول إذ لم ينقص شاربوه.
والتسمم بالمسكرات أخف وطأة في البلاد التي تجود فيها الكروم مثل إسبانيا وإيطاليا والبرتغال وجنوبي فرنسا وقلما يصيب الفرد فيها غير لتر واحد أو لترين في السنة. واختلفت بلاد الغرب في وضع قوانين لبيع المشروبات فاكتفى بعضها بالاحتكار وبعضها بضرب الضرائب الفاحشة. ونشأت فيها عدة جمعيات تحض الناس على الامتناع عن المسكرات. وهذه الجمعيات تعظم فائدتها كلما كثرت في كل صقع وناد وساعدتها الإرادة الشخصية. وقد زاد عددها في إنكلترا ونورمنديا وسويسرا والسويد يعرف القائمون بأعبائها بني قومهم بمضار الكحول الطبيعية والأدبية والعقلية. وأن الحكومات لتحسن صنعاً إذا أرادت معلمي المدارس على أن يقرئوا الأطفال شيئاً في قواعد الصحة ويدلوهم على ما تحدثه الكحول من سوء الأثر في الجسم وما ينتج الامتناع عنها من سعادة المرء والأسرة.
تعليم اللغات
إن تعليم اللغات على الطريقة التي جرى عليها الغربيون واقتبسها المشارقة قد تكون نظرية أكثر مما هي عملية فيطول أمرها ويصعب تناولها. ولطالما رأينا من يترجم أشعار شكسبير الإنكليزي أو بوالو الفرنسي وإذا رمته الأقدار في شوارع لندن أو باريس لا يطاوعه لسانه أن يلفظ كلمات يهتدي بها لوجه طريقه. ذلك لأن الطريقة في تعلمه تلك اللغة الأجنبية هي عين الطريقة التي يستخدمها الأوربيون في تعليم الصم والبكم بل عين النهج الذي ينهجه المغاربة في تعليم إحدى اللغات الميتة من لاتينية ويونانية أو إحدى اللغات الحية من إنكليزية وفرنسية وإيطالية وغيرها.
إذ يكون تدريس النحو والصرف والترجمة من الكتب هو العدة في إتقان اللغات ويسهل على المعلم أن يدرس تلميذه على هذا النحو وربما أخذ في تعليمه لغة وهو لا يحسن أن يؤلف بين جملتين صحيحتين في تلك اللغة التي عهد إليه تدريسها ولم يجود التلفظ بها فكان شغله الشاغل تعليم تلامذته أصول التصريف والإعراب والترجمة على حين قد ثبت أن الدارس قد يستظهر قواعد لغة وقوانينها ولا يبرع في اللغة نفسها. وأسقم المذاهب في تعلم لغة أن يتكلم المرء بلغته في خلال تعلمه لغة غيرها.
من أجل هذا قضت الحال أن تكون دراسة قواعد الإعراب والتصريف بعد معرفة اللغة معرفة عملية لا نظرية ولا تفيد الترجمة والنقل إلا إذا توفرت للطالب بادئ بدء معرفة الأساليب في اللغة الغريبة. فعلى من رام أن يتكلم لغة ويكتب فيها أن يفكر في تلك اللغة ويكون شعوره شعور أهلها فيها لا أن يصيغ تراجم وينقل جملاً. فتستدعي الأفكار والانفعالات للحال ما يحتاج إليه الطالب من الألفاظ التي يعبر بها عنها فتصير اللغة التي يتعلمها لغة ثانية له ولا تكون الترجمة من لغته أو إليها إذا دعت الحال حرفاً بحرف بل على طريقة تنقل بها الصورة إلى التعبير عنها. وقلما يسمع المتعلم في معظم المدارس اليوم صدى اللغة التي يتعلمها ويقتضي له أن يربي عليها أذنه وذاكرته ما أمكن. وما أشبه المدرس وهو يشرح للدارس دروسه بلغته الأصلية الابام تود أن تعلم طفلها وهوالكن تمام قواعد الفعل الماضي وتصريف الأفعال الشاذة بدلاً من أن تعنى بتعليمه أن يحسن تلفظ الكلمات الأولى التي يحاول لفظها.
