المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (19)

- ‌شعبان - 1334ه

- ‌فاتحة السنة التاسعة عشرة للمنار

- ‌التعريف بكتابيمنازل السائرين، ومدارج السالكينوترجمة مؤلفيهما

- ‌أعظم معركة بحريةبين أعظم أساطيل العالم

- ‌رمضان - 1334ه

- ‌العصبية الجنسية التركية

- ‌حكم الصيام

- ‌حال المسلمين الاجتماعية

- ‌المجمع اللغوي المأمول

- ‌جمال باشا السفاك

- ‌الكتب المعزوة إلى غير مصنفيها

- ‌دعوة اللجنة التحضيرية

- ‌مصابنا بالزهراوي والكيلاني

- ‌مسألة الأزياء والعادات

- ‌شوال - 1334ه

- ‌آراء الخواص في المسألة العربية

- ‌السيد عبد الحميد الزهراوي

- ‌البلاغ الإنكليزي الرسميفي شأن العرب والسلطة الإسلامية

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌ذو القعدة - 1334ه

- ‌مناسك الحجأحكامه وحكمه

- ‌العرب والإسلام

- ‌الإسلام والطورانية الحديثة

- ‌منشور شريف مكة وأميرها

- ‌ذو الحجة - 1334ه

- ‌فوائد شتى [*]

- ‌فتاوى المنار

- ‌قصيدة في مدح الرسول

- ‌جمعية آداب اللغة العربيةبلندن

- ‌الأخبار والآراء

- ‌المحرم - 1335ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الزاروهل اعتقاد تأثير الوليوالعِفريت فيه شرك جلي

- ‌بلاد العربوأحوالها منذ الأعصر الخالية

- ‌المنشور الهاشمي الشريف الثاني

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌صفر - 1335ه

- ‌هل البسملة آية من كل سورة أم لا

- ‌مبايعة شريف مكة وأميرهاعلى ملك العرب

- ‌مبايعة وفود الأقطار الحجازية

- ‌احتضار سورية

- ‌متى يذكر الوطن النُّوَّم

- ‌ربيع أول - 1335ه

- ‌ذكرى المولد النبوي [*](2)

- ‌رحلة الحجاز(2)

- ‌المنشور الهاشمي الشريف الثالث

- ‌عاقبة الحربومكانة بريطانية العظمى منها

- ‌الحركة الطورانية الجديدةفي بلاد تركيا [*]

- ‌تأثير الصحافة في أخلاق الأمة

- ‌جمعية النهضة النسائية بمصر

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ربيع الآخر - 1335ه

- ‌ربح صندوق التوفير

- ‌شق صدر النبي صلى الله عليه وسلموتطهير قلبه من حظ الشيطان

- ‌بدع الجمعة والأذانوختم الصلاة والجنازة

- ‌الجمعيات الاتحاديةلتكوين العصبية التركية

- ‌رحلة الحجاز(3)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌جمادى الآخر - 1335ه

- ‌استدارة الزمان والنسيئة في الحج

- ‌ذكرى المولد النبوي [*](3)

- ‌علماء بغداد في القرن السادسومكانتهم في الوعظ والتذكير

- ‌الدكتور شبلي شميل

- ‌عمران بغداد في القرن الثالثوصف دار الخلافة فيها

- ‌خاتمة السنة التاسعة عشرة للمنار

الفصل: ‌شوال - 1334ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة التاسعة عشرة للمنار

بسم الله الرحمن الرحيم

سبحانك اللهم وبحمدك أنت المحمود على كل حال، عالم الغيب والشهادة

الكبير المتعال، قوي المِحال عظيم النوال، تعطي من تشاء ولو بغير سؤال،

وتحوّل ما شئت من حال إلى حال، قوة بعد ضعف، وغنى بعد فقر، وعز بعد ذل

وكل ضد يعقبه ضد، فما رفع الله شيئًا إلا وضعه، ولا وضع شيئًا إلا رفعه، وكل

شيء عنده بمقدار {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ

بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: 11) .

نحمدك اللهم بالغدوّ والآصال، ونصلي ونسلم على محمد خاتم رسلك وآله

وصحبه خير صحب وآل، وعلى من تقدمه وتقدمهم من النبيين والمرسلين، ومن

تأخر عنهم من الصديقين والشهداء والصالحين، واهدنا اللهم صراطهم المستقيم في

الدنيا من الأخلاق والأعمال، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلالٌ} (إبراهيم: 31) .

أما بعد: فإن المنار يذكر قُراءه على رأس عامه التاسع عشر، بأن يعتبروا

بما نزل بأقوى أمم البشر، من آثار عزته تعالى وقوته، ومظاهر عدله وحكمته،

الدالة على أنه هو الذي يغير ولا يتغير، ويبدل ما شاء بما شاء ولا يتبدل وأن

الأمن من مكره غرور ووبال، والقنوط من رحمته كفر وضلال، وأن القوة لا تغلب

الحق، ولكنه قد تكون بالحق وللحق ومن الحق، وأن الحق ليس بمجرد دعوى

اللسان، ولا مجرد ما يجري عليه الناس من عرف واصطلاح، فحقق الملك وسياسة

العباد، لا يجب أن يورث عن الآباء والأجداد، وإنما أحق الناس بأمر الناس، من

كان أنفعهم للناس، وإقامة سنن الله تعالى في الاجتماع {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ

أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ

زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا

مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَال} (الرعد: 17) .

ثم يذكرهم على عادته بما طرأ على سير الإصلاح، بعد أن خفتت أصوات

المعارضة في جميع الأقطار، وهو شيء حدث في هذه الديار، ذلك بأن فيها

كغيرها أناسًا اغتروا بمظاهر القوة المادية، فاحتقروا قوى العقائد والفضائل

الروحية، وفتنوا بتقليد الأقوياء بما هو من آفات القوة ومفاسدها، لا من أسبابها ولا

من محامدها، كالسرف في الزينة والترف، والانغماس في الشهوات واللذات،

وأعجب أمرهم أن منهم من يدعون الدعوى إلى الإصلاح، والصعود بالضعفاء إلى

مستوى الأقوياء، أولئك هم الملاحدة المتفرنجون، الذين يفسدون في الأرض ولا

يصلحون، وإنما حجتهم على عامة المسلمين، سوء حال كثير من المعممين،

وتذللهم للأمراء والحاكمين، وذمهم بعصبية الدين، وإن لهؤلاء الملاحدة لقوة من

غيرهم لا من أنفسهم ولكنهم يعتزون بها، وإن منهم من يكيد للمؤمنين مكايد لا

يفطنون لها، وإن للمؤمنين لقوة ذاتية ولكنهم غافلون عنها، وإنما بقاء الباطل في

غفلة الحق عنه، فإذا قذف عليه دمغه، وإن بقاء الباطل لإلى زوال {وَمَا كَيْدُ

الكَافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلالٍ} (غافر: 25) .

قد كان ملاحدة قطرنا هذا أجبن ملاحدة المسلمين وأخوفهم من إظهار الكفر،

على كونهم أجرأهم على الجهر بالفسق، ثم تجرأ أفراد منهم منذ سنين على

التصريح به أو ببعض لوازمه في الجرائد، بعد طول العهد على تصريح الكثيرين

بذلك في المجالس، ومنهم من ألف كتبًا أو رسائل في ذلك؛ ثم بلغنا في العام

الماضي أنهم ألفوا جمعية لأجل التعاون على تشكيك الناس في الإسلام وجذبهم إلى

الإلحاد، والطعن في عقائد الدين وآدابه وأحكامه ولا سيما الآداب والأحكام الخاصة

بالنساء. وأنشئوا لهم صحيفة لدسّ الدسائس، وبث الوساوس، وتوجيه العناية فيها

إلى نابتة المدارس، وبناء دعوتهم على قاعدة التشويه للقديم والصد عنه، والتنويه

بالجديد والترغيب فيه، وإن لهم لأنصارًا في القصور والدواوين، وفي المدارس

وأكبر معاهد الدين، وقد استفادوا من تقييد حرية المطبوعات بسبب الحرب، ما

كفوا به أقلام من تصدّى لإحباط بعض دسائسهم من أهل الحق، وإنهم ليختلبون

ألباب المختبلين من الشبان والشابات، بما ينمقون من زخرف الشبهات {وَمِنَ

النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ

* وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ

الفَسَادَ} (البقرة: 204-205) .

فبهذا قد وجب على أهل الإصلاح أخذ الأهبة لجهاد جديد، هو أشد من جهاد

أصحاب الخرافات والتقاليد، فإن أصحاب الخرافات عزل وهؤلاء الملاحدة

مسلحون، وأولئك ضعفاء متفرقون، وهؤلاء أقوياء مجتمعون، وأولئك غافلون

متواكلون، وهؤلاء أيقاظ حذرون، فإذا جاهد أهل الإصلاح أباطيلهم بمثل ما

يجاهدون به الحق، من الاجتماع والتعاون والحزم، كانوا حزب الله الغالبين

{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) ، {إِنَّا

لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ

الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (غافر: 51-52) .

إن هؤلاء الملاحدة لا يخافون من الأزهر وما يَتْبعه من المعاهد الدينية ما

داموا يدّعون الإسلام بألسنتهم، بل لا يعدمون هنالك أولياء وأنصارًا لهم، لما بين

نفاق الاعتقاد ونفاق الأعمال، من رابطة التناسب والاتصال، ويقال: إن لجمعية

الإلحاد الجديدة ركنًا في الأزهر ركينًا، وإنهم بذلك أوشكوا أن يحدثوا فيه حدثًا مبينًا

ولكنهم لم يصيبوا به إلا خذلانًا وفشلاً مهينًا، ولأن كلاً منهما يؤثر المنافع الخاصة

ويتوسل إليها بما في يده من المصالح العامة؛ ولأن أكثر الأزهريين، لا يعنون

بالنظر في مكتوبات المتفرنجين، وما كل من ينظر فيها، يفهم المراد منها، وما

كل من يفهم أن فيها طعنًا على الدين يهتم بالدفاع عنه، وما كل من يهتم منهم بذلك

يقدر عليه، وما كل من يقدر عليه يقوم به. لأجل ذلك كله لا يحسب هؤلاء

الملاحدة للأزهريين حسابًا، وقد يكذّب الأزهر ظنهم فيه كِذابًا، وإنما يخافون من

رجال الإصلاح سواء كانوا من الأزهر أو من غير الأزهر؛ لأنهم أقدر الناس على

إظهار عوارهم، وتقليم أظفارهم، ولأن كل ما يزعمونه ويتقربون به إلى الأمة من

السعي إلى ترقيتها وتمدينها، قد سبقهم إليه طلاب الإصلاح الإسلامي مع المحافظة

على مقوّمات الأمة ومشخصاتها، وإنما أركانها الدين واللغة والعادات والأزياء،

وهم يحاولون هدم ذلك كله بلا استثناء.

واضرب لهم مثلاً ما قاله أحد الظرفاء مفاكها للأستاذ الإمام - وهو في مرض

موته - قال: إن طريقتك في تفسير القرآن قد أضرت الأمة أعظم الضرر! قال

الأستاذ لماذا؟ قال: لأنها أبانت للناس أن الدين موافق للعقل والعلم وركن من

أركان المدنية، فتعذر علينا ما كنا نحاول من هدمه بدعوى أنه عقبة في سبيل

ترقينا في دنيانا. فمن هذه الجملة التي عبر قائلها عن خدمة الأستاذ الإمام العليا

للدين وللمسلمين، ينجلي لنا رأي هؤلاء الملاحدة في الإصلاح والمصلحين {يُثَبِّتُ

اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ

وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: 27) .

من أجل هذا كانت مدرسة الدعوة والإرشاد قذًى في أعينهم، وشجًى في

حلوقهم، وطخًا على قلوبهم، وما زالوا يكيدون لها، حتى حالوا دون أعظم إعانة

كانت تنتظرها، وقد كان أشدهم سعيًا وسعاية، أشدهم استهزاء بالدين وزراية،

ذلك الذي كلما عنّ مطعن يلوي عنقه ويهز أكتافه، ويُنغض رأسه ويثني أعطافه،

ويتبسم ساخرًا، أو يُغرب ضاحكًا - ذلك الذي يعلم رئيسه الآن، أنه يأكل لحم

الخنزير جهرًا في نهار رمضان، ولو زدنا في وصفه لعرفه كثير من الناس، وإنما

الغرض بيان الصفات والأعمال، وعلى هذه الشاكلة كل أولئك الصّلال، الذين لم

يرضوا بسكوت المسلمين لهم على الضلال، حتى تصدوا للعدوان والصيال،

{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ} (إبراهيم: 46) .

فهم على ما هم، {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ

القَوْلِ} (محمد: 30) وفيما يوجهون إليه القوة والحول، فمنهم من يحاول هدم

الإسلام، بالدعوة إلى استبدال لغة العوام بلغة القرآن، ومنهم من يبتغي التشكيك فيه

بنشر آراء الماديين، من القدماء والأوربيين، ومنهم من يصد عن مَحَجَّته،

بتفضيل ما عرفوا من القوانين على ما جهلوا من شريعته، ومنهم من ينفر عما

حُرِمَه من آدابه الروحية والاجتماعية، تلذذا بما حرَّمه من الشهوات الضارة

والعادات البهيمية، ومنهم من هم أقصر من هؤلاء نظرًا، وأظلم بصيرة وأفسد ذوقًا،

وهم الذين يحتقرون مشخصات أمتهم (كالجبة والعمامة) ويهزءون بها،

ويرغبون في الاستعاضة بالأزياء الغربية عنها، ويتوهمون أنهم قد عرجوا بذلك

إلى مستوى من فلسفة الذوق والجمال، لا يعرفه إلا من حلق في جو الخيال إلى

أوج الكمال، كمخترعات الأزياء الجديدة (المُودَه) من ربات الغنج والدلال، ولو

عقلوا ما تجره هذه الفلسفة النسائية أو الصبيانية من الخزي والنكال، أو قرءوا

وفهموا ما قاله الدكتور سنوك الهولندي في خطبته في مستقبل الإسلام، لودوا لو

كانوا من ربات الحِجال، راجعين عن مذهب السفور ومخالطة نسائهم للرجال،

وإنما يلوذ هؤلاء وأولئك بخلابة المقال {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ

مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (البقرة: 212) .

وجملة القول أننا بعد أن فرحنا بنصر الله - تعالى - لحزب الإصلاح على

المبتدعة والدجالين ، قد ابتلينا بتكوين حزب للملاحدة المارقين، يواليه أفراد من

أغرار الشبان وكهول المنافقين، فإذا ترك هؤلاء وشأنهم، وسكت لهم أهل الحق

على ما ينفثون من سموم أباطيلهم تعظم جرأتهم، وتنتشر دعوتهم، وتكبر فتنهم،

وليس الاستظهار عليهم بالأمر العسير، فإن حجتهم داحضة، وغواياتهم متناقضة،

وغاياتهم متعارضة، يخافون الردة الصريحة، أن تحرمهم احترام الأمة وبعض

مناصب الحكومة، فالجريء منهم على التصريح بالكفر على رءوس الأشهاد قليل،

وإنما يصرحون غالبًا بما يظنون أنه يحتمل التأويل، كزعمهم أن النبي عليه الصلاة

والسلام، أقرَّ العرب على بعض عباداتهم الوثنية؛ لأجل استمالتهم كما فعل بعض

البابوات، وهذان من أقبح البهتان، فإن ما أقره الإسلام من مناسك الحج كان من

شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو الذي بنى بمساعدة ولده إسماعيل

البيت العتيق، وطهره للطائفين والعاكفين والركع السجود، وأذنَ في الناس بالحج

فلبوه من كل فج عميق ومن دعائه عليه الصلاة والسلام، {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ

آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} (إبراهيم: 35) .

هذا وإن سواد المصريين الأعظم يغار على دينه، ويذب عنه بشماله ويمينه

حتى إن أكثر المتعلمين في المدارس المتفرنجة والإفرنجية، ليتعصبون له عصبية

سياسية اجتماعية، لا يشعر بمثلها المتعلمون في المعاهد الدينية، فهم يمقتون من

يجعل نفسه داعية للكفر، ويلفظونه كما تلفظ النخامة من الفم، ويعلمون أن ما

يتوخاه هؤلاء من نباهة الذكر عند الأوربيين، والتشبه بمن ناهضوا الكنيسة

ورجال الدين، ليس بالغرض الصحيح الذي يعذرون فيه، ولا العمل المفيد للدنيا

فيساعدهم من لا يؤمن بالآخرة عليه، فهم لا يجدون في الإسلام، ولا في رؤسائه

تلك الأسباب التي حملت بعض كُتاب أوربا وجمعياتها السياسية على مجاهدة

الكنيسة ورجالها والطعن في نفس النصرانية، فالإسلام نفسه أرشد البشر إلى العلوم

العقلية والكونية، وأوجب الفنون والصناعات المدنية، وأخرج البشر من رق

رؤساء الدين والدنيا إلى فضاء الحرية، وأما رجال الدين الرسميين في مصر فلا

مجال لاتهامهم بعصبية دينية، ولا بمقاومة الحرية العلمية ولا العملية، أنَّى وشيخ

الأزهر ومفتي الديار المصرية، وشيخ مشايخ طرق الصوفية، قد اشتركوا في جمع

الإعانة لجمعية الصليب الأحمر، حتى فرضها الأول على جميع أصحاب الرواتب

في الجامع الأزهر، وحضروا ما كانوا يتحامون من المحافل، في معاهد التمثيل

والفنادق؟ وقد حضر المفتي حفلة الصلاة على روح لورد كتشنر في هذه الأيام،

كما حضر الصلاة على روح بطرس باشا منذ أعوام، فلم يبق لهؤلاء الملاحدة ما

ينقمونه من هؤلاء العلماء، إلا عدم مشايعتهم إياهم على السفور ومخالطة النساء،

ولعلهم لا يرضونه منهم إلا أن يغيروا هذه الأزياء {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ

هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَاّ

رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ المِيعَادَ} (آل عمران: 8-9) .

...

...

منشئ المنار ومحرره

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

السنة وصحتها والشريعة ومتانتها

رد على دعاة النصرانية بمصر

تمهيد: في بيان حالنا مع المبشرين:

لا يزال دعاة النصرانية (المبشرون) يطعنون على الإسلام بما ينشرون

من الرسائل والمقالات، وإنني أتعمد ترك قراءة ما يصل إلي من مجلاتهم

ورسائلهم حتى لا أفتح على نفسي باب الرد عليهم، إذ رد الشبهات الموجهة إلى

الإسلام إنما يجب على من علمه وجوبًا كفائيًا، وقد كنت أكره الرد عليهم لولا ذلك،

وإن كانوا يظنون أنه من مقاصد المنار ومشروع الدعوة والإرشاد الذي أكبروا أمره،

على أنه لم ينلهم منه أذًى بقول ولا فعل، وجميع الطلبة في دار الدعوة والإرشاد

من قسم المرشدين الذين يعدون لإرشاد العوام لمقاومة الشرور والمعاصي الفاشية

فيهم، فقد كثرت في هذه البلاد جناياتهم في الأنفس والأموال والزروع، وفشا

فيهم السكر والقمار والفحش.

نعم: إن من مقاصد المنار، رد الشبهات عن الإسلام مقاومة للشك والتشكيك

فيه، وإنما أكره الجدل، وأكره تعمد مناقشتهم أو فتح بابها عليّ؛ لأنهم هم الذين

يتعرضون لها وينتفعون بها، وما أكثرت من محاجة أهل الكتاب في سنتي المنار

الأخيرتين إلا في التفسير؛ إذ اتفق بلوغي فيه إلى سورتي النساء والمائدة

المدنيتين، وأكثر ما في القرآن من محاجة أهل الكتاب في هاتين السورتين وأقله

فيما قبلهما. على أن فيه أيضًا ما أوجبه الإسلام من إنصافهم والعدل فيهم، وبيان

مودة النصارى منهم. وقد انتهينا من ذلك، ووصلنا إلى تفسير السور المكية التي

خوطب بها المشركون وقلما يذكر فيها أهل الكتاب إلا في سياق بيان سنة الله تعالى

في الرسل وأممهم.

لهذا كنا نظن أن باب محاجة أهل الكتاب يكون مقفلاً في المنار إلى ما شاء

الله، ولكن مجلة المبشرين العربية (الشرق والغرب) نشرت في العدد الذي صدر

منها في أول الشهر الماضي (أبريل) مقالة عنوانها (السنة وصحتها) طعنت فيها

على السنة النبوية، وزعمت أن طعنها يوجب الريب في الشريعة، وترك العمل

بها، وأنها لا قيمة لها في نفسها، وقد جاءتنا المجلة فلم نفتحها، ثم علمنا بتلك

المقالة فلم نقرأها، ثم رأينا لهذه المقالة تأثيرًا سيئًا في المسلمين حتى إن منهم من

نقلها عن المجلة وطبع كثيرًا من نسخها بمطبعة الجلاتين، ووزعت على الناس،

ووصلت إلينا نسخة منها، واقترح علينا كثيرون أن نرد عليها فوجب شرعًا إجابة

طلبهم.

ومما أكد وجوب الرد ما رأيناه في المقالة من مطالبة ثلاث مئة مليون من أهل

السّنّة بالجواب عنها! فلا ندع لهم مجالاً أن يقولوا للمسلمين: إنه لم يستطع أحد من

علمائكم أن يدافع عن سننكم وشريعتكم، ولا يرد شيئًا من حججنا عليها!

فها نحن أولاء نرد عليهم ردًّا يعلمون ويعلم الناس به أنهم لم يتحروا الأمانة فيما

نقلوا من كتبنا، ولم يفهموا ما قرءوا منها وما نقلوا عنها، وأن طعنهم في أبي

هريرة رضي الله عنه خطأ، وأنه لو صح لم يترتب عليه بطلان الثقة بالسنة،

ولا ما رتبوه على ذلك من عدم وجوب طاعة الشريعة، وإنما قصاراه أنهم افتحروا

دعاوى نسبوها إلى الإسلام، وردوا عليها بما لا يصلح أن يكون ردًّا.

وقد رأينا أن ننقل كلامهم برمته على ما فيه من الركاكة واللغو والضعف،

وإطلاق بعض الكلم على غير المعاني التي نطلقها عليها، ولكن لا نناقشهم في شيء

من الألفاظ لذاتها، ولا في العبارة من حيث ضعفها، بل في المسائل والمعاني، وقد

كان الغرض الأول من نقل عبارتهم بنصها، وعدم تلخيص مسائلها والرد عليها،

أن لا يتوهم أحد منهم أو من غيرهم أننا تصرفنا في التلخيص تصرفًا يخل بالمعنى

المراد، أو حذفنا منه ما لا يمكن ردّه بنقض ولا انتقاد، واستتبع ذلك بيان أن القوم

لا يوثق بنقلهم ولا بفهمهم.

ومن المعلوم بالضرورة أنهم ليسوا كالفلاسفة، الذين يبحثون في المسائل؛

لأجل استبانة الحق في ذاته، وإنما يتحرون بالبحث ما يرون فيه سبيلاً للطعن

والاعتراض، ومجالاً للتشكيك وإثارة الشبهات، كما يعلم مما يأتي.

***

الجملة الأولى من مقدمة الطاعن

افتتح طاعنهم مقالته بجملة تتضمن عدة دعاوى هذا نصها:

(إن صحة الشريعة قضية لا بد لكل مسلم سني من التسليم بها وذلك متوقف

على صحة السنة، فإذا ارتاب أحد في صحة السنة، فليس ثمة داعٍ منطقي يوجب

إطاعة الشريعة؛ لأن جانبًا قليلاً منها فقط يتوقف على القرآن، والجانب الأكبر

يتوقف على السنة التي اجتمعت في الأحاديث. فإذا ثبت الريب في هذه الأحاديث

تزعزعت أركان الشريعة وأركان تابعيها من حنفيّ ومالكيّ وشافعيّ وحنبليّ.

وعددهم لا يقل عن ثلاث مئة مليون من الأتباع) .

نلخص هذه الجملة من كلامه في ثلاث قضايا ونبين ما فيها.

***

القضية الأولى

(زعمه إذا ارتاب أحد في السنة ينتفي وجوب طاعة الشريعة)

هذه القضية بديهيّة البطلان، فإن الإطلاق في جزاء الشرط يدل على أن

المراد من القضية الشرطية أن ارتياب فرد من الأفراد في صحة السنة، يستلزم

انتفاء وجوب اتباع الشريعة على جميع الأفراد، وإنما المعقول الموافق للمنطق أن

ارتياب الفرد أو ظنه أو علمه، يترتب عليه ما يستلزمه في حق نفسه، ولا يكون

ذلك مؤثرًا في غيره ممن لم يرتب ارتيابه أو لم يعلم علمه، وكذلك ارتياب الأفراد

الكثيرين.

وقد ارتاب بعض علماء أوربة الأحرار في وجود المسيح عليه السلام،

وزعموا أنه شخص خيالي - أو متخيل - لم يوجد، كما زعم بعض المؤرخين مثل

ذلك في هوميروس شاعر أساطير اليونان، فهل استلزم ارتياب أولئك المرتابين فيه

انتفاء إيمان مئات الملايين من المسلمين والنصارى وغيرهم بوجوده عليه السلام.

***

القضية الثانية

(زعمه أن أكثر الشريعة يتوقف على الأحاديث)

هذه القضية غير مسلَّمة، فإن الشريعة عندنا تشمل العقائد والعبرة فيها بالدلالة

القطعية، وجميع العقائد التي تتوقف عليها صحة الإسلام ثابتة بنصوص القرآن

وإجماع المسلمين، وإثبات الألوهية والنبوة منها مؤيد بالبراهين العقلية، ولا يوجد

شيء منها يتوقف على أحاديث الآحاد التي يمكن الارتياب في بعضها، وكذلك

أصول العبادات كلها قطعية، ثابتة بالقرآن والسنة العملية المتواترة التي لا تتوقف

على أحاديث الآحاد.

وما ثبت من أحكام العبادات بأحاديث الآحاد ولم يجمع عليه أئمة العلم فلا

تتوقف عليه صحة الإسلام، وإن كان صحيحًا في نفسه، وإنما هو مزيد كمال في

علم السنة، أما أحكام الشرع في المعاملات، فأكثرها مأخوذ من القواعد والأصول

وكذا الفروع الواردة في القرآن، إما بالنص وإما بدلالة النص وفحواه، ومن القياس

الذي توسع فيه بعضهم كالحنفيّة فالشافعيّة، والمصالح العامة التي توسع فيها المالكيّة

والحنابلة. وأقلها من حديث الآحاد.

وما بقي من أركان الشريعة بعد العقائد والأحكام العملية إلا الأخلاق والآداب،

وجميع ما ورد في الأحاديث من الحكم والفضائل والآداب فهو مستمد من القرآن

الحكيم وشرح له، بل السنة كلها بيان للقرآن لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ

لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة

رضي الله عنها أنها وصفت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بقولها: كان

خلقه القرآن.

وقد اختلف العلماء في أحكام السنة التي لا تستند إلى نص من القرآن فقيل:

إنها بوحي من الله - تعالى -، وإن الوحي لا ينحصر في القرآن، ولكن للقرآن

مزايا ليست لغيره من وحي الله إلى خاتم رسله ولا إلى الرسل قبله، أعظمها

إعجازه والتعبد بتلاوته. وقيل: إن الله - تعالى - أذن لرسوله بأن يحكم، ويشرع

برأيه واجتهاده.

ومن تأمل كثيرًا من الأحكام التي استدلوا عليها بالسنة وحدها، يرى لها مآخذ

من القرآن، كتحريم الجمع بين المرأة وبين عمتها أو خالتها إلى الزواج، وكتحريم

الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وقد بيّنا ذلك في المنار، كما بينا تفاوت

الأفهام في الغوص على دول القرآن، وأين أفهام الناس كلهم فيه من فهمه - عليه

الصلاة والسلام -؟ وقد ثبت مع ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يقضي في

المسائل السياسية والإدارية باجتهاده، ويستشير فيها أصحابه.

***

القضية الثالثة

(زعمه أنه إذا ثبت الريب في الأحاديث تزلزلت أركان الشريعة)

هذه القضية غير مسلَّمة أيضًا، وفيها إجمال وإيهام، فإذا أراد بثبوت الريب

في الأحاديث ما أفادته جملته الأولى من ارتياب بعض الأفراد، ولو واحدًا فقد بينا

أن هذا لا يترتب عليه إلا ما يستلزمه الارتياب في نفس المرتاب وحده، وإذا أراد

ارتياب جميع الناس أو جميع المسلمين في جميع الأحاديث، فهذا ما وقع، ولن يقع

ولا يعقل أن يقع، وسنشرح ذلك على وضوحه في نفسه، فإن فرضنا جدلاً أنه يقع

فإنما يترتب عليه حينئذ الاكتفاء في الدين بما في القرآن والسنة العملية المنقولة

بعمل مئات الألوف وألوف الألوف منذ العصر الأول، ككيفية الصلاة والصيام

والحج وغير ذلك، وبما ثبت بالإجماع والقياس الصحيح، ولا ينقص من كتب

الشريعة حينئذ إلا الأحكام والحكم التي ثبتت بأحاديث الآحاد وحدها كما بيناه في

الكلام على القضية الثانية.

وبهذا وذاك يظهر لك بطلان قوله: (تزعزعت أركان الشريعة وأركان

تابعيها) ، فإن أراد بأركان الشريعة أصول العقائد وقضايا الإيمان التي يكون بها

المرء مؤمنًا، فقد علمت أنه لا يتوقف شيء منها على أحاديث الآحاد، وإن أراد

أركان الإسلام الخمسة فكذلك، فإن معرفة هذه الأركان لا تتوقف على ثبوت

الأحاديث الواردة فيها، فإنها مُجمع عليها معلومة من الدين بالضرورة، سواء صح

ما ورد فيها من الحديث أم لم يصح، على أنه صحيح، ولله الحمد، وإن أراد

بأركان الشريعة أو أركان تابعيها أصولها المستمدة منها عند الأئمة الأربعة فقوله

أظهر بطلانًا، فإن هذه الأركان أربعة -الكتاب والسنة والإجماع والقياس-، وما

ألحق بها عند بعضهم كالمصالح والاستحسان، فالأحاديث جزء من السنة التي هي

ركن من الأركان، فالارتياب في هذا الجزء لا يوجب الارتياب في الجزء الآخر

منها، وهو ما ثبت بالتواتر عملاً أو قولاً، فكيف يوجب الارتياب في القرآن وكله

متواتر، وفي الإجماع والقياس؟

قلنا: إن ارتياب جميع الناس أن جميع المسلمين في جميع أحاديث الآحاد ما

وقع، ولن يقع ولا يعقل أن يقع، وبيان ذلك أن المعهود من البشر في كل زمان

ومكان أن يصدقوا خبر كل مخبر؛ لأن الأصل الغالب في أخبار الناس الصدق،

إلا إذا وجدت علة في الخبر أو المخبر تقتضي الارتياب، كأن يكون الخبر غير

معقول أو يكون المُخبِر معروفًا بالكذب. على أننا نرى الناس يصدقون أكثر أخبار

الجرائد السياسية والشركات البرقية على كثرة ما عرفوا من كذبهما، واعتقادهم أن

لأصحابهما أهواء سياسية يحاولون تأييدها بالحق وبالباطل.

فإذا كان هذا شأن البشر في أمثال هذه الأخبار التي تحوم حولها الشبهات في

أنفسها، وفي سيرة رواتها، فكيف يعقل أن يرتابوا في صحة جميع الأحاديث التي

صححها حفاظ المحدّثين بعد نقد متونها، وإقامة ميزان الجرح والتعديل لكل فرد من

أفراد رواتها، وقد علم أنهم لا يقبلون في الاحتجاج حديثًا منقطع الإسناد، ولا حديثًا

في رواته مجهول، أو أحد ثبت عليه الكذب أو سوء الحفظ أو النسيان أو مخالفة

الثقات الأثبات في روايته؟

ها أنتم أولاء تصدقون أخبار أناجيلكم الأربعة وغيرها من كتبكم، وليس

عندكم سند متصل لشيء منها، وقد اختلف علماؤكم ومؤرخوكم في كُتّابها، وفي

اللغات التي كتبت بها، وفي التواريخ التي كتبت فيها، فلم يتوفر لكم فيها شيء من

النقد والتمحيص الذي توفر لنا في نقل الحديث، أفتعقلون مع هذا، أن نرتاب في

تصديق جميع الأحاديث التي نقلت لنا بدقة، لم يعهد لها البشر نظيرًا في تاريخهم

القديم ولا الحديث، وأنتم ترون أنفسكم، وسائر البشر يصدقون أكبر ما يروى لهم

بلا سند ولا بحث في رواته، بل كثيرًا ما يصدقون أخبار من ثبت عليهم الكذب

مرارًا، كرواة البرقيات والجرائد؟

***

الجملة الثانية من كلام الطاعن

قال: (وسنثبت في الفصول التالية أن من السهل إثبات الشبهات الملقاة على

تلك الأحاديث. ونحن مثبتون في هذا الفصل وهن الاعتماد على بعض الصحابة

التي تتوقف مئات من الأحاديث على شهادتهم حتى قامت عليها الشريعة، ومنها

نشأت السنة، على أن البخاري الذي اشتهر بنقد رجال الحديث، لم يخطر له أن

يرتاب في صدق الصحابة؛ لأنهم كانوا في نظره معصومين من الكذب، وهذا يدلك

على ضعف حجته، فقد ثبت بوجه لا يقبل الشك أن أبا هريرة وابن عباس لم

يكونا مُمَحِّصيْن في رواية الأحاديث.

