الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
حال المسلمين الاجتماعية
ومكان الأغنياء وسائر الطبقات منها [1]
(1)
الإنسان عالم اجتماعي لا يصل فرد من أفراده ولا شعب من شعوبه إلى كماله
المقدر له إلا بالأعمال الاجتماعية التي يتعاون عليها أفراد العشيرة وأهل البلد
والوطن وسائر الناس، وعلى قدر هذا التعاون يكون أقرب من الكمال الاجتماعي
والبعد عنه، فالأمم بالأفراد والأفراد بالأمم، فهنيئًا للأمة التي تتسم بسعي أفرادها
غارب العز والسيادة، وتتنسم ريح القوة والسعادة (ويا ويْح الرجل الذي ليس له
أمة) [2] وما كل جمع كبير يستحق أن يسمى أمة، لولا سعة المجاز في الكلام،
كقولنا في صور الناس وتماثيلهم: هذا فلان وهذا فلان.
المسلمون جمع كبير يطلق عليه اسم الأمة الإسلامية بحسب صورته أو
باعتبار ما كان عليه، وإن كان لا يقوم بالأعمال الاجتماعية التي تتحقق بها مقومات
الأمم ومشخصاتها، وتحفظ بها مصالحها ومنافعها، وللمنار مقالات كثيرة في بيان
هذا الموضوع يطلب أقدمها عهدًا من المجلد الأول منه، ومن أشهرها مقالة في
المجلد التاسع عنوانها: حال المسلمين في العالمين، ودعوة العلماء إلى نصيحة
السلاطين، كان لها تأثير في الشرق والغرب، وترجمها بالتركية أحد فضلاء
الآستانة وطبعها في رسالة مستقلة باللغتين.
وقد نطلق على المسلمين اسم الأمة باعتبار ما نرجو أن تئول إليه حالهم،
فباعتبار أن ذلك الاستعمال من مجاز الكون بينَّا غير مرة في تلك المقالات أن
الإصلاح الإسلامي ينحصر في كلمة تكوين الأمة إذ لا أمة في الحقيقة، وباعتبار
أن ذلك الاستعمال من مجاز الأول يتسع مجال الإطلاق، وكثيرًا ما بينا الكلام على
تحقق الرجاء، وصرحنا بأن الأمة قد ولدت ولادة جديدة، وأنها الآن في سن
الطفولة، وأن ما تتصدى له من الأعمال الاجتماعية إنما كان صغيرًا وعرضة
للفشل في الأكثر؛ لأنه من قبيل أعمال الأطفال، وقد شرحنا هذا الموضوع في
مقالات نشرت في المجلد الثاني وغيره) [*] وذكرنا في المجلد الرابع أمثلة لطفولية
الأمة، وقد حدث بعد ذلك ما هو أعظم منها، وناهيك بسقوط جريدة اللواء العربية
وأختيها الفرنسية والإنكليزية، وموت مصطفى كامل باشا مؤسسهن بأموال الأمراء
والأغنياء غارقًا في الدَّيْن، وبيع أثاثه ورياشه بالمزاد، ثم سقوط جريدة المؤيد
وموت صاحبها غارقًا في الدين أيضًا، ثم سقوط الجريدة وهي جريدة حزب كبير
من الأغنياء.
فهذه أكبر الجرائد التي أسسها المسلمون في مصر، وكان لكل منها شركة
وحزب ورأس مال مؤلف من ألوف الجنيهات وأنصار من أغنياء الأمة وأصحاب
الأقلام فيها، وقد بينا وجه العبرة في شأن هذه الجرائد بعد موت الأولى وتبريح
الداء بالأخريين في ترجمة الشيخ علي يوسف من المجلد السابع عشر ص 69.
وما لي لا أذكر وأذكر في هذا المقام بتلك الفاتحة الوجيزة للمنار التي كانت
أول ما كتب منه، ونحمد الله تعالى أنها كانت صورة مصغرة له، قد ارتسمنا ما
رسمناه له فيها فلم نخرج عنه، وقد أشرنا فيها إلى سوء حال المسلمين ورغبة
سوادهم الأعظم عن ما نقصد إليه بإنشاء المنار من الجد والإصلاح، وإلى وجود
أفراد تنبهت أنفسهم لإصلاح الخلل، وتوجهت هممهم لمداواة العلل، وإلى أن
الغرض من إنشاء المنار أن يكون لسان حال هؤلاء وحادي ركبهم في سبيل التجديد
المطلوب. ثم ظهر لنا أن رجالنا في هذه الفئة كان أكبر منها في نفسها.
تيسر لنا بهذا المنار أن نختبر حال المسلمين اختبارًا لا يكاد يتيسر بوسيلة
أخرى، وقد كان هذا الاختبار الطويل والعلم التفصيلي مؤيدًا لما كنا عليه قبلهما من
الوقوف بين الخوف والرجاء وترجيح الأمل على اليأس ترجيحًا يبعث على الجهاد
والثبات على العمل، وهو ما صرحنا به في فاتحة المنار في العدد الأول للسنة
الأولى.
كان موضوع ذلك الأمل الأول مَنْ أيقظتهم حوادث الزمان وأثرت في قلوبهم
آثار حكيم مصر وحكيم الأفغان، ومن على مشربهما من دعاة الإصلاح.
ثم زاد عدد هؤلاء المحبين للإصلاح بتأثير المنار، ومنهم صاحب الرسالة
التي نشرناها في آخر الجزء الماضي فاستتبعت كتابة هذا المقال، فهو قد اشترك
في المنار منذ أنشئ وكان تلميذًا في المدارس، وقد أُشرب قلبه حب الإصلاح فهو
فيه على علم ووجدان وإخلاص، ولكنه على علمه وسعة اختياره لما في هذه البلاد
من الفسق وفساد الأخلاق أقوى منا رجاء في مسلميها وفي غيرهم، وإننا نخشى أن
يضعف ويضمحل هذا الرجاء أو يزول ويحل محله اليأس إذا رأى أن رسالته لم
تؤثر، ودعوته لم تجب، فأحببنا أن نذكره بما أشرنا إليه آنفًا مما نشرنا في خوالي
السنين، ونؤيده بما في معناه من بيان حقيقة حال المسلمين، لعله يذهب بغرور
المبالغ في التفاؤل، ويمسك رمق الرجاء على المهوي إلى اليأس، وينفخ نسمة
الرجاء في اليأس، فنقول:
إن في المسلمين كثيرًا من بقايا الفضائل الموروثة التي هي تعد من دلائل
الحياة الاجتماعية، وكثيرًا من الرذائل والأمراض الروحية الموروثة والحادثة التي
هي سبب ما حل بدولهم وأممهم من الرزايا التي يئن منها كل من شعر بها بقدر
شعوره، وقد استيقظ في بعضهم هذا الشعور منذ مئة سنة أو أكثر، وتصدى
بعض حكامهم وبعض أفرادهم إلى إصلاح ما فسد، وتجديد ما اخلولق وبناء ما انهدم،
كما بينا ذلك في فاتحة المجلد السابع عشر، وإنما لم يفلح أحد منهم؛ لأن
الحكام القادرين على تنفيذ الإصلاح لا يعرفون طريقه، والأفراد الذين يعرفون
كُنْه الإصلاح لا يقدرون على تنفيذه.