وما فتئ تعلم اللغات يختلف باختلاف الاجتهاد في كل قوم ومعظمه دائر في الغرب منذ
ثلاثين سنة على طريقتين وهما إما أن يقيم المتعلم زمناً في بلد اللغة التي يريد تعلمها أو أن يكون أهل الطفل في سعة من العيش فيتخذون له مؤدباً أو مؤدبة يعلمه اللغة بالعمل بين ظهراني أهله وأسرته. وقد ابتدع الأستاذ برليتز الأميركاني طريقة سهلة لتعليم اللغات جرى عليها بعضهم في أميركا وأوربا فأسفرت عن نجاح أكيد. وطريقته عبارة عن نظر عقلي وعلم عملي وبلفظ آخر نظرٌ في المحسوسات لا المجردات إذ اللغة عبارة عن أصوات محكية لا عن إشارات مكتوبة. والتعليم سماعي أولاً ثم نظري. ولا يعمد في طريقته إلى الترجمة ولا إلى النقل ولا يستخدم فيها الطالب معجماً ولا يستصحب كتاب قواعد يل يتعلم الإنسان القوانين بعد لإكمال المعرفة العملية على نحو ما يتعلم الطفل لغة أبيه وأمه. وليس في تعلم القواعد نفع حقيقي إلا متى عرف المرء اللغة فالقواعد تشرح اللغة شرحاً علمياً فتبحث عن علل يتأتى الاستغناء عنها بادئ بدءٍ وقلما تنفع في تلقين اللغة شأن مصور لا يحتاج إلى إتقان العلوم الطبيعية والكيماوية ليصنع صوراً شمسية بديعة.
ما اللغة في الحقيقة إلا صورة محكية من الحياة فاقتضى في تعلمها أن يسير الإنسان من نفس الحياة لا أن يعمد إلى أشكال من التعبير لا تمس ولا تتحرك. وقلما تتلاءم الألفاظ وصور الأفكار بين لغة وأخرى كل التلاؤم فالبداءة بالترجمة الحرفية من لغة إلى لغة يراد تعلمها إضاعة للوقت وإتعاب للذهن على غير طائل. ومن العسر المتعذر أن يرسم المرء صورتين رسماً خفيفاً على حين لا يضع إحداهما على الأخرى وكذلك الحال في اللغات فقد امتنع أن يحكم وضع لغتين بعضهما على بعض.
واللغة بموجب هذه الأصول الجديدة عبارة عن محادثة دائمة باللغة الغريبة فكل ما يقع نظر التلميذ عليه مباشرة يكون له منه مادة درس وموضوع تعلم. وذلك بتربية الأذن والحواس الصوتية. فيلقن الأستاذ تلميذه حسن اللفظ وسرعة التركيب فيدرس الأفعال الأولى بالأعمال والحركات يقوم ويذهب إلى اللوح الأسود فبكتب ويفتح الباب ويرفع الكتاب ويضعه ثم تعرض على سمعه مشاهد الحياة اليومية فيسهل عليه تأليف جمل صغيرة يتزايد كل يوم عددها بسرعة. فيكون للتلميذ بهذه الطريقة في تأليف الجملة ما يلزمه من أوليات القواعد والروابط. والأمم بأسرها تتعلم لغاتها بالعمل أولاً ثم بالنظر. فيتعلم المتعلم ما تمس حاجته إليه إلى أن يكتب بدون غلط ويتعلم التلميذ أولاً معاني الكلمات الغريبة ثم يلقن التمرينات
العديدة بعد معرفة اللغة معرفة فطرية فمعرفة عقلية. ومن اللازم اللازب الاعتياد على الصور قبل القواعد. ثم يبدأ المعلم بالسؤال فيجيبه المتعلم ولا يزالان ينتقلان من البسيط إلى المركب ومن شرح المفردات إلى تفسير العبارات ويكون كل ذلك باللغة التي يراد إتقانها.
وللفظ في هذه الطريقة المقام الأعلى. ولم يكن يعنى بتقويمه من قبل. والأساتذة الذين يحسنون التلفظ بلغة ما هم ممن تعلموها على الأسلوب الطبيعي في طفوليتهم أو أتقنوها بمقامهم في البلاد التي تتكلم فيها تلك اللغة. وجودة التلفظ هو روح اللغة على التحقيق. ولا تعد العبارة شيئاً مهما بلغت من الضبط متى قبح اللفظ وتجلت الأعجمية فيه عياناً. ومن الهجنة أن التلفظ لا يكاد يصلح إذا فسد لأول أمره. وصعب على الإنسان ما لم يعود.
فالطريقة المشار إليها مغايرة لطريقة الترجمة المألوفة في الأغلب إذ كل معرفة يرشد إليها المتعلم على هذه الصورة لا تحسب ناقصة الجهاز مشوشة الأسلوب. وقلما تجد الألفاظ في لغة ما يقابلها في لغة ثانية ولكل لغة اصطلاحاتها الخاصة بها ليس للترجمة مهما أتقنت أن تنقلها على أصلها إذ التصورات التي تمثلها لغة لا تتحد مع تصورات تمثلها ألفاظ لغة أخرى اتحاداً ذاتياً معنىً ومبنىً. كتب أحد الغرباء إلى فنيلون العالم الفرنسي المشهور إن لي منك يا مولاي أمعاء والد يريد أن يقول قلب والد وقال الفونس الثاني عشر ملك إسبانيا وقد جاء قصره في يوم احتفال: أتود أن تتعب معي نحو النافذة يعني بذلك أن تقترب نحو النافذة.