وغرضنا الآن أن نبين أن الريب في أحاديث أبي هريرة تسرب إلى نفوس

معاصريه ونفوس الذين جاءوا بعده، ومع ذلك فقد نقل عنه البخاري الأحاديث

بالمئات، فتداولتها ألسنة المجتهدين الذين أسسوا المذاهب الأربعة، وبنوا عليها

نظامهم الشرعيّ) .

أقول: نلخص هذه الجملة في قضايا تابعة في العدد لما تقدم، ونبين ما فيها

من الخطإ والأباطيل.

***

القضية الرابعة

(زعمه وهن الاعتماد على رواة المئات الأحاديث من الصحابة كأبي هريرة)

هذه القضية باطلة، فإنها توهم القارئ أن الكاتب يثبت في هذا الفصل مطاعن

في عدالة عدة من الصحابة الذي رووا المئات الكثيرة من الأحاديث حتى إذا ما قرأ

الفصل كله لم يجد فيه إلا روايات في واحد منهم، وهو أبو هريرة - رضي الله

عنه - ويرى أن هذه الروايات لا تسقط عدالته كما نبسطه في هذا المقال. وهذا

مما يؤيد قولنا: إن هؤلاء الناس يكتبون ما لا يفهمون؛ لأنهم اعتادوا الجرأة على

إلقاء المطاعن من غير تفكير ولا روية، فهم ينقضون ما يبنون ولا يشعرون.

***

القضية الخامسة

زعمه أن البخاري

لم يخطر بباله الارتياب في صدق الصحابة لاعتقاده عصمتهم

هذه القضية باطلة أيضًا لأنها حكم بعموم السلب، على شيء يتعلق بالقلب لا

يعلمه إلا الرب، فإن مثل هذا الكاتب لا يناقش في مثل هذا التعبير؛ لأنه لا يفرق

بينه وبين القول بأن البخاري لا يتهم أحدًا من رواة الصحابة بالكذب، ولا بغيره من

العلل القادحة في الرواية، وإنما نريد بيان بطلان زعمه أن البخاري كان يرى أن

رواة الصحابة معصومون.

والصواب أنه كان يرى ويقول: إنهم عدول صادقون ولا معصومون، وما

قال هذا القول هو وغيره من نقاد المحدثين إلا بعد تتبع تاريخهم، كغيرهم من

الرواة، وقد نقل عنه الطاعن ما أراد أن يسقط به عدالة أبي هريرة، وشيئًا من

تمحيصه لما يرويه، فالبخاري كان أعلم من الطاعن بكل ما قيل في أبي هريرة،

وبما رواه أبو هريرة، ولم يره مُسقطًا لعدالته، ولو رآه مسقطًا لها لما روى عنه

في صحيحه.

وقد كان البخاري من أئمة أهل السنة الذين لا يقولون بأن أحدًا من البشر

معصوم من الكذب إلا الأنبياء عليهم السلام، وصدق الرواية لا يتوقف على

العصمة، وإلا لما قبل أحد من البشر قول أحد بعد تبليغ أنبيائهم الوحي، وإنما

يكتفى في تصديق الرواية العلم بعدالة الراوي، وجوده حفظه وضبطه لما يرويه،

ولم ينقل عن أحد من مؤرخي البشر، ونقلة الأخبار مثلما نقل عن البخاري من شدة

التحري في كتابه الجامع الصحيح، فليأتنا هذا الطاعن بمثله أو بما يقرب منهم من

علمائهم، كيف، وكتبهم المقدسة تنسب الكذب وغيره من كبائر المعاصي إلى

الأنبياء - برأهم الله تعالى، وصلى الله عليهم وسلم -؟

وهؤلاء المبشرون وأهل نحلتهم لا يقولون بعصمة الأنبياء، دع عصمة ناقلي

كتبهم بغير أسانيد متصلة، ولكنهم يقبلون ما عزي إليهم، وسنشير إلى المقابلة بين

رجالنا ورجالهم في هذا المقال، ولا حاجة إلى تفنيد قوله بضعف حجة البخاري،

الذي بناه على زعمه أن البخاري، يعتقد عصمة الصحابة، فهو ساقط في نفسه،

وأضعف منه وأسقط ما بناه عليه.

***

القضية السادسة

(زعمه أن الأئمة الأربعة أسسوا مذاهبهم

على ما رواه البخاري عن أبي هريرة)

هذه القضية الباطلة، تدل على مبلغ علم المبشرين الناشرين لهذا المقال،

وعلى درجة تحريهم وصدقهم فيما يقولون وينقلون.

الحافظ البخاري متأخر عن الأئمة الأربعة، أدرك رابعهم الإمام أحمد بن

حنبل وتلقى الحديث عنه. وقد جاء في تهذيب التهذيب عن العقيليّ أن البخاريّ لما

ألف كتابه الصحيح عرضه على علي بن المَدينيّ ويحيي بن مَعين وأحمد بن حنبل

(وكلهم من كبار شيوخه) وغيرهم، فامتحنوه، وكلهم قال: كتابك صحيح إلا

أربعة أحاديث. قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة.

والشاهد في هذا النقل أن البخاري أخذ عمن أدرك من الأئمة الأربعة، ولم

يأخذ أحد منهم عنه شيئًا، ولم يكن أحد من المجتهدين يقلد أحدًا في رواية ولا دراية

وإنما يأخذ كل منهم بما صح عنده من الرواية.

ولد الإمام أبو حنيفة سنة 80 وتوفي سنة 150 وولد الإمام مالك سنة 93

وتوفي سنة 179 وولد الإمام الشافعيّ سنة 150 وتوفي سنة 204 وولد الإمام أحمد

162 وتوفي 241 وولد الإمام محمد بن إسماعيل البخاري سنة 194 وتوفي سنة

256 وقد رحل من بلاده لطلب العلم سنة 210 أي: بعد وفاة الإمام الشافعيّ ببضع

سنين وبعد وفاة مالك بإحدى وثلاثين سنة، وبعد وفاة أبي حنيفة بستين سنة.

فكيف أجاز لهذا الطاعن في السنة والشريعة، دينه وعقله أن يقول: إن

الأئمة الأربعة أخذوا عن البخاري ما رواه من الأحاديث عن أبي هريرة، وبنوا

عليه نظامهم الشرعي؟ وكيف توهم أنه جاء بعلوم وحقائق، تزعزع هذه الشريعة

التي هي أثبت من الجبال الرواسي؟ أبمثل هذه الدعاوى المخترعة تهدم الحقائق

الثابتة؟

***

الجملة الثالثة من كلام الطاعن

الشبهات في أبي هريرة

الشبهة الأولى

(1)

قال الطاعن: الارتياب العام في أبي هريرة (بشهادة نفسه) حدثنا

عبد العزيز بن عبد الله

عن أبي هريرة قال: (إن الناس يقولون: أكثر أبو

هريرة، ولولا آيتان من كتاب ما حدثت حديثًا

إن إخواننا من المهاجرين كان

يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم،

وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، ويحضر

ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون) .

(البخاري جزء أول كتاب العلم صفحة 37) وكتب في الحاشية ما نصه:

(جاء في الإصابة لابن حجر جزء 7: 23 قوله: (إنكم تزعمون أن أبا هريرة

يكثر الحديث عن رسول الله وقد علل هذا الإكثار برواية غريبة) اهـ كلام

الطاعن.

***

الجواب عن هذه الشبهة

استدل الطاعن بهاتين الروايتين على ما سماه الارتياب العامّ في أبي هريرة،

ويفهم من هذا أنه يوهم قارئ مقالته أن جميع أهل عصره، أو أكثرهم كان يرتاب

في صحة روايته، وهذه دعوى باطلة، ولفظ الناس يصدق بالقليل والكثير، قال

الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} (آل عمران:

173) .

روي في التفسير المأثور أن الذي قال ذلك هو نعيم بن مسعود قال: إن أبا

سفيان يجمع لكم الجيش

إلخ، وقيل: إن القائل ركب عبد القيس، فالناس اسم

جنس يطلق على الواحد كما يقال: فلان يركب الخيل: وإن لم يركب إلا فرسًا

واحدًا، ويطلق على الكثير.

وقد ثبت أن بعض الصحابة أنكروا إكثار أبي هريرة من التحديث كما هو

صريح، هذا الحديث الذي اختصره الطاعن من البخاري، وقد صرح في رواية

أخرى له بزيادة ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل حديثه ووجه

الإنكار أن أبا هريرة من متأخري الصحابة، فينبغي أن يكون أقل سماعًا منهم.

ومن المعلوم بالبداهة المتفق عليه من العقلاء، الذين يقضون به في محاكمهم

أن الاستنكار والاستغراب في مثل هذا لا يقتضي الاتهام بالكذب، وأن التهمة لا

تقتضي بمجردها سلب العدالة؛ لأن من التهم ما يبنى على شبهات وأوهام، ومنه ما

هنا.

وقد أجاب أبو هريرة عن الإكثار هنا بأنه كان يلزم الرسول - صلى الله عليه

وسلم - لا يكاد يفارقه؛ إذ لا تجارة له كالمهاجرين، ولا حرث له كالأنصار،

فيشغله هذا أو ذاك، فكان بهذه الملازمة يسمع ما لا يسمعون ويحفظ ما لا يحفظون

ويضاف إلى هذا الجواب أنه حدث بما سمعه وبما رواه، وأجوبة أخرى سيأتي

بيانها، وأجاب عن أصل التحديث بالآيتين الدالتين على وجوب إظهار العلم وحرمة

كتمانه، وهما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ

مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} (البقرة: 159) إلى قوله: {التُّوَّابُ

الرَّحِيم} (البقرة: 160) وقد حذف ذلك الطاعن.

وأما الرواية الثانية، وهي ما نقله الطاعن في الحاشية عن الإصابة لابن

حجر فهي رواية أخرى لهذا الأثر نفسه، رواهما البخاري عن الأعرج -عبد

الرحمن بن هرمز- عن أبي هريرة، وقال الطاعن: إنه علل الإكثار برواية غريبة؛

أي: علل كثرة تحديثه بعلة غريبة أي: عند الطاعن، ولم يذكر هذه العلة! وهي

عين العلة التي في الرواية الأخرى مع زيادة تعدّ من آيات النبي - صلى الله عليه

وسلم - ودلائل نبوته؛ ولذلك لم يذكرها الطاعن، وهي: فحضرت من النبي -

صلى الله عليه وسلم مجلسًا فقال: من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه

إليه فلن ينسى شيئًا سمعه مني فبسط برده عليّ حتى قضى حديثه ثم قبضتها إليّ،

فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئًا سمعته منه بعد، وروى هذا الحديث أحمد ومسلم

والنسائي وغيرهم من طرق.

وقد فهم أبو هريرة من الحديث عموم السلب المطلق، وصدق عليه ذلك،

وإن كان لفظ الحديث يحتمل تقييد العموم بما يقوله صلى الله عليه وسلم مدة

بسط الرداء، وسنذكر بعض ما قاله الأئمة النقاد في حفظ أبي هريرة، ولم يرو عنه

في الصحيح أنه نسي شيئًا حدث به إلا حديث (لا عدوى) فإنه أنكره بعد أن روى

ما يدل على ثبوت العدوى، ولعله كان من مراسيله لا من سماعه، فلا يتعارض مع

قوله: إنه ما سمع شيئًا ونسيه، أي: بعد مسألة الرداء، أو كان من سماعه قبل

بسط الرداء.

***

الشبهة الثانية

(2)

قال الطاعن: تهمة أبي هريرة بالكذب (بشهادة نفسه) : (عن أبي

الرزين قال: خرج إلينا أبو هريرة، فضرب بيده على جبهته فقال: ألا إنكم

تحدثون أني أكذب على رسول الله لتهتدوا وأضل، ألا وإني أشهد لسمعت رسول

الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في الأخرى

حتى يصلحها (جزء 4: 440) لا يخفى ما في هذا من الضعف) .

(3)

ونقل ابن حجر عن أحمد بن حنبل (جزء 7 صفحة 205) قوله:

(قيل: له أكثرت فقال: لو حدثتكم بما سمعت لرميتموني بالقِشع أي: الجلود) وقد

أردف هذا بشكوى أخرى وهي قوله: (أكثر علينا أبو هريرة) .

(4)

نقل ابن حجر عن عائشة (جزء 7 صفحة 205) ما يأتي: قالت

عائشة لأبي هريرة: (إنك تحدث بشيء ما سمعته) فأجابها أبو هريرة بما مؤداه

أنها كانت مهتمة بزينتها فلم تسمع ما سمعه هو.

(5)

عبد الله بن عمرو بن العاص جاء في كتاب أخبار مكة للأزرقي

صفحة 135 قوله: حدثنا أبو الوليد. عن عبيد الله بن سعد أنه دخل مع عبد الله بن

عمرو بن العاص المسجد الحرام والكعبة محرقة حين أدير جيش الحصين بن نمير

والكعبة تتناثر حجارتها، فوقف، ومعه ناس غير قليل، فبكى حتى إني لأنظر إلى

دموعه تحدَّر كحلاً في عينيه ، فقال: يا أيها الناس والله لو أن أبا هريرة أخبركم

أنكم قاتلو ابن نبيكم بعد نبيكم، ومحرِّقو بيت الله ربكم لقلتم: ما من أحد أكذب

من أبي هريرة.

(6)

عبد الله بن عمر جاء في الترمذي جزء 1 صفحة 281 قوله: حدثنا

ابن عمر فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب إلا

كلب صيد، أو كلب ماشية. قيل له: إن أبا هريرة كان يقول: أو كلب زرع.

فقال: إن أبا هريرة له زرع) ، ولا يخفى ما في هذا من التقريع اللطيف.

(7)

عن الإصابة لابن حجر جزء 7 صفة 205. كان أبو هريرة قد روى

حديثًا عن الصلاة لم يعجب مروان فسأل عبد الله بن عمر فقال عبد الله: لقد أكثر

أبو هريرة، فقال له: أتنكر شيئًا مما يقولون؟ فقال: لا، ولكن اجترأ وجبنا.

وبلغ ذلك أبا هريرة، فقال: ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا؟ . ولا نظن قوله:

(اجترأ وجبنا) من قبيل الازدراء، فإن ابن عمر ما كان ينسب الجبن إلى نفسه،

أما الجرأة التي نسبها إلى أبي هريرة، فمعناها التهجُّم والتحدي.

لعل في هذا ما يميط لنا اللِّثام عن مصادر الأحاديث، فإنه يدلنا على عظم

الاستسلام إلى رواة الأحاديث غير المدققين، والأرجح أن عبد الله لم يكن ليجسر

على مقاومة أبي هريرة، وإنما جاهر برأيه بلهجة الازدراء.

(8)

جاء في الإصابة لابن حجر جزء 7 صفحة 205 أن مروان استاء

من كلمة قالها أبو هريرة، فاتهمه بالإكثار من الرواية، وأردف ذلك بقوله: (إنما

قدم أبو هريرة قبل وفاة رسول الله. . بيسير. فقال أبو هريرة: قدمت ورسول الله

بخيبر وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين، فأقمت حتى مات) .

(ملاحظة) : كان محمد في خيبر في سنة سبع هجرية، أي: قبل موته بنحو

أربع سنوات، فالحادثة المذكورة هنا تبين، أن معاصري أبي هريرة أنفسهم كانوا

يرون المدة قصيرة جدًّا، لا تعلل إكثاره من رواية الأحاديث التي كان يستشهد بها

كلما شاء. اهـ كلام الطاعن بحروفه وإشاراته ورموزه، وحذفه من الروايات

وغلطه فيها وهو كثير، ومنه قوله (أتنكر شيئًا مما يقولون) وصوابه (مما يقول)

يعني: أبا هريرة، وقوله:(أجرأ وجبنا) وصوابه (اجترأ وجبُنَّا) ولعل هذا

الخطأ من الطبع، لا من تحريف الناقل، ولكن بعض غلطه من سوء الفهم قطعًا،

كقوله بعد الحديث الذي عزاه إلى أحمد: وقد أردف هذا بشكوى أخرى..إلخ،

والصواب أن هذه الزيادة ليست من حديث أحمد. ومنه ما فهمه من كلام

ابن عمر.

***

الجواب عن هذه الشبهة

نقول: أولاً: ليس في هذه الروايات التي أوردها الطاعن، تصريح من أحد

بأن أبا هريرة قد ثبت عليه الكذب.

وثانيًا: إن التهمة لا تثبت إلا بالبينة والدليل، باتفاق الشرائع والقوانين،

وعرف أهل العقل والعدل من البشر أجمعين، ولم يُقم أحد دليلاً، ولا بينة على أن

أبا هريرة كذب، وإنما عرض لبعض الصحابة شبهة في رواية أبي هريرة، ولو

ثبتت الشبهة، وظلت مجهولة وسببها خفيًّا لصح أن تجعل علة، لعدم إلحاق روايته

برتبة الصحيح احتياطًا، ولكن سبب الشبهة معروف، وهو لا يقتضي سلب العدالة

ولا عدم الثقة بالرواية.

وثالثًا: إن لتلك الشبهة سببين (أحدهما) خاص بكثرة الرواية، وفيه ورد

أكثر الروايات، وحاصلها أن مدة صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، ثلاث

سنين وأشهر، وهي لا تتسع للأحاديث الكثيرة التي كان يتوقع التكذيب بها، أو

الإيذاء أو القتل إذا حدث بها؛ لأنها من أخبار الفتن التي أخبر بها النبي - صلى

الله عليه وسلم - قبل وقوعها، وهي ما يسميه النصارى بالنبوات، ولما عرف أهل

الحديث سبب الشبهة ظهر لهم أنها لا تدل على أدنى طعن في عدالة أبي هريرة،

وبيان ذلك من وجوه.

***

أسباب كثرة حديث أبي هريرة

لكثرة حديث أبي هريرة رضي الله عنه أسباب، استخرجناها من عدة

روايات (أحدها) أنه قصد حفظ أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وضبط

أحواله؛ لأجل أن يستفيد منها، ويفيد الناس، ولأجل هذا كان يلازمه ويسأله،

وكان أكثر الصحابة لا يجترئون على سؤاله إلا عند الضرورة، وقد ثبت أنهم كانوا

يسرون إذا جاء بعض الأعراب من البدو وأسلموا؛ لأنهم كانوا يسألون النبي -

صلى الله عليه وسلم.

ومن الدلائل على هذا السبب ما رواه عنه البخاري قال: قلت: يا رسول الله

من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: (لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد

أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث) وما رواه أحمد عن أُبيّ بن كعب:

أن أبا هريرة كان جريئًا على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

أشياء لا يسأله عنها غيره.

(ثانيها) أنه كان يلازم النبي صلى الله عليه وسلم، ويتبعه حتى في

زيارته لنسائه وأصحابه ليستفيد منه، ولو في أثناء الطريق، فكانت السنين القليلة

من صحبته له كالسنين الكثيرة من صحبة كثير من الصحابة، الذين لم يكونوا

يرونه صلى الله عليه وسلم إلا في وقت الصلاة، أو الاجتماع لمصلحة

يدعوهم إليها أو حاجة يفزعون إليه فيها، وقد صرح بذلك لمروان، وكما سنبين

ذلك في كلامنا على الشاهد السابع من شواهد الطاعن.

وأخرج البغويّ بسند جيد كما قال الحافظ ابن حجر: عن ابن عمر أنه قال

لأبي هريرة: أنت كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه

وفي الإصابة عنه أنه قال: أبو هريرة خير مني وأعلم بما يحدث، وعن طلحة

بن عُبيد الله: لا أشك أن أبا هريرة سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم

ما لم نسمع.

(ثالثها) أنه كان جيد الحفظ قوي الذاكرة، وهذه مزية امتاز بها أفراد من

الناس كانوا كثيرين في زمن البداوة، وما يقرب منه؛ إذ كانوا يعتمدون على

حفظهم، ومما نقله التاريخ لنا عن اليونان أن كثيرين منهم كرهوا بدعة الكتابة

عندما ابتدءوا يأخذونها، وقالوا: إن الإنسان يتكل على ما يكتب فيضعف حفظه،

وإننا نفاخر بحفاظ أمتنا جميع الأمم وتاريخهم ثابت محفوظ، قال الإمام الشافعيّ:

أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، وقال البخاري مثل ذلك، إلا أنه قال

عصره بدل دهره. وأعظم من ذلك ما رواه الترمذي عن عمر رضي الله عنه

أنه قال لأبي هريرة: أنت كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم

وأحفظنا لحديثه.

(رابعها) بشارة النبي صلى الله عليه وسلم له بعدم النسيان، كما ثبت

في حديث بسط الرداء المتقدم، وهو مروي من طرق متعددة في الصحاح والسنن.

(خامسها) دعاؤه له بذلك كما ثبت في حديث زيد بن ثابت عالم الصحابة

الكبير رضي الله عنه عند النسائي وهو: (أن رجلاً جاء إلى زيد بن ثابت،

فسأله فقال له زيد: عليك بأبي هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في

المسجد، ندعو الله ونذكره إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى

جلس إلينا فقال: عودوا للذي كنتم فيه قال زيد فدعوت أنا وصاحبي، فجعل رسول

الله صلى الله عليه وسلم يؤمّن على دعائنا، ودعا أبو هريرة فقال: إني أسألك

مثل ما سأل صاحباي، وأسألك علمًا لا يُنسى ، فقال: سبقكم بها الغلام الدوسي) .

(سادسها) أنه تصدى للتحديث عن قصد؛ لأنه كان يحفظ الحديث؛ لأجل

أن ينشره، وأكثر الصحابة كانوا ينشرون الحديث عند الحاجة إلى ذكره في حكم،

أو فتوى أو استدلال، والمتصدي للشيء يكون أشد تذكرًا له، ويذكره بمناسبة

وبغير مناسبة؛ لأنه يقصد التعليم لذاته، وهذا السبب لازم للسبب الأول من أسباب

كثرة حديثه.

(سابعها) أنه كان يحدث بما سمعه وبما رواه عن غيره من الصحابة كما

تقدم، فقد ثبت عنه أنه كان يتحرى رواية الحديث عن قدماء الصحابة فروى عن

أبي بكر وعمر، والفضل بن العباس وأُبيّ بن كعب، وأسامة بن زيد وعائشة،

وبصرة الغفاري، أي: أنه صرح بالرواية عن هؤلاء، ومن المقطوع به أن

بعض أحاديثه التي يصرح فيها باسم صحابي كانت مراسيل؛ لأنها في وقائع كانت

قبل إسلامه، ومراسيل الصحابة حجة عند الجمهور.

وقد روى أيضًا عن كعب الأحبار وهو من علماء يهود، أسلم في أيام أبي

بكر، وقيل: في أيام عمر، ووثقه المحدثون، ولكن روى البخاري عن معاوية أنه

قال فيه: إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن

كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. ولم يروِ البخاري في صحيحه شيئًا لكعب. وقد كان

في نفسي شيء من رواية كعب قبل أن أرى ما قاله فيه معاوية، وأعلم أن كثيرًا من

الناس يتهمونه بالكذب. ثم رأيت للحافظ ابن كثير كلامًا في ذلك.

فمن تدبر هذه الأسباب لم يستغرب كثرة رواية أبي هريرة، ولم ير استنكار

أفراد من أهل عصره لها موجبًا للارتياب في عدالته وصدقه؛ إذ علم أن سبب ذلك

الاستنكار عدم الوقوف على هذه الأسباب.

على أن جميع ما أخرجه البخاري في صحيحه له 446 حديثًا بعضها من

سماعه، وبعضها من روايته عن بعض الصحابة، وهي لو جمعت لأمكن قراءتها

في مجلس واحد؛ لأن أكثر الأحاديث النبوية جمل مختصرة. فهل يستكثر عاقل

هذا المقدار على مثل أبي هريرة أو من هو دونه حفظًا، وحرصًا على تحمل

الرواية وأدائها، فيجاري هذا الطاعن في الشريعة على الطعن في الإمام البخاري

لتخريجها؟ كيف، وهذا الطاعن لا يوثق بنقله ولا بفهمه، ولا بقصده إلى بيان

الحقيقة، بل نعلم علم اليقين أنه يريد التشكيك والطعن؛ لأن هذا هو عمله الذي

يعيش له وبه؟

***

سبب استنكار بعض حديث أبي هريرة:

نقل الطاعن في الشاهد الثاني عن أبي رزين أن أبا هريرة قال على مسمع منه:

(ألا إنكم تحدثون أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعزى

هذا إلى (جزء 445: 4) ولم يذكر اسم الكتاب، وظاهر عزوه الشاهد الذي قبله إلى

البخاري أنه يعني أن هذا في البخاري أيضًا، وإنما نعرفه من رواية مسلم. وذكر في

الشاهد الثالث أنه قال: لو حدثتكم بما سمعت لرميتموني بالقِشع. وصوابه: لو

حدثتكم بكل ما سمعت، وذكر في الشاهد الخامس عن كتاب أخبار مكة للأزرقي أنه

قال حين رأى الكعبة محرقة بعد انصراف جيش الحصين بن نمير: يا أيها الناس

لو أن أبا هريرة أخبركم أنكم قاتِلو ابن نبيكم بعد نبيكم ومحرّقو بيت ربكم، لقلتم ما

من أحد أكذب من أبي هريرة. يعني لو حدثهم قبل إحراق بني أمية للكعبة

بذلك لكذبوه؛ لأن الخبر مما يستبعد تصديقه. فعلم من قوله أنه كان يعلم بهذا الحديث

قبل وقوعه؛ لأنه سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، ودليل هذا أنه قرنه

بخبر مثله في بعده عن الوقوع، ولم يكن قد وقع، وهو أنهم سيقتلون ابن

نبيهم يعني: الحسين عليه السلام وقد وقع ذلك بعد وفاته - رضي الله

عنه-.

كان أبو هريرة يعلم أن كثيرًا من الناس لا يصدقون الروايات التي تستبعد

عقولهم وقوعها، وإن كانت جائزة في نفسها، فيتوقع أن يكذبوه إذا هو حدث بها،

ويظنون أنه عزاها إلى الرسول؛ لأجل قبولها، وكان يعتقد أن بني أمية يقتلونه إذا

هو حدث بكل ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم عن أحداثهم ومفاسدهم،

وهذا هو مراده بقوله الذي رواه عنه البخاري في صحيحه: حفظت من رسول الله -

صلى الله عليه وسلم وعاءين من العلم، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو

بثثته لقُطع مني هذا البلعوم - يشير إلى عنقه.

قال الحافظ في الفتح: وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي

فيها تبين أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه،

ولا يصرح خوفًا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة

الصبيان. يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة،

واستجاب الله دعاء أبي هريرة، فمات قبلها بسنة، وستأتي الإشارة إلى شيء من

ذلك في كتاب الفتن اهـ.

وقد وفَّى الحافظ بوعده هذا في شرح حديث أبي هريرة في أوائل كتاب الفتن

من صحيح البخاري، وهو قوله لسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم بن أبي

العاص بن أمية: سمعت الصادق المصدوق يقول: (هلكة أمتي على يدي غلمة من

قريش) [1]- وفي رواية أحمد والنسائي (إن فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء

من قريش) فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة. فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول

بني فلان وفلان لفعلت. أي: ولم يكن مروان يعلم حين لعنهم أنهم قومه

وأبناؤه، ولكن أبا هريرة هو الذي يعلم ولم يصرح.

وذكر الحافظ في شرحه لهذا الحديث حديثًا آخر له من المرفوع في بيان معناه

أخرجه علي بن معبد، وابن أبي شيبة عنه وهو: (أعوذ بالله من إمارة الصبيان-

قالوا: وما إمارة الصبيان؟ قال: إن أطعتموهم هلكتم في دينكم، وإن عصيتموهم

أهلكوكم في دنياكم) .

فتبين بهذا أن الأحاديث التي كان يتوقع أبو هريرة تكذيب بعض الناس له فيها

هي ما كان من هذا النوع، وظهر بهذا أن ما أورده الطاعن من الشواهد على اتهامه

بالكذب لا يفيد شيء منه إثبات التهمة، وقد بينا آنفًا أن رواية أبي رزين عند مسلم،

والرواية التي عزاها إلى أحمد، وهي من طريق يزيد بن الأصم عن أبي هريرة،

ورواية عبد الله بن سعد عن الأرزقي - كلها صريحة في أن أبا هريرة كان يعتقد،

أو يظن أن بعض الناس يكذبونه في بعض أحاديث الفتن إذا هو حدث بها قبل

وقوعها لغرابة موضوعها.

بقي من شواهد الطاعن أربعة (أحدها) قول عائشة له: إنك لتحدث بشيء

ما سمعته. وقد عزا الحافظ هذا إلى تخريج ابن سعد وكتابه ليس في أيدينا، فلا

ندري أذكر سببه بعينه أم لا، والظاهر من جواب أبي هريرة أنها أنكرت حديثًا

رواه؛ لأنها لم تسمعه هي من النبي صلى الله عليه وسلم ومثل هذا وقع لها

في أحاديث غير واحد من الصحابة لهذه العلة كارتيابها في حديث المعراج، وفي

حديث الرؤية في الآخرة، وفي حديث وفي موت العلماء، واتخاذ الرؤساء الجهال

الذين يَضلون ويُضلون.

ففي صحيح مسلم أن عروة بن الزبير سمع هذا الحديث من عبد الله بن

عمرو، فأخبر به خالته عائشة، فأعظمت ذلك وأنكرته وقالت له: أحدثك أنه سمع

النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ على أنها هي التي أرسلته إليه ليأخذ

عنه الحديث قال: (قالت لي عائشة: يا ابن أختي بلَغني أن عبد الله بن عمرو مارٌّ

بنا إلى الحج فسائله، فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علمًا كثيرًا)

ثم إنها مع هذا ومع ما تعلم ويعلم كل الصحابة من ورع عبد الله وعدالته، قد

ارتابت في هذا الحديث، وبقيت مرتباة فيه مدة حول كامل- قال عروة: فلما كان

قابل (أي العام الذي بعد ذلك العام) قالت له: إن ابن عمرو قد قدم فالقه، ثم فاتحه

حتى تسأله عن الحديث الذي ذكر لك في العلم، قال: فلقيته فساءلته، فذكره لي

نحو ما حدثني به مرته الأولى. فلما أخبرتها بذلك قالت: ما أحسبه إلا قد صدق،

أراه لم يزد فيه شيئًا ولم ينقص. والجواب المشهور عند العلماء في مثل هذه

المسألة أن من حفظ حجةٌ على من لم يحفظ.

(ثانيها) حديث عبد الله بن عمر في قتل الكلاب، نقله الطاعن عن

الترمذي، وهو في صحيح مسلم وسنن النسائي وابن ماجه أيضًا. وقد قال العلماء:

إن مراد ابن عمر بقوله: (إن لأبي هريرة زرعًا) هو أن أبا هريرة كان محتاجًا

إلى معرفة حكم اتخاذ الكلب للزرع؛ لأن له زرعًا فسأل عن ذلك وحفظه وعمل به.

ويؤيد هذا ويفند زعم الطعن أنه يريد التقريع ما صح عن ابن عمر من

تفضيل أبي هريرة على نفسه، وتقدم بعض كلامه في ذلك، ومنه الشاهد الآتي

الذي عده الطاعن تكذيبًا لأبي هريرة، وهو عين التصديق والتعديل - وهو -:

(ثالثها) ما نقله عن الإصابة -وهو الشاهد السابع- من أن رواية سمع من

أبي هريرة حديثًا لم يعجبه

إلخ ما تقدم، وقد حرف الطاعن الرواية. وهذا

نصها:

وروينا في فوائد المزكي تخريج الدارقطني من طريق عبد الواحد بن زياد عن

الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر

فليضطجع على يمينه فقال مروان: أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى

يضطجع على يمينه؟ قال: لا. فبلغ ذلك ابن عمر فقال: أكثر أبو هريرة. فقيل

لابن عمر: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا ولكنه اجترأ وجبنا اهـ بحروفه [2] .

وعبارة المبشر الطاعن توهم أن ما أورده هو نص ما في الإصابة، ولعله

يريد بقوله في الحديث: (لم يعجب مروان) إيهام القارئ أن موضوع الحديث قبيح

أو منكر أدبًا، ثم إنه فسر الجرأة التي وصف ابن عمر بها أبا هريرة بالتهجم

والتحدي، وهذا من أكبر الجرأة على القول بغير علم، فالتحدي معناه المباراة

والمعارضة، ولا محل له هنا، فالطاعن أثبت بهواه معنى غير صحيح، ونفى

معنى صحيحًا، وهو وصف ابن عمر نفسه بالجبن، والمراد به كما تقدم في بيان

السبب الأول من أسباب كثرة حديث أبي هريرة، أنه كان جريئًا على سؤال النبي

صلى الله عليه وسلم، وكان أكثر الصحابة يهابون سؤاله، فلا يكادون يسألونه

إلا لضرورة.