إنما تنهض الأمة بالإصلاح إذا وجد الاستعداد في الجمهور، ووجد الزعيم
القادر على استخدام ذلك الاستعداد، ويمكن بيان هذا الاستعداد العظيم بكلمة واحدة
من اصطلاح كتاب الجرائد وغيرهم من المعاصرين وهي التضحية، وما التضحية
إلا بذل الأموال والأنفس في سبيل المصلحة العامة وهو ما يعبر عنه القرآن بكلمة
الجهاد.
ما قام أمر اجتماعي عظيم كالدين والدولة إلا ببذل المال والنفس فمن لم يبذل
في سبيل دينه أو دولته ووطنه ما يحتاجان إليه من مال أو نفس فلا دين له ولا دولة
ولا وطن، ولذلك جعل الله تعالى هذا الجهاد آية الإيمان بمثل قوله: {إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) .
نحن لسنا بصدد إصلاح يحتاج فيه إلى بذل النفس، والتعرض لإراقة الدم،
وإنما الإصلاح الذي أسس له المنار ثم مدرسة الدعوة والإرشاد إصلاح علمي
تهذيبي يقوم بالمال، وإنما أنشأنا هذه المقالة لبيان حال من دعاهم ذلك المخلص
الغيور في رسالته إلى النهوض بمشروع الدعوة والإرشاد ومساعدة المنار.
ألا وإن الأغنياء أول من يخطر بالبال، في كل مقام يذكر فيه بذل المال وإن
أكثر أغنياء بلادنا بل أمتنا كلها أغبياء سفهاء الأحلام، مسرفون في الفسق، بخلاء
حتى بما وجب من الحق، أشحة على الخير، لا يكاد يخرج المال من أيديهم إلا
على مائدة قمار، أو في حانة خمَّار، أو لبغي وقواد، أو رشوة لحاكم شرير، أو
تزلفًا إلى سلطان أو أمير أو مدير، فأكثر ما بذله أغنياؤنا في هذا العصر للجمعيات
الخيرية أو المدارس أو جمعية الهلال الأحمر أو جمعية الصليب الأحمر فهو رياء،
وتزلف للحكام والأمراء، وهذا مما يعلمه الكاتب وغير الكاتب علمًا ضروريًّا أو
كالضروري.
وأما غير الفساق المرائين من الأغنياء فهم كسائر الناس، والناس فيما نحن
بصدده فريقان: فريق لا يرجى منه خير للإسلام بل يخشى شره، وفريق قلما
يُرجى الخير من غيره، فأما الفريق الأول فثلاثة أصناف: ملاحدة المتفرنجين،
ومنافقو المعممين، وتحوت الفقراء الجاهلين، الذين لا يكادون يفقهون حديثًا، ولا
يعقلون للأمة والملة معنى، وقد بينا في فاتحة هذه السنة من الجزء الأول أن من
أولئك الملاحدة والمنافقين من تصدى لمقاومة مدرسة الدعوة والإرشاد ينفث سموم
السِّعاية لمنع إعانة وزارة الأوقاف وغير الأوقاف، كما سعى أمثالهم وأقنالهم من
قبل في الجمعية الخيرية الإسلامية، حتى زعموا أنها تمد مهدي السودان بالمال
لقتال مصر والدولة البريطانية.
وأما الفريق الثاني وهو الوسط في شئونه العقلية والنفسية، أو شئونه
الاجتماعية أو المعاشية، فيتألف من أصناف يقل فيها الغني الموسع، كما يقل فيها
الفقر المدقع، والأغنياء منه ثلاثة أصناف.
صنف تربى تربية إسلامية بحسب ما عليه جمهور المسلمين في القرون
الأخيرة من مزج السنن بالبدع، والخرافات بالحقائق، فهم لا يفقهون من بذل المال
في سبيل البر إلا بناء مسجد ولو في مكان تزيد فيه المساجد على حاجة المصلين،
وإنما يكون هذا من الخير إذا لم يبن المسجد على قبر أحد من الصالحين، وإلا كان
صاحبه ملعونًا على لسان خاتم النبيين، أو وقف أرض تنفق غلتها على تشييد
القبور أو البناء عليها أو حولها وما يكون من المواسم عندها في الأعياد وجمع
رجب، وكل ذلك من المعاصي وبدع الضلالة المنكرة التي لا يجوز الوقف عليها،
وإن تضمنت إطعام بعض الفقراء الطعام المبتدع لأجلها، فهذا الصنف قلما يرجى
منه الآن فائدة للأعمال الإصلاحية كمشروع الدعوة والإرشاد.
وصنف آخر تربى أفراده على التفرنج ولكن لم يكونوا كجماهير المتفرنجين
الذين لا حظ لهم من حياتهم إلا تقليد الإفرنج في عاداتهم الخاصة بالزينة والطعام
والشراب والتمتع باللذة واللهو واللعب كتربية الكلاب والسير بها والركوب معها،
بل أودع في نفوسهم الميل إلى الاقتداء بهم في بذل المال للمنافع العامة، لا رياء
للجمهور، ولا تزلفًا لحاكم أو أمير، بل لأن ذلك عندهم من اللذات النفسية، أو
الشرف والكمال الإنساني، وبهذا ارتقوا عن جمهور الأغنياء الأغبياء السفهاء،
ولعل هذه البلاد لا تخلو من أفراد منهم، ومن عساه يوجد منهم فقد يبذل المال
للمساعدة على تعليم الموسيقى والتصوير أو الألعاب الرياضية، وقلما يحفل
بالإصلاح الديني العلمي إلا إن كان له نزعة دينية أو تهذيبية، وأنى لجماعة الدعوة
والإرشاد بالاهتداء إلى مثل هذا وإقناعه بأن مقصدها الأول من مدرستها بث
المرشدين في أنحاء البلاد لتعليم العوام ما يزجرهم عن المعاصي والمنكرات،
ويزكيهم من أدران البدع والخرافات، حتى تستفيد المدرسة من مساعدته؟
وصنف ثالث هم الوسط الصحيح وهم الذين أوتوا نصيبًا من التربية الدينية
والعلم الإسلامي الصحيح، ونصيبًا من حال هذا العصر وما يحتاج إليه المسلمون
فيه من الإصلاح، والغني في هذا الصنف أندر منه في سائر الأصناف، والرجاء
في مثله لمساعدة الدعوة والإرشاد، أقوى وأشد منه في سائر الناس، إلا أن يغلبه
على دينه وعقله البخل الفاحش والشح المطاع، وإيثار وعد الشيطان بالفقر على
وعد الله بالمغفرة والإخلاف، وإذا كان الصنفان المذكوران قبل هذا وهما كالطرفين
له، مما يصعب إقناع أفرادهما بوجوب المساعدة على الإصلاح الديني العلمي فهذا
الصنف لا يحتاج إلى إقناع، ولا يخفى عليه وجود ما يوجد منه في البلاد.