ولو تعلم ذاك الكاتب وهذا الملك أن يتكلما الفرنسية على طريقة الأستاذ برليتز إذاً لنجيا من هذا الغلط الشائن وكان شأنهما في سهولة التعبير وجودة التصوير شأن أولئك التجار والسوقة ممن ينزلون بلاداً لا يحسنون لغتها فما هو إلا قليل حتى يمرنوا على تكلمها زمناً فيحسنونها ولا إحسان من تعلموها على دكات المدارس وهم يقلبون المعاجم ويتأبطون كتب نحوها وصرفها وبيانها ناقلين ناسخين مستظهرين ناسين. وطريقة برليتز هذه أن يستعمل أولاً اللغة المتعلمة خاصة وأن يتابع التصور في اللغة الغريبة مباشرة بدون وساطة اللغة الأصلية وأن تُعلَّم أسماء الأعيان بقوة الحس وتعلم أسماء المعاني بتتابع التصور ويدرس النحو بالأمثلة والشواهد.
هذا مذهب الأستاذ برليتز في إتقان ملكة اللغات وقد انتقل من نيويورك إلى باريس عام 1889 فأسست في هذه العاصمة أول مدرسة على تلك الطريقة وانتقل هذا المذاهب في تلك السنة إلى إنكلترا وألمانيا فأسست في كل من لندن وبرلين مدارس لهذا الغرض. وما برحت مدارسها تتكاثر في الأصقاع الأوربية حتى كانت في بدء هذه السنة 242 مدرسة في أوربا وحدها وكلها أسفرت عن ارتقاء واقتصاد في الوقت والمال وطريقة القائمين بهذا الأمر أن يكون لكل تلميذ أستاذه الخاص به فيأخذ هذا يعلم تلميذه ما يقع نظره عليه في قاعة الدرس من منضدة وكرسي وكتاب وباب ونافذة يلفظها بلغتها ولا يزال يكررها المتعلم حتى يتقن التلفظ فإذا نفذت المسميات لدى الأستاذ في الغرفة يعمد إلى صور سهلة واضحة رسمت على صفحات مجموعة رسوم فما هو إلا أن يتعلم التلميذ أسماء الأشياء الواقعة تحت حسه مع الألوان التي يمتاز بها كل منها ثم ينتقل إلى صفات الحجم وأفعال الحركات والأعداد. فإذا أنجز درس الأشياء يشرع المعلم في اختيار جمل يكون التلميذ قد عرف أكثر مفرداتها. فلا يمضي ثلاثون درساً إلا وقد عرف التلميذ الأفعال الشائعة في الاستعمال والمفردات التي تدخل غالباً في الأحاديث العامة ويتمكن في ستين درساً من بيان فكره أصح بيان ف يكل ما له علاقة بمجرى الحياة الاجتماعية العادي. ويحسن في اختيار المعلمين أن يكونوا ممن لا يعلمون لغة المتعلم.
ومما يضحك ما وقع لولد أحد كبار المنشئين الفرنسيين وكان يدرس الألمانية على طريقة برليتز قيل أنه لما بلغ به المعلم إلى تمييز الفعل المتعدي من اللازم لم يفهم التلميذ المراد من المتعدي واللازم وأخذ معلمه يشرحهما له بالإشارة تارة والتشبيه طوراً فلم يفلح وكان تلميذه معه كأعجم طمطم لا يفهم ولا يُفهم. وأبى الأستاذ على تلميذه أن يفسر له شيئاً بلغته مع إلحاحه عليه في ذلك وراح الطفل إلى دار أبيه وقد بلغ منه الغيظ وأنشأ يقلب كتاب نحوه يفتش عن الأشكال فاهتدى بنفسه إلى حله وشكا أمره إلى والده فقال له: أي بني لقد أحسن الأستاذ أن أبى عليك شرح ما يريد تعليمك بلغتك ولو قاله لك لغرب عن ذهنك وأصبح لديك بعد زمن نسياً منسياً. أما الآن فإني على ثقة من أنك لا تنسى التفرقة بين الفعل اللازم والمتعدي ولو بعد مائة سنة.
قال الكاتب الذي عربنا عنه هذا المبحث وقد كاد أرباب الأفكار والحصافة يجمعون على أن