فهذا معنى قول ابن عمر: اجترأ وجبنا. وهو قد صرح هنا بأنه لا ينكر شيئًا

من قول أبي هريرة، ولكن القسيس المبشر يريد أن يقنعنا مع هذا التصريح بأنه

أنكر كلامه وكذبه!! ، وقد فسر ابن الأثير (اجترأ وجبُنا) بقوله: يريد أنه أقدم

على الإكثار من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجبنا نحن عنه،

فكثر حديثه، وقلَّ حديثنا اهـ.

هذا وإن هذا الحديث عن أبي هريرة مطعون في سنده، فإن رواية عبد الواحد

بن زياد ليس ثقة فيما يرويه عن الأعمش عن أبي صالح كما صرح به الذهبيّ في

الميزان، وذكر هذا الحديث من مناكيره عنه، وأما جملة التحدّي التي كتبها

الطاعن بغير فهم، فهي مصحفة عليه من أثر في الإصابة عن عبد الله بن عمر.

قال الراوي: كان ابن عمر إذا سمع أبا هريرة يتكلم قال: إنا نعرف ما تقول

ولكنا نجبن وتجترئ. أي: نجبن عن كثرة التحديث، وتجترئ أنت عليه. فيكون

هذا بمعنى رواية عبد الواحد على الوجه الذي فسرها به ابن الأثير. ولكن كلمة

تجترئ صحفت في طبعة الهند للإصابة هكذا (نحتزي) ، ولعل الطاعن رآها في

طبعة مصر مصحفة أيضًا بفعل من التحدي، أو ما يقرب منه، وأنى له أن يعرف

الأصل؟

وهذا يُثبت قولنا: إن هذا الطاعن يكتب ما لا يفهم، وإنه لا ثقة بنقله، ولا

بفهمه، ومن الغريب أنه ترجى أن يكون هذا التفسير الباطل لتلك الكلمة المحرفة

من تلك الرواية المنكرة أصلاً للطعن في جميع الأحاديث، لا لتكذيب أبي هريرة

وحده، فقال: (ولعل في هذا ما يميط لنا اللثام عن مصادر الأحاديث، فإنه يدلنا

على عظم الاستسلام إلى رواة الأحاديث غير المدققين، والأرجح أن عبد الله لم يكن

ليجسر على مقاومة أبي هريرة، وإنما جاهر برأيه بلهجة الازدراء) اهـ.

فليهنأ المسلمون بهذا الطاعن بشريعتهم بمثل هذا الخبط والخلط والتحريف

والدعاوي المضحكة، ومن ذا الذي لا يضحك من ادعاء هذا المبشر أن عبد الله بن

عمر بن الخطاب أمير المؤمنين القرشي ما كان يجسر على تخطئة أبي هريرة

الدوسي الضعيف؟ .

كان ينبغي لك أيها القس المحترم أن تلمَّ قبل تصديك لتشكيك المسلمين في

دينهم، وتهجمك على الطعن بشريعتهم، أن تلمَّ قليلاً بتاريخهم، فإننا نرى عوام

نصارى بلادنا العربية، يعلمون كخواصهم أن حرية النقد واستقلال الرأي عند

الصحابة رضي الله عنهم قد بلغت أوج الكمال، وأن أرقى الأوربيين حرية

كالإنكليز لم يبلغوا درجتهم في ذلك، إنهم يعلمون أن أمير المؤمنين عمر بن

الخطاب الذي كانت تخشى بأسه ملوك الأرض، وتهابه الإنس والجن كان يقول

الكلمة على المنبر في المسجد الجامع فتخطئه بها المرأة أو الأعرابي، فيعترف

بخطئه إذا كان مخطئًا، فهل يقال في هؤلاء: إن أعظمهم مكانة في العلم والشرف لا

يجسر أن يصرح برأيه في تخطئة أضعفهم؟ على أنه كان يكفيك أن تفهم شاهدك

الآتي -وهو-:

(رابعها) ما نقله عن الإصابة محرفًا ناقصًا كالذي قبله -وهو الشاهد

الثامن- ونحن ننقله بنصه ليقابله القراء بما نقله [3] ويروا درجة أمانته.

قال الحافظ: (وأخرج ابن سعد من طريق الوليد بن رباح: سمعت أبا

هريرة يقول لمروان حين أرادوا أن يدفنوا الحسن عند جده: تدخل فيما لا يعنيك.-

وكان الأمير يومئذ غيره- ولكنك تريد رضا الغائب، فغضب مروان، وقال: إن

الناس يقولون: أكثر أبو هريرة الحديث، وإنما قدِم قبل وفاة رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - بيسير. فقال أبو هريرة: قدمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم

بخيبر، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين فأقمت معه حتى مات، و (كنت)

أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه وأغزو معه وأحج، فكنت أعلم الناس بحديثه،

وقد - والله - سبقني قوم بصحبته فكانوا يعرفون لزومي له فيسألونني عن حديث

كان بالمدينة، وكل من كانت له من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة،

ومن أخرجه من المدينة أن يساكنه. قال: فوالله ما زال مروان بعد ذلك كافًّا عنه) .

فخلاصة هذه الرواية أن مروان بن الحكم غضب لإنكار أبي هريرة عليه أمرًا

كان لأهل بيته (بني أمية) فيه سياسة -والدولة دولتهم- فلم يجد كلمة يشفي بها

غيظه إلا قول بعض الناس: أكثر أبو هريرة، فلما بين له أبو هريرة سبب إكثاره

أذعن له، ولم يعد إلى مثل ذلك، أليس من العجائب أن يعمد هذا القس المبشِّر إلى

هذه الرواية فيحرِّفها ليستدل بها على كذب أبي هريرة أو تكذيب الناس له، وما هي

إلا حكاية لشبهة الإكثار التي فندها أبو هريرة، وأجبنا نحن عنها بما استنبطناه من

مجموع الروايات المبينة لأسبابها، وهي سبعة؟

وجواب أبي هريرة يدل على جرأته، وعلى سعة حرية العرب حتى في عهد

معاوية أيضًا، فإنه ذكر لمروان نفي النبي صلى الله عليه وسلم لوالده الحَكَم،

وسيأتي بيان ذلك.

***

الجملة الرابعة من كلام الطاعن

شبهات أخرى في أبي هريرة

قال: (1- جاء في مجموعة الرسائل للغزالي في كتاب المؤمل للرد إلى

الأمر الأول صفحة 32 قوله: أقلد جميع الصحابة، ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا

ثلاثة نفر أنس بن مالك، وأبو هريرة، وسمرة بن جندب. . وأما أبو هريرة كان

يروي كلما سمع من غير أن يتأمل في المعنى، ومن غير أن يعرف الناسخ من

المنسوخ) .

(اقتبس كولدزير هذا القول في كتابه (الظاهرية) صفحة 79، ولكن بدون

إشارة إلى القيد المذكور، فأبو حنيفة لم يَرْتَبْ في وثائق أبي هريرة، ولكنه ارتاب

في قيمة أحاديثه باعتبارها أركانًا للشريعة) .

(2- حلقة أبي حنيفة: على أن ارتياب أبي حنيفة، وأتباعه في قبول كلام

أبي هريرة كان مبنيًّا على ارتيابهم في وثائقه، فقد نقل الدميري في كتاب الحيوان،

أنه وقع خلاف بين بضعة من رجال الإفتاء في جامع بغداد، فأنكر الحنفيّون

الاستشهاد بأبي هريرة؛ لاشتباههم في صدق روايته، وكان الخليفة هارون الرشيد

في جانب الفريق المرتاب) اهـ.

هذا ما قاله الطاعن بنصه على ما فيه من الغلط، والتحريف والإيهام من

وجوه:

(منها) أن مجموعة الرسائل ليست للغزالي، وإنما هي رسائل لكثير ممن

قبله وبعده.

(ومنها) أن كتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول ليس للغزالي كما توهمه

عبارته.

(ومنها) أن قوله: (أقلد جميع الصحابة)

إلخ منقول في كتاب المؤمل

عن أبي حنيفة ، وظاهر عبارة الطاعن أنه للغزالي؛ لأنه هو الذي سبق ذكره في

كلامه؛ ولهذا يتعجب من يرى لاحق كلامه، وذكره فيه لأبي حنيفة.

(ومنها) أن الأصل (يروي كل ما سمع) لا (كلما سمع) كما كتب

الطاعن، والفرق بينهما معروف لكل من له إلمام بالعربية.

(ومنها) أنه أورد شبهة واحدة؛ وإنما عقد العنوان لشبهات متعددة، ولكنه

قسم هذه الشبهة إلى قسمين:

(أحدهما) ادعاؤه أن أبا حنيفة لا يَحتجّ بالأحاديث التي يرويها أبو هريرة.

(والثانية) أن أتباعه كذلك لا يحتجون بها.

ولعلنا لو راجعنا عبارة حياة الحيوان لاستخرجنا من نقله لها بالمعنى الذي

أراده أغلاطًا، وتحريفات أخرى، والغرض من هذا بيان ما قلناه أولاً من أنه لا

يوثق بنقله، ولا بفهمه، مع القطع بأنه يقصد الطعن لتشكيك المسلمين في الإسلام

لا تمحيص الحقيقة، ولكن بعض خطئه مما لا يهتدي عاقل إلى تعليله، كنسبته

كتاب المؤمل، ومجموعة الرسائل إلى الغزالي!! .

أما الجواب عن هذه الشبهة فهي أن أبا حنيفة لم يطعن في رواية أبي هريرة

بهذه العبارة ولا بغيرها، ولم يتهمه بالكذب، وهذه العبارة التي فسرها الطاعن

بهواه لا بما تدل عليه في عرف الفقهاء لا تنهض حجة له، فالتقليد عند علماء

الشرع هو العمل برأي المقلَّد (بفتح اللام) لا بروايته، لا خلاف بين المذاهب في

هذا. فأبو حنيفة يقول في هذه الرواية عنه: إنه يقدم رأي الصحابي على رأيه -

أي: رأيه الذي يستنبطه من الكتاب أو السنة بالقياس - إلا رأي هؤلاء الثلاثة،

وعلل ذلك بقوله: (أما أنس فاختلط في آخر عمره، وكان يفتي من عقله وأنا لا

أقلد عقله، وأما أبو هريرة فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى،

ومن غير أن يعرف الناسخ والمنسوخ) فقد صرح بأنه كان يروي ما سمعه، وهذا

ينفي اتهامه بأنه يكذب، وصرح بأنه ما كان يقصد من الرواية استنباط الأحكام منها

بالتأمل في معاني الأحاديث، والبحث عن الناسخ والمنسوخ منها؛ ليقدم الأول عند

التعارض.

وحاصل ذلك أنه راوٍ غير مستنبط فيؤخذ بروايته لا برأيه وفهمه. وهذا

صحيح، فإن أبا هريرة كان يقصد بحفظ الحديث أولاً روايته والاهتداء به بنفسه،

وثانيًا نشر السنة وإيصالها إلى الناس ليهتدوا بها بحسب اجتهادهم عملاً بوصية

النبي صلى الله عليه وسلم، المشهورة في خطبة حجة الوداع؛ إذ قال (ليبلغ

الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه (وفي رواية: رُب

مبلَّغ أوعى من سامع) وكلتاهما في البخاري وغيره. وفي معنى هذا الحديث ما

رواه الترمذي، والضياء من حديث زيد بن ثابت مرفوعًا (نضَّر الله امرءًا سمع

منا حديثًا، فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب

حامل فقه ليس بفقيه) .

والرواية الأخرى عن أبي حنيفة، وهي الأشهر أنه قال: أقلد من كان من

القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر، وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة،

ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر. -وذكرهم- والمراد بالعبادلة الثلاثة عبد

الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، وقد ترك الطاعن نقل هذه

الرواية من كتاب المؤمل؛ لأنها أظهر في المراد الذي بيناه، وأبعد عن التحريف

الذي ادعاه.

وما زعمه من رد الحنفيّة للاستشهاد بحديث أبي هريرة؛ لاشتباههم في صدق

روايته اعتمادًا على حكاية محرفة نسبها إلى حياة الحيوان، فهو باطل، وهذه كتب

الحنفيّة في الحديث والفقه، تكذب هذه الدعوى، وصاحب الدار أدرى، ومذهب

السواد الأعظم من الفقهاء المجتهدين أن رأي الصحابة ليس بحجة في الشريعة سواء

كانوا فقهاء مستنبطين، أو رواة ناقلين، وإنما الحجة في الرواية إذا صحت.

***

خلاصة الطعن في أبي هريرة، والأجوبة عنه

ينحصر طعنه في أبي هريرة في ثلاثة أشياء:

1-

استكثار بعض الصحابة لروايته، وقد بيّنّا أسبابها المزيلة لاستغرابها.

2-

توقع أبي هريرة لتكذيب بعض الناس له، إذا هو صرح بكل ما سمعه.

وقد بينا أن هذا خاصّ بما سمعه من أخبار الفتن التي أسرّ إليه النبي - صلى

الله عليه وسلم - شيئًا كثيرًا منها، ومثله في ذلك حُذيفة بن اليمان وقد ذكر كل

منهما بعض ما سمع تصريحًا أو تلويحًا، فوقع كما قالا، فكان من دلائل النبوة

التي لا تحتمل التأويل.

3-

أن الحنفيّة لا يحتجون بروايته، وأنهم يعتقدون أنه كان كاذبًا، وهذه

دعوى باطلة تكذبها الألوف من كتب المذهب والملايين من أتباعها، ويعارض هذه

الشبهات الباطلة إجماع أئمة الفقه، ومنهم الأربعة المشهورون على الاحتجاج بما

صح عندهم من أحاديث أبي هريرة المرفوعة -وكذا المرسلة عند الجمهور- وثناء

كثير من الصحابة ومن بعدهم على سعة حفظه وجودة ضبطه، وقد ذكرنا بعضها،

ومن الغريب أن أبا هريرة أغضب مروان بن الحكم الأموي -الذي كان أمير المدينة،

ثم صار أمير المؤمنين، وعرّض أمامه تعريضًا يقرب من التصريح بأن عشيرته

هي التي تفسد على المسلمين أمرهم، ولم يجد مروان كلمة يقولها فيه إلا حكاية قول

من قال: أكثر أبو هريرة. ولما جبهه بتذكيره بنفي النبي صلى الله عليه وسلم

لوالده (الحكم) من المدينة لم يعد إلى تلك الكلمة ولا غيرها، ولو وجد فيه مطعنًا

لما قصر في التشنيع عليه به.

وقد ورد أن مروان امتحنه لعله يعثر عثرة يؤاخذه بها، قال الحافظ في

الإصابة: وقال أبو الزُّعيزعة كاتب مروان: أرسل مروان إلى أبي هريرة فجعل

يحدثه، وكان أجلسني خلف السرير أكتب ما يحدث به، حتى إذا كان في رأس

الحول أرسل إليه، فسأله وأمرني أن أنظر فما غير حرفًا عن حرف اهـ.

فيا ليت شِعري، ماذا كان يقول هذا الطاعن لو نُقِلَ أن أبا هريرة غيَّر أو بدَّل

أو زاد أو نقص في الأحاديث التي حدث بها مروان؟ - وإذًا لعاقبه مروان وشهر

به حتى لا يقبل أحد حديثه- أو لو طعن في دينه وإيمانه غير مروان؟ بل ماذا يقول

هو وسائر دعاة النصرانية، لو نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم طرده كما

طرد المسيح عليه السلام بطرس وسماه شيطانًا، وهو كبير تلاميذه ورسله؟

ففي الفصل 16 من إنجيل متى أنه طوبه، وجعله الصخرة التي يبني عليها كنيسته،

وقال له: (19 وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض

يكون مربوطًا في السماوات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات) .

قال متى: (20 حينئذ أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحد: إنه يسوع المسيح

21 من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر بتلاميذه، أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم

ويتألم كثيرًا من الشيوخ، ورؤساء الكهنة والكتبة.

ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم 22 فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره قائلاً حاشاك

يا رب 22 فالتفت، وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي لا تهتم

بما لله، لكن بما للناس.

فهذه الشهادة على بطرس، وهذا اللقب كان على رواية متى بعد تلك المنحة

والخصوصية التي خصه بها، فهل نسختها أم يجوز الجمع بينها؟ ونحن نجل

حواريّ المسيح، ولا نؤمن بهذه الرواية حتى نحتاج إلى الجواب عنها، وفي متى

(14: 31) أن المسيح قال لبطرس أيضًا: (يا قليل الإيمان) وفي 17: 20

وصف التلاميذ كلهم بعدم الإيمان، وأنه ليس لهم منه، ولا مثل حبة خردل. ومثل

هذه الشهادة متعددة في غيره من الأناجيل. حتى إن منها ما جاء بصيغة المستقبل

كقوله لهم بعدما رأوا آية إطعام خمسة آلاف من خمسة أرغفة:

(إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون)، (يوحنا 6: 36) ، وكما وصفهم بعدم

الإيمان، وصفهم بأنهم أشرار وروى ذلك لوقا في (11: 13) من إنجيله.

ثم يا ليت شِعري، لو وصف النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة بمثل

هذين الوصفين - أو لو وصف بذلك في كتاب الله المجيد - ماذا كان يقول فيه في

روايته هذا المبشِّر المحترم والقس الجدل الذي وضعته جمعيته في أشهر البلاد

الإسلامية بالعلم لينصر المسلمين فيها؟

وهل يقبل منا أن نقول له: لماذا تقبل رواية تلاميذ المسيح بلا سند مع

وصف المسيح لهم بما ذكر وهو المعصوم من الخطإ، ولا تسمح لنا بقبول رواية

أبي هريرة، ولم يجرحه من دون المسيح بمثل ذلك؟

(للرد بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هو جمع غلام، ولم يقولوا غلمة مع كونه القياس استثناء عنه بغلمة كما في الفتح، وفي رواية أغيلمة تصغير غلمة والغلام الصبي من حين يولد إلى أن يحتلم قال الحافظ: وقد يطلق الصبي والغُلَيّم بالتصغير على الضعيف العقل والتدبير والدين، ولو كان محتلمًا، وهو المراد هنا فإن الخلفاء من بني أمية لم يكن فيهم من استخلف، وهو دون البلوغ، وكذا من أقروه على الأعمال اهـ المراد منه.

(2)

يراجع نقل الطاعن لهذا الحديث وتحريفه في ص36.

(3)

يراجع نقل الطاعن لهذا في ص36.

ص: 25

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التعريف بكتابي

منازل السائرين، ومدارج السالكين

وترجمة مؤلفيهما

بيان وجه الحاجة إلى تحرير التصوف

ومكانة الكتابين والشيخين منه

علماء الإسلام أربعة أصناف: أهل الأثر والمتكلمون والصوفية والفقهاء

والتفسير مشترك بينهم، ففي كل صنف منهم مفسرون. ونقول باعتبار

آخر: إن علماء الإسلام صنفان: علماء الأثر وغيرهم، أو علماء المنقول

وعلماء المعقول، ومن كل صنف مفسرون وفقهاء، ولا يكاد يكون الأثري متكلمًا،

وقد يكون صوفيًا في النادر. والأثري الفقيه إذا احتج بالقياس، فإنما يحتج بما

كانت علته ثابتة في الكتاب أو السُّنة.

ثم إن علم الأثر ينقسم إلى علم الرواية، وعلم الدراية، ولا يتم نفع أحد

العلمين إلا بالآخر، فمن أتقن علم الرواية بحفظ الأثر أو الحديث، وضبطه ومعرفة

رواته وعلله والتمييز بين الصحيح وغيره منه، ولم تكن له دراية بفهمه والاستنباط

كان جل النفع بعلمه لغيره، وهو إذا خاض في معاني الحديث بغير استعداد تام للفهم،

فإنه ربما يضل ويُضل كثيرًا، وفي مثله ورد الحديث الصحيح (نضَّر الله امرءًا

سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب

حامل فقه ليس بفقيه) رواه الترمذي، والضياء من حديث زيد بن ثابت. وفي

معناه حديث (نضَّر الله امرءًا سمع منا شيئًا، فبلغه كما سمعه فرُب مبلَّغ أَوْعَى من

سامع) رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان من حديث ابن مسعود. وأما من لم

يتقن علم السُّنة من المتكلمين والفقهاء والصوفية فضلالهم، وإضلالهم أشد.

وقد وجد في كل طائفة علماء أعلام خدموا الإسلام أجل خدمة، فصالِحو

المتكلمين خدموه بدفع شبهات الملاحدة، وكثير من المبتدعة، على أن بعض الشبه

والبدع ما جاءت إلا مِن علمهم المبتدَع، وإنما ينتفع بعلمهم مَن جمع بينه وبين علم

السُّنة.

وصالِحو الصوفية خدموا الإسلام ببيان حِكَم الشريعة وأسرارها وتربية

الأخلاق والآداب، ولكن البدع التي حدثت من قِبَلِهِمْ أكثر وأرسخ من سائر البدع

التي حدثت في الإسلام، وسبب ذلك الجهل بالسُّنة.

والفقهاء خدموا الإسلام باستنباط أحكام العبادات، والحلال والحرام والأحكام

المدنية والسياسية والتأديبية، وقد جنى الجاهلون بالسُّنن منهم على الإسلام جناية

عظيمة بما أحدثوا بأقيستهم البعيدة عن نصوص الشريعة ومقاصدها من الأحكام

الكثيرة المنافية ليُسر الدين، ورفع الحرج منه.

تفرق المسلمون بهذه العلوم إلى فرَق وأحزاب كثيرة، كلٌّ ينتحل مذهبًا ينتصر

له ويدافع عنه، فكانت جناية الخلاف على الإسلام وأهله أشد ضررًا مما أخطأ

به كل فريق منهم. وقد رد بعضهم على بعض ردودًا كان يعدها كل منهم من

التعصب أو من باب (مَن جهل شيئًا عاداه) والحق أنه قَلَّمَا يخلو رد طائفة على

أخرى من ذلك.

ومنشأ الخطأ والضرر الأكبر هو التزام مذهب والرد على مخالفه، فإن هذا

هو اتباع الهوى، وأهله هم أهل الأهواء، وإن سموا أنفسهم بأفضل الأسماء، أما

أهل الحق الذين لا يدخلون في عموم {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا

لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 32) فهم الذين يجعلون كتاب الله - تعالى - وما بيَّنه

من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الخلاف، بل هو الحَكَم العدل في

الخلاف؛ لأنه - تعالى - أخبرنا أنه أنزل الكتاب {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا

فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ

الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ

مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) .

وأجدر هؤلاء المهديين ببيان التحقيق الذي يزيل الخلاف من كان جامعًا بين

المنقول والمعقول غير متعصب لمذهب من المذاهب التي تُعزى إلى أفراد العلماء.

ولم نر في هذا الصنف أوسع علمًا، وأنهض حجة وأقوى عارضة من شيخ الإسلام

أحمد ابن تيمية، وتلميذه الإمام المحقق محمد بن أبي بكر الشهير بابن القيم، وابن

قيم الجوزية، فقد جمع الله لكل منهما بين الرسوخ في علوم السُّنة حفظًا وفهمًا

واستحضارًا واستنباطًا، وبين التمكن من سائر العلوم التي دونت بالعربية،

ومذاهب الفرق وأدلتها، فبيَّنا في كتبهما الممتعة ما أخطأ فيه الذين انحرفوا عن

الكتاب والسنة من أهل هذه المذاهب، وقد كان ابن تيمية السابق إلى تحرير تلك

المسائل، وتلاه ابن القيم، فكان الموضح المكمل لها، والمستدرك لما فاته منها.

وأهم ما انفرد به ابن القيم - فيما نعلم - الإطالة بتحرير علوم الصوفية

ووضع الموازين القسط لمعارفهم، وأذواقهم ومقاماتهم وأحوالهم بشرحه لكتاب

(منازل السائرين) لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي.

الصوفية ثلاث: صوفية الأرزاق، وصوفية الرسوم، وصوفية الحقائق، وبدع

الفريقَيْن المقلدَيْن يعرفها كل من له إلمام بالسُّنة والفقه. وإنما الصوفية صوفية

الحقائق الذين خضعت لهم رءوس الفقهاء والمتكلمين، فهم في الحقيقة علماء حكماء،

ولكن ضل بما دخل في الإسلام من باب فلسفتهم الروحية أضعاف من ضل بما

دخل على المتكلمين، وغيرهم من باب الفلسفة العقلية، من إلهية وطبيعية.

وسبب ذلك ما بيناه آنفًا من جهل بعض شيوخهم بالسنة النبوية، فمن أصول

الضلالة التي دخلت على المسلمين من باب التصوف المقابَلة بين الحقيقة والشريعة،

وجعل الأمر الكوني القَدَريّ كالأمر الشرعي في كون كل منهما يجب الرضاء به

والإذعان والاستسلام له، ومن مفاسد هذا الأصل قولهم: (من نظر إلى الخلق

بعين الشريعة مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم) ومن مفاسده الرضاء

بعدم مقاومة الأمراض والظلم، وهُضِمَ حقوق الأفراد وحقوق الأمة. ومن مفاسده

الجبر وسلب الاختيار، وناهيك بما يتبعه من المفاسد والمضارّ.

ومن أصول الضلالة التي دخلت من ذلك الباب جعل الذوق والحال من قَبِيل

دلائل الشريعة وأصولها، بل هو عند كثير من غلاتهم الركن الأعظم المقدم على

كل ما يعارضه، ومن فروع هذا الأصل ما ابتدعوه من الأذكار والأوراد والسماع،

وتعظيم القبور وجعلوه من شعائر الإسلام، فإن عمدتهم فيه أنهم ذاقوا ما أثمره لهم

من الحب، والوَجد والخشوع والبكاء والرغبة في الآخرة، ومن أمثالهم (من ذاق

عرف) ، وجهلوا أن مثل هذا الذوق حاصل للكفار فيما يأتونه في عبادتهم من

الأغاني والأناشيد وآلات الطرب، وما يشاهدونه في معابدهم ومقابرهم من الصور

والتماثيل، التي وضعت لسلفهم من النبيين والكهنة وغيرهم من الصالحين عندهم،

فإذا كانت العبادة تشرع بالذوق، فقد هُضِمَ حق الوحي، وعُدِمَ أساس الشرع.

ومن أصول تلك الضلالات دعوى أن للدين ظاهرًا، وباطنًا مخالفًا لما يفهم

الجمهور منه، وهذه الضلالة من ابتداع زنادقة الباطنية، وقد كانت سببا لارتداد

كثير من المسلمين، فكونت منهم طوائف، الإسماعيلية والنُّصيرية والدُّروز،

والبابية البهائية، والأزلية وغيرهم.

ومنها أصل الأصول عند غُلاتهم، وهو ما يعبرون عنه بوحدة الوجود

بالمعنى الذي يمثله الكتاب المسمى (بالإنسان الكامل) وأمثاله، هذا الأصل مخالف

لنصوص القرآن الصريحة، ولنصوص السنة الصحيحة، وفيه مفاسد كثيرة جدًّا،

ولكن من الناس من يفهم وحدة الوجود على غير هذا الوجه.

قد افتتنت كل فرقة انشقت من جماعة المسلمين، وأهل كل مذهب خالفوا

السنة، وما جرى عليه سلفها الصالح بفتنة تأويل، ما يخالف مذاهبهم وآراءهم من

آيات الكتاب العزيز ومتون الأحاديث، حتى إنهم ليؤوّلون السنن العملية، أو

يعارضونها بروايات قولية شاذة أو منكرة، وغلاة الصوفية أبرع الفِرَق في التأويل،

وأشدهم إسرافًا فيه بعد الباطنية، الذين يشتبهون بهم كثيرًا؛ ذلك لأنهم لا

يلتزمون في التأويل ما يلتزمه المتكلمون والفقهاء من عدم الخروج باللفظ عن حقيقته

إلا إلى ضرب من ضروب المجاز أو الكناية، بل يزيدون على ذلك باب الكشف،

وباب الإشارة وباب الرموز؛ ولذلك نرى كلامهم ممزوجًا بالآيات والأحاديث محرفة

عن معانيها الصحيحة التي تدل عليها في اللغة؛ ولأجله نرى كلامهم مقبولاً عند

الجماهير من غير تأمل ولا تفكُّر، حتى إن المتكلمين والفقهاء ما عادوا ينكرون

عليهم شيئًا كما كان السلف ينكرون على كل من يخالف ظواهر النصوص، أو

يبتدع في الدين ما لم يكن في الصدر الأول.

فمن تدبر ما ذكرنا عَلِمَ أن تحرير علم التصوف شيء لا يستطيعه إلا من

كان راسخًا في علم الكتاب والسنة أتم الرسوخ، وعارفًا بالتصوف معرفة علم وذوق

وعمل، وقد ادخر الله - تعالى - هذا للعالِمين العاملين الذائقين المفسرين

المحدِّثين- شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري، ومحقق الإسلام ابن القيم

الدمشقي- فالأول عالم أثري، غلب عليه التصوف، والثاني صوفي ذائق، غلب

عليه علم السُّنة، جمع الأول زُبدة التصوف جمعًا موجزًا في كتابه (منازل

السائرين) وشَرَحه الثاني وبيَّن ما له وما عليه في كتابه (مدارج السالكين) وها

نحن أولاء ننقل من كتب العلماء ترجمة وجيزة لكل من الشيخين، ونقفي عليها

بالتعرف بكل من الكتابين:

***

ترجمة شيخ الإسلام الهروي

جاء في حوادث سنة 481 من كتاب (شذرات الذهب) ما نصه:

وفيها توفي أبو إسماعيل الأنصاري الحنبلي، عبد الله بن محمد بن علي الهروي،

الصوفي القدوة الحافظ أحد الأعلام، توفي في ذي الحجة، وله ثمانون سنة وأشهر.

سمع من عبد الجبار الجراحي، وأبي منصور محمد بن منصور الأزدي

وخلق كثير، وبنيسابور من أبي سعيد الصيرفي، وأحمد السليطي صاحبي الأصم،

وكان قذى في أعين المبتدعة وسيفًا على الجهمية، وقد امتحن مرات. وصنف

عدة مصنفات، وكان شيخ خراسان في زمانه غير مدافَع، قاله في العبر.

ومن شعره:

سبحان من أجمل الحسنى لطالبها

حتى إذا ظهرت في عبده مدحا

ليس الكريم الذي يعطي لتمدحه

إن الكريم الذي يثني بما منحا

وجاء في أول حرف العين من (الكواكب الدرية) في طبقات الصوفية

للمُناوي:

(عبد الله بن محمد بن علي شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي

الحافظ العالم العارف الصوفي صاحب (منازل السائرين) كان إمامًا في التفسير

والحديث، حسن السيرة [1] في التصوف والعربية والتاريخ والأنساب، وغير ذلك

وكان لا يخاف في الله لومة لائم؛ ولذلك.. [2] في هلاكه مرارًا، فحفظ منهم.

وكان آية في التذكير والوعظ. مات سنة إحدى وثمانين وأربعمائة) اهـ.

وذكره الحافظ الذهبي في كتاب (العلو) وجعل عنوانه (شيخ الإسلام

الأنصاري) ولقبه بالإمام الكبير، على كونه لم ينقم منه سوى تأليفه لكتاب

المنازل، وقال فيه ما نصه:

(كان أبو إسماعيل آية في التفسير، رأسًا في التذكير، عالمًا بالحديث

وطرقه، بصيرًا باللغة، صاحب أحوال ومقامات، فيا ليته لا ألف كتاب المنازل،

ففيه أشياء منافية للسلف وشمائلهم، قيل: إنه عقد على تفسير {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ

لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى} (الأنبياء: 101) ثلاث مئة وستين مجلسًا. وقد هدد بالقتل

مرات ليقصر من مبالغته في إثبات الصفات، وليكف عن مخالفيه من علماء الكلام،

فلم يَرْعَوِ لتهديدهم، ولا خاف من وعيدهم، ومات في سنة إحدى وثمانين

وأربعمائة، وله خمس وثمانون سنة، سمع من عبد الجبار الجراحي، وأبي

سعيد الصيرفي وطبقتهما) .

***

ترجمة محقق الإسلام ابن القيم

قال العلامة السيد نعمان خير الدين بن الآلوسي البغدادي في كتابه (جلاء

العينين) :

العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي،

ثم الدمشقي الفقيه الحنبلي المفسر النحوي الأصولي المتكلم الشهير بابن قيم

الجوزية. قال في الشذرات: بل هو المجتهد المطلق.

قال ابن رجب: ولد شيخنا سنة إحدى وتسعين وستمائة، ولازم الشيخ تقي

الدين ابن تيمية، وأخذ عنه وتفنن في كافة علوم الإسلام، وكان عارفًا في التفسير

لا يُجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيه المنتهى، وبالحديث ومعانيه وفقهه

ودقائق الاستنباط منه لا يُلحق في ذلك، وبالفقه والأصول والعربية، وله فيها اليد

الطُّولى، وبعلم الكلام والتصوف.

حبس مدة لإنكاره (جد الرحيل إلى قبر الخليل) .

وكان ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، ولم أشاهد مثله

في عبادته وعلمه بالقرآن والحديث وحقائق الإيمان، وليس هو بالمعصوم، ولكن

لم أر في معناه مثله.