ومن أغنياء هذا الصنف من غلب عليهم الترف ودب إلى دينهم الوهَن،
فضعفت غيرتهم على إسلامهم الديني، دون إسلامهم الاجتماعي والسياسي، فهم
يودون إصلاح حال المسلمين، ويعتقدون أن ذلك لا يرجى إلا من طريق الدين،
وإنما يودون أن ينهض بالإصلاح غيرهم، ولا تسمو بهم الهمة إلى المساعدة عليه
بأموالهم ولا بأنفسهم.
تلك أصناف الأغنياء الذين يصح أن يتعلق بهم الرجاء، بما في أنفسهم من
هدي الدين أو علو الهمة، أو العناية بأمر الأمة، وقد علم أن من يوجد في هذه
البلاد منهم قليل، وأن الرجاء في هذا القليل ضعيف.
فلم يبق من فريق المعتدلين الذين يرجى رفدهم إلا المستورون الذين لا
يقدرون على مساعدة الإصلاح إلا بما يوفرون من كسبهم بالاقتصاد في النفقة اللائقة
بأمثالهم، كصاحب الرسالة التي دعتنا إلى كتابة هذا المقال، ولا غناء في مساعدة
هذا الصنف إلا إذا كثر أفراد الباذلين منه، وفاقًا للقاعدة المقررة: القليل من الكثير
كثير، وما أظن أن الظفر بهذا الكثير عندنا ميسور.
فعلم مما شرحناه أن من يرجى منهم بذل شيء من فضول أموالهم في سبيل
الإصلاح الديني والاجتماعي قليلون، وأن ما يرجى بذله من هؤلاء القليلين في
بلادنا قليل لا غناء فيه، لأن أكثر الأنفس أُحضرت الشح، واستحوذ عليها الصَّغار
والذل، وكذبت وعد الله بالإخلاف على المنفق، وصدقت وعد الشيطان له بالفقر،
ثم إن بذل المال الكثير في هذه السبيل إنما يصدر عن عرفان ووجدان، عرفان
بالمصلحة فيه وشدة الحاجة إليها، ووجدان إيمان راسخ تنال به سعادة الدنيا
والآخرة، أو وجدان شرف باذخ تنال به سعادة الأولى فقط، على أن باعث الشرف
وباعث الإيمان قد يتلاقيان ويتصافحان، وإنني أوضح هذا المقام بأمثال، أشير
بها إلى أعظم من رجوت هنا من الرجال.
كان أرجى أغنياء مصر عندي لمشروع الدعوة والإرشاد ثلاثة أصرح باسم
واحد منهم وهو رياض باشا تغمده الله برحمته، ذلك الرجل الذي انفرد في كبراء
مصر وأغنيائها بأنه لم يكن يخيب فيه رجاء، ولا يفوته مساعدة عمل من أعمال
الخير، ولو عرف كنه مشروع الدعوة والإرشاد لما اكتفى بالتبرع له بمائة جنيه،
وإنما عرف منه أنه مدرسة خيرية، فنفحه بمثل ما نفح به مدرسة محمد علي
الصناعية، وهي المدرسة التي تولى رياسة جمع الإعانات لها، على أن الخديوِ
وارث ملك محمد علي التي أنشئت المدرسة إحياء لاسمه وتذكارًا لمرور مائة سنة
على ملكه لم ينفحها بأكثر من ذلك، فهذا عذر رياض باشا في عدم صدق رجائي
كله في مساعدته لهذا العمل.
وأما اللذان لا أصرح باسمهما فقد كان رجاؤنا في أحدهما أكبر من رجائنا في
رياض باشا، وهو أوسع منه ثروة، وفهم من كُنْه المشروع ما لم يفهمه، بل قال
فيه كلامًا يؤثر ويدون له (منه) أنه طالما فكر فيه، وتعجب من إحجام المسلمين
عن القيام به إلى اليوم، وأنه يود لو يكون عضوًا عاملاً فيه، وإنما يمنعه من
وضع يده في أيدي أعضاء إدارته عدم ثقته بثباتهم، اللهم إلا واحدًا منهم، وعلل
ذلك بأن أهل بلادنا هذه يقولون ولا يفعلون، ويبدأون بالأعمال ولا يَثبتون (ومنه)
أن هذا العمل سيلقى صعوبات، وتوضع في طريقه العقبات، وأنه لا يقول هذا
تثبيطًا أي بل تنبيهًا، ولا تنصلاً من المساعدة فإنه سيساعد بالمال، ثم إنه أكد هذا
الوعد غير مرة لنا، وذكره لغيرنا، وقد كان آخر عهدنا بالسعي لاستنجازه شهر
رجب الماضي.
وأما الثالث فهو غني معروف بالعلم والفضل والتدين، وقد كان منانًا لأحد
أصدقائه بأنه سيتبرع للمدرسة بمائة جنيه غير ما يفرضه على نفسه من الاشتراك
السنوي، وذكر لنا صديق آخر له عزمه على المساعدة من غير تحديد، وقد بلغنا
أن ما يجب عليه من زكاة النقد كل سنة أضعاف ما يملكه صاحب الرسالة التي
نتكلم في موضوعها، وقد ذكرناه في هذا العام بشدة حاجة المدرسة إلى ما تنتظر من
مساعدته لانقطاع إعانة الأوقاف عنها، ونفاد ما قد جمع لها، فاعتذر بما يعتذر به
أكثر الناس في هذا العهد، وهو العسرة التي جاءت بها هذه الحرب.
فإذا كان وعد أرجى من نرجو من أغنى أغنيائنا، واشتراك من يشترك في
مثل هذا المشروع من أفضل فضلائنا، لا يوثق بهما ولا يتكل عليهما في استئجار
دار لمدرسة خيرية، فهل يظن (م. ن) صاحب تلك الرسالة أن ما جاء به من
النصيحة والتذكير يبسطان الأيدي المغلولة، وينبهان [3] الأنفس المفسولة [4] ، فتتدفق
الدنانير على مدرسة الدعوة والإرشاد اليوم كما تدفقت على جمعية الصليب الأحمر
بالأمس، وعلى جمعية الهلال الأحمر من قبل؟ إن كان يظن ذلك فما نحن بظانين،
ولا نحن من فضل الله وحياة المسلمين يائسين، ولكننا بعد طول اختبار لا نغتر
بوعد واعد، ولا بثبات متبرع ولا واهب، وإن كان هذا أو ذاك، ممن اشتهروا
بالسخاء، فإن أكثر أصحاب هذه المظاهر، مصداق لقول الشاعر:
يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما
…
لكنها خطرات من وساوسه
كلا إنه لا يرجى في هذا القطر جمع مال كثير بالتبرع يكون رأس مال
لمدرسة كمدرستنا أو مدرسة دونها إلا بنفوذ الأمراء والحكام، وقد كان بعض
هذا ممكنا لنا من قبل ولم نطرق بابه، وأما اليوم فلا يرجى كله ولا بعضه، فأما سبب
بذل المال تقربًا إلى الأمراء والحكام فمعروف، وأما إمساكه عن المصالح العامة
فسببه ضعف الإيمان، وضعف وجدان الشرف وحب الكمال، والحرمان مما يولدان
من المقاصد العالية والآمال العظيمة، وليس في تربية الأمة ما يحيي ذلك
في نابتتها.