وقد امتحن وأوذي مراتٍ، وحبس مع شيخه شيخ الإسلام تقي الدين في المرة

الأخيرة بالقلعة منفردًا عنه، ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ؛ وكان في مدة

حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن، وبالتدبر والتفكر ففتح عليه من ذلك خير كثير،

وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على

الكلام في علوم أهل المعارف والخوض في غوامضهم وتصانيفهم ممتلئة بذلك،

وحج مرات كثيرة وجاور بمكة.

وكان أهل مكة يتعجبون من كثرة طوافه وعبادته، وسمعت عليه قصيدته

(النونية) في السُّنة وأشياء من تصانيفه غيرها، وأخذ عنه العِلم خَلق كثير في حياة

شيخه، وإلى أن مات وانتفعوا به. قال القاضي برهان الدين الزرعي: وما تحت

أديم السماء أوسع علمًا منه، ودرس بالصدرية، وأم بالجوزية، وكتب بخطه ما لا

يوصف كثرةً، وصنف تصانيف كثيرة جدًّا في أنواع العلوم، وحصل له من الكتب

ما لم يحصل لغيره.

فمن تصانيفه: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته، وسفر الهجرتين،

ومراحل السائرين، الكلم الطيب، وزاد المسافرين، وزاد المعاد أربع مجلدات،

وهو كتاب جليل، وكتاب نقد المنقول، وكتاب أعلام الموَقِّعين عن رب العاليمن،

ثلاث مجلدات، وكتاب بدائع الفوائد، مجلدان، النونية، الشهيرة بالشافية الكافية،

الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطِّلة، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح،

ونزهة المشتاقين، وكتاب الداء والدواء، وكتاب مفتاح دار السعادة، مجلد ضخم

غريب الأسلوب واجتماع الجيوش الإسلامية، وكتاب الطُّرق الحُكمية، وكتاب عُدّة

الصابرين، وكتاب إغاثة اللهفان، كتاب الرُّوح، وكتاب الصراط المستقيم، والفتح

القدسي، والتحفة المكية، والفتاوى، وغير ذلك.

توفي ثالث عشر رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، ودُفن بمقبرة الباب

الصغير بعد أن صُلِّي عليه بمواضعَ عديدة، وكان قد رأى - قبل موته - شيخه

تقي الدين في النوم، وسأله عن منزلته فأشار إلى علوها فوق بعض الأكابر، ثم

قال له: وأنت كدت تلحق بنا، ولكن أنت الآن في طبقة ابن خزيمة، رحمهم الله

تعالى- انتهى باقتصار.

***

مكانة كتاب منازل السائرين

جاء في كشف الظنون ما نصه:

(منازل السائرين) أوله (الحمد لله الواحد الأحد)

إلخ وهو لشيخ

الإسلام عبد الله بن محمد بن علي أبو إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي الصوفي

المتوفى سنة 481 إحدى وثمانين وأربعمائة. وهو كتاب في أحوال

السلوك.

قال فيه: هذه المقامات يجمعها رُتب ثلاث: الأُولى: أخذ المريد في السير،

الثانية: دخوله في الغربة، والثالثة: حصوله على المشاهدة الجاذبة إلى عين

التوحيد، ألفه حين سأله جماعة من الراغبين في الوقوف على منازل السائرين إلى

الحق من أهل هَراة فأجاب، ورتبه لهم فصولاً وأبوابًا، وجعله مائة مقسومة على

عشرة أقسام، كل منها يحتوي على عشر مقالات.

(وقد شرحه جماعة منهم الشيخ كمال الدين عبد الرزاق الكاشي المتوفى سنة

730 ثلاثين وسبعمائة لغياث الدين محمد بن رشيد الدين محمد بن محمد بن طاهر

الوزير، أوله (الحمد لله الذي خص العارفين بمعرفة ما لا يعرفه إلا هو)

إلخ

وذكر الكاشاني أن النسخ كانت مختلفة، وألفاظها متباينة حتى ساق إليه القدَر

نسخة مقروءة على المصنف موشحة بإجازة بخطه، قال: وهو كتاب فاق على كل

ما صُنِّف في هذه الطريقة.

وشرحه المولى شمس الدين محمد البتادكاني الطوسي المتوفى سنة 891

إحدى وتسعين وثمانمائة، وهو شرح ممزوج بالفارسية، سماه (تسنيم المغربين في

شرح منازل السائرين) .

وشرحه محمود بن محمد الدركزيني المتوفى سنة 743 ثلاث وأربعين

وسبعمائة، سماها تنزل السائرين، ولأحمد بن إبراهيم الواسطي المتوفى سنة

711 إحدى عشرة وسبعمائة شرح نافع.

(ولشمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية الدمشقي

المتوفى سنة 751 إحدى وخمسين وسبعمائة شرح سماه (مدارج السالكين) وهو

شرح مبسوط. وعلق عليه أبو طاهر محمد بن أحمد الفيشي المتوفى سنة 747

سبع وأربعين وسبعمائة، وترجمه الشيخ مصلح الدين، المعروف بابن نور الدين

المتوفى سنة 981 إحدى وثمانين وتسعمائة بالتركية، واختصرته الشيخة عائشة

بنت يوسف الدمشقية وسمته (الإشارات الخفية في المنازل العلية) ، وشرحه

الشيخ الإمام عبد الغني التلمساني.

وشرحه أيضًا الشيخ الإمام سليمان بن علي بن عبد الله التلمساني الصوفي

المتوفى سنة 690 تسعين وستمائة بأمر الشيخ الزاهد ناصر الدين أبي بكر بن فليح،

وهو شرح أوله (الحمد لله الذي روحنا بالحمد)

إلخ اهـ.

***

مكانة كتاب مدارج السالكين

مصنفات ابن القيم في كتب علماء الإسلام نادرة، وكتاب مدارج السالكين في

كتب ابن القيم نادرة، فإذا كان كل كتاب منها ممتازًا بتحقيق وإحاطة في مباحث

العلوم، فلا يُستغنى عنه بغيره في الجملة، فكتاب المدارج أولى بأن لا يُستغنى عنه

بغيره في الجملة، ولا في التفصيل. ذلك بأن مباحث كل كتاب من تلك الكتب قد

توجد مجملة أو مفصلة في كتبه الأخرى أو كتب شيخه وغيرهما من المحققين ،

وأما مباحث المدارج فما يوجد منها في تلك الكتب قليل جدًّا، فهو الكتاب الذي قد

انفرد بتحرير علوم الصوفية، ووزنها بميزان الكتاب العزيز والسنة النبوية، وما

كان عليه صفوة المسلمين في الصدر الأول.

قدر الله - تعالى- أن يجمع مباحثها له إمام من أكبر أئمتهم المعتدلين في

أوجز عبارة، وألطف إشارة، يعزّ على غيره الحكم له أوعليها، بل يقلّ في الناس

مَن يفهم الغايات التي ترمي إليها، وإنما أحجم غير ابن القيم من علماء السنة

الأعلام عن شرح كتاب المنازل بمثل ما شرحه به، أو إنشاء كتاب مستقل في

موضوعه؛ لأن الصوفي القح منهم - وهو قليل - لا يُرجى منه أحسن مما جاء به

الهروي، والبعيد عن التصوف منهم لا يفهم رموزهم ومقاصدهم، ولا يدرك

أحوالهم وأذواقهم، فهو إما أن يحكم عليهم بالتضليل، أو يعذرهم بضرب من

التأويل؛ ألم تر إلى الحافظ الذهبي كيف تمنى لو لم يؤلف الأنصاري كتاب المنازل؟

ولو لم يكن من أكبر علماء التفسير والحديث، ومقاومي الجهمية وغيرهم من أهل

التعطيل والتأويل، لضلله بهذا الكتاب تضليلاً.

إذا كان لكتاب المدارج عيب يوقيه من العين، فعيبه أن أكثر ما فيه من

الأحاديث غير معزوٍّ إلى مواضعه من دواوين السنة، خلافًا لعادة مؤلفه وأمثاله،

كأن العَدْوى سَرَتْ إلى مصنّفه من كُتب التصوف، ولكن لم يصل فعلها فيه إلى

إيراد الأحاديث الموضوعة، أو الاستدلال بالأحاديث المنكرة والضعيفة، فإن هذا لا

يأتي من أثري محقق مثل ابن القيم.

وجملة ما نقول في هذا الكتاب أنه أفضل ما عرفنا وسمعنا به من كتب

التصوف والأخلاق الدينية، وقد فند ما ذكرنا، وما لم نذكر من دخائل كتب

التصوف وبِدعها، فهو غاية الغايات في هذا الباب، والله أعلم بالصواب. والحمد

لله الذي وفقنا لطبعه ونشره، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

_________

(1)

لعله: سقط شيء من هنا.

(2)

ههنا كلمة ممحوة في الأصل لعلها: سعى علماء الكلام.

ص: 50

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أعظم معركة بحرية

بين أعظم أساطيل العالم

نشرت الحكومة الإنكليزية في3 يونيو1916 بلاغًا رسميًّا في مصر هذا نصه:

كما نشر في المقطم وغيره:

أعلنت وزارة البحرية البريطانية أنه بعد ظهر يوم الأربعاء في 31 مايو

حاول الأسطول الألماني الأكبر أن يخترق نطاق الحصر البحري الذي ضربناه على

ألمانيا فجاء من جهة بحر كاتغات قاصدًا دخول البحر الشمال، وكان هذا الأسطول

مؤلفًا من أساطيل الدردنوطات والطرادات الكبرى والطرادات والمدمرات

إلخ.

فانبرى له أسطول من الطرادات البريطانية الكبرى تعززه الطرادات

والمدمرات واحتدم القتال بين الفريقين وأسفرت المعركة عن خسارة عظيمة من

الجانبين.

وبعد مدة وجيزة وصل أسطول الدردنوطات البريطانية إلى مكان المعركة

فكف العدو عن القتال وعادت بوارجه قاصدة الموانئ الألمانية.

وقد أُغرقت البوارج الألمانية التالية وهي:

بارجة دردنوط من طرز (كيزر) نسفت نسفًا، وبارجة أخرى من الطرز

عينه أُغرقت بنار المدافع.

أما الطرادات الألمانية الثلاثة الكبرى التي قاتلت في المعركة - وبينها الطراد

العظيم لنزوف، والطراد العظيم درفلنجر على ما يظن - فقد نُسف واحد منها

وعُطل الثاني، ووقف عن الحركة، ورُئِيَ الثالث مصابًا بعطل كبير.

ورُئِيَ طراد ألماني من الطرادات الخفيفة وهو يغرق، ومما يجدر ذكره أن

الألمان اعترفوا بضياع ثلاثة من طراداتهم الخفيفة، وهي فرونلوب وفسبادن

وبومون، وغرقت ست مدمرات ألمانية، ونطحت غواصة ألمانية فأغرقت.

هذه الخسارة التي أرسل القائد العام للأسطول البريطاني خبرها كما رُئِيَتْ

ولكن ثلاث بوارج ألمانية من البوارج الكبرى أصيبت بعطب كبير، والمرجح أن

العدو أصيب بخسارة أخرى لم يستطع أسطولنا رؤيتها بسبب صعوبة الرؤية من

جراء الأحوال الجوية.

والظاهر أن المعركة دارت في آخر الأمر والبوارج الألمانية تجدّ في السير،

وقد ساقها البريطانيون أمامهم من السكو إلى مصب نهر الألب.

أما خسارة الأسطول البريطاني فهي من الطرادات الكبرى (كوين ماري)

و (أندفيتجابل) و (أنفنسبل) ، والطراد (واريور) و (وسبرهوك)

و (أردنت) وثلاث مدمرات أخرى ضاعت، ولم يغرق للبريطانيين شيء من

بوارج الدردنوط ولا من الطرادات الخفيفة.

وقد وقع عبء القتال قبل وصول الأسطول البريطاني الأكبر على قسم من

أسطول الطرادات الكبرى البريطانية، فقاتل هذا القسم أسطول العدو الأكبر

وأصيب بالخسارة المتقدمة، وهو يقاتل أسطولاً يفوقه كثيرًا في قوة البوارج

وعددها اهـ.

وقد شرح كل من المقطم والأهرام هذا البلاغ شرحًا، صرحا فيه بأن

الطرادات الكبرى التي غرقت من نوع الدردنوط أيضًا، وقد آثرنا شرح الأهرام

للخسائر، وهذا نصه:

***

خسائر الألمان

جاء في البلاغ البريطاني أن الألمان فقدوا بارجتين من طراز (كيزر)[1]

إحداهما نسفت نسفًا، والأخرى أغرت بنار المدافع. ومحمول كل بارجة من هذه

البوارج 24700 طن، وهي من بوارج الدردنوط الألمانية وسلاحها 10 مدافع

قطر 12 بوصة، و14 مدفعًا قطر 6 بوصات، و12مدفعًا ثقل 24 رطلاً و4

ثقل 24 رطلاً، وهي لمقاومة الطيارات، وفيها 5 أنابيب، للطوربيد (الواحدة

20 بوصة) مغمورة بالمياه 4 منها في جانبها، وواحدة في المؤخرة.

وقد بنيت بوارج الدردنوط الألمانية التي من طراز (كيزر) (لقب

الإمبراطور) سنة 1912- 1913 وعددها خمس، وهي (كيزر) و (فردريك

درجروس) و (كيزرين) و (برنس رجنب لويتبولد) و (كوينج ألبرت) ، فإذا

كانت اثنتان قد دمرتا على ما جاء في البلاغ يكون الباقي عند الألمان من هذا

الطراز ثلاث.

وليس عند الألمان أكبر من هذه البوارج سوى ثلاث، محمول الواحدة منها

28 ألف طن، وهي (أرزتس فردريك الثالث) ، وأرزاتس ورث و (T) وأربع

محمول الواحدة 25 ألف طن، وهي (أرزاتس براندنبرج) و (كوينج)

و (جروس كورفرست) و (مرجراف) .

وأما الطرادات الألمانية التي يقول البلاغ إن منها لنزوف ودرفلنجر، فهي من

طرادات القتال الكبرى، وليس لدى ألمانية منها سوى ثلاثة وهي (درفلنجر)

و (لنزوف) و (أرزاتس هرثا) ، ومحمولها 28 ألف طن وسلاحها 8 مدافع قطر

12 بوصة و12 مدفعًا قطر 6 بوصات، و12 مدفع ثقل 24 رطلاً و5 أنابيب للطوربيد (22بوصة) مغمورة بالمياه أربعة منها في الجوانب وواحدة في

المؤخرة.

أما الطرادات الثلاث التي يعترف الألمان بضياعها فهي.

1-

بومرن ومحمولها 12200 طن، وسلاحها 4 مدافع قطر 11 بوصة و14

مدفعًا قطر6،7 بوصة و 20 مدفعا ثقل 24 رطلا و4 ثقل رطل واحد (أي ثقل

مقذوفها) وأربع مدافع رشاشة و6 أنابيب للطوربيد مغمورة بالمياه، في جوانبها

وفي المقدمة والمؤخرة. وللألمان من هذا الطراز أربع بوارج أخرى، وهي

(دتشلند) و (هنوفر) و (شلسويج هولستين) و (شلسين) .

2-

فرونلوب وهو طراز صغير محموله 2715 طنا وسلاحه 10 مدافع 4

بوصات و10 مدافع ثقل رطل، و4 مدافع رشاشة، وأنبوبان للطوربيد مغموران

تحت الماء

3-

(وستفالن) وهي دردنوط كبيرة ومن طراز (نساو) ومحمولها 1800

طن وسلاحها 12 مدفعًا قطر 11 بوصة و12 قطر 6 بوصات و16 ثقل 24 رطلاً

و6 أنابيب للطوربيد في المقدمة والمؤخرة والجانبين مغمورة تحت الماء.

ولألمانيا من هذه الطراز أربع بوارج فقط وهي (وستفالن. ونساو. وبوزن

ورينلاند) .

وخسر الألمان عدا ما تقدم ست مدمرات لم تُذكر أسماؤها، هذه خسارة

الأسطول الألماني ولا نستطيع تقدير خسارة الأنفس لعدم التحقق من عدد البوارج

والطرادات التي أغرقت تماما بمن فيها، على أنا إذا سلمنا بأنه لم يغرق سوى

بومرن وفرونلوب ووستفالن، وهي الثلاث التي اعترف الألمان أنفسهم

بضياعها فلا تقلّ خسارتهم في الرجال عن ألف رجل في وستفالن و800 في بومرن

و250 في فروتلوب (أي 2050) .

***

خسارة البريطانيين

أما خسارة الاسطول البريطاني، فإذا بحثنا فيها فإنما نذكر أمورا صحيحة

إعتمادا على البلاغ الذي لدينا، فلا وجه للحدس والتخمين وللظن والشك، وهذا

بيان الخسائر على ما جاء في البلاغ. وقد ذكرنا سلاحها منذ يومين فلا نعود إلى

ذكره اليوم.

محمولها

...

...

سرعتها

... عدد

طن

...

...

... عقدة

... رجالها

كوين ماري

28000

...

28

... 1000

أنديقا تجبل

18750

...

25

790

انفنسيل

17250

... 26

... 780

دفنس

14600

... 23.5

... 850

بلاك برنس

13550

... 32.65

... 704

وريور

13550

... 22،9

... 704

ــ

...

...

... 4828

والبارجة كوين ماري هي من أحدث الدردنوطات الكبرى، ولا يوجد أكبر منها

في الأسطول البريطاني من حيث المحمول سوى ثلاث قطع، وهي البارجة (ثيجر)

ومحمولها 28 ألف طن والبارجة (وورسبيت) والبارجة (فليانت) والبارجة

(كوين إليزابث) ومحمول كل منها 27500 طن على أن (كوين ماري) تمتاز عن

الثلاث بوارج الأخيرة بسرعتها، فهي تجتاز 28 عقدة في الساعة بينما (كوين

إليزابث) و (وورسبيت) و (فليانت) سرعة الواحدة منها لا تزيد على 25 عقدة

مثل (كوين ماري) وقد كانت البارجة (كوين ماري) من فرقة الطرادات الكبرى

في الأسطول الأكبر.

ويظهر أن عبء القتال في هذه المعركة، وقع على الأسطول البريطاني الذي

كان في البحر الأبيض المتوسط وهو الآن في البحر الشمالي فإن الطرادات

(انديفاتجبل) و (انفنسبل) و (دفنس) و (بلاك برنس) و (ووريور) جميعها

كانت من هذا الأسطول، ولضباط هذه البوارج أصدقاء عديدون في الإسكندرية

وبورسعيد والسويس وغيرها من موانئ البحر المتوسط، سيحزنون لِما أصابهم،

ويأسفون أشد الأسف لفقدهم.

وقد ظل (بلاك برنس) مدة طويلة في مياه البحر الأحمر وخليج السويس

بعد شبوب هذه الحرب وأسر جملة بواخر من بواخر الأعداء في أوائلها.

أما المدمرات الإنكليزية التي غرقت وهي (فرتشون) و (سباروهوك)

و (أردنت) و (تيبراري) ، فهذه جميعها من المدمرات الأوقيانوسية، وقد بنيت

عام 1913 وطول الواحدة منها 260 قدما، ومحمولها 935 طنا، وسرعتها 3.7

عقدة في الساعة وسلاحها 3 مدافع قطر 4 بوصات وأنبوبان للطوربيد، وعدد

رجال الواحدة منها مئة رجل.

ولعل الثلاث المدمرات الأخرى التي ضاعت، ولم يذكر اسمها في البلاغ من

نوعها أيضًا فتكون خسارة البريطانيين من الرجال في المدمرات نحو 700 اهـ

شرح الأهرام.

(المنار)

ظاهر البلاغ الرسمي أن خسارة الأسطول الإنكليزي أكبر من خسارة

الأسطول الألماني. وقد ورد في البرقيات أن الألمان تبجَّحوا وافتخروا بهذه المعركة،

وخطب قيصرهم خطبة قال فيها: الآن ألقينا الرعب في أعماق قلوب أعدائنا. ثم

وردت برقيات أخرى بأن خسارة الألمان كانت أعظم مما ورد في البلاغ الإنكليزي،

وفي بلاغاتهم الرسمية.

وقد قال ناظر البحرية البريطانية: إنه جازم بأن خسارة العدو لم تكن أقل من

خسارتهم، وإن لم يسهل بيان ذلك بالتفصيل. وصرح هو وغيره بما لا مراء فيه

وهو أن الأسطول البريطاني لا يزال صاحب السلطان الأعلى على البحار.

***

المنار

الدعوة إلى انتقاده

جرت عادتنا بأن ندعو قراء المنار في أول كل سنة إلى انتقاد ما يرونه

منتقدًا فيه بالشروط التي كررنا بيانها، ونعني بقراء المنار هنا كل من اطلع

عليه وقرأ شيئًا فيه، لا المشتركين خاصة، ونعِد بأن ننشر كل ما يكتب إلينا

في ذلك بشروطه، وأهم الشروط أن ينتقد القارئ للكلام ما يراه خطأ، ويبين

ذلك بالدليل من غير استطراد ولا تطويل.

***

حجم المنار في هذه السنة

ذكرنا في الجزء الماضي بأن قلة الورق اضطرتنا إلى أن نجعل كل

جزء من أجزاء هذه السنة ثمانية كراريس (ملازم) وأننا إذا ظفرنا في أثناء

السنة بورق كافٍ نجعل السنة اثني عشر شهرًا، فيكون حجم مجلد هذه

السنة من سني الحرب كمجلد التي قبلها.

***

مباحث هذا الجزء

ضاق هذا الجزء عما وعدنا به فيما قبله، من كتابة مقالة في حال

المسلمين الاجتماعية، وحال أغنيائهم وسائر أصنافهم في التعاون على

الأعمال النافعة، وسننشر المقالة - إن شاء الله - في الجزأين الثاني

والثالث.

_________

(1)

المنار: تعريب كيزر قيصر، والألمان يطلقون لقب قيصر على عاهلهم كالروس.

ص: 59

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العصبية الجنسية التركية

وعاقبة قتل نابغي العرب بسورية

لعلنا قد سبقنا جميع الكتَّاب إلى بيان خطر العصبية الجنسية على الدولة

العثمانية في عصر الدستور فإننا أشرنا إلى ذلك في أول مقالة كتبناها عند حدوث

الانقلاب وإعلان الدستور إذ كان جميع العثمانيين يصفقون طربًا ويحسبون أنهم نالوا

السعادة صفوًا من كل كدر، آمنينَ من كل خطر، تلك المقالة التي جعلنا عنوانها

(عيد الأمة العثمانية بنعمة الدستور والحرية) ، ونشرناها في (ج 6 م 11) الذي

صدر 29 جمادى الآخرة سنة 1326 (28 يوليو و15 تموز) أي بعد إعلان

الدستور بأربعة أيام، وقد جاء فيها بعد بيان مزايا هذه النعمة ما نصه:

إن أمامنا عقبات كثيرة (منها) ما يتوقع من مقاومة بعض الحكام

الظالمين للحرية الجميلة التي يرقص لها طلاب الدستور طربًا ويهيمون بها

شغفًا (ومنها) ما هو أقرب إلى الوقوع كالنزاع بين الأحرار المستقلين، وبين

المتعصبين والمقلدين، (ومنها) مسألة الجنسية العثمانية، وما يقف في

طريقها من جنسيات الشعوب التي يتألف منها جسم الدولة العلية، فمن

المطالب بالنظر في ذلك؟ .

ثم أنشأنا بعد شهر مقالة أخرى نشرناها (ج7 م 11) أوضحنا فيها

خطر اختلاف الأجناس وشدة الحاجة إلى تكوين جنسية عثمانية تتحد فيها

جميع الأجناس والملل، وبينا أن الواجب على أحرار الترك وعقلائهم أن يبدأوا

بالدعوة إلى ترك العصبية الجنسية (اللغوية) ولا سيما زعماء جمعية الاتحاد

والترقي منهم، لأن دعوتهم هي التي يرجى أن تسمع ويستجاب لها، ثم

كررنا الكتابة في ذلك كثيرًا.

وقد راءى الاتحاديون عقب الانقلاب بإظهار الرغبة في الوحدة العثمانية

وكراهة العصبية الجنسية فحمدنا ذلك لهم كتابة وخطابة ولكنهم ما عتموا أن

نزعوا ثوب الرياء الشفاف بعد أن استقرت سلطتهم، فنبذوا الجنسية العثمانية

وراء ظهورهم، ونهضوا بالجنسية التركية بغلو وإسراف وعجلة خارجة عن

طور العقل، فنصحنا لهم أولاً بالكتابة وبينا لهم أن تحويل العربي عن عربية

والألباني عن ألبانيته والأرمني عن أرمنيته والرومي عن روميته مما يستحيل

في هذا العصر، وأنه لو كان ممكنا لعذرناهم في محاولة تتريك جميع الشعوب

العثمانية سياسة لا دينًا.

ثم قصدت إلى الآستانة للسعي إلى منع التفرق بين العرب والترك

وتأسيس مدرسة الدعوة والإرشاد فيها، ونشرت في جرائدها مقالات العرب

والترك المعروفة لقراء المنار فجعلتها تمهيدًا للسعي في الوفاق ومنع سريان

التفرق الجنسي، إذ بينت فيها ضرورة اتحاد هذين العنصرين مع محافظتهما

على لغتهما، وأنه يجب أن يكونا كعنصري الهواء أو الماء في تكوينهما لحقيقة

واحدة، أعني الجنسية السياسية العثمانية، وبينت فيها أسباب الخلاف

ومثاراتها في الآستانة، وما أخطأَتْ به وزارات الدولة وجرائد العاصمة

وجمعياتها في ذلك فنقم العرب منها، فكان أول من شكر لي هذا السعي،

واهتم به ووعد ببذل نفوذه لتلافي الخلاف حسين حلمي باشا الصدر الأعظم

في ذلك العهد، وكان من سوء الحظ أن أجل صدارته لم يطل، ولا تزل،

أزمة الحكومة بيده، فكان يعدني بتخصيص وقت للبحث معي في هذه المسألة

وانقضت السنة التي قضيتها في الآستانة ولم يف بوعده، على أنه وفى لي

بعدة جلسات في داره وفي الباب العالي للنظر في المسألة الأخرى، أي

مشروع التعليم والإرشاد، ولكن لم يكن لذلك ثمرة.

وقد علمت في أواخر أيامي في الآستانة أن الاتحاديين قد صمموا على

حل مسألة الجنسيات بالقوة القاهرة، وأنهم بدأوا بالتنكيل بالأرنؤط وسيتلوهم

الأرمن والعرب والأكراد، وقد كان هذا أحد الباعثين لي على تلك الحملات

الشديدة التي حملتها على جمعية الاتحاد والترقي في المنار، والباعث الثاني

هو الديني ولا أبحث فيه الآن.

لم أكن أنا الذي قاومت الجمعية بالكلام وحدي بل كانت المقاومة لهم

بالقول والعمل على أشدها في الآستانة وسائر بلاد الترك حتى آلت إلى تسلل

الألوف من جمعيتهم، ثم إلى قيام الأحزاب في مجلس الأمة عليهم، ثم إلى

تأييد الجيش لحزب الحرية والائتلاف في إسقاط وزارتهم، ومما يجب أن يذكر

أنهم اعترفوا في أثناء ذلك الجهاد وبعده بأنهم كانوا يريدون تتريك جميع

عناصر الدولة وأنهم رجعوا عن ذلك.

ولما عادت الوزارة إليهم باغتيال ناظم باشا ناظر الحربية في الباب

العالي والقبض على كامل باشا الصدر الأعظم فيه هالنا الأمر وخفنا من وقوع

الفوضى في الآستانة والدولة في حال حرب مع البلقان غُلبت فيه على أمرها،

ولكن وزارة كامل باشا لم يكن لها حزب يؤيدها، إذ كان حزب الحرية

والائتلاف غير متفق معها، ثم عقدت الوزارة الاتحادية الصلح وأنشأت تعقد

مع الدول الكبرى الاتفاق تلو الاتفاق على جعل البلاد العثمانية مناطق نفوذ

اقتصادي لهن، وتقترض عشرات الملايين منهن، وبدأت بالعراق العربي

فاعترفت للإنكليز فيه بما طلبوا من النفوذ والحقوق، فأنكرنا ذلك عليهم أشد

الإنكار، ولم يمنعهم ذلك طبعًا من الاتفاق مع فرنسة على نفوذها في سورية

إلخ.

على أننا لما رأينا البلقانيين قد انتصروا على الدولة في الحرب حتى

كادوا يستولون على الآستانة علمنا أن الخطر على الدولة أقوى وأسرع مما

كنا نخشى، وأن الدولة إذا كانت قد عجزت عن حفظ الرومللي وهو سياج

الآستانة وحصنها أمام البلقان، ومعظم قوتها الحربية هنالك وباقيها على حدود

الروس، فلا بد أن تعجز بالأولى عن الدفاع عن بلادنا العربية إذا هجمت

عليها دولة قوية. إذ ليس في بلادنا حصون ولا سلاح، وكان هذا الأمر منبها

لكثير من أهل الغيرة والفهم من العرب إلى ما سبقهم بعض أذكياء الترك إلى

الدعوة إليه وهو وجوب إدارة الدولة من نوع اللامركزية؛ لأن ذلك أدعى إلى

عمران كل قطر واستعداده للدفاع عن نفسه عند عجز المركز العام عن الدفاع

عنه.

تأسس حزب اللامركزية بمصر في أثناء حرب البلقان وسرت دعوته في

المملكة العثمانية كلها، ولم يكن للحكومة الاتحادية وجه للشكوى منه؛ لأنه

حزب عثماني يحاول الوصول إلى غايته من الطريق القانوني الذي ينتهي إلى

مجلس الأمة، وتأسست في أثناء ذلك الجمعية الإصلاحية في بيروت بإذن

الحكومة فشذت في موضوع ما طلبته من تعيين مستشارين ومراقبين للحكومة

من الأجانب وأنكرنا عليها شذوذها في المنار، ثم أنشئت جمعية أخرى في

البصرة صارح رئيسها طالب بك النقيب حكومة الاتحاديين بالإنكار بل بالعداء،

وقد كادت الجمعية له فحاولت اغتياله فلم تظفر، ثم حاسنته وكلفته السعي

للتوفيق بينها وبين الأمير ابن سعود فبذل جهده في ذلك.

ثم تعلقت رغبة كثير من أذكياء العرب بعقد مؤتمر عربي في باريس

لإظهار مطالب العرب الإصلاحية للعالم كله، وعهدوا بذلك إلى حزب

اللامركزية فعقد المؤتمر وحضره مندوبون من البلاد العربية والجمعيات

العربية واختير لرياسته السيد عبد الحميد الزهراوي أحد مندوبي حزب

اللامركزية، وكان المؤتمر في غاية الاعتدال في مباحثه وقراراته.

حينئذ اهتمت جمعية الاتحاد والترقي وحكومتها بأمر العرب وأوفدت

مندوبا من زعمائها إلى باريس للاتفاق مع رئيس المؤتمر على إجابة العرب

إلى ما يطلبونه من الإصلاح المعقول، وعقدا ذلك الاتفاق المشهور، ثم قرر

مجلس الوكلاء، وصدرت الإرادة السلطانية ببعض مواد ذلك الاتفاق مع الوعد

بأن تعطى العرب حقوقًا أخرى بالتدريج، وكل ذلك مدون في كتاب (المؤتمر

العربي الأول) ونشر في المنار وفي الجرائد العربية المشهورة، ولكن ما

تقرر من ذلك لم يرض جمهور المطالبين بالإصلاح من العرب، وقد عده

أكثرهم خديعة مؤقتة من الاتحاديين، وكان فريق منهم أشهرهم الزهراوي

وعبد الكريم قاسم الخليل يرجحون إخلاص الاتحاديين وعزمهم على إرضاء

العرب دائما، وقد كان من إظهار الاتحاديين الميل إلى العرب أن صار أكبر

زعمائهم كطلعت بك يحضرون الاحتفالات التي يقيمها أعضاء المنتدى الأدبي

في الآستانة.

هذه خلاصة ما كان من أمر الخلاف والوفاق بين العرب والترك أو

الاتحاديين منهم خاصة قبل هذه الحرب، فلما وقعت الحرب بين الدول الكبرى

وعلم طلاب الإصلاح من العرب أن دولتهم تريد أن تستفيد منها وتوقعوا أن

تدخل فيها، كفوا جميعًا عن المطالبة بالإصلاح، وأظهروا الميل إلى تأييدها

في كل ما تقرره وإن لم يعتقدوا أنه الصواب حذرًا من المنازعات الداخلية،

وقد حبذنا عملهم هذا بمقالة نشرناها في جريدة الأهرام التي صدرت في سادس

ذي القعدة 1332 (16 سبتمبر سنة 1914) أي قبل دخول الدولة في الحرب،

ثم في منار ذي الحجة أي بعد دخول الدولة في الحرب، وقد قلنا في أول تلك

المقالة وهي خطاب لمسلمي سورية ما نصه:

ثم أشكر لكم ما أظهرتموه من النجدة والهمة، في الإخلاص والطاعة

للدولة، وبذل الأنفس والأموال والثمرات لها، والكف المؤقت عن طلب

الإصلاح منها، وتقديركم الحال الحاضرة قدرها، حتى أنكم ساهمتم في هذا

أرقى أمم الأرض التي سكتت عن جميع مطالبها ومنازعاتها الداخلية. إلخ.