هذا وإننا بعد هذا البيان نقول لصاحب تلك الرسالة وغيره من أهل الغيرة: إن
هذا المشروع لا يرجى أن ينفذ بحسب نظامه المعروف إلا إذا نجحنا فيما سعينا إليه
في الآستانة ثم في مصر من تقرير إعانة له كبيرة ثابتة من وزارة الأوقاف فبهذا
يستقر ويوثق بثباته واستمراره ويشتهر نفعه في الأمصار والأقطار، ويرجى بعد
ذلك أن يتبرع له ويقف عليه العقار والأراضي كثير من أهل الخير، ولا سيما بعد
أن يتخرج في مدرسته من يحسنون القيام بما فرضه الله تعالى على المسلمين بقوله:
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) فإذا ظفرنا بإعانة ثابتة من وزارة
الأوقاف فذاك، وإلا جعلنا المدرسة خارجية، وأنفقنا عليها مما آتانا الله من كسب
ومساعدة أهل المروءة والإخلاص مهتدين بقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ
وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ
بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
هذه المقالة الموعود بها.
(2)
هذه الكلمة لشيخنا الإمام.
(*) راجع مقالة (طفولية الأمة وما فيها من الحيرة والغمة) في ص737 م2 ومقالة (الحيرة والغمة ومناشئها في الأمة) في ص753 م2.
(3)
للتنبيه هنا معنيان أحدهما جعل الخامل نبيه الشأن، وثانيهما: إيقاظ الغافل.
(4)
المفسول الضعيف الخامل الذي لا مروءة له.
الكاتب: محمد رشيد رضا
السنة وصحتها والشريعة ومتانتها
رد على دعاة النصرانية بمصر
(2)
(تتمة واستدراك - استنكار المتأخرين لبعض متون أبي هريرة)
قد علم مما تقدم أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه راوية ثقة عدل وأنه من
نوابغ البشر في الحفظ والضبط لما يحفظ وقوة الذكر (الذاكرة) وعلم أيضا أنه
انفرد بأحاديث كثيرة كان بعضها موضع الإنكار أو مظِنَّته لغرابة موضوعها
كأحاديث الفتن وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم ببعض المغيبات التي تقع بعده،
ويزاد على ذلك أن بعض تلك المتون غريب في نفسه، ولو انفرد بمثله غير
صحابي لعُدّ من العلل التي يتثبت بها في روايته، كما هو المعهود عند نقاد الحديث
أهل الجرح والتعديل، ولذلك ترى الناس ما زالوا يتكلمون في بعض روايات أبي
هريرة كما رأى القراء في دروس سنن الكائنات للدكتور محمد توفيق صدقي، وأول
كلمة طرقت سمعي في ذلك كانت من تلميذ مسلم في مدرسة غير إسلامية ببلاد الشام،
وكان ذلك في أوائل العهد بطلبي للعلم، ومن عرف ترجمة أبي هريرة معرفةً تامةً
يجزم بعدالته وبراءته من الكذب على أحد من الناس، بله الكذب على رسول الله
صلى الله عليه وسلم الذي روى هو وغيره عنه أنه قال: (من كذب علي متعمدًا
فليتبوأ مقعده من النار) وقد صرحوا بأن هذا الحديث متواتر.
ولعل قراء المنار يتذكرون ما علقته على كلام محمد توفيق صدقي في حديث
الذباب، وتطرقه فيه إلى الارتياب في رواية أبي هريرة، إذ بينت بالإيجاز أنه لا
مجال للطعن في أبي هريرة نفسه وأن حديث الذباب وأمثاله مما يستبعد أن يكون
مسموعًا من النبي صلى الله عليه وسلم لا يظهر علة نقلها عن أبي هريرة إلا إذا
أحصيت تلك الروايات ولا سيما ما انفرد به أبو هريرة منها، ودقق النظر في
أسانيدها ومتونها، وما يمكن طروؤه من الاحتمالات فيها، وأمهات هذه الاحتمالات
أربعة:
أحدها: أن يكون في رجال السند إلى أبي هريرة من هو مجروح وإن صُحح.
ثانيها: أن يكون ذلك الحديث أو الأثر مرويًّا عنه بالمعنى، وقد وقع الغلط
من أحد الرواة في فهمه فنقله كما فهمه.
ثالثها: أن يكون ما روي حديثًا رأيًا لأبي هريرة أو غيره ممن روى عنه
وعده بعض الرواة حديثًا لاجتهاده بأن مثله لا يقال بالرأي، فما قاله العلماء من أن
قول الصحابي إذا كان لا يقال مثله بالرأي له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه
وسلم لا يصح على إطلاقه، والناس يتفاوتون في فهم ذلك، فما يعده بعضهم منه لا
يعده الآخر منه.
رابعها: أن يكون رواه عن أهل الكتاب بالسماع ممن أسلم منهم ككعب
الأحبار أو رآه في كتبهم وهو مما لا مجال للرأي فيه فيعده من قَبيل المرفوع من
يأخذ ذلك القول قاعدة عامة، وقد ثبت أن أبا هريرة روى عن كعب الأحبار وأن
معاوية قال في كعب الأحبار: إنهم كانوا يبلون أي: يختبرون عليه الكذب، وقد
تقدم ذلك في هذا المقال نقلاً عن البخاري، وإنني كنت أسيء الظن في روايات
كعب الأحبار قبل أن أرى ما رواه البخاري عن معاوية فيه، وكذا وهب بن منبه.
ثم إنني بعد كتابة ما تقدم وقبل طبعه رأيت في تفسير سورة النمل من تفسير
الحافظ ابن كثير بعد ذكر عدة روايات عن الصحابة في قصة ملكة سبأ مع سليمان
عليه السلام ما نصه:
والأقرب في مثل هذه السياقات أنها مُتلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في
صحفهم كراويات كعب ووهب، سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من
أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن، ومما
حرف وبدل ونسخ، وقد أغنانا الله عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ
ولله الحمد والمنة اهـ.
فجملة القول في هذه الأحاديث المشكلة إذا كانت مرفوعة إلى النبي صلى الله
عليه وسلم أو موقوفة على أحد رواة الصحابة رضي الله عنهم أبي هريرة أو غيره
أن يدقق النظر في أسانيدها أولاً، فإذا كان في الاحتجاج ببعض رجالها مقال كُفينا
أمرها، وكذا إذا كان فيها انقطاع أو إرسال، وإلا نظرنا إلى غير ذلك من الوجوه
التي يكون بها المخرج كغلط الرواة بسبب النقل بالمعنى أو غيره من الأسباب،
وأدهى الدواهي أن يكون الحديث مأخوذًا عن بعض أهل الكتاب بالقبول ولم يُعز
إليه، ولا يغرنك قولهم: إن مراسيل الصحابة حُجة، وإن الموقوف الذي لا مجال
للرأي فيه له حكم المرفوع، فإذا ثبت أن أبا هريرة مثلاً كان يروي عن كعب
الأحبار وأن الكثير من أحاديثه مراسيل، فالواجب أن يتروى في كل غريب لم
يصرح فيه بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان من الإسرائيليات أو ما
في معناها احتمل أن يكون قد رواه عن كعب وكان هذا الاحتمال علة مانعة من
ترجيح إسناد كلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يوقع في الإشكال.
لا يتسع هذا الموضع لتحرير هذا البحث بالتفصيل، ولكنا نذكر أهل العلم
بحديث يرون فيه أكبر عبرة في هذا المقام وهو حديث الجساسة الذي حدث به تميم
الداريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه مسلم في صحيحه مرفوعًا من
طرق يخالف بعضها بعضًا في متنه، فهذا الخلاف في المتن علته من بعض رواة
الصحيح، ولا يظهر حمله على تعدد القصة، ثم إن رواية الرسول صلى الله عليه
وسلم له عن تميم الداري إن سلم سندها من العلل هل تجعل الحديث ملحقًا بما حدث
به النبي صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه فيجزم بصدق أصله، قياسًا على
إجازته صلى الله عليه وسلم أو تقريره للعمل إذ يدل حله وجوازه؟ الظاهر لنا أن
هذا القياس لا محل له هنا، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم الغيب فهو
كسائر البشر يحمل كلام الناس على الصدق إذا لم تحف به شبهة، وكثيرًا ما صدق
المنافقين والكفار في أحاديثهم، وحديث العُرَنيين وأصحاب بئر معونة مما يدل على
ذلك، وإنما كان يعرف كذب بعض الكاذبين بالوحي أو ببعض طرق الاختبار أو
إخبار الثقات، ونحو ذلك من طرق العلم البشري، وإنما يمتاز الأنبياء على غيرهم
بالوحي، والعصمة من الكذب وما كان الوحي ينزل إلا في أمر الدين وما يتعلق
بدعوته وحفظه وحفظ من جاء به، وتصديق الكاذب ليس كذبًا، وحَسْبك أن تتأمل
في هذا الباب عتاب الله لرسوله إذ أذن لبعض المعتذرين من المنافقين في التخلف
عن غزوة تبوك وما علله به، وهو قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) .
وإذا جاز على الأنبياء المرسلين أن يصدقوا الكاذب فيما لا يخل بأمر الدين
ولا يترتب عليه حكم شرعي ولا شيء ينافي منصب الرسالة، أفلا يجوز على من
دونهم أن يصدقوا الكاذب في أي خبر لا تقوم القرينة على كذبه فيه، ومن صدَّق
شيئًا يجوز أن يحدِّث به من غير عَزْو إلى من سمعه منه، ولكن هذا كان قليلاً في
الصدر الأول من الإسلام، فقد ظل المسلمون عدة قرون ينقلون كل شيء بالرواية
وإن كان بيت شعر أو كلمة مُجون.
تنبيه مهم:
إن الأحاديث المشكلة الصحيحة الإسناد قليلة فما رواه أبو هريرة منها قليل من
قليل، وما انفرد به منه أقل من ذلك القليل، ولا يتوقف على شيء منها إثبات
أصل من أصول الدين، والحمد لله رب العالمين.
***
الجملة الخامسة الخاتمة لكلام الطاعن
(استنتاجه من جملة دعاويه أن الشريعة لا قيمة لها في نفسها ولا في روايتها)
قال بعد سرد ما تقدم عن الشبهات على رواية أبي هريرة ما نصه:
هذا هو الرجل الذي وضع مع ابن عباس الشريعة، ولكن ما هي قيمتها؟ إن
السؤال مهم جدًّا، ويطلب الجواب عليه من الثلاث مائة مليون سُنّي الموجودين في
العالم اهـ بحروفه.
اشتملت هذه الخاتمة على دعوى باطلة، واستفهام إنكاري تهكمي، ووجه هذا
السؤال فيها إلى ثلاث مئة مليون سني [1] أي إلى كل فرد من أفراد أهل السنة الذين
يسكنون في جميع الأقطار، ويتكلمون بعشرات من اللغات، ولماذا؟ لأن السؤال
مهم جدًّا في نظر القسيس المبشر المتصدي هو وجمعيته لتنصير كل هؤلاء
المسلمين بعد عجزهم عن هذا السؤال المهم جدًّا، بَخٍ بَخٍ.
***
الجواب عن الدعوى
هذه الدعوى ظاهرة البطلان عند المسلمين وعند من له أدنى إلمام بشريعتهم
وتاريخهم من النصارى وغيرهم، سواء أراد بأساس الشريعة أصول أدلتها التي
تستنبط منها، وهو الأقرب، أو أصول مقاصدها وهي العقائد والأحكام والآداب،
ونستغني عن بيان ذلك بما قلناه في مسألة أركان الشريعة الذي فندنا به القضية
الثالثة من قضايا الجملة الأولى من مقاله راجع ص 28 ج1 ثم نقول:
إن أبا هريرة وابن عباس ما وضعا أساس الشريعة ولا أركانها، ولا أصولها،
ولا فروعها، وإنما رويا لنا كغيرهما من الصحابة الكرام الكثير الطيب من سنة
الرسول، وهي ثابتة الأسس والأصول.
وقد بينا أن البخاري خرَّج لأبي هريرة 446 حديثًا في صحيحه، ونقول هنا:
إنه خرَّج فيه لابن عباس 217 حديثًا، وهذا القدر من روايتهم للأصول
الموصولة من الأحاديث لم ينفردا به وإنما شاركهما في رواية الكثير منه غيرهما،
ولو أحصينا ما انفرد بروايته أبو هريرة وحده من أحاديث الأحكام الشرعية لرأيناه
قليلاً جدًّا، وعلمنا أنه لو لم يروه لما نقصت كتب الأحكام شيئًا كثيرًا، وأن ما
عسى أن تنقصه يمكن أن يعرف حكمه من قواعد الشريعة الثابتة وأصولها القطعية،
كقاعدة رفع الحرج والعسر، وإثبات اليسر وترجيحه، وقاعدة كون الأصل براءة
الذمة وكون الأصل في كل الخبائث والمضرات الحرمة، وفي كل الطيبات الحِلّ،
وكون الضرورات تبيح المحظورات، وغير ذلك مما لا مجال لتفصيله في هذا الرد.