وماذا جرى بعد ذلك؟ ولى الاتحاديون جمال باشا أحد زعمائهم منصب

القيادة العامة في سورية فأظهر الميل التام إلى العرب وصار يقرب إليه أذكياء

المتعلمين منهم ويحثهم على الاستمساك بعروة عروبيتهم وعثمانيتهم معا،

فصدقوه وازدادوا حماسة ورغبة في بذل دمائهم وأموالهم في سبيل الدولة،

حتى إذا ما تم له ما أراد من الاختبار، نزع عنه ثوب الرياء والمكر، ولبس

لهم جلد النمر، وقتَّلهم تقتيلاً، ونكل بهم أحد عشر شابًّا من خيار شبان

المسلمين منهم النابغة محمد الحمصاني وأخوه عبد الكريم قاسم الخليل الذي

كان رئيس المنتدى الأدبي في الآستانة، ثم اتصل بالاتحاديين وجعل جُل سعيه

إقناع العرب بالإخلاص لهم، فلم نصدق الخبر إلا بعد أن وصل إلى مصر

بعض الفارين من الشنق وبعض الأسرى من الجيش وأثبتوا لنا الخبر، ولكننا

مع ذلك لم نكتب كلمة إنكار على جمال باشا ولا على شيعته لأجل العلة التي

أشرنا إليها آنفا.

ثم تواترت الأنباء بشنق أناس آخرين من دمشق وغيرها بتهمة السياسة

وقتل آخرين بالرصاص ونفي بيوت كثيرة إلى الأناضول، فثبت عندنا حينئذ

أن الاتحاديين اغتنموا فرصة الأحكام العرفية في البلاد، والقبض على

الأرزاق والأعناق، لأجل القضاء المبرم على النهضة العربية وإكراه العرب

بالقوة القاهرة على ترك لغة أمتهم ودينهم، وعدم المطالبة بحق من حقوقهم،

ولكن الثابت في سنن الاجتماع وتاريخ الأمم أن هذه الطريقة من الاضطهاد

تؤدي إلى ضد ما يراد منها، وقد كنا قلنا من قبل: إن الإسلام قد أمات

العصبية الجنسية في بلاد العرب الحضرية فلا يقدر على إحيائها أحد إلا

حكومة الآستانة، ويمكننا أن نقول الآن إنها قد كونت الجنسية العربية الجديدة

وجعلتها خالدة، لأنها زرعتها في البدو والحضر وسقتها بالدم، وبالدم استقل

من استقل من جميع الأمم، وكنا نخاف منهم هذه العجلة في هذه الأيام لئلا

تجيء منافية لمصلحة الإسلام، إذ يخشى أن تكون هذه القسوة في اضطهاد

العرب في سورية سببًا ليأس الأمة العربية كلها من الدولة وجزمهم بأنه

يستحيل عليهم أن يحافظوا على وجودهم تحت سيادتها، وأن يحمل ذلك عرب

الجزيرة على الخروج عليها، خوفًا أن يحل بهم شر مما حل بغيرهم، فإن

الترك يحاربون اليمن وعسير ونجد منذ قرون فكل حكامها الحاضرين قد

قوتلوا، وأمير مكة لا ينسى لهم ما فعله معهم وهيب بك قبل هذه الحرب إذ

حاول الفتك به وسلب امتياز الشرفاء من الحجاز وجعله كولايات الشام، ولما

ظهر عليه الأمير أظهرت الدولة الاستياء مما حصل ونسب إلى الدفتردار.

واسترضى الصدر الأعظم الشريف بالاعتراف له بجميع حقوق أمراء مكة

التي كانت في عهد السلطان سليم، ولكن الشريف يعرف ظواهر هذه الأمور

وبواطنها، بل لا يخفى على أحد من العقلاء أن الدفتردار لا يجرؤ على إحداث

أمر كبير في الحجاز بدون أمر رئيسه (الوالي) وأن الوالي لا يجرؤ عليه

بدون أمر الآستانة، وأوامر الآستانة في عهد الاتحاديين قسمان: أوامر

الجمعية وهي الحاكمة، وأوامر الحكومة وهي المنفذة، على أنه يقيس وفاء

الحكومة بما كتبه إليه الصدر الأعظم على وفائها العرب بالاتفاق الذي عقد مع

رئيس المؤتمر العربي وما قررته في مجلس الوكلاء وصدرت به الإرادة

السلطانية من المطالب العربية.

كان يجب على دولة الاتحاديين في هذا الوقت أن تتودد للعرب أكثر مما

كانت تتودد اليوم بعد حرب البلقان، وأن تتم بالفعل ما بدأ به أنور باشا من

استمالة أمراء الجزيرة بالكتابة، وذلك بإرسال السلاح والذخيرة والضباط من

العرب إليهم لأجل أن يكونوا ذخرًا لها إذا استظهر الروس عليها في الأناضول،

فإذا كان مثل إنكلترة وألمانية تحسب الحساب لوصول أعدائها إلى بلادها

وتعد الآلات والجيوش لأجل الدفاع عنها، أفليس الترك أجدر بذلك وهم لولا

الألمان لم يستطيعوا حربًا في ميدان ما من ميادين هذا القتال، وحسبهم أنهم

فقدوا بحرب البلقان كل ما كان عندهم من ذخيرة وسلاح، وهل يوجد لهم ملجأ

يلجئون إليه إذا غلبوا في بلادهم إلا العرب وبلاد العرب، بل العرب وبلاد

العرب هي الملجأ للإسلام، ولذلك جاء في الحديث الصحيح (إذا ذلت العرب

ذل الإسلام) وأنى يبالي بالإسلام وعز الإسلام، من ينشرون في دار سلطتهم

أمثال كتاب (قوم جديد) و (صوك كتاب) التي يفضلون فيها زعانفهم

الغاوين، على الخلفاء الراشدين وعلى من دونهم من الأولياء الكرام، ومن

فوقهم من الأنبياء حتى خاتمهم عليهم الصلاة والسلام.

وأما العرب الذين أوجد الله بهم الإسلام، فإنهم أجدر الناس بالغيرة على

المسلمين ودار الإسلام، ولولا ذلك لما سكتوا على الضيم كل هذا الزمان،

ونخشى أن يكون قد زال ما كانوا يحذرون، ويئسوا من كل خير كانوا

يرجون، فيبدو للمنافقين ما كانوا يحذرون، كما نخشى أن تكون عاقبة ذلك

لغيرهم وهم لا يشعرون.

إنما يحرص سواد المسلمين الأعظم على حياة هذه الدولة؛ لأنه يهم كل

مسلم أن يكون للإسلام دولة مستقلة قوية وهي أمثل دول المسلمين في ذلك،

وإن كانت لا تقوم بدعوة الإسلام ولا تحيي علومه ولا تحمي شعوبه ولا أفراده

ممن يريد بهم سوءًا، ولكن لا يرضي أحدًا من المسلمين أن تجني على لغة

القرآن، وأن تضطهد العرب وتذلهم، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام:

(إذا ذلت العرب ذل الإسلام) رواه أبو يعلى من حديث جابر بسند صحيح،

وهذا الحديث من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ظهرت في هذا الزمان

ظهورا بيناه فإن الدولة قد تعرضت لخطر الزوال وفقد الاستقلال غير مرة،

وإنما كان يقيها منه تنازع أوربة على اقتسامها، فإذا زال التنازع بزوال

التوازن عقب هذه الحرب زالت الدولة بزواله، وأكبر المصائب على الإسلام

حينئذ أن تعد بلاد العرب تابعة لها، ومعدودة فيما يقسم بين الغالبين من تراثها،

إذ يكون المسلمون حينئذ أدنى حالاً من اليهود، إذ يزول استقلالهم الديني

والسياسي وهم في فقر مدقع لا يستطيعون معه عملاً، ولا توجد بقعة في

الأرض تمثل استقلال الإسلام غير بلاد العرب، ولولا جعل جزيرة العرب

تحت سيادة الدولة العثمانية بعضها بالاسم وبعضها بالفعل لما تسنى لها أن

تجعل نفسها دولة الخلافة ويعترف لها الناس والدول بذلك.

فجملة القول أن مصلحة المسلمين عامة أن تكون بلاد العرب قوية بنفسها،

غير محتاجة إلى قوة من خارجها لحمايتها، وقد بينا ذلك مرارًا، ولا خطر

في ذلك على الدولة إذا كان فيها من جراثيم الحياة ما يكفي لبقاء استقلالها،

وإنما الخطر كل الخطر في إضعاف العرب وجعل بلاد العرب عالة على

غيرها، وستظهر الأيام صدق هذا الكلام، ونسأله تعالى أن يكون بما فيه عز

الإسلام.

حاشية: كتبنا هذه المقالة لجزء الشهر الماضي فلم يتيسر نشرها فيه، ثم

جاءنا روتر بنبأ إظهار أمير مكة الشريف حسين الاستقلال في الحجاز

وسنفصل القول فيه في الجزء التالي لهذا إن شاء الله.

_________

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حكم الصيام

وجناية تاركيه على أنفسهم

وعلى المسلمين والإسلام

الصيام عبادة روحية جسدية، قد شرع لما فيه من المنافع الشخصية

والاجتماعية، فهو يروض الأجساد، كما تعطش الزروع وتضمر الجياد، فيفني

الرطوبات والمواد الرواسب فيها، التي تصلب الشرايين وتعيق حركة الدم فيها،

ويعيد المِعَد المصابة بالتمدد إلى تقلصها وتغضنها، حتى قال بعض الأطباء: إن

صيام شهر واحد (كرمضان) يصلح ما أفسده التمدد طول العام، ويمرن المرء

على احتمال الجوع والعطش بالاختيار، فيسهلان عليه إذا ألجأه إليهما الاضطرار،

في سفر أو سجن أو مجاعة أو قتال، ويشعر الأغنياء المترفين بحاجة الفقراء

المعوزين، ويساوي بينهم في هذه العبادة وآثارها كما يساوي بينهم في سائر شعائر

الدين.

وهو فوق ذلك المربي الأعظم للإرادة، وإنما يتفاضل أعاظم الرجال بما في

الإرادة من قوة العزيمة، فلولاها لما استسهل صعب، ولا ثبت شجاع في حرب،

ولما أقدم المصلحون على تغيير المنكرات، ولا سيما مقاومة الظلم والاستبداد، ولما

ثبت عامل على عمل حتى يتقنه، ولما صبر ذو مصاب على مصابه حتى يأمن

خطره، ولما احتفظ أمين بالأمانة، إلا بقدر ما يخاف في الدنيا من عقوبة الخيانة،

وناهيك بأمانة الأعراض، والمحافظة على شرف النساء.

وهو فوق ذلك مراقبة لله عز وجل وتقرب إليه بما يرضيه من تزكية النفس،

وتوجه إلى الكمال الأعلى، والحياة الروحية الفضلى، حياة النبيين والصِّدِّيقين، بل

الملائكة المقربين.

إن الصائم المسلم هو الذي يحكم سلطان الإرادة بقانون الإيمان على هوى النفس

فيمنعها من التمتع بأعظم الشهوات شأنًا عندها، فينال منه الجوع والطعام بين يديه،

ويبرح به الظمأ والماء البارد أمام عينيه، ويشتد شوقه إلى ملامسة زوجه وهي

منه على طرف التمام وحبل الذراع، فيعرض عن كل ذلك ويتركه بوازع الإيمان،

ابتغاء لمرضاة الله تعالى وتحصيلاً للفوائد التي شرع لها الصيام.

ألم تر أن الذي يربي إرادته ويحكمها في أشد شهواته وأقواها مدة شهر كامل

في كل عام على الأقل جدير بأن لا تنزعه نفسه أكل شيء من أموال الناس بالباطل

ولا العبث بشيء من أعراضهم، أو ليس الذي يقدر على ترك أعظم ضروريات

الحياة مما أحد الله له وقرب منه متناوله يكون أقدر على ترك ما حرم الله عليه من

جنسها ومما هو أدنى منها، وأجدر بأن يغلب هوى النفس الذي يغريه بها، بلى،

وإن من الأمثال الإسلامية المشهورة في بعض الأقطار، (إن الذي يزكي لا يُسرق)

وهذا أمر معقول كسابقه، فإن الذي يخرج المال من جيبه أو صندوقه طائعًا

مختارًا ويؤتيه الفقراء والمساكين ويضعه في غير ذلك من المصارف الشرعية لوجه

الله وابتغاء مرضاته بنفع عباده، جدير بأن لا يعصي الله تعالى بتكلف سرقة مال

غيره، وهو يعلم أن ذلك سبب لسخط الله تعالى، ولو كان لا يبالي بسخط الله ولا

برضوانه بل يؤثر عليه حب المال لحفظ ماله في صندوقه ولم يخرج زكاته فذلك

أسهل من إحراز المال بالسرقة.

علل الله تعالى فرض الصيام علينا، بأنه هو الذي يعدنا ويؤهلنا للتقوى،

فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ

تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) وإنما التقوى ملكة يقدر صاحبها بوازعها النفسي على

اتقاء كل ما يدنس نفسه ويدسيها من ترك واجب، أو اقتراف محظور، ولذلك قالوا:

إنها عبارة عن القيام بالواجبات وترك المحرمات، وهذه الملكة كسائر الملكات،

تكتسب بالأعمال النفسية والبدنية التي يقوى بها سلطان الإرادة على نزعات الأهواء

كما سبق القول، وقد فطن لهذا بعض حكام الغرب، فقال في كتاب صنفه في

(تربية الإرادة) : إنه لا مربي للإرادة كالصيام، ولأجل هذا شرع في جميع

الأديان.

إن أحق الناس بتحصيل هذه الملكة وبسائر فوائد الصيام الروحية والاجتماعية

والجسدية من جمعوا بين حكم الله وحكمته فيه وراعوا ذلك حق رعايته، فالإسلام

علم وتربية، بنيا على أساس الحكمة والفلسفة، وذلك نص قوله تعالى: {وَمَا

أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم

مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 151) وقد يستفيد كثير من الناس حكمة العبادة

ويجنون ثمرتها، وإن لم يتلقوا بالتعليم أن ذلك هو المصلحة التي شرعت لأجلها،

كما يستفيد بعض الناس من شيء يأكله أو يشربه، فيكون من حيث لا يدري شفاء

من مرض ألمَّ به أولئك الذين أخلصوا دينهم لله فكان لهم من العلم بكل عبادة أنها

تُرضي الله تعالى وأنَّ ترْكها يؤدي إلى سخطه واستحقاق عذابه.

ومن الناس من يؤدي العمل تقليدًا ومجاراة لمن نشأ فيهم فيكون عادة له كسائر

العادات الشخصية والاجتماعية، لا ينوي به قربة، ولا يشعر له بفائدة، ولا يفكر

في حكمة الشارع فيه، فلا يكون لصيامه أثر كبير في عباداته ولا معاملاته ولا

عاداته، قد يصوم ولا يصلي، وقد يصوم ويصلي وهو مصرّ على المعاصي، فهو

الذي يصدق على صيامه ما قاله بعض الأوربيين في تعريف الصيام، من أنه عبارة

عن تغيير مواعيد الطعام، بجعلها في الليل بدلاً من النهار، وإنما كمال الصيام

بجعله جنة ووقاية من جميع الآثام، قال صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة فإذا

كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني

صائم إني صائم) رواه الشيخان في الصحيحين وأصحاب السنن الأربعة، والرفث

صريح الكلام في الوِقاع أو ما يتحدث به الزوجان في تلك الحال، والصخب الجلبة

والصياح، فإذا كان مثل هذا مما يمنع في الصيام، فما شأن اقتراف كبائر الآثام؟

على أن مثل هذا الصائم خير من تارك الصيام ولا سيما المجاهر به، فإذا كان مثله

كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا، فإن مثل تاركي الصيام من أمثال الفساق كمثل من

يهدمون القصور والأمصار.

يترك الصيام في هذه البلاد أناس كثيرون من طبقتين أو ثلاث طبقات، تتفق

وتختلف في بعض الأعمال والصفات: طبقة تحوت الغوغاء الأرذلين، وطبقة

أسرى الشهوات المترفين، وطبقة أدعياء المدنية المقلدين، فأما أولئك التحوت

السفهاء فإنهم لا يشعرون بقيمة لأنفسهم يشاركون بها سائر طبقات الأمة في

شعائرهم الدينية، دع ما هو أرقى من ذلك كالشعور بما يجب من شكر رب العالمين

الرحمن الرحيم والتقرب إليه والاستعداد للرضوان الأكبر في دار الكرامة عنده،

وغاية ما ورثوه من تقاليد الأديان التي كان عليها آباؤهم الأولون والآخرون تعظيم

بعض الموتى ذوي الأضرحة التي خذلت سنة الدين بتشريف بنائها، وجعلها مساجد

يصلى إليها ويطاف بها، وبناء القباب عليها واحتفالات الموالد التي هي أعياد

ومواسم يحشر الناس إليها بجوار تلك القباب، وزيارة الجماهير للمقابر في ليالي

الأعياد وجمع رجب وأيام أخرى من السنة، يرحل فيها إلى القرافات النساء

والرجال والأطفال، مشاة حفاة ركبانًا على الحمير والجمال، وما في ذلك من

المنكرات الكثيرة المعروفة.

وأما هؤلاء المترفون (فمنهم) ملاحدة المتفرنجين الذين هم شر على هذه

الأمة من كل عدو لها (ومنهم) أسرى الشهوات الذين ليس لهم من قوة الإرادة ما

يقدرون به على مغالبة الهوى وعصيان داعي اللذة، أو حبس النفس على عمل شاق،

وهم أشد الناس حاجة إلى الصيام، فإن هذا الإفراط في الترف يضعف البدن كما

يضعف النفس، وإذا كثر هؤلاء في أمة فقدت الاستعداد لدفع الأعداء عنها، وللقيام

بالأعمال المتبعة التي ترقى بها الأمم والثبات عليها، وقضي عليها أن تكون

مستعبدة لغيرها، وأي عار على الفتى الجذع، أو الكهل أو الشيخ الذي لم يدركه

الهرم، أكبر من عار الاعتراف بعدم الطاقة على احتمال الجوع والعطش بضع

عشرة ساعة يعد له بعدها الشراب المبرد وألوان الطعام الفاخرة، أيها الجذع الناشئ

أيها الكهل القارح، أولى لك فأولى، وغير هذا كان بك أولى، كان أولى بك أيها

الفتى أن تفخر بالتربية على صفات الرجولية، واعتياد التقشف الاختياري في

المعيشة، ومنه أن لا تسرف في التعميم المباح في ليالي رمضان، وأن تصوم من

كل شهر عدة أيام، كان أولى بك أيها الكهل أن تكون قدوة صالحة لولدك وأولاد

المسلمين، في المحافظة على شعائر الدين، وعلى الآداب والأعمال، التي يبلغون

بها درجة الكمال، وأهمها ركوب الصعب، واكتساب ملكة الصبر، وتوطين النفس

على مصارعة الحوادث، ومقارعة الكوارث ألا وإن الصيام جد الصيام أول

مقدماتها، وأيسر وسائلها.

وأما أدعياء المدنية المقلدون فهم الذين يفطرون جهرًا ليقول فيهم غير

المسلمين والمنافقون من المسلمين: إنهم (متمدنون) وهذه الطبقةأخس الطبقات

فلا ينتحل لها عذر ولا يوجه إليها برهان.

عذر الملحد المارق عند نفسه في ترك الصيام أنه فقد الباعث الديني، ولم

يترجح عنده باعث تهذيبي، وعذر المترف الشهواني عند نفسه، عجزه عن كبح

جماح لذاته، لتحكم الهوى فيها، وضعف الوازع الديني عنها، والجهول السافل من

تحوت الناس له عذر هذين الفريقين وعذر آخر وراءهما، وهو أنه لا يخطر في

باله ولا يصل علمه إلى ما يعلمه كثير من أفرادهما من معنى كون الصيام ركنًا

للدين الذي ينسب إليه، وشعارًا للأمة التي هو منها، وإن العاقل الذي يرى لنفسه

قيمة في الوجود يرى شرفه بشرفهما وذله بمهانتهما، وأنه مطالب دينًا وعقلاً

بحقوق لهما عليه، وأن دين الأمة من مقومات وجودها، فمن فاته الإيمان الباعث

على إقامة أركانه لأجل سعادة الآخرة، لم يسقط عنه احترام شعائره التي هي أقوى

روابط الأمة؟ فبهذا العلم يؤاخذ ويطالب كل من أوتي نصيبًا منه، وترتفع المؤاخذة

عمن كان نصيبه منه الجهل المطلق حتى إن نفسه لا تتوجه إلى طلبه، ومنهم من

يعتذر بأن الصيام يضره وإن كانوا أصحاء الأجسام، بترك ما اعتادوا من النظام في

مواعيد الطعام، والصواب أن ما يتوهمون من الضرر في ذلك هو عين النفع؛ لأن

التزام تلك العادات أضعف أبدانهم وأنفسهم، حتى صار تغييرهما يؤلمهم أو

يضجرهم، وإنما هذا الألم والضجر عرضان لمرض الترف، والصيام علاج له لا

مضاعفة.

إذا صح أن يكون في الإلحاد عذر للملحد، وفي ضعف الإرادة عذر للمترف،

وفي تغيير العادة إيلام للمهفهف، فيا ليت شعري بم يعذر نفسه أو يعتذر عنها من

يجاهر منهم بالفطر؟ المجاهرة بالذنب شر من ارتكاب الذنب، لأن ارتكابه سرًّا

يجعل ضرره قاصرًا على من اقترفه، وأما المجاهرة به فضررها يتعدى المذنب

إلى غيره؛ لأنه يكون قدوة سيئة لمن كان مستعدًّا لاقتراف ذلك الذنب تجرئه على

اقترافه، ولأن في الجهر به إذا كان من الشعائر الملّية، كالصيام، احتقارا للملة

والأمة التي ينسب المفطر إليها، وإضعافًا لرابطة قوية من الروابط التي تمتاز بها

الأمة على غيرها.

ها هنا يضحك القارئ من هؤلاء الملحدين، لا تضحكوا إلا على أنفسكم بل

ابكوا عليها إن كنتم تعقلون يقولون: إن الملحد ليس من أهل الملة ولا من أفراد

الأمة فيُرمى بهذا اللوم ويطالب بالاعتذار عن عمل لا يراه واجبًا عليه، وإنه يعدّ

الجهر بالإفطار في رمضان من الشجاعة الأدبية والإسرار به من الضعف والنفاق

ونقول: كيف يصدق هذا الكلام على ملاحدة بلادنا وكلهم منافقون يدعون الإسلام

ويلتزمون من أحكامه وشعائره، وعادات أهله ما لا ينافي أهواءهم، ولا يعارض

شهواتهم، كالأحكام والشعائر، وكذا العادات المتعلقة بالزواج والموت والأعياد،

ويخضعون لشريعته في أحكام الزواج والإرث، فإذا ادعى أحد منهم الشجاعة

المعنوية بهتك شعار الصيام، فقل له كذبت في دعواك، فإن كنت شجاعًا فصرح

على رءوس الأشهاد بالردة عن الإسلام واترك كل ما هو إسلامي، ولا تتزوج نساء

المسلمين ولا تأكل تراثهم، ولا تتول الأعمال والوظائف الخاصة بهم بدعوى أنك

منهم، وأما إخفاء معصية الإفطار فليست مع صحة العقيدة من النفاق، بل من

إخفاء العيوب والعورات.

قد يقول بعضهم: إن الإسلام جنسية اجتماعية كجنسية اللغة وجنسية النسب،

وإن العقائد الدينية والعبادات البدنية من الشئون الصحية التي يجب أن يكون الناس

أحرارًا فيها، ولا ينبغي أن يتوقف عليها تحقق الجنسية بعد أن ينالها صاحبها

بالوراثة أو بتسمية نفسه مسلمًا.

ونحن نقول: إن هذا الكلام مغالطة بديهية البطلان فإن الإسلام في الحقيقة

دين وهو جنسية لمن يدينون الله به، ولو في الظاهر كإقامة أركانه من صلاة

وصيام وزكاة وحج وتحليل حلاله وتحريم حرامه، فهو من حيث هو دين لا تحقق

له إلا بصحة العقيدة وما يتبعها من الأعمال، ومن حيث هو جنسية يتحقق بالتزام

شعائره وأحكامه الظاهرة إلا ما يقع من الإخلال بها شذوذًا كما كان المنافقون يعملون

في الصدر الأول فمن لا يؤمن بما جاء به رسوله ولا يقيم شيئًا من أركانه فلا حظ

له من جنسيته، فكيف إذا كان مع هذا مجاهرًا بهدم هذه الأركان بلا خوف من الله

ولا احترام لأهل هذه الجنسية.

على أن كل منتمٍ إلى جنس يجب عليه أن يعد جميع من يشاركونه فيها

إخوانًا له وأن يحترم كل ما يشترك فيه معهم من مقومات الجنسية ومشخصاتها،

وإلا كان عاقًّا لها، مستحقًّا للطرد والإبعاد عنها، بدلاً من مشاركة أهلها في منافعها

الصورية والمعنوية، وهؤلاء المجاهرون بالفطر في رمضان لا يشعرون بمعنى

الأخوة الإسلامية العامة، ولا يقومون بشيء من حقوقها، كما أنهم لا يحترمون

الشعائر والأعمال التي لا تعرف الجنسية الإسلامية إلا بها.

الحق أقول: إن لبعض الذين يفطرون في رمضان عذرًا طبعيًّا، ولا يحمد

عذر طبعي إلا أن يكون شرعيًّا، كعذر المريض والمسافر والعاجز عن الصيام لهرم

مثلاً، ولكن لا عذر لأحد في الجهر بالإفطار؛ لأنه احتقار للإسلام وإهانة لأهله،

لا تصدر اختيارًا إلا من عدو له ولهم، أو ممن لا شعور له بمعنى الأمة والملة

وشرفهما كبعض الكناسين والزبالين لا كلهم، وكم يوجد من أمثالهم في المتعلمين

المتفرنجين الذين يظنون أنهم ممتازون في الأمة بارتقائهم في الشئون الاجتماعية،

وأنهم يشعرون من ذلك بما لا يشعر به الجمهور، وأن الخير للأمة أن تكون مثلهم

في ترك أركان الدين وامتهان شعائره والاهتمام بالتمتع بالشهوات، وحسبهم شرفًا

وارتقاء ما يتوهمون من عدّ غير المسلمين لهم من المتمدنين أو المتنورين ويا شقاء

أمة يكثر فيها أمثال هؤلاء المترفين، فإنها لا ترتقي بهم إلا إلى أسفل سافلين.

_________

ص: 82

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حال المسلمين الاجتماعية

ومكان الأغنياء وسائر الطبقات منها [1]

(1)

الإنسان عالم اجتماعي لا يصل فرد من أفراده ولا شعب من شعوبه إلى كماله

المقدر له إلا بالأعمال الاجتماعية التي يتعاون عليها أفراد العشيرة وأهل البلد

والوطن وسائر الناس، وعلى قدر هذا التعاون يكون أقرب من الكمال الاجتماعي

والبعد عنه، فالأمم بالأفراد والأفراد بالأمم، فهنيئًا للأمة التي تتسم بسعي أفرادها

غارب العز والسيادة، وتتنسم ريح القوة والسعادة (ويا ويْح الرجل الذي ليس له

أمة) [2] وما كل جمع كبير يستحق أن يسمى أمة، لولا سعة المجاز في الكلام،

كقولنا في صور الناس وتماثيلهم: هذا فلان وهذا فلان.

المسلمون جمع كبير يطلق عليه اسم الأمة الإسلامية بحسب صورته أو

باعتبار ما كان عليه، وإن كان لا يقوم بالأعمال الاجتماعية التي تتحقق بها مقومات

الأمم ومشخصاتها، وتحفظ بها مصالحها ومنافعها، وللمنار مقالات كثيرة في بيان

هذا الموضوع يطلب أقدمها عهدًا من المجلد الأول منه، ومن أشهرها مقالة في

المجلد التاسع عنوانها: حال المسلمين في العالمين، ودعوة العلماء إلى نصيحة

السلاطين، كان لها تأثير في الشرق والغرب، وترجمها بالتركية أحد فضلاء

الآستانة وطبعها في رسالة مستقلة باللغتين.

وقد نطلق على المسلمين اسم الأمة باعتبار ما نرجو أن تئول إليه حالهم،

فباعتبار أن ذلك الاستعمال من مجاز الكون بينَّا غير مرة في تلك المقالات أن

الإصلاح الإسلامي ينحصر في كلمة تكوين الأمة إذ لا أمة في الحقيقة، وباعتبار

أن ذلك الاستعمال من مجاز الأول يتسع مجال الإطلاق، وكثيرًا ما بينا الكلام على

تحقق الرجاء، وصرحنا بأن الأمة قد ولدت ولادة جديدة، وأنها الآن في سن

الطفولة، وأن ما تتصدى له من الأعمال الاجتماعية إنما كان صغيرًا وعرضة

للفشل في الأكثر؛ لأنه من قبيل أعمال الأطفال، وقد شرحنا هذا الموضوع في

مقالات نشرت في المجلد الثاني وغيره) [*] وذكرنا في المجلد الرابع أمثلة لطفولية

الأمة، وقد حدث بعد ذلك ما هو أعظم منها، وناهيك بسقوط جريدة اللواء العربية

وأختيها الفرنسية والإنكليزية، وموت مصطفى كامل باشا مؤسسهن بأموال الأمراء

والأغنياء غارقًا في الدَّيْن، وبيع أثاثه ورياشه بالمزاد، ثم سقوط جريدة المؤيد

وموت صاحبها غارقًا في الدين أيضًا، ثم سقوط الجريدة وهي جريدة حزب كبير

من الأغنياء.

فهذه أكبر الجرائد التي أسسها المسلمون في مصر، وكان لكل منها شركة

وحزب ورأس مال مؤلف من ألوف الجنيهات وأنصار من أغنياء الأمة وأصحاب

الأقلام فيها، وقد بينا وجه العبرة في شأن هذه الجرائد بعد موت الأولى وتبريح

الداء بالأخريين في ترجمة الشيخ علي يوسف من المجلد السابع عشر ص 69.

وما لي لا أذكر وأذكر في هذا المقام بتلك الفاتحة الوجيزة للمنار التي كانت

أول ما كتب منه، ونحمد الله تعالى أنها كانت صورة مصغرة له، قد ارتسمنا ما

رسمناه له فيها فلم نخرج عنه، وقد أشرنا فيها إلى سوء حال المسلمين ورغبة

سوادهم الأعظم عن ما نقصد إليه بإنشاء المنار من الجد والإصلاح، وإلى وجود

أفراد تنبهت أنفسهم لإصلاح الخلل، وتوجهت هممهم لمداواة العلل، وإلى أن

الغرض من إنشاء المنار أن يكون لسان حال هؤلاء وحادي ركبهم في سبيل التجديد

المطلوب. ثم ظهر لنا أن رجالنا في هذه الفئة كان أكبر منها في نفسها.

تيسر لنا بهذا المنار أن نختبر حال المسلمين اختبارًا لا يكاد يتيسر بوسيلة

أخرى، وقد كان هذا الاختبار الطويل والعلم التفصيلي مؤيدًا لما كنا عليه قبلهما من

الوقوف بين الخوف والرجاء وترجيح الأمل على اليأس ترجيحًا يبعث على الجهاد

والثبات على العمل، وهو ما صرحنا به في فاتحة المنار في العدد الأول للسنة

الأولى.

كان موضوع ذلك الأمل الأول مَنْ أيقظتهم حوادث الزمان وأثرت في قلوبهم

آثار حكيم مصر وحكيم الأفغان، ومن على مشربهما من دعاة الإصلاح.

ثم زاد عدد هؤلاء المحبين للإصلاح بتأثير المنار، ومنهم صاحب الرسالة

التي نشرناها في آخر الجزء الماضي فاستتبعت كتابة هذا المقال، فهو قد اشترك

في المنار منذ أنشئ وكان تلميذًا في المدارس، وقد أُشرب قلبه حب الإصلاح فهو

فيه على علم ووجدان وإخلاص، ولكنه على علمه وسعة اختياره لما في هذه البلاد

من الفسق وفساد الأخلاق أقوى منا رجاء في مسلميها وفي غيرهم، وإننا نخشى أن

يضعف ويضمحل هذا الرجاء أو يزول ويحل محله اليأس إذا رأى أن رسالته لم

تؤثر، ودعوته لم تجب، فأحببنا أن نذكره بما أشرنا إليه آنفًا مما نشرنا في خوالي

السنين، ونؤيده بما في معناه من بيان حقيقة حال المسلمين، لعله يذهب بغرور

المبالغ في التفاؤل، ويمسك رمق الرجاء على المهوي إلى اليأس، وينفخ نسمة

الرجاء في اليأس، فنقول:

إن في المسلمين كثيرًا من بقايا الفضائل الموروثة التي هي تعد من دلائل

الحياة الاجتماعية، وكثيرًا من الرذائل والأمراض الروحية الموروثة والحادثة التي

هي سبب ما حل بدولهم وأممهم من الرزايا التي يئن منها كل من شعر بها بقدر

شعوره، وقد استيقظ في بعضهم هذا الشعور منذ مئة سنة أو أكثر، وتصدى

بعض حكامهم وبعض أفرادهم إلى إصلاح ما فسد، وتجديد ما اخلولق وبناء ما انهدم،

كما بينا ذلك في فاتحة المجلد السابع عشر، وإنما لم يفلح أحد منهم؛ لأن

الحكام القادرين على تنفيذ الإصلاح لا يعرفون طريقه، والأفراد الذين يعرفون

كُنْه الإصلاح لا يقدرون على تنفيذه.