***
قيمة الشريعة الإسلامية
الجواب عن الاستفهام التهكمي
لا أرى شبهًا لسؤال القس الطاعن عن قيمة الشريعة الإسلامية إلا السؤال عن
الشمس وما فائدتها للدنيا؟ وعن العافية ما فائدتها للناس؟ وعن الماء والهواء ما
فائدتهما للنبات والحيوان؟ سواء كان السؤال سؤال إنكار وتهكم أو سؤال استفهام،
وإننا نجيب عن هذا السؤال بجواب مجمل وجيز؛ لأن التفصيل لا يأتي إلا
بتصنيف كتاب كبير، فنقول:
(1)
إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي ثبتت نبوة من جاء بها
بالبرهان العقلي العلمي الثابت الدائم، وملخصه أنه رجل أميّ نشأ بين قوم أُمِّيين بلغ
الكهولة ولم يقرأ كتابًا، ولم يكتب سطرًا ولا حرفًا، ولا قال شعرًا ولا ارتجل
خُطبة، ولا رَأَسَ قبيلة ولا ساس قرية، ولا انتحل كهانة ولا عَرافة، ولا عرف
شيئًا من شرائع الأمم وأديانها، ثم قام في سن الكهولة بدعوى النبوة، وأيد دعواه
بكتاب اشتمل على أخبار الغيب الماضية والمستقبلة، وسنن الله في الدين والمدنية،
وعلى أصح علوم العقائد الإلهية، المؤيدة بالبراهين العقلية والعلمية، وأصلح
علوم الأخلاق والفضائل النفسية والعبادات الجامعة بين المنافع الروحية
والجسدية، وأعدل قواعد الشرائع السياسية والمدنية إلخ، ثم إنه اجتث بهداية
هذا الكتاب جراثيم الوثنية، وطهَّر الأمم من الخرافات التقليدية وأخلاق الجاهلية،
فكان للناس بذلك دين كامل وشريعة عادلة وأمة مؤلفة من جميع الشعوب والقبائل،
ودولة أحيت الحضارة وامتدت من المشرق إلى المغرب في جيل واحد.
فكان مثل محمد النبي الأمِّيّ صلى الله عليه وسلم كمثل رجل جاء بلدًا مصابًا
بالأوبئة المجتاحة والأمراض المعضلة، وادَّعى أنه طبيب وأيد دعواه بكتاب في
الطب والعلاج طهَّر به ذلك البلد كلها من الأمراض والأوبئة، فأصبح أهله متمتعين
بكمال الصحة والعافية.
فكما يجزم كل عاقل بأنه يستحيل على غير الكامل في علم الطب أن يؤلف كتابًا
في الطب يزيل بالعمل به الأوبئة ويشفي المرضى، كذلك يستحيل بالأولى أن
يقدر رجل أمي على الإتيان بأخبار الغيب وعلوم الدين والشرائع والآداب فيصلح
بها أديان أمم كثيرة وآدابها وأخلاقها وأحكامها وسياستها، إلا أن يكون نبيًا مؤيدًا
بوحي الله وعنايته العليا، بل يستحيل صدور مثل هذه العلوم والأعمال من واحد
أو من جماعة تعلموا جميع علوم البشر وعلوم الأديان في أعلى مدارس هذا العصر
الجامعة، دع إعجاز القرآن ببلاغته وأسلوبه وسائر معجزات النبي صلى الله عليه
وسلم.
(2)
إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة الجامعة بين هداية الدين الإلهي
الحق، وبين ثمرات عقول العلماء المجتهدين، الواقفين على مصالح البشر وما
يقوم به العدل بينهم، وما سواها فإما ديني محض لا مجال فيه لعقل ولا رأي، وإما
وضعي ناقص لا يحترم في السر كما يحترم في الجهر.
(3)
إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي تواتر كتابها تواترًا حقيقيًّا،
ورويت سنتها رواية متصلة الإسناد، ودُوِّنَ تاريخ رواتها تدوينًا مبنيًّا على ركني
النقد والتمحيص، الذي يميَّز به بين الصحيح وغير الصحيح.
(4)
إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي حررت البشر وأعتقتهم من
رق رؤساء الدين، الذي أرهق الغابرين، فلم تجعل لأحد سيطرة روحية على أحد،
فليس فيها كهنة ولا قسيسون يمتازون بمناصبهم الدينية على غيرهم، أو تتوقف
إقامة شيء من أمر الدين عليهم، وإنما خوطب البشر بها على سواء فهم يتفاضلون
فيها بعلومهم وأعمالهم الكسبية، لا بمناصبهم الموروثة ولا أنسابهم الشريفة.
(5)
إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي أعتقت البشر من رق
الملوك المستبدين الذين انتحلو لأنفسهم حق الحكم بمحض الهوى والإرادة، وحق
وضع الشرائع والقوانين بالذات أو بالنيابة، وحق الامتياز في الحقوق الشرعية
على غيرهم من أفراد الأمة، فجعلت أمر الأمة شورى بين أهل الحَلّ والعقد، ومن
أهل العلم والرأي، الذي يولون عليها من يرونه أصلح لتنفيذ شريعتها، ولم تجعل
للخلفاء أو السلاطين امتيازًا على أحد من الفقراء والصعاليك، لا في حكم من
الأحكام المدنية، ولا في عقوبة من العقوبات الجزائية، وقد وافقتها بعض الأمم في
بعض هذه الأصول أو اقتبستها منها، بعد أن ترك المتغلبون على المسلمين إقامتها،
ولكن لم يبلغ أحد شأوها إلى هذا اليوم، وإنما صار بعضهم أقرب إليها ممن يسمون
أنفسهم أهلها.
(6)
هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي ساوت بين أهلها المؤمنين بها،
وبين الكافرين بها إذا تحاكموا إليها، سواء كانوا من أهل ذمتها، أو من الأجانب
المعاهِدين لحكومتها، أو الحربيِّين الداخلين في أمان أحد من أهلها فلا فرق بين
أحكامها القضائية بين أبناء الرسول وأمراء المؤمنين، وبين أضعف أهل الكتاب
الوثنيين، ونحن نرى أرقى الإفرنج وأشهرهم بالعدل يميزون أنفسهم على غيرهم،
فلا يرون المصري والهندي مساويًا للإنكليزي، ولا الآسيوي مساويًا للأمريكي.
(7)
إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي رفعت شأن النساء
وأعطتهن حقوق الاستقلال التام في التصرف بأموالهن، وساوت بينهن وبين
أزواجهن في جميع الحقوق بالمعروف، إلا رياسة المنزل وزعامة الأسرة، وإن
كلمة وجيزة من كلمات القرآن الحكيم في ذلك لأبلغ من كثير من الأسفار التي ألفت
في المطالبة بحقوق النساء أو ما يسمونه تحرير المرأة، ألا وهي قوله عز وجل:
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228)
وهذه الدرجة التي أعطيت للرجل بحق، وهي رياسة البيت؛ لأنه أقدر على الكسب
والحماية، والمطالَب بجميع النفقة، تشبه الرياسة العامة فيما شرع فيها من الشورى
كما يدل عليه قوله عز وجل في مسألة إرضاع الولد وفطامه: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً
عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (البقرة: 233) وقد اهتدى كثير من
الأمم ببعض هدي هذه الشريعة في هذه المزيَّة ولم يبلغ أحد منها شأوها، ولكن
أهلها قصروا في إقامتها، حتى صاروا حجة عليها عند من يجهلها.
(8)
هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي وضعت للحرب نظامًا حُرِّم فيه
العدوان والتمثيل والتخريب، وقتل من لا يقاتل من النساء والشيوخ والأطفال
والمنقطعين للعبادة، فجعلتها ضرورة تتقدر بقدرها، وأمرت بالجنوح للسلم إن جنح
العدو لها، وقد بين المنار فضلها في ذلك على قوانين أوربة وفضل أهلها في
حروبهم على الأوربيين في مقالة نشرت في مجلد السنة الماضية، وقد أنصفنا أحد
حكماء الإفرنج بقوله: (ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) .