إنما تنهض الأمة بالإصلاح إذا وجد الاستعداد في الجمهور، ووجد الزعيم

القادر على استخدام ذلك الاستعداد، ويمكن بيان هذا الاستعداد العظيم بكلمة واحدة

من اصطلاح كتاب الجرائد وغيرهم من المعاصرين وهي التضحية، وما التضحية

إلا بذل الأموال والأنفس في سبيل المصلحة العامة وهو ما يعبر عنه القرآن بكلمة

الجهاد.

ما قام أمر اجتماعي عظيم كالدين والدولة إلا ببذل المال والنفس فمن لم يبذل

في سبيل دينه أو دولته ووطنه ما يحتاجان إليه من مال أو نفس فلا دين له ولا دولة

ولا وطن، ولذلك جعل الله تعالى هذا الجهاد آية الإيمان بمثل قوله: {إِنَّمَا

المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ

اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) .

نحن لسنا بصدد إصلاح يحتاج فيه إلى بذل النفس، والتعرض لإراقة الدم،

وإنما الإصلاح الذي أسس له المنار ثم مدرسة الدعوة والإرشاد إصلاح علمي

تهذيبي يقوم بالمال، وإنما أنشأنا هذه المقالة لبيان حال من دعاهم ذلك المخلص

الغيور في رسالته إلى النهوض بمشروع الدعوة والإرشاد ومساعدة المنار.

ألا وإن الأغنياء أول من يخطر بالبال، في كل مقام يذكر فيه بذل المال وإن

أكثر أغنياء بلادنا بل أمتنا كلها أغبياء سفهاء الأحلام، مسرفون في الفسق، بخلاء

حتى بما وجب من الحق، أشحة على الخير، لا يكاد يخرج المال من أيديهم إلا

على مائدة قمار، أو في حانة خمَّار، أو لبغي وقواد، أو رشوة لحاكم شرير، أو

تزلفًا إلى سلطان أو أمير أو مدير، فأكثر ما بذله أغنياؤنا في هذا العصر للجمعيات

الخيرية أو المدارس أو جمعية الهلال الأحمر أو جمعية الصليب الأحمر فهو رياء،

وتزلف للحكام والأمراء، وهذا مما يعلمه الكاتب وغير الكاتب علمًا ضروريًّا أو

كالضروري.

وأما غير الفساق المرائين من الأغنياء فهم كسائر الناس، والناس فيما نحن

بصدده فريقان: فريق لا يرجى منه خير للإسلام بل يخشى شره، وفريق قلما

يُرجى الخير من غيره، فأما الفريق الأول فثلاثة أصناف: ملاحدة المتفرنجين،

ومنافقو المعممين، وتحوت الفقراء الجاهلين، الذين لا يكادون يفقهون حديثًا، ولا

يعقلون للأمة والملة معنى، وقد بينا في فاتحة هذه السنة من الجزء الأول أن من

أولئك الملاحدة والمنافقين من تصدى لمقاومة مدرسة الدعوة والإرشاد ينفث سموم

السِّعاية لمنع إعانة وزارة الأوقاف وغير الأوقاف، كما سعى أمثالهم وأقنالهم من

قبل في الجمعية الخيرية الإسلامية، حتى زعموا أنها تمد مهدي السودان بالمال

لقتال مصر والدولة البريطانية.

وأما الفريق الثاني وهو الوسط في شئونه العقلية والنفسية، أو شئونه

الاجتماعية أو المعاشية، فيتألف من أصناف يقل فيها الغني الموسع، كما يقل فيها

الفقر المدقع، والأغنياء منه ثلاثة أصناف.

صنف تربى تربية إسلامية بحسب ما عليه جمهور المسلمين في القرون

الأخيرة من مزج السنن بالبدع، والخرافات بالحقائق، فهم لا يفقهون من بذل المال

في سبيل البر إلا بناء مسجد ولو في مكان تزيد فيه المساجد على حاجة المصلين،

وإنما يكون هذا من الخير إذا لم يبن المسجد على قبر أحد من الصالحين، وإلا كان

صاحبه ملعونًا على لسان خاتم النبيين، أو وقف أرض تنفق غلتها على تشييد

القبور أو البناء عليها أو حولها وما يكون من المواسم عندها في الأعياد وجمع

رجب، وكل ذلك من المعاصي وبدع الضلالة المنكرة التي لا يجوز الوقف عليها،

وإن تضمنت إطعام بعض الفقراء الطعام المبتدع لأجلها، فهذا الصنف قلما يرجى

منه الآن فائدة للأعمال الإصلاحية كمشروع الدعوة والإرشاد.

وصنف آخر تربى أفراده على التفرنج ولكن لم يكونوا كجماهير المتفرنجين

الذين لا حظ لهم من حياتهم إلا تقليد الإفرنج في عاداتهم الخاصة بالزينة والطعام

والشراب والتمتع باللذة واللهو واللعب كتربية الكلاب والسير بها والركوب معها،

بل أودع في نفوسهم الميل إلى الاقتداء بهم في بذل المال للمنافع العامة، لا رياء

للجمهور، ولا تزلفًا لحاكم أو أمير، بل لأن ذلك عندهم من اللذات النفسية، أو

الشرف والكمال الإنساني، وبهذا ارتقوا عن جمهور الأغنياء الأغبياء السفهاء،

ولعل هذه البلاد لا تخلو من أفراد منهم، ومن عساه يوجد منهم فقد يبذل المال

للمساعدة على تعليم الموسيقى والتصوير أو الألعاب الرياضية، وقلما يحفل

بالإصلاح الديني العلمي إلا إن كان له نزعة دينية أو تهذيبية، وأنى لجماعة الدعوة

والإرشاد بالاهتداء إلى مثل هذا وإقناعه بأن مقصدها الأول من مدرستها بث

المرشدين في أنحاء البلاد لتعليم العوام ما يزجرهم عن المعاصي والمنكرات،

ويزكيهم من أدران البدع والخرافات، حتى تستفيد المدرسة من مساعدته؟

وصنف ثالث هم الوسط الصحيح وهم الذين أوتوا نصيبًا من التربية الدينية

والعلم الإسلامي الصحيح، ونصيبًا من حال هذا العصر وما يحتاج إليه المسلمون

فيه من الإصلاح، والغني في هذا الصنف أندر منه في سائر الأصناف، والرجاء

في مثله لمساعدة الدعوة والإرشاد، أقوى وأشد منه في سائر الناس، إلا أن يغلبه

على دينه وعقله البخل الفاحش والشح المطاع، وإيثار وعد الشيطان بالفقر على

وعد الله بالمغفرة والإخلاف، وإذا كان الصنفان المذكوران قبل هذا وهما كالطرفين

له، مما يصعب إقناع أفرادهما بوجوب المساعدة على الإصلاح الديني العلمي فهذا

الصنف لا يحتاج إلى إقناع، ولا يخفى عليه وجود ما يوجد منه في البلاد.

ومن أغنياء هذا الصنف من غلب عليهم الترف ودب إلى دينهم الوهَن،

فضعفت غيرتهم على إسلامهم الديني، دون إسلامهم الاجتماعي والسياسي، فهم

يودون إصلاح حال المسلمين، ويعتقدون أن ذلك لا يرجى إلا من طريق الدين،

وإنما يودون أن ينهض بالإصلاح غيرهم، ولا تسمو بهم الهمة إلى المساعدة عليه

بأموالهم ولا بأنفسهم.

تلك أصناف الأغنياء الذين يصح أن يتعلق بهم الرجاء، بما في أنفسهم من

هدي الدين أو علو الهمة، أو العناية بأمر الأمة، وقد علم أن من يوجد في هذه

البلاد منهم قليل، وأن الرجاء في هذا القليل ضعيف.

فلم يبق من فريق المعتدلين الذين يرجى رفدهم إلا المستورون الذين لا

يقدرون على مساعدة الإصلاح إلا بما يوفرون من كسبهم بالاقتصاد في النفقة اللائقة

بأمثالهم، كصاحب الرسالة التي دعتنا إلى كتابة هذا المقال، ولا غناء في مساعدة

هذا الصنف إلا إذا كثر أفراد الباذلين منه، وفاقًا للقاعدة المقررة: القليل من الكثير

كثير، وما أظن أن الظفر بهذا الكثير عندنا ميسور.

فعلم مما شرحناه أن من يرجى منهم بذل شيء من فضول أموالهم في سبيل

الإصلاح الديني والاجتماعي قليلون، وأن ما يرجى بذله من هؤلاء القليلين في

بلادنا قليل لا غناء فيه، لأن أكثر الأنفس أُحضرت الشح، واستحوذ عليها الصَّغار

والذل، وكذبت وعد الله بالإخلاف على المنفق، وصدقت وعد الشيطان له بالفقر،

ثم إن بذل المال الكثير في هذه السبيل إنما يصدر عن عرفان ووجدان، عرفان

بالمصلحة فيه وشدة الحاجة إليها، ووجدان إيمان راسخ تنال به سعادة الدنيا

والآخرة، أو وجدان شرف باذخ تنال به سعادة الأولى فقط، على أن باعث الشرف

وباعث الإيمان قد يتلاقيان ويتصافحان، وإنني أوضح هذا المقام بأمثال، أشير

بها إلى أعظم من رجوت هنا من الرجال.

كان أرجى أغنياء مصر عندي لمشروع الدعوة والإرشاد ثلاثة أصرح باسم

واحد منهم وهو رياض باشا تغمده الله برحمته، ذلك الرجل الذي انفرد في كبراء

مصر وأغنيائها بأنه لم يكن يخيب فيه رجاء، ولا يفوته مساعدة عمل من أعمال

الخير، ولو عرف كنه مشروع الدعوة والإرشاد لما اكتفى بالتبرع له بمائة جنيه،

وإنما عرف منه أنه مدرسة خيرية، فنفحه بمثل ما نفح به مدرسة محمد علي

الصناعية، وهي المدرسة التي تولى رياسة جمع الإعانات لها، على أن الخديوِ

وارث ملك محمد علي التي أنشئت المدرسة إحياء لاسمه وتذكارًا لمرور مائة سنة

على ملكه لم ينفحها بأكثر من ذلك، فهذا عذر رياض باشا في عدم صدق رجائي

كله في مساعدته لهذا العمل.

وأما اللذان لا أصرح باسمهما فقد كان رجاؤنا في أحدهما أكبر من رجائنا في

رياض باشا، وهو أوسع منه ثروة، وفهم من كُنْه المشروع ما لم يفهمه، بل قال

فيه كلامًا يؤثر ويدون له (منه) أنه طالما فكر فيه، وتعجب من إحجام المسلمين

عن القيام به إلى اليوم، وأنه يود لو يكون عضوًا عاملاً فيه، وإنما يمنعه من

وضع يده في أيدي أعضاء إدارته عدم ثقته بثباتهم، اللهم إلا واحدًا منهم، وعلل

ذلك بأن أهل بلادنا هذه يقولون ولا يفعلون، ويبدأون بالأعمال ولا يَثبتون (ومنه)

أن هذا العمل سيلقى صعوبات، وتوضع في طريقه العقبات، وأنه لا يقول هذا

تثبيطًا أي بل تنبيهًا، ولا تنصلاً من المساعدة فإنه سيساعد بالمال، ثم إنه أكد هذا

الوعد غير مرة لنا، وذكره لغيرنا، وقد كان آخر عهدنا بالسعي لاستنجازه شهر

رجب الماضي.

وأما الثالث فهو غني معروف بالعلم والفضل والتدين، وقد كان منانًا لأحد

أصدقائه بأنه سيتبرع للمدرسة بمائة جنيه غير ما يفرضه على نفسه من الاشتراك

السنوي، وذكر لنا صديق آخر له عزمه على المساعدة من غير تحديد، وقد بلغنا

أن ما يجب عليه من زكاة النقد كل سنة أضعاف ما يملكه صاحب الرسالة التي

نتكلم في موضوعها، وقد ذكرناه في هذا العام بشدة حاجة المدرسة إلى ما تنتظر من

مساعدته لانقطاع إعانة الأوقاف عنها، ونفاد ما قد جمع لها، فاعتذر بما يعتذر به

أكثر الناس في هذا العهد، وهو العسرة التي جاءت بها هذه الحرب.

فإذا كان وعد أرجى من نرجو من أغنى أغنيائنا، واشتراك من يشترك في

مثل هذا المشروع من أفضل فضلائنا، لا يوثق بهما ولا يتكل عليهما في استئجار

دار لمدرسة خيرية، فهل يظن (م. ن) صاحب تلك الرسالة أن ما جاء به من

النصيحة والتذكير يبسطان الأيدي المغلولة، وينبهان [3] الأنفس المفسولة [4] ، فتتدفق

الدنانير على مدرسة الدعوة والإرشاد اليوم كما تدفقت على جمعية الصليب الأحمر

بالأمس، وعلى جمعية الهلال الأحمر من قبل؟ إن كان يظن ذلك فما نحن بظانين،

ولا نحن من فضل الله وحياة المسلمين يائسين، ولكننا بعد طول اختبار لا نغتر

بوعد واعد، ولا بثبات متبرع ولا واهب، وإن كان هذا أو ذاك، ممن اشتهروا

بالسخاء، فإن أكثر أصحاب هذه المظاهر، مصداق لقول الشاعر:

يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما

لكنها خطرات من وساوسه

كلا إنه لا يرجى في هذا القطر جمع مال كثير بالتبرع يكون رأس مال

لمدرسة كمدرستنا أو مدرسة دونها إلا بنفوذ الأمراء والحكام، وقد كان بعض

هذا ممكنا لنا من قبل ولم نطرق بابه، وأما اليوم فلا يرجى كله ولا بعضه، فأما سبب

بذل المال تقربًا إلى الأمراء والحكام فمعروف، وأما إمساكه عن المصالح العامة

فسببه ضعف الإيمان، وضعف وجدان الشرف وحب الكمال، والحرمان مما يولدان

من المقاصد العالية والآمال العظيمة، وليس في تربية الأمة ما يحيي ذلك

في نابتتها.

هذا وإننا بعد هذا البيان نقول لصاحب تلك الرسالة وغيره من أهل الغيرة: إن

هذا المشروع لا يرجى أن ينفذ بحسب نظامه المعروف إلا إذا نجحنا فيما سعينا إليه

في الآستانة ثم في مصر من تقرير إعانة له كبيرة ثابتة من وزارة الأوقاف فبهذا

يستقر ويوثق بثباته واستمراره ويشتهر نفعه في الأمصار والأقطار، ويرجى بعد

ذلك أن يتبرع له ويقف عليه العقار والأراضي كثير من أهل الخير، ولا سيما بعد

أن يتخرج في مدرسته من يحسنون القيام بما فرضه الله تعالى على المسلمين بقوله:

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ

وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) فإذا ظفرنا بإعانة ثابتة من وزارة

الأوقاف فذاك، وإلا جعلنا المدرسة خارجية، وأنفقنا عليها مما آتانا الله من كسب

ومساعدة أهل المروءة والإخلاص مهتدين بقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ

وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ

بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هذه المقالة الموعود بها.

(2)

هذه الكلمة لشيخنا الإمام.

(*) راجع مقالة (طفولية الأمة وما فيها من الحيرة والغمة) في ص737 م2 ومقالة (الحيرة والغمة ومناشئها في الأمة) في ص753 م2.

(3)

للتنبيه هنا معنيان أحدهما جعل الخامل نبيه الشأن، وثانيهما: إيقاظ الغافل.

(4)

المفسول الضعيف الخامل الذي لا مروءة له.

ص: 89

الكاتب: محمد رشيد رضا

السنة وصحتها والشريعة ومتانتها

رد على دعاة النصرانية بمصر

(2)

(تتمة واستدراك - استنكار المتأخرين لبعض متون أبي هريرة)

قد علم مما تقدم أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه راوية ثقة عدل وأنه من

نوابغ البشر في الحفظ والضبط لما يحفظ وقوة الذكر (الذاكرة) وعلم أيضا أنه

انفرد بأحاديث كثيرة كان بعضها موضع الإنكار أو مظِنَّته لغرابة موضوعها

كأحاديث الفتن وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم ببعض المغيبات التي تقع بعده،

ويزاد على ذلك أن بعض تلك المتون غريب في نفسه، ولو انفرد بمثله غير

صحابي لعُدّ من العلل التي يتثبت بها في روايته، كما هو المعهود عند نقاد الحديث

أهل الجرح والتعديل، ولذلك ترى الناس ما زالوا يتكلمون في بعض روايات أبي

هريرة كما رأى القراء في دروس سنن الكائنات للدكتور محمد توفيق صدقي، وأول

كلمة طرقت سمعي في ذلك كانت من تلميذ مسلم في مدرسة غير إسلامية ببلاد الشام،

وكان ذلك في أوائل العهد بطلبي للعلم، ومن عرف ترجمة أبي هريرة معرفةً تامةً

يجزم بعدالته وبراءته من الكذب على أحد من الناس، بله الكذب على رسول الله

صلى الله عليه وسلم الذي روى هو وغيره عنه أنه قال: (من كذب علي متعمدًا

فليتبوأ مقعده من النار) وقد صرحوا بأن هذا الحديث متواتر.

ولعل قراء المنار يتذكرون ما علقته على كلام محمد توفيق صدقي في حديث

الذباب، وتطرقه فيه إلى الارتياب في رواية أبي هريرة، إذ بينت بالإيجاز أنه لا

مجال للطعن في أبي هريرة نفسه وأن حديث الذباب وأمثاله مما يستبعد أن يكون

مسموعًا من النبي صلى الله عليه وسلم لا يظهر علة نقلها عن أبي هريرة إلا إذا

أحصيت تلك الروايات ولا سيما ما انفرد به أبو هريرة منها، ودقق النظر في

أسانيدها ومتونها، وما يمكن طروؤه من الاحتمالات فيها، وأمهات هذه الاحتمالات

أربعة:

أحدها: أن يكون في رجال السند إلى أبي هريرة من هو مجروح وإن صُحح.

ثانيها: أن يكون ذلك الحديث أو الأثر مرويًّا عنه بالمعنى، وقد وقع الغلط

من أحد الرواة في فهمه فنقله كما فهمه.

ثالثها: أن يكون ما روي حديثًا رأيًا لأبي هريرة أو غيره ممن روى عنه

وعده بعض الرواة حديثًا لاجتهاده بأن مثله لا يقال بالرأي، فما قاله العلماء من أن

قول الصحابي إذا كان لا يقال مثله بالرأي له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه

وسلم لا يصح على إطلاقه، والناس يتفاوتون في فهم ذلك، فما يعده بعضهم منه لا

يعده الآخر منه.

رابعها: أن يكون رواه عن أهل الكتاب بالسماع ممن أسلم منهم ككعب

الأحبار أو رآه في كتبهم وهو مما لا مجال للرأي فيه فيعده من قَبيل المرفوع من

يأخذ ذلك القول قاعدة عامة، وقد ثبت أن أبا هريرة روى عن كعب الأحبار وأن

معاوية قال في كعب الأحبار: إنهم كانوا يبلون أي: يختبرون عليه الكذب، وقد

تقدم ذلك في هذا المقال نقلاً عن البخاري، وإنني كنت أسيء الظن في روايات

كعب الأحبار قبل أن أرى ما رواه البخاري عن معاوية فيه، وكذا وهب بن منبه.

ثم إنني بعد كتابة ما تقدم وقبل طبعه رأيت في تفسير سورة النمل من تفسير

الحافظ ابن كثير بعد ذكر عدة روايات عن الصحابة في قصة ملكة سبأ مع سليمان

عليه السلام ما نصه:

والأقرب في مثل هذه السياقات أنها مُتلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في

صحفهم كراويات كعب ووهب، سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من

أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن، ومما

حرف وبدل ونسخ، وقد أغنانا الله عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ

ولله الحمد والمنة اهـ.

فجملة القول في هذه الأحاديث المشكلة إذا كانت مرفوعة إلى النبي صلى الله

عليه وسلم أو موقوفة على أحد رواة الصحابة رضي الله عنهم أبي هريرة أو غيره

أن يدقق النظر في أسانيدها أولاً، فإذا كان في الاحتجاج ببعض رجالها مقال كُفينا

أمرها، وكذا إذا كان فيها انقطاع أو إرسال، وإلا نظرنا إلى غير ذلك من الوجوه

التي يكون بها المخرج كغلط الرواة بسبب النقل بالمعنى أو غيره من الأسباب،

وأدهى الدواهي أن يكون الحديث مأخوذًا عن بعض أهل الكتاب بالقبول ولم يُعز

إليه، ولا يغرنك قولهم: إن مراسيل الصحابة حُجة، وإن الموقوف الذي لا مجال

للرأي فيه له حكم المرفوع، فإذا ثبت أن أبا هريرة مثلاً كان يروي عن كعب

الأحبار وأن الكثير من أحاديثه مراسيل، فالواجب أن يتروى في كل غريب لم

يصرح فيه بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان من الإسرائيليات أو ما

في معناها احتمل أن يكون قد رواه عن كعب وكان هذا الاحتمال علة مانعة من

ترجيح إسناد كلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يوقع في الإشكال.

لا يتسع هذا الموضع لتحرير هذا البحث بالتفصيل، ولكنا نذكر أهل العلم

بحديث يرون فيه أكبر عبرة في هذا المقام وهو حديث الجساسة الذي حدث به تميم

الداريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه مسلم في صحيحه مرفوعًا من

طرق يخالف بعضها بعضًا في متنه، فهذا الخلاف في المتن علته من بعض رواة

الصحيح، ولا يظهر حمله على تعدد القصة، ثم إن رواية الرسول صلى الله عليه

وسلم له عن تميم الداري إن سلم سندها من العلل هل تجعل الحديث ملحقًا بما حدث

به النبي صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه فيجزم بصدق أصله، قياسًا على

إجازته صلى الله عليه وسلم أو تقريره للعمل إذ يدل حله وجوازه؟ الظاهر لنا أن

هذا القياس لا محل له هنا، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم الغيب فهو

كسائر البشر يحمل كلام الناس على الصدق إذا لم تحف به شبهة، وكثيرًا ما صدق

المنافقين والكفار في أحاديثهم، وحديث العُرَنيين وأصحاب بئر معونة مما يدل على

ذلك، وإنما كان يعرف كذب بعض الكاذبين بالوحي أو ببعض طرق الاختبار أو

إخبار الثقات، ونحو ذلك من طرق العلم البشري، وإنما يمتاز الأنبياء على غيرهم

بالوحي، والعصمة من الكذب وما كان الوحي ينزل إلا في أمر الدين وما يتعلق

بدعوته وحفظه وحفظ من جاء به، وتصديق الكاذب ليس كذبًا، وحَسْبك أن تتأمل

في هذا الباب عتاب الله لرسوله إذ أذن لبعض المعتذرين من المنافقين في التخلف

عن غزوة تبوك وما علله به، وهو قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ

لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) .

وإذا جاز على الأنبياء المرسلين أن يصدقوا الكاذب فيما لا يخل بأمر الدين

ولا يترتب عليه حكم شرعي ولا شيء ينافي منصب الرسالة، أفلا يجوز على من

دونهم أن يصدقوا الكاذب في أي خبر لا تقوم القرينة على كذبه فيه، ومن صدَّق

شيئًا يجوز أن يحدِّث به من غير عَزْو إلى من سمعه منه، ولكن هذا كان قليلاً في

الصدر الأول من الإسلام، فقد ظل المسلمون عدة قرون ينقلون كل شيء بالرواية

وإن كان بيت شعر أو كلمة مُجون.

تنبيه مهم:

إن الأحاديث المشكلة الصحيحة الإسناد قليلة فما رواه أبو هريرة منها قليل من

قليل، وما انفرد به منه أقل من ذلك القليل، ولا يتوقف على شيء منها إثبات

أصل من أصول الدين، والحمد لله رب العالمين.

***

الجملة الخامسة الخاتمة لكلام الطاعن

(استنتاجه من جملة دعاويه أن الشريعة لا قيمة لها في نفسها ولا في روايتها)

قال بعد سرد ما تقدم عن الشبهات على رواية أبي هريرة ما نصه:

هذا هو الرجل الذي وضع مع ابن عباس الشريعة، ولكن ما هي قيمتها؟ إن

السؤال مهم جدًّا، ويطلب الجواب عليه من الثلاث مائة مليون سُنّي الموجودين في

العالم اهـ بحروفه.

اشتملت هذه الخاتمة على دعوى باطلة، واستفهام إنكاري تهكمي، ووجه هذا

السؤال فيها إلى ثلاث مئة مليون سني [1] أي إلى كل فرد من أفراد أهل السنة الذين

يسكنون في جميع الأقطار، ويتكلمون بعشرات من اللغات، ولماذا؟ لأن السؤال

مهم جدًّا في نظر القسيس المبشر المتصدي هو وجمعيته لتنصير كل هؤلاء

المسلمين بعد عجزهم عن هذا السؤال المهم جدًّا، بَخٍ بَخٍ.

***

الجواب عن الدعوى

هذه الدعوى ظاهرة البطلان عند المسلمين وعند من له أدنى إلمام بشريعتهم

وتاريخهم من النصارى وغيرهم، سواء أراد بأساس الشريعة أصول أدلتها التي

تستنبط منها، وهو الأقرب، أو أصول مقاصدها وهي العقائد والأحكام والآداب،

ونستغني عن بيان ذلك بما قلناه في مسألة أركان الشريعة الذي فندنا به القضية

الثالثة من قضايا الجملة الأولى من مقاله راجع ص 28 ج1 ثم نقول:

إن أبا هريرة وابن عباس ما وضعا أساس الشريعة ولا أركانها، ولا أصولها،

ولا فروعها، وإنما رويا لنا كغيرهما من الصحابة الكرام الكثير الطيب من سنة

الرسول، وهي ثابتة الأسس والأصول.

وقد بينا أن البخاري خرَّج لأبي هريرة 446 حديثًا في صحيحه، ونقول هنا:

إنه خرَّج فيه لابن عباس 217 حديثًا، وهذا القدر من روايتهم للأصول

الموصولة من الأحاديث لم ينفردا به وإنما شاركهما في رواية الكثير منه غيرهما،

ولو أحصينا ما انفرد بروايته أبو هريرة وحده من أحاديث الأحكام الشرعية لرأيناه

قليلاً جدًّا، وعلمنا أنه لو لم يروه لما نقصت كتب الأحكام شيئًا كثيرًا، وأن ما

عسى أن تنقصه يمكن أن يعرف حكمه من قواعد الشريعة الثابتة وأصولها القطعية،

كقاعدة رفع الحرج والعسر، وإثبات اليسر وترجيحه، وقاعدة كون الأصل براءة

الذمة وكون الأصل في كل الخبائث والمضرات الحرمة، وفي كل الطيبات الحِلّ،

وكون الضرورات تبيح المحظورات، وغير ذلك مما لا مجال لتفصيله في هذا الرد.

***

قيمة الشريعة الإسلامية

الجواب عن الاستفهام التهكمي

لا أرى شبهًا لسؤال القس الطاعن عن قيمة الشريعة الإسلامية إلا السؤال عن

الشمس وما فائدتها للدنيا؟ وعن العافية ما فائدتها للناس؟ وعن الماء والهواء ما

فائدتهما للنبات والحيوان؟ سواء كان السؤال سؤال إنكار وتهكم أو سؤال استفهام،

وإننا نجيب عن هذا السؤال بجواب مجمل وجيز؛ لأن التفصيل لا يأتي إلا

بتصنيف كتاب كبير، فنقول:

(1)

إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي ثبتت نبوة من جاء بها

بالبرهان العقلي العلمي الثابت الدائم، وملخصه أنه رجل أميّ نشأ بين قوم أُمِّيين بلغ

الكهولة ولم يقرأ كتابًا، ولم يكتب سطرًا ولا حرفًا، ولا قال شعرًا ولا ارتجل

خُطبة، ولا رَأَسَ قبيلة ولا ساس قرية، ولا انتحل كهانة ولا عَرافة، ولا عرف

شيئًا من شرائع الأمم وأديانها، ثم قام في سن الكهولة بدعوى النبوة، وأيد دعواه

بكتاب اشتمل على أخبار الغيب الماضية والمستقبلة، وسنن الله في الدين والمدنية،

وعلى أصح علوم العقائد الإلهية، المؤيدة بالبراهين العقلية والعلمية، وأصلح

علوم الأخلاق والفضائل النفسية والعبادات الجامعة بين المنافع الروحية

والجسدية، وأعدل قواعد الشرائع السياسية والمدنية إلخ، ثم إنه اجتث بهداية

هذا الكتاب جراثيم الوثنية، وطهَّر الأمم من الخرافات التقليدية وأخلاق الجاهلية،

فكان للناس بذلك دين كامل وشريعة عادلة وأمة مؤلفة من جميع الشعوب والقبائل،

ودولة أحيت الحضارة وامتدت من المشرق إلى المغرب في جيل واحد.

فكان مثل محمد النبي الأمِّيّ صلى الله عليه وسلم كمثل رجل جاء بلدًا مصابًا

بالأوبئة المجتاحة والأمراض المعضلة، وادَّعى أنه طبيب وأيد دعواه بكتاب في

الطب والعلاج طهَّر به ذلك البلد كلها من الأمراض والأوبئة، فأصبح أهله متمتعين

بكمال الصحة والعافية.

فكما يجزم كل عاقل بأنه يستحيل على غير الكامل في علم الطب أن يؤلف كتابًا

في الطب يزيل بالعمل به الأوبئة ويشفي المرضى، كذلك يستحيل بالأولى أن

يقدر رجل أمي على الإتيان بأخبار الغيب وعلوم الدين والشرائع والآداب فيصلح

بها أديان أمم كثيرة وآدابها وأخلاقها وأحكامها وسياستها، إلا أن يكون نبيًا مؤيدًا

بوحي الله وعنايته العليا، بل يستحيل صدور مثل هذه العلوم والأعمال من واحد

أو من جماعة تعلموا جميع علوم البشر وعلوم الأديان في أعلى مدارس هذا العصر

الجامعة، دع إعجاز القرآن ببلاغته وأسلوبه وسائر معجزات النبي صلى الله عليه

وسلم.

(2)

إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة الجامعة بين هداية الدين الإلهي

الحق، وبين ثمرات عقول العلماء المجتهدين، الواقفين على مصالح البشر وما

يقوم به العدل بينهم، وما سواها فإما ديني محض لا مجال فيه لعقل ولا رأي، وإما

وضعي ناقص لا يحترم في السر كما يحترم في الجهر.

(3)

إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي تواتر كتابها تواترًا حقيقيًّا،

ورويت سنتها رواية متصلة الإسناد، ودُوِّنَ تاريخ رواتها تدوينًا مبنيًّا على ركني

النقد والتمحيص، الذي يميَّز به بين الصحيح وغير الصحيح.

(4)

إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي حررت البشر وأعتقتهم من

رق رؤساء الدين، الذي أرهق الغابرين، فلم تجعل لأحد سيطرة روحية على أحد،

فليس فيها كهنة ولا قسيسون يمتازون بمناصبهم الدينية على غيرهم، أو تتوقف

إقامة شيء من أمر الدين عليهم، وإنما خوطب البشر بها على سواء فهم يتفاضلون

فيها بعلومهم وأعمالهم الكسبية، لا بمناصبهم الموروثة ولا أنسابهم الشريفة.

(5)

إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي أعتقت البشر من رق

الملوك المستبدين الذين انتحلو لأنفسهم حق الحكم بمحض الهوى والإرادة، وحق

وضع الشرائع والقوانين بالذات أو بالنيابة، وحق الامتياز في الحقوق الشرعية

على غيرهم من أفراد الأمة، فجعلت أمر الأمة شورى بين أهل الحَلّ والعقد، ومن

أهل العلم والرأي، الذي يولون عليها من يرونه أصلح لتنفيذ شريعتها، ولم تجعل

للخلفاء أو السلاطين امتيازًا على أحد من الفقراء والصعاليك، لا في حكم من

الأحكام المدنية، ولا في عقوبة من العقوبات الجزائية، وقد وافقتها بعض الأمم في

بعض هذه الأصول أو اقتبستها منها، بعد أن ترك المتغلبون على المسلمين إقامتها،

ولكن لم يبلغ أحد شأوها إلى هذا اليوم، وإنما صار بعضهم أقرب إليها ممن يسمون

أنفسهم أهلها.

(6)

هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي ساوت بين أهلها المؤمنين بها،

وبين الكافرين بها إذا تحاكموا إليها، سواء كانوا من أهل ذمتها، أو من الأجانب

المعاهِدين لحكومتها، أو الحربيِّين الداخلين في أمان أحد من أهلها فلا فرق بين

أحكامها القضائية بين أبناء الرسول وأمراء المؤمنين، وبين أضعف أهل الكتاب

الوثنيين، ونحن نرى أرقى الإفرنج وأشهرهم بالعدل يميزون أنفسهم على غيرهم،

فلا يرون المصري والهندي مساويًا للإنكليزي، ولا الآسيوي مساويًا للأمريكي.

(7)

إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي رفعت شأن النساء

وأعطتهن حقوق الاستقلال التام في التصرف بأموالهن، وساوت بينهن وبين

أزواجهن في جميع الحقوق بالمعروف، إلا رياسة المنزل وزعامة الأسرة، وإن

كلمة وجيزة من كلمات القرآن الحكيم في ذلك لأبلغ من كثير من الأسفار التي ألفت

في المطالبة بحقوق النساء أو ما يسمونه تحرير المرأة، ألا وهي قوله عز وجل:

{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228)

وهذه الدرجة التي أعطيت للرجل بحق، وهي رياسة البيت؛ لأنه أقدر على الكسب

والحماية، والمطالَب بجميع النفقة، تشبه الرياسة العامة فيما شرع فيها من الشورى

كما يدل عليه قوله عز وجل في مسألة إرضاع الولد وفطامه: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً

عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (البقرة: 233) وقد اهتدى كثير من

الأمم ببعض هدي هذه الشريعة في هذه المزيَّة ولم يبلغ أحد منها شأوها، ولكن

أهلها قصروا في إقامتها، حتى صاروا حجة عليها عند من يجهلها.

(8)

هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي وضعت للحرب نظامًا حُرِّم فيه

العدوان والتمثيل والتخريب، وقتل من لا يقاتل من النساء والشيوخ والأطفال

والمنقطعين للعبادة، فجعلتها ضرورة تتقدر بقدرها، وأمرت بالجنوح للسلم إن جنح

العدو لها، وقد بين المنار فضلها في ذلك على قوانين أوربة وفضل أهلها في

حروبهم على الأوربيين في مقالة نشرت في مجلد السنة الماضية، وقد أنصفنا أحد

حكماء الإفرنج بقوله: (ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) .

فأين منها شريعة التوراة التي بين أيدي اليهود والنصارى وهي التي أوجبت

في الفصل العشرين من سفر تثنية الاشتراع استعباد جميع أفراد الشعب المسالم الذي

يختار الصلح على الحرب، وقتل جميع ذكور الشعب الذي يحارب عند الظفر به

وجعل جميع نسائه وأطفاله وما يملكه غنائم، هذا إذا كان من المدن البعيدة جدًّا عن

شعب التوراة التي لا يسهل عليه سكناها، وأما الشعوب القريبة التي يسهل عليه

امتلاك بلادهم فهذا نصها فيهم: (16 وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب

إلهك نصيبك فلا تَسْتبق منها نسمة ما) .

(9)

هذه هي الشريعة الوحيدة التي فرضت على الأغنياء نصيبًا معلومًا مما

يزيد من أموالهم عن نفقاتهم يصرف لإعانة الفقراء والمساكين العاجزين عن كسب

ما يكفيهم، ولمساعدة الغارمين على ما يحملون من الغرامات للإصلاح بين الناس،

ولأبناء السبيل الذين يسيحون في الأرض فتنفد نفقاتهم قبل عودتهم إلى أوطانهم،

ولغير ذلك من المصالح العامة، ولو أقام المسلمون في هذا العصر هذا الركن كما

كان يقيمه سلفهم الصالح لما وجد فيهم فقير مهين، ولكانت حالهم الاجتماعية أفضل

من حال أرقى الأمم، ولكان السائحون لاكتشاف مجاهل الأرض وخَرْت بقاعها

والاعتبار بأحوال الأمم فيها أكثر من سائحي غيرهم من الأمم، إذ حثهم الله في

كتابه العزيز على السياحة النافعة بمثل قوله في سورة الحج: {أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي

الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الحج: 46) وقوله

في سورة المؤمن: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن

قَبْلِهِمْ} (غافر: 82) وقوله في سورة آل عمران: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ

فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (آل عمران: 137) إلخ.

(10)

إن الشريعة هي خاتمة الشرائع الإلهية، وحكمة ذلك أن الله تعالى قد

أكمل بها الدين الحق، فجعلها جامعة بين مصالح الروح والجسد، ومنح الأمة حق

الاجتهاد واستنباط الأحكام، بما وهب لها من فضيلة الاستقلال، بعد أن أعد لذلك

بسنة الارتقاء، وبهذين كانت موافقة لمصالح البشر في كل زمان ومكان، خلافًا لما

يجنيه عليها الصديق الجاهل، وما يتجناه عليها العدو العاقل، وقد بينا هذه المسألة

في التفسير وفتاوى المنار ومقالاته مرارًا، كمقالات المصلح والمقلد، والفتاوى

الباريزية، وتفسير:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) وتفسير: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وتفسير:

{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) وطالما فندنا شبهات

المنكرين لذلك.

فهذه بعض مميزات هذه الشريعة التي يعرف قيمتها المنصفون من غير أهلها،

فإن أمكن لهذا المجادل فيها أن يشكك أهلها فيها بما زعمه من ارتياب بعض الناس

في رواية أبي هريرة رضي الله عنه أو بغير ذلك من الدعاوي (ولن يمكن) فلا

يجني من ذلك إلا انصراف ثلاث مئة مليون سني ربما يتبعهم زهاء ثلاثين مليونًا

من الشيعة وسائر الطوائف الإسلامية عن الإيمان بأن المسيح عليه السلام رسول الله

المعصوم وكلمته التي ألقاها إلى مريم الطاهرة البَتُول، إلى مثل اعتقاد ملاحدة

الأوربيين من الإنكليز وغيرهم كمؤلف كتاب (نشوء فكرة الله) ومؤلف كتاب

(أضرار تعليم التوراة والإنجيل) ، وغيرهم من الماديين الذين يطعنون فيه وفي أمه

الطاهرة، ويزعمون أن آداب إنجيله مفسدة للبشر؛ لأنه تعلم الناس الذل بالخضوع

لكل سلطة وإن كانت أجنبية جائرة، وإدارة الخدين لكل من يريد صفعهما، وتدفعهم

إلى الفقر بتحريم الادخار والاهتمام بالمستقبل وحرمان الأغنياء من ملكوت السماء.

لو كان الشك في الشريعة الإسلامية يفضي إلى تنصر الشاكّ فيها حتمًا لكان

للطاعن المشكك فيها، وهو داعية لدينه عذر ظاهر في التشكيك، ولكن لا تلازم

بين الأمرين، بل علمنا بالتجارب والاختبار أن أكثر الذين يمرقون من الإسلام

يكونون ملاحدة معطلين، وأن الأفراد القلائل من المسلمين الذين دخلوا في

النصرانية لا يكاد يوجد واحد منهم كان مسلمًا حقًّا ثم صار نصرانيًّا ظاهرًا وباطنًا،

بل هم في الغالب من العوام الفقراء، الكسالى الذين يظهرون النصرانية للمبشرين

لأجل أن يطعموهم، وهم على جهلهم بحقيقة الإسلام لا يفضل أحد منهم تقاليد

النصرانية على ما عرف من تقاليد قومه، وقلما يفتح لأحد منهم باب للرزق عند

المسلمين إلا ويفر إليه مفضلاً له على الارتزاق بالنفاق، وطالما سعوا إلى ذلك

وطرقوا له الأبواب كلما فتح لأحد منهم باب منها تاب وأناب، فأين هؤلاء الغوغاء،

ممن يدخلون في الإسلام من كبراء الإنكليز وفضلائهم وغيرهم من نصارى

الغرب والشرق كاللورد هدلي.

قال حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني: إن المسلم لا يمكن أن يصير مسيحيًّا

وعلل ذلك بقوله: لأن الإسلام مسيحية وزيادة، أي يتضمن الإيمان بالمسيح

صلى الله عليه وسلم وبما جاء به بالإجمال، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

وبما جاء به بالتفصيل، وعللناه نحن بأن دين الله واحد في أصوله من التوحيد

والإخلاص والفضيلة، إلا أنه سار كسائر الشئون المتعلقة بالبشر على سنة النشوء

والارتقاء فكان كماله في آخره {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي

وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) فالمسلم ينظر إلى ملة كل من نوح

وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام كما ينظر الإنكليزي إلى

القوانين التي كان عليها قومه في القرن السادس عشر والسابع عشر، إلى القرن

العشرين، ولكنه لا يترك ما ارتقى إليه من القوانين المناسبة لحال زمنه هذا إلى ما

ارتقى عنه من قوانين القرون الخالية، ولا يَعُدّ نفسه بما ارتقى إليه قد خرج عن

كونه إنكليزيا، وكذلك المسلم يؤمن بجميع الأنبياء وبحقية أديانهم وشرائعهم

ومناسبتها لأزمانهم وبأن الشريعة المحمدية كانت هي الخاتمة المتممة المكملة

الناسخة، والمسلمون يعظمون جميع الرسل {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285) ولكنهم يتبعون الأخير منهم.

وإننا نرى المبشرين يحاولون إقناع المسلمين بدلالة القرآن على تفضيل

عيسى على محمد عليهما الصلاة والسلام، ولو تم لهم هذا لما أفادهم شيئًا، فإن

المسلمين لا يفرقون بين الرسل من حيث إنهم رسل، وإنما فضل الله بعضهم على

بعض بكثرة المزايا ودرجة انتفاع البشر برسالتهم، وقد فَضَلَهم خاتمهم محمد صلى

الله عليه وآله وسلم بعموم بعثته وإكمال الدين المطلق بما جاء به وكثرة من اهتدى

به، ونعتقد أن عيسى لم يبعث إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة كما قال عن

نفسه (مت15: 24) ولو فرضنا أن عيسى أفضل بما امتاز به في خلقه

وخصائصه لما كان ذلك موجبا لترك الثابت عندنا من شريعة محمد صلى الله عليه

وسلم العامة المكملة الخاتمة الناسخة لما قبلها إلى ما لم يثبت عندنا من شريعته

الخاصة المنسوخة، وعلماء الأصول منا يفضلون إبراهيم على موسى وعيسى

صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لا يقولون: إنه كان يجب على بني إسرائيل

ترك شريعة التوراة إلى ما خلافها من شريعته كما أن من يفضل محمد علي باشا

الكبير على أحفاده بخصائصه الفطرية لا يرى ذلك موجبًا لترك قوانينهم إلى

قوانينه، على أن القاعدة عندنا أنه قد يوجد في المفضول من المزايا ما لا يوجد

في الفاضل كما يفضل بعض أحفاد محمد عليّ جدَّهم بالعلم وبعض الأخلاق

والأعمال.

الحق أقول لكم أيها المبشرون المحترمون إن مجادلاتكم وطريقتكم في دعوة

المسلمين إلى دينكم قد جاءت إلى اليوم بضد ما تريدون وتريد جمعياتكم، فهي تزيد

المسلمين استمساكًا بدينهم وبعدًا عن دينكم، وأكبر ضررها الديني في المسلمين أنها

حملت كثيرًا منهم على ضد ما يجب عليهم شرعًا من حب سيدنا عيسى وأمه

وحواريه والثناء عليهم بما أثنى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن كثيرًا

من العوامّ صاروا يعتقدون مما يسمعون منكم ويقرءون أو يُقرأ عليهم من كلامكم

ضد ما يقرره الإسلام من كون الرسل إخوة يجب الإيمان بهم وحبهم جميعا، بل

أرى هذا التأثير قد دب إلى خواص المتعلمين على الطريقة الإفرنجية حتى

المشهورين منهم بالتساهل الديني.

ومن العجيب أن واحدًا من كبار هؤلاء علمًا ورتبة صرح أمامي بأنكم بغضتم

إليه المسيح، فقلت له: لا ينبغي لمثل سعادتك أن يسترسل مع وجدانه إلى هذا الحد،

ولا يخفى عنك أن بغض المسيح عليه السلام كفر، فقال: إن هذا قد ثبت في

نفسه ولا يستطيع دفعه.

أيها المبشرون المحترمون إنكم تريدون تشكيك الناس في الشريعة بالطعن في

عدالة أبي هريرة، وقد علمتم أن الطعن في أبي هريرة لو كان صادقًا ما حط من

قدر هذه الشريعة شيئًا فكيف وهو باطل، ولو لم يُخلق أبو هريرة لما نقصت

الشريعة شيئًا، ولكن كثيرًا من المسلمين المتعلمين على المنهج الإفرنجي يرون أن

أكبر الشبهات على الإسلام، ما أثنى القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم به على

المسيح وأمه عليهما السلام، حتى إنني قلت منذ سنين: إن أقوى الحُجج للمسيح

شهادة القرآن له، وأقوى الشبهات على القرآن شهادته للمسيح، فهل رأيتم قول

القرآن فيه: {إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ

وَرُوحٌ مِّنْهُ} (النساء: 171) قليلاً حتى طمعتم بإقناع المسلمين بأن يقولوا كلمة

أكبر من ذلك، ورأيتم قوله فيه:{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ} (البقرة: 87) قليلاً

أيضًا فطمعتم بأن نقول فيه كما تقولون ، وإن لم نفعل ذلك ولم يقم عليه برهان

مبين.

أيها المبشرون الغيورون إنكم تعلمتم أن اشتغال الناس بالفلسفة المادية والمدنية

المادية قد فَتن كثيرًا من المسلمين بملاحدة الأوربيين الماديين الذين مرقوا من

النصرانية وطعنوا فيها أشد الطعن لأن تعاليم الأناجيل أشد التعاليم وأقساها على

الماديين إذ هي روحانية محضة، وأما الإسلام فهو دين وسط، جامع بين حقوق

الروح وحقوق الجسد، فلا تؤثر فيه دعوة النصرانية؛ لأنه كما تقدم مسيحيةٌ وزيادةٌ

وإنما يخشى على الجاهلين بحقيقته من تيار المادية، وحرية الشهوة الحيوانية،

فمدارسكم الإفرنجية الدينية منها وغير الدينية، هي التي تكفل لكم التشكيك في

الإسلام، لا الطعن في أبي هريرة، ولا ابن عباس، فتعالوا نتعاون على مجاهدة

هذه التعاليم المادية، التي كانت آفتها شديدة على الإسلامية ولكنها على النصرانية

أشد، ودليل ذلك أنها لم تمنع كثيرًا من المتعلمين الباحثين من ترك النصرانية إلى

الإسلام، وأن الملاحدة منا أقل من الملاحدة منكم.

ما رأيت كلامًا لأحد من الأوربيين المستشرقين في الإسلام والمسلمين بني

على الخبرة والمعرفة ككلام الدكتور سنوك الهولندي، وقد بيّن في خطبته التي

ألقاها منذ سنين في مدرسة كليفورنية الجامعة في الولايات المتحدة أن القضاء على

الإسلام الديني بالتبشير المسيحي محال، وأن المسلمين لن يكونوا نصارى أبدًا،

وإن طريقة اللاتينيين في بث التعليم المادي في المسلمين، أفعل في زلزال الإسلام

من طريقة البروتستانت في بث دعوة الدين، واعتبروا مع هذا ما ترونه من

تفضيل أكثر المسلمين للإنكليز والأمريكان على اللاتين.

أنا لا أخاف على المسلمين من مجلاتكم ولا من كتبكم ورسائلكم، إنما أخاف

على المسلمين من الفلسفة المادية والمدنية الشهوانية، ومن منافقيهم وعباد الشهوات

منهم، فهم الذين يجنون على دينهم ودنياهم، وإنما أوصيكم بأن تتجنبوا فيما تقولون

في مجامعكم التبشيرية، وما تطبعون في رسائلكم وصحفكم الدورية، كل ما يثير

العصبية ويخدش المودة الوطنية: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ

لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ

جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: 48) {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ

فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: 84) .

_________

(1)

قد اشتهر منذ عشرات من السنين أن المسلمين ثلاث مئة مليون وأول أوربي اشتهر عنه هذا القول عاهل ألمانية غليوم الثاني، والظاهر أن أهل السنة وحدهم صاروا يبلغون هذا العدد كما قالت مجلة الشرق والغرب، وثم عشرات الملايين من الشيعة وغيرهم.

ص: 97

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المجمع اللغوي المأمول

دعوة إلى هذه الأمنية وخطوة جديدة على ذكرى بلوغ المقتطف سن الأربعين

من حياته المفيدة

طالما تشوفت أنفس أهل العلم والأدب من المشتغلين بالتصنيف والإنشاء

والترجمة بلسان العرب إلى إنشاء مجمع لغوي للتعاون على خدمة اللغة العربية

بالطرق التي تقتضيها حال هذا العصر، وطالما تحدثوا بهذا في أنديتهم وسمارهم،

وكثر ما هموا ولم يفعلوا، وما أقدموا ثم أحجموا، وما بدأوا ثم لم يثبتوا، وقد كان

عدم تيسر المكان اللائق بهذا العمل من الموانع العائقة لكثير من الذين تمنوه وتحدثوا

بشأنه عن مواصلة المذاكرة فيه ومعاودة الاجتماع لأجله، فلما أنشأ الأساتذة

المتخرجون من مدرسة دار العلوم ناديهم منذ سنين قليلة تعلقت آمال كثير من الناس

بهم، وكان اختيار حفني بك ناصف رئيسًا لناديهم، مقويًا للرجاء فيهم، ثم ما عتم

هذا النادي أن خبت ناره، وأطفئت أنواره، ولكن بعد ترك حفني بك لإدارته

ومغادرته مدينة القاهرة مرتقيًا في منصبه.

لاح لنا أمس بارق أمل جديد، عسى أن نصل في نوره إلى ما نريد، فيكون

ذلك من بركات المقتطف المفيد.

صدر الجزء الأول من مجلة المقتطف في مثل هذا اليوم أول مايو من سنة

1876 فتم له أمس أربعون سنة، وقد كان مما يخطر على بال كثير من أهل

العلم وأنصار النهضة العربية أن يجعلوا هذا اليوم عيدا للمقتطف يحتفلون به

الاحتفال اللائق بخدمته للعلوم والفنون بهذه اللغة الشريفة التي لا حياة لنا إلا بحياتها

العلمية والفنية، ولكن الحرب الأوربية العامة جعلت العالم كله في مأتم ولا تكون

المآتم أعيادًا.

وقد كان في مقدمة الذين شعروا بوجوب الاحتفال بالمقتطف صديقنا الأديب

الخطيب الشهير إسماعيل بك عاصم المحامي، وقد رأى أن ما يمنع من إقامة

الاحتفالات العامة، لا يمنع من اجتماع خاص لتهنئة خاصة، فأعد أمس في دارها

الزاهية مأدبة لصاحبي المقتطف دعا إليها صاحب الدولة رئيس الوزارة حسين

رشدي باشا وصاحب المعالي عدلي باشا يكن وزير المعارف وصاحب الفضيلة

الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية وصاحبي السعادة يحيى باشا إبراهيم رئيس

الاستئناف الأهلي وأحمد زكي باشا كاتب سر مجلس النظار وحضرة صاحب العزة

أحمد بك لطفي السيد مدير دار الكتب السلطانية، وبعض أصحاب المجلات العربية

المشهورة.

انتظم عقد هذه الجماعة عشاء في تلك الدار، المتألقة بالأنوار فكانت سامرًا

علميًّا من أرقى السمار، افتتحها حضرة صاحب الدعوة بهذه الأبيات:

يا بدورًا قد تجلى

في سماء العليا سناكم

حاكت الأفلاك داري

حين حياها نداكم

فاقبلوا مني دعاء

أسعد الله مساكم

وبعد مسامرات كان جلها في مناقب العرب وما سبق لهم من ترقية العلوم

والفنون تحلقوا حول تلك المائدة، فأصابوا مما طيف عليهم به من ألوانها الفاخرة، ثم

نهض الداعي الوفي الكريم فألقى خطبة نفيسة في الثناء على المقتطف المفيد، وعلى

منشئيه الفيلسوفين الكبيرين الدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نمر، بين فيها

خدمته الجليلة للعلم والعربية وذكر أنه أنشئ في بيروت ثم جذبته مصر إليها، وذكر

مقالتين نشرتا في الجزء الأول كانتا كالمرآة التي تجلى فيها كماله، مقالة في عمل

الزجاج ومقالة في القمر وتشكله منذ يبدو هلالاً إلى أن يكون بدرًا كاملاً، قال:

وكذلك كان المقتطف فإنه كالزجاج في صفائه وبهائه، وهو كالقمر بدأ

هلالاً ثم صار بدرًا كاملاً وأسأل الله حفظه من المحاق.

ثم ذكر بدء معرفته لمنشئ المتقطف من زهاء ثلاثين سنة، وذكر من فضلهما

وأخلاقهما ما هو معروف، وأشار في خطابه إلى ما سبق من احتفاله المشكور

ببلوغ مجلة المنار عشر سنين، وذكر المنار في سياق الاستدراك على وصف

المقتطف بالسبق في خدمة العلوم، ثم قام كاتب هذه السطور فاستأذن الوزير الأكبر

بإلقاء كلمة في الموضوع خلاصتها:

ورد في الحديث الشريف (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) وقد رأيت

صديقنا الفاضل إسماعيل بك عاصم استدرك على ما وصفه المقتطف بأنه المجلة

العربية الوحيدة التي قامت بما قامت به من خدمة العلم فذكر المنار وقرنه بالمقتطف

وقال: إن للمقتطف فضيلة السبق وذكر أنني أعترف له بذلك كما اعترف لابن

معطٍ ابنُ مالك إذ قال في فاتحة الألفية:

وهو بسبق حائز تفضيلا

مستوجب ثنائي الجميلا

نعم أعترف للمقتطف بالسبق والتبريز في العلم، وأزيد على ذلك

الاعتراف بأنني قد استفدت من المقتطف من أول عهدي بطلب العلم ولا أزال

أستفيد منه.

إنني لما دخلت المدرسة الوطنية في طرابلس الشام وذلك أول عهدي بطلب

العلم رأيت أستاذنا الشهير الشيخ حسينًا الجسر مشتركًا في المقتطف ومواظبًا على

قراءته، فكانت تلك أول معرفتي بالمقتطف وصرت أستعيره بعد ذلك وأقرؤه،

فاستفدت من مباحثه فوائد عقلية وصحية واجتماعية، ولا أزال أعتمد على ما يكتبه

في معرفة أطوار التجدد العلمي العصري.

إن المقتطف في نظري مدرسة جامعة سيارة يستفيد منها العالم العربي في كل

بلد يقرأ فيه فإن الذين يتعلمون مبادئ العلوم العصرية باللغة العربية، يحتاجون إلى

الوقوف على ما يتجدد فيها بالبلاد الغربية، ولا سبيل إلى هذا إلا بالاطلاع على

الكتب والمجلات الأوربية التي تصدر في كل عام وهذا لا يتيسر إلا لبعض الأغنياء

المتقنين لبعض لغات العلوم الأوربية، فالمقتطف يلخص لنا في كل شهر ما لا

يستغني عنه قراء العربية.

من حق المقتطف على الأمة العربية أن تحتفل به في الوقت المناسب ونرجو

أن يكون ذلك على رأس الخمسين من حياته النافعة.

احتفل فريق من المصنفين ببلوغ مطبعة المعارف سن العشرين في خدمة

الصناعة وإتقانها فإذا جرينا على سنتهم كان علينا أن نقيم للمقتطف عشرات من

الاحتفالات. كان على مروِّجي الصناعة أن يقيموا للمقتطف مثل هذا الاحتفال لا

لأن له مطبعة أخرجت للناس من المطبوعات النافعة ما لم يخرجه غيرها فحسب،

بل لأن للصناعة بابًا في المقتطف فهو مرشد إلى ترقيتها بجميع فروعها، وكان

على المجتهدين في ترقية الزراعة أن يقيموا له احتفالاً آخر لأن للزراعة بابًا فيه

مثل باب الصناعة، ومثل هذا يقال في كل علم وفن ولكن صديقنا إسماعيل بك

عاصم جمع لنا في هذه الليلة صورة مجملة لما يجب على الأمة مفصلاً.

إن أكبر منقبة للمقتطف ومنشئيه أنهما حجة اللغة العربية على من يتوهمون

أنها لا تتسع لجميع العلوم العصرية ولا يسهل تعليمها بها، فهذان العالمان الكبيران

تعلما العلوم باللغة العربية واشتغلا بالكتابة والتأليف فيها مدة أربعين سنة فأفادا العلم

ما لم يفده أحد من المتعلمين منا باللغات الأجنبية.

هذا ملخص ما قلته، ثم ألقى أحمد زكي باشا خطبة نفيسة في فضل المقتطف

ومنشئيه في خدمة العلم باللغة العربية افتتحها بما هو معروف في الفقه الإسلامي من

تقسيم الواجب إلى فرض عين وهو ما يطلب من كل فرد من الأفراد كالصلاة

والصيام، وفرض كفاية وهو ما إذا قام به بعض الأفراد سقط الطلب عن الباقين

كالفنون والصناعات التي لا يستغني الناس عنها في معايشهم، وقال: إن صاحبي

المقتطف هما اللذان قاما بفرض الكفاية من خدمة العلوم والفنون، ثم ذكر أول عهده

بالمقتطف وأنه أرسل إليه سؤالاً إلى بيروت ثم عهده برؤية منشئيه وما يحمد من

صحبته لهما.

وقام أيضا الشاب النجيب إميل أفندي زيدان صاحب مجلة الهلال الغراء فأثنى

على المقتطف وذكر أنه تلميذ لتلاميذ منشئيه العلامتين وذكر أن والده وهو أستاذه

الأول كان تلميذهما، وكذلك كان أساتذته في المدرسة الكلية من تلاميذهما.

ثم قام صاحب مجلة المفتاح الغراء توفيق أفندي عزوز فخطب خطبة أثنى

فيها على المقتطف بما هو أهله وذكر استفادته منه كغيره وقال: إن منشئيه

العلامتين الفاضلين قد أفادا بأخلاقهما كما أفادا بمجلتهما فهما باتفاقهما وتكافلهما

وإخائهما قدوة صالحة لهذه الأمة التي تشكو من التفرق والاختلاف وقلة الثبات ما

هو أعظم عائق لها عن القيام بالأعمال النافعة.

وبعد ذلك قام العلامة الدكتور فارس نمر فألقى خطابًا بليغًا قال في فاتحته:

إنه بلسانه ولسان شريكه وأخيه الدكتور صروف يشكر أولاً لسعادة إسماعيل بك

عاصم عنايته بهذه الدعوة ويعتب عليه أنه جعلها بصورة احتفال ومما قاله:

إن حضرة رب هذه الوليمة شرف إدارتنا منذ بضعة أيام وهنأنا بمرور أربعين

عامًا على مجلتنا المقتطف ودعانا إلى تناول الطعام مع جماعة من علماء مصر

وأرباب المجلات العربية الذين دعاهم احتفالاً بذلك فأبنا لحضرته أن الوقت لا

يصلح للاحتفالات ولا خدمتنا تستحق هذه العناية ولكن أبت مكارمه ومكارمكم أيها

السادة إلا أن تخصونا بالنصيب الأوفر من محاسن هذه الليلة وأن تتحفونا بهذا المدح

الذي لا نستحقه فلحضرة صديقنا الفاضل صديق العلم والأدب رب هذه الدار ولدولة

الوزير الكبير رئيس الوزراء ولمعالي وزير المعارف ولفضيلة مفتي الديار

المصرية ولسعادة رئيس الاستئناف الأهلي ولسعادة سكرتير مجلس النظار وسائر

الذين تكرموا بالثناء على المقتطف وذكروه بالخير ولبوا هذه الدعوة إكرامًا له جزيل

الشكر من هذين العاجزين.

ثم قال: إن المقتطف وإن كان قد أنشئ في القطر السوري فقد كان معظم

انتشاره في القطر المصري، وقد لقي من أعاظم مصر أعظم عضد وأرحب صدر

حتى أن وزير مصر الشهير المرحوم رياض باشا كان يكاتبه منذ بدء إنشائه، ولما

نقلناه من سورية إلى مصر رحب به رحمه الله كما رحب به الوزير الكبير شريف

باشا والعالم المرحوم شفيق بك منصور وغيرهم من أعاظم مصر وأكابر علمائها،

والأمل وطيد أن خدمة المقتطف على ما بها من الضعف تجد من تأييدكم أيها السادة

ما يقويها ويزيدها أضعافا مضاعفة بمؤازرة سائر المجلات والجرائد العربية في

عصر مولانا السلطان المعظم الذي حق لنا أن نباهي به سلاطين الشرق والغرب

معا على حبه للعلم وإكرامه للعلماء ورغبته في إعلاء منار الأدب وغيرته على نشر

المعارف وجوده في سبيل التربية أدامه الله للأمة العربية فخرًا وأدامكم للغة العربية

فخرًا.

ثم دارت بعد ذلك المذاكرة في مسائل علمية ولغوية أفضت إلى الكلام في شدة

الحاجة إلى إنشاء مجمع لغوي في مصر فقال أحمد لطفي بك السيد مدير دار الكتب

السلطانية إن أحمد زكي باشا كان قد اقترح علي أن أخصص مكانًا من دار الكتب

لذلك، وإني أجبت إلى ذلك فلديّ الآن في المكتبة مكان لائق كانت الجرائد ذكرت

أننا فرشناه وأعددناه لراغبات المطالعة من السيدات وليس عندنا سيدات يغشين دار

الكتب للمطالعة فنعد لهن مكانًا.

فسر جميع الحاضرين بهذا وقابلوه بالثناء ورأوا أن قد زالت به عقبة من

عقبات الشروع في تأسيس المجمع اللغوي الذي بينا مكانته من النفوس في أول هذه

النقلة وزادهم سرورًا ما رأوه من ارتياح الوزير الأكبر ووزير المعارف للشروع في

تأسيس المجمع اللغوي بدار الكتب السلطانية، وأرجو أن نبشر قراء العربية في

مقال آخر بتأسيس هذا المجمع بالفعل.

وقد امتد هذا السمر المفيد إلى منتصف الليل فانصرف السامرون مثنين على

رب المنزل أطيب الثناء.

_________

ص: 110

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جمال باشا السفاك

كان جمال باشا من آحاد الضباط الكثيرين المنتمين إلى جمعية الاتحاد والترقي

فلم يلبث أن ترقى فوق الهام والرءوس إلى مقام الزعماء على حين قد تدهور أمير

الألاي صادق بك عن منصة الزعامة العليا لها وسقط كثير من الضباط وغيرهم

ممن مكاناتهم عالية، وإنما ترقَّى جمال بك ببراعته وجرأته على سفك دماء خصوم

الجمعية، فهو الذي دبر مكيدة المذبحة الأولى في أدنه إذ كان واليًا لها بعد الدستور،

وهو الذي قتل الجم الغفير من كبراء الآستانة المخالفين للجمعية عقب اغتيال

محمود شوكت باشا، ولأجل هذا اختارته الجمعية لقيادة فيلق سورية بعد الحرب

على كونه لا يزال ناظرًا للبحرية، وما سمعنا في أخبار دولة من الدول أن أحد

وزرائها يعطى وظيفة دون الوزارة في بلاد بعيدة عن العاصمة فيكون فيها عدة

سنين في أشد أوقات الحاجة إلى قيامه بشئونها وناهيك بوزيري الحربية والبحرية

في وقت الحرب ولكن زعماء الجمعية يأخذون المناصب العليا بعلومهم في الجمعية

لا بخدمتهم للدولة.

نعم إن الجمعية اختارت جمال باشا لأجل أن يتم تنفيذ ما توعدت به سورية

من بضع سنين في جريدتها طنين وعبرت عنه بالدش البارد وإنما كانت مذبحة

الكرك وتعذيب العرب برضخ رءوسهم بالصخور هي الرشة الأولى من هذا الدش

وإننا على علمنا بهذا الإنذار وبما هو أشد منه وأوضح وعلى ذكرنا بعض تلك النذر

في مقالات العرب والترك، وغيرها في المنار، قد ارتبنا في أول خبر بلغنا عن

شنق جمال باشا لبعض نابغي المسلمين في بيروت، ولا يزال أكثر المصريين

يكذبون أخبار التقتيل والنفي التي تكررت بل تواترت، وقد ظفرت جريدة المقطم

ببيان لجمال باشا نفسه نشرته في اليوم السابع من شهرنا هذا يصرح فيه بعمله

ويحتج له، وهذا ما نشرته:

***

بيان من جمال باشا

نشر جمال باشا القائد العثماني في سورية البيان التالي بإمضائه في 5 رجب

سنة 1334 الموافق 7 مايو سنة 1916 وهذا هو نصه العربي كما نشر بحروفه:

لما جرى القصاص على بعض الأشخاص المنتسبين في الحزب المتشكل في

مصر والممالك العثمانية تحت تمويه عنوان حرب اللامركزية والذين حوكموا في

ديوان الحرب العرفي بعاليه كنت كتبت في البيان الذي نشرته في أوائل أوغستوس

سنة 1331 أن التحقيقات جارية بصورة دقيقة بحق أعوانهم الأشرار الذين لم يكن

قبض عليهم قبلا.