فأين منها شريعة التوراة التي بين أيدي اليهود والنصارى وهي التي أوجبت
في الفصل العشرين من سفر تثنية الاشتراع استعباد جميع أفراد الشعب المسالم الذي
يختار الصلح على الحرب، وقتل جميع ذكور الشعب الذي يحارب عند الظفر به
وجعل جميع نسائه وأطفاله وما يملكه غنائم، هذا إذا كان من المدن البعيدة جدًّا عن
شعب التوراة التي لا يسهل عليه سكناها، وأما الشعوب القريبة التي يسهل عليه
امتلاك بلادهم فهذا نصها فيهم: (16 وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب
إلهك نصيبك فلا تَسْتبق منها نسمة ما) .
(9)
هذه هي الشريعة الوحيدة التي فرضت على الأغنياء نصيبًا معلومًا مما
يزيد من أموالهم عن نفقاتهم يصرف لإعانة الفقراء والمساكين العاجزين عن كسب
ما يكفيهم، ولمساعدة الغارمين على ما يحملون من الغرامات للإصلاح بين الناس،
ولأبناء السبيل الذين يسيحون في الأرض فتنفد نفقاتهم قبل عودتهم إلى أوطانهم،
ولغير ذلك من المصالح العامة، ولو أقام المسلمون في هذا العصر هذا الركن كما
كان يقيمه سلفهم الصالح لما وجد فيهم فقير مهين، ولكانت حالهم الاجتماعية أفضل
من حال أرقى الأمم، ولكان السائحون لاكتشاف مجاهل الأرض وخَرْت بقاعها
والاعتبار بأحوال الأمم فيها أكثر من سائحي غيرهم من الأمم، إذ حثهم الله في
كتابه العزيز على السياحة النافعة بمثل قوله في سورة الحج: {أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الحج: 46) وقوله
في سورة المؤمن: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ} (غافر: 82) وقوله في سورة آل عمران: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ
فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (آل عمران: 137) إلخ.
(10)
إن الشريعة هي خاتمة الشرائع الإلهية، وحكمة ذلك أن الله تعالى قد
أكمل بها الدين الحق، فجعلها جامعة بين مصالح الروح والجسد، ومنح الأمة حق
الاجتهاد واستنباط الأحكام، بما وهب لها من فضيلة الاستقلال، بعد أن أعد لذلك
بسنة الارتقاء، وبهذين كانت موافقة لمصالح البشر في كل زمان ومكان، خلافًا لما
يجنيه عليها الصديق الجاهل، وما يتجناه عليها العدو العاقل، وقد بينا هذه المسألة
في التفسير وفتاوى المنار ومقالاته مرارًا، كمقالات المصلح والمقلد، والفتاوى
الباريزية، وتفسير:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) وتفسير: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وتفسير:
{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) وطالما فندنا شبهات
المنكرين لذلك.
فهذه بعض مميزات هذه الشريعة التي يعرف قيمتها المنصفون من غير أهلها،
فإن أمكن لهذا المجادل فيها أن يشكك أهلها فيها بما زعمه من ارتياب بعض الناس
في رواية أبي هريرة رضي الله عنه أو بغير ذلك من الدعاوي (ولن يمكن) فلا
يجني من ذلك إلا انصراف ثلاث مئة مليون سني ربما يتبعهم زهاء ثلاثين مليونًا
من الشيعة وسائر الطوائف الإسلامية عن الإيمان بأن المسيح عليه السلام رسول الله
المعصوم وكلمته التي ألقاها إلى مريم الطاهرة البَتُول، إلى مثل اعتقاد ملاحدة
الأوربيين من الإنكليز وغيرهم كمؤلف كتاب (نشوء فكرة الله) ومؤلف كتاب
(أضرار تعليم التوراة والإنجيل) ، وغيرهم من الماديين الذين يطعنون فيه وفي أمه
الطاهرة، ويزعمون أن آداب إنجيله مفسدة للبشر؛ لأنه تعلم الناس الذل بالخضوع
لكل سلطة وإن كانت أجنبية جائرة، وإدارة الخدين لكل من يريد صفعهما، وتدفعهم
إلى الفقر بتحريم الادخار والاهتمام بالمستقبل وحرمان الأغنياء من ملكوت السماء.
لو كان الشك في الشريعة الإسلامية يفضي إلى تنصر الشاكّ فيها حتمًا لكان
للطاعن المشكك فيها، وهو داعية لدينه عذر ظاهر في التشكيك، ولكن لا تلازم
بين الأمرين، بل علمنا بالتجارب والاختبار أن أكثر الذين يمرقون من الإسلام
يكونون ملاحدة معطلين، وأن الأفراد القلائل من المسلمين الذين دخلوا في
النصرانية لا يكاد يوجد واحد منهم كان مسلمًا حقًّا ثم صار نصرانيًّا ظاهرًا وباطنًا،
بل هم في الغالب من العوام الفقراء، الكسالى الذين يظهرون النصرانية للمبشرين
لأجل أن يطعموهم، وهم على جهلهم بحقيقة الإسلام لا يفضل أحد منهم تقاليد
النصرانية على ما عرف من تقاليد قومه، وقلما يفتح لأحد منهم باب للرزق عند
المسلمين إلا ويفر إليه مفضلاً له على الارتزاق بالنفاق، وطالما سعوا إلى ذلك
وطرقوا له الأبواب كلما فتح لأحد منهم باب منها تاب وأناب، فأين هؤلاء الغوغاء،
ممن يدخلون في الإسلام من كبراء الإنكليز وفضلائهم وغيرهم من نصارى
الغرب والشرق كاللورد هدلي.
قال حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني: إن المسلم لا يمكن أن يصير مسيحيًّا
وعلل ذلك بقوله: لأن الإسلام مسيحية وزيادة، أي يتضمن الإيمان بالمسيح
صلى الله عليه وسلم وبما جاء به بالإجمال، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم
وبما جاء به بالتفصيل، وعللناه نحن بأن دين الله واحد في أصوله من التوحيد
والإخلاص والفضيلة، إلا أنه سار كسائر الشئون المتعلقة بالبشر على سنة النشوء
والارتقاء فكان كماله في آخره {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) فالمسلم ينظر إلى ملة كل من نوح
وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام كما ينظر الإنكليزي إلى
القوانين التي كان عليها قومه في القرن السادس عشر والسابع عشر، إلى القرن
العشرين، ولكنه لا يترك ما ارتقى إليه من القوانين المناسبة لحال زمنه هذا إلى ما
ارتقى عنه من قوانين القرون الخالية، ولا يَعُدّ نفسه بما ارتقى إليه قد خرج عن
كونه إنكليزيا، وكذلك المسلم يؤمن بجميع الأنبياء وبحقية أديانهم وشرائعهم
ومناسبتها لأزمانهم وبأن الشريعة المحمدية كانت هي الخاتمة المتممة المكملة
الناسخة، والمسلمون يعظمون جميع الرسل {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285) ولكنهم يتبعون الأخير منهم.