إن الوثائق السياسية التي عثرنا عليها واعتراف عبد الغني العريسي صاحب

المفيد الذي ألقي القبض عليه أخيرًا بعد أن ذكرنا في البيان قراره واعتراف سيف

الدين الخطيب عضو محكمة بداية حيفا السابق ورفيق رزق سلوم ضابط الاحتياط

ورفقائهم الآخرين قد نور المسألة من جميع أطرافها وسيق إلى ديوان حرب عاليه

الأشخاص الذين ظهر أن لهم علاقة في هذه المسألة بدرجات متفاوتة مع من تبين أن

لهم دخلاً في المساعي الخائنة بتنفيذهم ترتيبات الجمعية وتشبثاتها وأعمالها، وفي

ختام التحقيقات والمحاكمات التي أجراها الديوان العرفي في عاليه صدرت الأحكام

المقتضاة بحق المظنون فيهم من الموقوفين والفارين كل على حسب اشتراكه في

ترتيبات هذه الجمعية التي غايتها ومقصدها سلخ سورية وفلسطين والعراق عن

راية السلطة العثمانية وجعلها إمارة مستقلة، فحكم على شفيق بن أحمد مؤيد العظم

والأمير عمر ابن الأمير عبد القادر، وعمر بن مصطفى حمد، ورفيق بن موسى

رزق سلوم، ومحمد بن حسين الشنطي، وشكري بن بدري علي العلي، وعبد

الغني بن محمد العريس، وعارف بن محمد الشهابي، وتوفيق بن أحمد البساط،

وسيف الدين بن أبي النصر الخطيب، والشيخ أحمد بن حسين طبارة، وعبد

الوهاب بن أحمد الإنكليزي، وسعيد بن فاضل عقل، وبتروباولي، وجريج بن

موسى الحداد، وسليم بن محمد سعيد الجزائري، وعلي بن محمد حاجي عمر،

ورشدي بن أحمد الشمعة، وأمين لطفي بن محمد حافظ، وجلال بن سليم البخاري

بالإعدام لثبوت اشتراكهم في هذه التشبثات بالدرجة الأولى بصورة فعلية، وعلى

من تبين دخولهم في الدسيسة بصورة فرعية سالم بن مصطفى مظلوم بالاعتقال

بالقلعة خمس سنين وتوفيق بن محمد الناطور ويوسف بن نحيبر سليمان بعشر

سنين، وحسين بن خليل حيدر بخمس عشرة سنة، وعلى رياض بن رضا الصلح

بنفي مؤبد، وعلى الأمير طاهر بن أحمد الجزائري بعشر سنين في الكريك، وعلى

الذين مع كونهم لم يقيموا المقصد والتشبث الحقيق وثبت وجود مساع لهم مع هذه

الجمعية بصورة محسوسة إما بسائق الجهل أو التصلف وإنما لم يوجد عليهم وثائق

تنور وجدان الهيئة الحاكمة وتثبت مجرميتهم واشتراكهم وهم رضا الصلح وأسعد

حيدر بإعادتهما إلى منفاهما، وأعطي القرار بمنع محاكمة وبراءة كل من محمد

أفندي كامل الهاشم، إبراهيم القاسم سامي العظم، الشيخ جمال الدين الخطيب، عبد

الحميد معلم الرسم، محيي الدين فريحة البيطار حسين صبري، رشدي الغزي،

عاصم بسيسو الغزي، عزت الأعظمي، مصطفى الكيلاني، عبد الرحيم حنون،

الدقتور حسام الدين، نجيب شقير، الشيخ فتح الله، الدقتور أحمد قدري، سليم

الطبارة، جميل الحسيني، المفتي سعيد أفندي الباني، سليم الشمعة، سليم البخاري،

فائز الخوري، رشيد الخشيمي، عمر الأتاسي، البكباشي علي رضا، الدقتور

أمين قازما، سعيد عدوه، الدقتور عبد الحفيظ اليوزباشي جميل، فريد باشا اليافي،

عثمان العظم.

ومن الذين صدر بحقهم حكم الإعدام وهم شفيق المؤيد، الأمير عمر، شكري

العسلي، عبد الوهاب الإنكليزي، رشدي الشمعة، رفيق رزق سلوم، جرى

إعدامهم هذا الصباح في الشام، والآخرون جرى إعدامهم في بيروت، وسائر

المجرمين صار سَوْقهم إلى منفاهم وحبوسهم وعلى هذه الصورة تقرر إذًا في سورية

وفلسطين السكون والأمن المحتاج إليهما إلى الأبد.

وها أنا ذا أنشر الآن من الوثائق المهمة التي كانت أساسًا لهذه التحقيقات ما

يكشف الغطاء عن حزب اللامركزية الحقيقي وسيُنشر كتاب حاوٍ جميع الوثائق على

حدة مع اعترافات المجرمين المهمة وتاريخ صغير لهذه المسألة.

ومن إمعان النظر في هذه الوثائق يفهم أولاً أن هؤلاء الأشخاص قد ضحوا بلا

تردد جميع ما لديهم من المقدسات الدينية والوطنية لقاء منافعهم الخسيسة والمادية،

إن هؤلاء الأشخاص قد أشركوا مساعيهم ونفوذهم وقدرتهم أعداء الدولة وسعوا في

إعداد الطاعة في الداخل تجاه تجاوزات الأعداء في الخارج.

ومما هو جدير بالتقدير أن إدارة هذه التشبثات لم تتسع بالنظر لما جبل عليه

العنصر العربي النجيب من الصداقة والطاعة والصلابة الدينية العارية عن شوائب

الظنون والشكوك بأسرها، بل حصرت بين بعض أشخاص مسلمين ومسيحين لا

أهمية لهم ولا يكاد يتجاوز عددهم المائتين من المحكوم عليهم حديثًا وقديمًا وجاهًا

وغيابًا.

وبناءً على الصلاحية التي تخولني إياها المادة الثانية من القانون المؤرخ في

14 مايو سنة 1331 المتضمن التدابير التي ينبغي للجهة العسكرية التوسل بها في

وقت النفير العام ضد الخارجين على الحكومة وإجراءاتها فإني ساعٍ في إبعاد أولئك

الأشخاص الذين يتخذون حقوق الدولة ومقدساتها ملعبة في سبيل منافعهم الشخصية

مع من لهم علاقة معهم من أسرهم وعائلاتهم من قريب أو بعيد إلى بعض ولايات

الأناضول، وقد اتخذت الأسباب الكافلة لإعاشة هذه العائلات ورفاهيتهم في المحال

التي ينفون إليها تحت عناية الحكومة السنية وعاطفتها، وسيعطون هناك أراضي

وأملاكًا قيمتها تعادل أملاكهم وأراضيهم التي يملكونها في سورية، وإني أوصي

جميع الأهلين في سورية وفلسطين بالسكينة والطمأنينة، على أنه من الآن فصاعدًا

لم يبق محل لإجراء التعقيبات والإبعاد إلى الولايات العثمانية في حق أحد مطلقًا ما

لم تظهر وثائق قوية تدل على خيانته.

... قومندان الفيلق الرابع وناظر البحرية

...

...

...

...

... أحمد جمال

(المنار)

كل ما احتج به جمال باشا لسفكه الدماء وإجلائه الناس عن أوطانهم

أباطيل، وقد قتل بعد من ذكرهم هنا عددًا ليس بقليل، منهم السيد عبد

الحميد الزهراوي الشهير، وأول أباطيله تسمية القتل برأيه ورأي ديوانه العرفي

قصاصًا، وإنما القصاص في شرع الله أن يقتل الجاني بمن قتله بغير حق، ومعناه

في اللغة يدل على المساواة والمماثلة.

ثم إنه يقول: إن التهمة الموجبة للقتل والنفي هي الاشتراك في جمعية غايتها

جعل العراق وسورية وفلسطين مملكة مستقلة بعد سلخها من راية الدولة، ونحن

نعتقد بطلان هذه التهمة بأدلة كثيرة (منها) أن الحزب الذي جعله أصلاً، للتهمة

التي رمى بها هؤلاء الناس له برنامج معروف مطبوع ينطق بكذب تلك التهمة،

(ومنها) أن هؤلاء الذين اعترف الباشا بقتلهم في هذا البيان لا يوجد فيهم إلا واحد أو

اثنان من الداخلين في هذا الحزب، (ومنها) أننا نعلم باختبارنا لبعضهم واختبار

من تثق به للآخرين أنهم لا يجمعهم رأي ولا مودة ولا سكنى ولا معرفة فكيف

يتفقون مع ذلك على أمر عظيم كالذي اتهموا به؟ وأما الجرم الأكبر الذي يجمعهم

وبه استحقوا العقاب هو أنهم من أذكياء العرب الذين يقولون بوجوب محافظة قومهم

على لغتهم وأن يكون لهم حظ من مشاركة الحكومة في إدارة بلادهم، وأن لبعضهم

ذنوبًا سابقة لا يغفرها الاتحاديون كإهانة شفيق بك لطلعت بك، والسعي لعدم

إقراض أوربة للاتحاديين عشرات من الملايين، يضيعونها وتبقى البلاد رهينة بها

للدائنين، وتوثيق أعضاء المنتدى الأدبي في الآستانة عُرى الإخاء بين طلبة العرب

في مدارس الحكومة فيها، وإهانتهم لصاحب جريدة إقدام التركية في نشر تلك

المقالة التي قال فيها كاتبها: إن الطريقة المثلى للتنكيل بعرب الجزيرة إغراء

بعضهم بقتال بعض بالمال؛ لأن العرب تبيع كل شيء بالمال حتى العرض

والناموس.

ثم إنه يصرح بأنهم أُخِذُوا بالظن فلم تثبت عليهم تلك التهمة باليقين، ولو

ثبتت لما جاز قتل أحد منهم بها شرعًا ولا قانونًا؛ لأنها عبارة عن رأي سياسي لم

يدع قاتلهم أنهم شرعوا في تنفيذه بالخروج على الدولة في أثناء النفير العام الذي حاكمهم بقانونه، وكيف يعقل أن يقوم نفر قليل كهؤلاء بالخروج على الدولة والسواد

الأعظم من قومهم يخالفهم فيه باعتراف جمال باشا نفسه والدولة تحكم بلادهم

بالأحكام العرفية القاسية وجميع شبان الأمة وكهولها جنود مسلحون بين يديها؟ ويا

ليت شعري ما تلك المنافع المادية الخسيسة التي ضحى أولئك الأذكياء الفضلاء دينهم

ووطنهم لأجلها؟ إن كانت ما ذكره من غاية جمعيتهم المزعومة، فتلك غاية

سياسة عالية لا مادية خسيسة، وإن كانت غيرها فما هي؟

_________

ص: 115

الكاتب: أبو الأشبال

‌الكتب المعزوة إلى غير مصنفيها

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد

وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد فكثير ما طبعت كتب ونسبت إلى أكابر علماء الإسلام، وهم براء منها،

إما غلطًا وإما قصدًا لتكون نافقة في البيع أو لإدخال أشياء في دين الإسلام ليست

منه، ولا يكون لقائلها من ثقة المسلمين به ما يؤهله لقبول قوله عندهم، فيختبئ

وراء اسم أحد الأئمة المقبولين عند المسلمين، وينحله كتابه، وذلك لما ضاق

بالزنادقة الأمر وحصرت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين

معروفة، وبين فيها الصحيح من غيره، فلم يتمكنوا من وضع الأحاديث عليه كما كانوا يفعلون في أول الإسلام قبل تدوين الحديث، ومفسدة هذه الكتب ظاهرة

للعيان.

رأيت كل هذا فعزمت بحول الله تعالى وقوته على بيان الأغلاط الواقعة في

نسبة بعض الكتب المطبوعة إلى غير أهلها نصيحة للمسلمين، وتزكية لأئمة الدين،

وخدمة للتاريخ، فكلما عثرت بشيء منها نشرته في مجلة المنار الغراء.

ثم إني لا أقصد ببياني هذا طعنًا في أحد من طابعي هذه الكتب فلا يحرجنهم

ذلك فإنما قصدي بها وجه الله تعالى، والله الموفق لا هادي إلا هو.

(1)

من الكتب الدخيلة الموضوعة قصدًا كتاب يسمى (سر العالمين)[1]

ألفه أحد الزنادقة من الفرقة الباطنية، ونحله حجة الإسلام أبا حامد الغزالي رضي

الله عنه، وأدخل فيه كثيرًا من عقائد الباطنية التي كان الغزالي أشد أعدائها، ومن

أكثر العلماء ردًًا على معتقديها، وأدخل فيه كثيرًا من علوم السحر، ثم أراد أن

يحقق نسبة الكتاب إلى الغزالي فصار دائما يحيل في بعض المسائل على كتب

الغزالي كالإحياء والرد على الباطنية وغيرهما، ويقول: فيما كتبناه في كتاب كذا،

أو نحوه، ويذكر كتابًا من تصانيف الغزالي، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن

يفضحه ويبين كذبه كرامة للغزالي وغيرة على حجة الإسلام فإنه قال في صحيفة

83 من الطبعة المصرية: أنشدني المعرِّي لنفسه وأنا شاب، إلخ، وهذا كذب

فاضح، فإن أبا العلاء المعري مات سنة تسع وأربعين وأربعمائة، أي قبل أن يولد

الغزالي بسنة أو سنتين، فإنه ولد سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين

وأربعمائة فليحذر الناس من الثقة بهذا الكتاب وأمثاله فهي مفسدة للدين، وليتق الله

طابعوها ولا يغرروا بعامة المسلمين وليتحر أحدهم صحة نسبة الكتاب إلى المنسوب

إليه.

(2)

من الكتب المنسوبة قصدًا للنِّفاق كتاب يسمى (كتاب الفوائد المشوق

إلى علم القرآن وعلم البيان) نسب إلى الإمام الجليل شمس الدين ابن القيم رضي

الله عنه، وهو كتاب لا بأس به فيه فوائد أدبية، ونكت بلاغية، فصيح العبارة،

ويظهر أن مؤلفه كان من الكتاب المنشئين، لا العلماء المحققين، أمثال إمامنا ابن

القيم، فإن له في بعض المسائل تحقيقات واختيارات سخيفة لا يقولها من شام للعلم

بارقة.

لو لم يكن لشمس الدين ابن القيم بين أيدينا كتب غير هذا لقلنا كاتب يتسخف

ويظن أنه محقق، وأحمق يتكايس ويظن أنه عاقل، ولكن كتب ابن القيم تنادي بقوة

نظره، ودقة بحثه، وكثرة علمه، وبُعد غوره، ولله دره من إمام جليل، وحاش

لله أن يقول في إعجاز القرآن كما قال مؤلف هذا الكتاب فإنه قال في صحيفة

(255)

بعد أن حكى الأقوال في وجه الإعجاز ما نصه: قال المصنف عفا

الله عنه: والأقرب من هذه الأقاويل إلى الصواب قول من قال: إن إعجازه

بحراسته من التبديل والتغيير والتصحيف والتحريف والزيادة والنقصان، فإنه ليس

عليه إيراد ولا مطعن، هذا اختياره وحكايته مثل هذا تُغْني عن رده وضرب

الأمثال على بطلانه [2] .

وأغرب من هذا القول قوله في الصحيفة نفسها بعد أسطر: وقال قوم:

إعجازه من جهة أن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة قائمة بالذات وأن

العرب إذا اتحدوا بالتماس معارضتهم له والإتيان بمثله أو بمثل بعضه كلفوا ما لا

يطاق، ومن هذه الجهة وقع عجزهم وهذا القول أيضا حسن، هذا كلامه بنصه،

وإني أترك للقارئ فهم معنى التحدي بالصفة القديمة فذلك مما يقصر على من أدركه.

وقد اتصل بي أن النسخة الخطية التي طبع عنها هذا الكتاب كانت نسبته فيها

إلى ابن القيم مكتوبة عليها بخط جديد غير خط الأصل فقيل لطابعه لا تنسبه لابن

القيم فلعل كاتب هذه لم يتحر النسبة خصوصًا وأن الكتاب غير معروف في كتب

ابن القيم، فأبى ونسبه إليه فحسبنا الله ونعم الوكيل.

(3)

ومما يلحق بهذا وإن لم يكن منه تمامًا ما وقع في مختصر البخاري

للزبيدي المسمى التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، فقد كتب على طرته في

النسخ المطبوعة بالمطبعة الأميرية والمطبوعة بالمطبعة الخيرية والمطبوعة

بالمطبعة الميمنية ما نصه: للحسين بن المبارك الزبيدي، وهذا غلط فإن مؤلفه هو

أحمد بن المبارك الزبيدي فشيخ ذكره المؤلف نفسه في خطبة كتابه في إسناده إلى

البخاري، وبين المؤلف وبينه ثلاثة شيوخ، والغريب أن كاتب الحواشي التي

بهامش النسخة الأميرية ذكر في أول صحيفة منها اسم المؤلف على الصواب، فلا

أدري كيف كتب هذا وغفل عما في طرة الكتاب، وأما المطبعتان الأخيرتان فتبعتا

المطبعة الأميرية من غير تحرٍّ ولا نظر، وحصل مثل هذا في نسخة شرح الشرقاوي

عليه الذي طبع بالمطبعة الميمنية فإنهم طبعوا بهامشه المتن ونسبوه في طرته

إلى الحسين بن المبارك الزبيدي مع أن الشارح في أول الخطبة ذكر اسم المؤلف

على الصواب انتهى.

...

...

...

...

...

كتبه

...

...

...

...

... أبو الأشبال

...

...

...

...

... عفا الله عنه

_________

(1)

طبع في الهند ثم طبع في مصر سنة 1327.

(2)

طبع أيضًا في مصر سنة 1327.

(3)

المنار: مزية حفظ القرآن من التغيير لم تظهر بمرور الزمن، فلا يتحدى النبي صلى الله عليه وسلم بها العرب.

ص: 120

الكاتب: أحمد زكي أبو شادي

‌دعوة اللجنة التحضيرية

لمشروع جمعية آداب اللغة العربية بلندن

تتشرف اللجنة التحضيرية لمشروع جمعية آداب اللغة العربية بلندن بتوجيه

نظركم إلى منافع هذا العمل المسطورة بإيجاز في ذيل هذا الكتاب آملاً من غيرتكم

التعضيد المادي والأدبي قدر جهدكم حتى إذا اجتمعت الإعانات الضامنة للنجاح منكم

ومن أمثالكم أبرز المشروع إلى حيز الوجود في القريب العاجل تحت رعاية الجمعية

الملوكية الآسيوية التي هي من أعظم الهيئات العلمية الباحثة في آداب الشرق، ولا

يخفى على حضرتكم المظهر الجليل والفائدة الكبرى من تحقيق هذه الأمنية في أكبر

عواصم العالم، وقد لاحظنا أن للمعضدين ميولاً مختلفة ما بين عامل أدبي أو علمي

أو وطني وديني، فلعلكم مدفوعون بعامل أو أكثر من هذه العوامل لخدمة آداب اللغة

الفصيحة العربية، والسعي في نشرها بواسطة هذه الجمعية الدولية التي تعمل

اللجنة على تأسيسها وتوطيد دعائمها.

هذا ولو أن الظروف الحاضرة الاستثنائية ربما عدت غير ملائمة، إلا أن

فَلاح مثل هذا العمل كما تبين لنا بعد درسه يستدعي بذل مجهولات كثيرة تستغرق

زمنًا غير وجيز فمن الصواب إذن عدم التأجيل فحبذا لو ظفرنا بمؤازرتكم لنا،

فجلائل الأعمال إنما تقوم بمساعي الجماعة وتساند الأفراد.

رئيس اللجنة التحضيرية

كاتب سر اللجنة

د. س. مرجليوث

...

...

... أحمد زكي أبو شادي

مقاصد الجمعية

(1)

أن تخدم آداب اللغة العربية بجميع الوسائل التي تسمح بها مالية

الجمعية.

(2)

أن تشجع تعلم العربية السليمة في بريطانيا العظمى وأن تنمي في

أعضاء الجمعية ملكة الترجمة من وإلى العربية وسواها من اللغات حبًّا في الفائدة

العامة.

(3)

أن تكون واسطة تعارف بين الناطقين بالضاد في بريطانيا العظمى

والمستعربين بها، وكذلك بينهم وبين علماء العربية في جميع أقطارها وبين

المستعربين في الممالك الأخرى لتبادل المنفعة الأدبية اهـ.

_________

ص: 123

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مصابنا بالزهراوي والكيلاني

فجعتنا الجرائد المصرية في يوم واحد بنعي الصديقين الوفيين المصلحين

السيدين الجليلين عبد الحميد الزهراوي شهيد بغي الاتحاديين، ومحمد وجيه

الكيلاني شيخ إسلام الفلبين، جاءتنا بذلك في إثر تلك الأنباء التي شقت المرائر،

واستنفدت الدموع من المحاجر، أنباء تقتيل جمال باشا لصفوة أبناء سورية

وأركان النهضة الاجتماعية فيها، فالآن قد صار الفؤاد في غشاء من نبال، فإذا

أصابته سهام أخرى تكسرت النصال على النصال.

خسرت أمة الإسلام وديار الشام وحزب الإصلاح بالزهراوي والكيلاني

رجلين من أفضل رجال العصر عقلاً وذكاء، وأخلاقًا وعلمًا وأدبًا واهتمامًا

بالمصلحة العامة وتقديمًا لها على المصالح الخاصة، وبهذه المزايا تنهض الأمم،

وبفقدها تسقط في مهاوي العدم.

نبت كل منهما في بيت من أكرم بيوتات القطر السوري شرفًا وسؤددًا

وعلمًا ومجدًا، وتربى كل منهما في نشأته الأولى تربية علمية دينية، وأوتي

نصيبًا من العلوم والفنون العصرية، واختبر حال الزمان وأهله، وعرف شدة

حاجة بلاده إلى التأليف بين المختلفين فيها بالأديان والمذاهب والآراء والمشارب

فكانا ركنين من أركان الوفاق، وعاملين من أنفع عوام الإصلاح.

فهذا ما اتفق معنا فيه هذان الصديقان الكريمان، وأما ما اختلف فيه

نشأتهما وسيرتهما فهو أن السيد الزهراوي قد تمرس بالسياسة في حداثته فغلبته

على الاشتغال بغيرها مما كان مستعدًا له كالتوسع والتصنيف في الفلسفة وعلوم

الأخلاق والاجتماع، فكان أفضل ما يرجى نفعه فيه ما وصل إليه من انتخاب

أهل بلاده إياه نائبًا عنهم في مجلس المبعوثين، ولا أقول ثَمَّ تعيين الحكومة إياه

عضوًا في مجلس الأعيان، لأن هذا قد كان بعد جعل الاتحاديين مجلس الأمة

بقسميه آلة لجعل ما تقرره جمعيتهم قوانين نافذة، وأعمالاً منسوبة إلى الأمة،

وكان الغرض منه خديعته وخديعة العرب به، إلى أن تسنح الفرصة لتنفيذ ما

قررته الجمعية من قبل من التنكيل بالعرب والفتك بزعمائهم كما أشرنا إليه في

موضع آخر وسنعود إلى بيانه.

وأما السيد الكيلاني فقد تخرج بالأعمال الإدارية الشرعية فكان من موظفي

مشيخة الإسلام في الآستانة، وبهذا وما سبق من مزاياه كان أفضل من يختار

لما اختير له من جعله شيخا للإسلام في جزائر الفلبين، وكان يتقي شر السياسة

بالمداراة حتى إنه لما عرج على مصر في ذهابه إلى الفلبين تجاهل معرفة

المنار وصاحبه، وهو على مذهبه الإصلاحي ومشربه، لأنه كان يرجو

المساعدة من الخديو وحكومته، وكان الخديو مغاضبا لصاحب المنار من بضع

سنين، وقد أخبرني بعد ذلك أنه كان يفضل طلب المنار من صديقنا السيد محمد

بن عقيل المقيم في سنغافورة على طلبه من مصر، وأنه قد تجدد له من الحاجة

إليه في منصبه الجديد ما لم يكن يعلمه من قبل، وسنعود إلى الكلام في سيرة

هذين الصديقين إن شاء الله.

_________

ص: 124

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مسألة الأزياء والعادات

من مشخصات الأمم

زي الأمة من مشخصاتها ينبغي لها أن تحافظ عليه وأن تحترمه وتحتقر من

يحتقره كما تحترم العلم الذي هو شارة حكومتها، فالعلم لا يحترم لشكله ولا للونه أو

ألوانه، وليس من العقل ولا من الحكمة أن تذم الأعلام أو تُمدح لشكلها أو ألوانها،

وكذلك أزياء الأمم من حيث هي أزياؤها، ولكن بين الزي والعلم فرقًا واحدًا وهو أن

الزي يُقصد به من المنفعة ما لا يقصد بالعلم، فإذا اشترك مع العلم في أن كلاً

منهما مشخص للأمة مهما يكن شكله ولونه وصفته فإنهما يفترقان في أن بعض الأزياء

لا تفي بما يقصد بها من وقاية الجسم من أذى الحر أو البرد أو سهولة القيام

بالأعمال العسكرية والصناعية والزراعية.

ومن الناس من يرجع في اختيار الأزياء إلى مراعاة الذوق والجمال، ولكن

هذا ليس له قاعدة ثابتة، وإنما يستحسن جماهير الرجال في كل أمة ما يختاره

كبراؤها وحكامها، وإنما يعنى بالذوق والجمال في زي النساء وهن في كل آونة

يستحدثن زيًّا جديدًا يبطلن به ما كان قبله مستحسنًا، ولا يرجع ذلك إلى فضيلة في

زي اليوم على زي أمس تثبت بدليل علمي أو عقلي، وإنما فائدة الجديد لهن جذب

الأنظار إلى السابقات إليه، وفائدته المالية لتجار الأنسجة وصناعة الخياطة لا تخفى

ويقابل ربح هؤلاء من الأزياء خسارة المسرفات فيها، فكم من بيوت خربت بمثل

هذا الإسراف.

من أكبر جنايات الأفراد على أمتهم أن يحتقر أحد منهم زيها، ويستبدل به

زي أمة أخرى تقليدًا وتفضيلاً لها، فإذا كان بعض أزيائها ضارًّا بها، فالواجب في

استبدال غيرها به أن يكون برأي أهل الحل والعقد فيها، الذين يراعون في التغيير

المنفعة دون التقليد الذي يبث في الأمة الشعور بمهانتها وتفضيل غيرها عليها، وقد

وفينا هذا الموضوع حقه من البيان في المنار وقبل المنار في كتابنا الحكمة الشرعية

الذي كتبناه في عهد طلب العلم، واقتبسنا منه نبذا في المنار إذ طرقنا باب هذا

البحث مرارًا.

ولست أبحث الآن في أزيائنا هل يحسن تغيير شيء منها وكيف ينبغي أن

يكون التغيير، وإنما أريد أن أقول: إن بعض الإفرنج ينفرون من أزياء الشرقيين

ويكرهون أن يأكل في مطاعمهم الخاصة بهم وبالأغنياء المتفرنجين منا من لا يلتزم

عاداتهم وآدابهم في الطعام، ومنهم من يرى أن كل من لا يلبس الزي الإفرنجي لا

ينبغي أن يأكل في تلك المطاعم، ولهم في ذلك أعذار ومآرب، وقد روت جريدة

وادي النيل الإسكندرية أن اثنين من المعممين دخلا مطعمًا إفرنجيًّا فطُردا منه لأنهما

معممان ، وقالت في لومهما: إنه لا يبعد أن يكونا ذهبا منه إلى آخر مثله لعله

يقبلهما. وأشارت أيضا إلى انتقاد صاحب المطعم الإفرنجي، أما نحن فإننا نختص

باللوم فريقين من أمتنا: فريق الذين يتصدون لمؤاكلة الإفرنج في مطاعمهم، وهم

لا يلتزمون آدابهم وعاداتهم ، ومنهم من لا يلتزم الآداب الإسلامية التي هي أرقى

الآداب، وفريق المتفرنجين الذين يحتقرون زي أمتهم وعاداتها وآدابها، ويستبدلون

بها غيرها تقليدًا للأغيار وتفضيلاً لهم على أنفسهم، ويكونون آلة لإضعاف

مشخصات أمتهم ومقوماتها وهم لا يشعرون بما وراء ذلك كما يشعر به غيرهم،

ومن أراد أن يعرف رأي الإفرنج في ذلك فليقرأ خطبة الدكتور سنوك المستشرق

الهولندي في الإسلام ومستقبله التي ألقاها في جامعة كولومبيا من الولايات المتحدة،

وقد نشرنا ترجمتها في المجلد السابع عشر من المنار مع تعليق طويل عليها [1] ،

ومن أراد أن يعرف قيمة هؤلاء المتفرنجين في نفس الإفرنج فليقرأ ما كتبه في

شأنهم لورد كرومر في كتابه (مصر الحديثة) .

من أهان أمته باحتقار شيء من مقوماتها أو مشخصاتها بإزاء احترام ما يقابل

ذلك من أمة أخرى فقد احتقر نفسه أشد الاحتقار، وما قيمة الرجل الذي ليس له أمة

محترمة في نفسه، ومن ذا الذي يكرم من يحتقر نفسه باحتقار أمته.

ومن لم يكرم نفسه لم يكرم

إذا ما أهان امرؤ نفسه

فلا أكرم الله من يكرمه

يجب على كل من أوتي نصيبًا من الفهم أو حظًّا من الشرف أن يقاوم جهد

طاقته كل ما فيه احتقار لأمته مهما يكن رأي المحتقر وقصده، ومن ذلك أن لا يأكل

أحد من المصريين في مطعم يهين أصحابه مصريًّا لزيه أو عادته أو غير ذلك، ولا

أن يشتروا شيئًا من تاجر يهين مصريًّا، ويجب على أمثال هؤلاء أن يبذلوا جهدهم

لمنع الإهانة عن أمتهم وإغنائها عن معاملة كل من يقصر في احترامها، وإنما

يتيسر هذا بتعاضد الأندية والجمعيات الأدبية والشركات التجارية.

كانت شركات البواخر الإفرنجية في الخط الذي بين الهند وخليج فارس

وشط العرب تحتقر المسافرين فيها من العرب والفرس ولا تسمح لهم بالأكل على

مائدة الدرجة الأولى فلما أنشأ تجار العرب في بومبي شركة البواخر العربية زال

ذلك الاحتقار وبطلت تلك المعاملة.

واتفق لي منذ بضع عشرة سنة أنني دخلت مطعمًا سوريًّا في القاهرة وقت

العشاء وجلست إلى مائدة من موائده فطلب رجل إنكليزي أن أترك تلك المائدة؛ لأنه

يجلس إليها للطعام ولا يحب أن يأكل مع شيخ أزهري، فلم أبالِ بطلبه، فطلب من

صاحب المطعم ذلك فاعتذر إليه بأنه لا يمكنه ذلك، وقد سألت عن اسم الرجل

وعمله وذكرت ذلك لصديقي مستر متشل أنس الذي كان وكيلاً لنظارة المالية وقتئذ

فاستاء من ذلك وكتب كتابًا إلى رئيس ذلك الرجل في مصلحة السكة الحديدية كلفه

فيه أن يلزمه الاعتذار إليّ، وأخذت الكتاب بنفسي وعدت راضيًا مكرمًا.

ولا يخفى على عاقل أن ما نحتاج إلى اقتباسه من علوم أوربة وفنونها

وصناعاتها لا يقتضي هذا التفرنج الذي نذمه ولا يأتي من طريقه بل ينافيه؛ لأن

التفرنج تقليد في الأزياء والعادات يحدث التفرق في الأمة وانحلال روابطها واقتباس

العلم النافع والعمل الرافع يجب أن يكون بطريق الاستقلال لا التقليد، وأن تراعى

فيه حاجة الأمة في العمل ويقصد به ترقية ثروتها وعزة دولتها، ولم نرَ هؤلاء

المتفرنجين من الترك والمصريين ساروا على ذلك الدرب وصلوا إلى هذه الغاية،

بل هم الذين نسفوا ثروة بلادهم وقطعوا روابطها حتى وصلت إلى ما هي عليه،

وليس في بلادهم شيء من العمران إلا وقد كان بعمل الأجانب ومعظم فائدته لهم،

وإنما سار على ذلك شعب اليابان الذي شرع في اقتباس الفنون الأوربية بعد الترك

والمصريين منا، فكل طلاب العلوم منهم في أوربة يتلقون العلوم العملية، إذ يتلقى

الطلاب منا العلوم النظرية والسياسية، وكانوا مثال الجد والعمل والاقتصاد، إذ كان

أكثر طلابنا مظهر الفسق والسرف والفساد.

وإليك من العبرة هذا المثال: كان بعض الأوربيين والأوربيات مع بعض

اليابانيين في بلاد اليابان فخلع ياباني نعله في المجلس، فأنكر عليه ذلك بعض

الأوربين؛ لأن خلع النعال أو الجلوس بغير نعلين مستهجن في عاداتهم ولا سيما

حيث يوجد النساء، فقال الياباني: أنا ياباني لا أوربي وهذه البلاد يابانية لا أوربية

فبأي حق تطالبوننا باتباع عاداتكم في بلادنا والواجب عكسه؟ أو قال كلاما بهذا

المعنى، فهذه هي الوطنية لا ما يتشدق به المتفرنجون الذين لا يعقلون عاقبة ما

يأتون وما يدعون.

قلنا: إن اقتباس الفنون النافعة من الغربيين، وكذا ما يستلزمه من اعترافنا

بجهلنا وبحاجتنا إلى علمهم، لا يعد احتقارًا للأمة بل إصلاحًا، ونقول أيضًا: إننا

في حاجة إلى الإصلاح في كثير من العادات الضارة، وإن ذلك لا يعد احتقارًا للأمة

وطالما كتبنا في ذلك، ومن أبواب المنار الواسعة باب: البدع والخرافات والتقاليد

والعادات، وإنما الواجب أن نعتمد في هذا الإصلاح على شريعتنا وهي أكمل

الشرائع وآداب ديننا وهي أكمل الآداب.

_________

(1)

راجع ص201 و268م17.

ص: 125