وإننا نرى المبشرين يحاولون إقناع المسلمين بدلالة القرآن على تفضيل
عيسى على محمد عليهما الصلاة والسلام، ولو تم لهم هذا لما أفادهم شيئًا، فإن
المسلمين لا يفرقون بين الرسل من حيث إنهم رسل، وإنما فضل الله بعضهم على
بعض بكثرة المزايا ودرجة انتفاع البشر برسالتهم، وقد فَضَلَهم خاتمهم محمد صلى
الله عليه وآله وسلم بعموم بعثته وإكمال الدين المطلق بما جاء به وكثرة من اهتدى
به، ونعتقد أن عيسى لم يبعث إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة كما قال عن
نفسه (مت15: 24) ولو فرضنا أن عيسى أفضل بما امتاز به في خلقه
وخصائصه لما كان ذلك موجبا لترك الثابت عندنا من شريعة محمد صلى الله عليه
وسلم العامة المكملة الخاتمة الناسخة لما قبلها إلى ما لم يثبت عندنا من شريعته
الخاصة المنسوخة، وعلماء الأصول منا يفضلون إبراهيم على موسى وعيسى
صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لا يقولون: إنه كان يجب على بني إسرائيل
ترك شريعة التوراة إلى ما خلافها من شريعته كما أن من يفضل محمد علي باشا
الكبير على أحفاده بخصائصه الفطرية لا يرى ذلك موجبًا لترك قوانينهم إلى
قوانينه، على أن القاعدة عندنا أنه قد يوجد في المفضول من المزايا ما لا يوجد
في الفاضل كما يفضل بعض أحفاد محمد عليّ جدَّهم بالعلم وبعض الأخلاق
والأعمال.
الحق أقول لكم أيها المبشرون المحترمون إن مجادلاتكم وطريقتكم في دعوة
المسلمين إلى دينكم قد جاءت إلى اليوم بضد ما تريدون وتريد جمعياتكم، فهي تزيد
المسلمين استمساكًا بدينهم وبعدًا عن دينكم، وأكبر ضررها الديني في المسلمين أنها
حملت كثيرًا منهم على ضد ما يجب عليهم شرعًا من حب سيدنا عيسى وأمه
وحواريه والثناء عليهم بما أثنى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن كثيرًا
من العوامّ صاروا يعتقدون مما يسمعون منكم ويقرءون أو يُقرأ عليهم من كلامكم
ضد ما يقرره الإسلام من كون الرسل إخوة يجب الإيمان بهم وحبهم جميعا، بل
أرى هذا التأثير قد دب إلى خواص المتعلمين على الطريقة الإفرنجية حتى
المشهورين منهم بالتساهل الديني.
ومن العجيب أن واحدًا من كبار هؤلاء علمًا ورتبة صرح أمامي بأنكم بغضتم
إليه المسيح، فقلت له: لا ينبغي لمثل سعادتك أن يسترسل مع وجدانه إلى هذا الحد،
ولا يخفى عنك أن بغض المسيح عليه السلام كفر، فقال: إن هذا قد ثبت في
نفسه ولا يستطيع دفعه.
أيها المبشرون المحترمون إنكم تريدون تشكيك الناس في الشريعة بالطعن في
عدالة أبي هريرة، وقد علمتم أن الطعن في أبي هريرة لو كان صادقًا ما حط من
قدر هذه الشريعة شيئًا فكيف وهو باطل، ولو لم يُخلق أبو هريرة لما نقصت
الشريعة شيئًا، ولكن كثيرًا من المسلمين المتعلمين على المنهج الإفرنجي يرون أن
أكبر الشبهات على الإسلام، ما أثنى القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم به على
المسيح وأمه عليهما السلام، حتى إنني قلت منذ سنين: إن أقوى الحُجج للمسيح
شهادة القرآن له، وأقوى الشبهات على القرآن شهادته للمسيح، فهل رأيتم قول
القرآن فيه: {إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
وَرُوحٌ مِّنْهُ} (النساء: 171) قليلاً حتى طمعتم بإقناع المسلمين بأن يقولوا كلمة
أكبر من ذلك، ورأيتم قوله فيه:{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ} (البقرة: 87) قليلاً
أيضًا فطمعتم بأن نقول فيه كما تقولون ، وإن لم نفعل ذلك ولم يقم عليه برهان
مبين.
أيها المبشرون الغيورون إنكم تعلمتم أن اشتغال الناس بالفلسفة المادية والمدنية
المادية قد فَتن كثيرًا من المسلمين بملاحدة الأوربيين الماديين الذين مرقوا من
النصرانية وطعنوا فيها أشد الطعن لأن تعاليم الأناجيل أشد التعاليم وأقساها على
الماديين إذ هي روحانية محضة، وأما الإسلام فهو دين وسط، جامع بين حقوق
الروح وحقوق الجسد، فلا تؤثر فيه دعوة النصرانية؛ لأنه كما تقدم مسيحيةٌ وزيادةٌ
وإنما يخشى على الجاهلين بحقيقته من تيار المادية، وحرية الشهوة الحيوانية،
فمدارسكم الإفرنجية الدينية منها وغير الدينية، هي التي تكفل لكم التشكيك في
الإسلام، لا الطعن في أبي هريرة، ولا ابن عباس، فتعالوا نتعاون على مجاهدة
هذه التعاليم المادية، التي كانت آفتها شديدة على الإسلامية ولكنها على النصرانية
أشد، ودليل ذلك أنها لم تمنع كثيرًا من المتعلمين الباحثين من ترك النصرانية إلى
الإسلام، وأن الملاحدة منا أقل من الملاحدة منكم.
ما رأيت كلامًا لأحد من الأوربيين المستشرقين في الإسلام والمسلمين بني
على الخبرة والمعرفة ككلام الدكتور سنوك الهولندي، وقد بيّن في خطبته التي
ألقاها منذ سنين في مدرسة كليفورنية الجامعة في الولايات المتحدة أن القضاء على
الإسلام الديني بالتبشير المسيحي محال، وأن المسلمين لن يكونوا نصارى أبدًا،
وإن طريقة اللاتينيين في بث التعليم المادي في المسلمين، أفعل في زلزال الإسلام
من طريقة البروتستانت في بث دعوة الدين، واعتبروا مع هذا ما ترونه من
تفضيل أكثر المسلمين للإنكليز والأمريكان على اللاتين.
أنا لا أخاف على المسلمين من مجلاتكم ولا من كتبكم ورسائلكم، إنما أخاف
على المسلمين من الفلسفة المادية والمدنية الشهوانية، ومن منافقيهم وعباد الشهوات
منهم، فهم الذين يجنون على دينهم ودنياهم، وإنما أوصيكم بأن تتجنبوا فيما تقولون
في مجامعكم التبشيرية، وما تطبعون في رسائلكم وصحفكم الدورية، كل ما يثير
العصبية ويخدش المودة الوطنية: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ
جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: 48) {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: 84) .
_________
(1)
قد اشتهر منذ عشرات من السنين أن المسلمين ثلاث مئة مليون وأول أوربي اشتهر عنه هذا القول عاهل ألمانية غليوم الثاني، والظاهر أن أهل السنة وحدهم صاروا يبلغون هذا العدد كما قالت مجلة الشرق والغرب، وثم عشرات الملايين من الشيعة وغيرهم.